مركز الجزيرة للدراسات
قلة في أوساط نظام الرئيس بن علي توقعت أن تتطور حركة الاحتجاج على البطالة، التي انطلقت في مدن الوسط التونسي، إلى انتفاضة شعبية، تطال كافة أنحاء البلاد، وترفع مطالب سياسية جذرية. |
تشير هذه الإجراءات المتلاحقة إلى السرعة الهائلة (والاضطراب) التي اتسمت بها محاولة المجموعة الحاكمة في تونس، نتيجة الرحيل السريع والمفاجئ للرئيس المخلوع بن علي، تطبيع الأوضاع، وإعادة التماسك والاستقرار للنظام والدولة، وإضفاء شرعية دستورية على عملية التطبيع. كما تشير إلى الطبيعة غير المكتملة للثورة الشعبية التونسية، التي تطورت من حادث احتجاج فردي على البطالة المتفشية في البلاد والتي بدأت من ولاية (محافظة) سيدي بوزيد والمناطق الداخلية المحرومة، إلى حركة تغيير سياسية عارمة. فما الذي حدث في تونس، وإلى أين يتجه الوضع السياسي التونسي؟
الشعب والجيش
المرحلة الانتقالية
إلى أين
قلة في أوساط نظام الرئيس بن علي توقعت أن تتطور حركة الاحتجاج على البطالة، التي انطلقت في مدن الوسط التونسي، إلى انتفاضة شعبية، تطال كافة أنحاء البلاد، وترفع مطالب سياسية جذرية. وقد حاول بن على في خطابين للشعب، بالتهديد أولاً، وتقديم تنازلات شكلية ثانياً، احتواء الحركة الشعبية. ولكن انتشار الانتفاضة الشعبية في تونس العاصمة خلال الأيام القليلة السابقة لرحيل الرئيس، وعجز قوات الأمن عن مواجهة حركات التظاهر التي شملت مئات الآلاف من كافة فئات الشعب، وازدياد أعداد القتلى في المواجهات بين الجماهير وقوات الأمن، أفقد النظام قدرته على السيطرة.
مهد بن علي، من حيث لا يدري، لسقوطه المدوي باستدعاء الجيش إلى شوارع المدن لتوفير الحراسة لمقار الدولة الرئيسية ومساعدة قوات الأمن على محاصرة الانتفاضة. ولكن قيادة الجيش حرصت من اليوم الأول لانتشار الجنود على أن تتبع سياسة مختلفة ومتباينة مع تلك التي اتبعتها قوات الأمن، متجنبة كلية الصدام مع المتظاهرين، بل ولعب دور الحاجز الفاصل في كثير من المواقع بين قوات الأمن وجماهير المحتجين. أدى هذا السلوك إلى تعزيز مصداقية الجيش لدى الجماهير وإكسابه شعبية طاغية. ويعتقد أن بن علي، بعد أن فشل خطابه الثاني الذي ألقاه مساء يوم 13 يناير/ كانون ثاني في تهدئة حركة الشارع، أصر في لقاء مع قائد الأركان على تعهد الجيش لدور أكثر فعالية في مواجهة الانتفاضة، أو أن يقوم قائد الأركان بتقديم استقالته. رفض قائد الأركان مطالب الرئيس، هو الذي أدى إلى أن يدرك بن علي أن لعبته قد انتهت، وأن يضطر بالتالي إلى مغادرة البلاد، بدون الإعلان الرسمي عن التخلي عن الحكم.
بالرغم من أن حجم الجيش التونسي صغير نسبياً (لا يتجاوز الخمسين ألفاً)، فإن نظام السيطرة والتحكم للدولة التونسية، كما أية دولة حديثة أخرى، يستند في جوهره إلى قوات ومؤسسات الأمن وإلى الجيش، سيما بعد فقدان خطاب النظام السياسي للفعالية والتأثير. في يوم 14 يناير/ كانون ثاني، أصبح واضحاً أن قوات الأمن ومؤسسات الاستخبارات باتت عاجزة عن مواجهة الشارع، وأن الجيش يرفض إطاعة أوامر الرئيس بالمشاركة في القمع. بذلك انهارت قدرة الرئيس بن علي على إدارة جهاز الدولة وآماله في احتواء الانتفاضة الشعبية، ولم يعد أمامه سوى الاستجابة لمطالب الشارع بمغادرة البلاد.
من جهة أخرى، يبدو واضحاً أن قيادة الجيش قد أدركت أن الرئيس بات يمثل عبئاً على الدولة واستقرارها، واتخذت بالتالي قراراً واعياً بالتضحية ببن علي والثلة الملتفة حوله من أجل الحفاظ على الدولة والنظام من الانهيار الكلي. وسواء كان قرار قيادة الجيش بالتضحية بالرئيس قد تبلور بعد مشاروات مع الفرنسيين والأميركيين، كما أشارت تقارير إخبارية، أم لا، فإن سقوط بن علي قد أصبح في مثل هذه الأوضاع مسألة وقت، بعد أن فقد النظام سيطرته على العاصمة.
بيد أن من الضروري ملاحظة أن قرار الجيش فيما يتعلق بوضع الرئيس جاء أيضاً بهدف احتواء الحركة الشعبية قبل أن تصل إلى مستوى يؤدي إلى انهيار كلي للدولة والنظام. والواضح أن الجيش التونسي لا يرغب في استلام الحكم حتى الآن على الأقل، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد رؤية انهيار كلي لمؤسسة الحكم والدولة، بكل ما يحمله هذا الانهيار من مخاطر وصول قوى سياسية راديكالية أو غير مرحب بها دولياً إلى الحكم. ومن هنا فإن مجمل التطورات التي تلت مغادرة بن علي البلاد صبت في هذا الاتجاه، واستندت إلى دعم الجيش، وربما إرشاداته.
ما يزيد الأوضاع تعقيداً خلال المرحلة الانتقالية، أن الانتفاضة الشعبية التونسية أثارت الخوف في أوساط العديد من الأنظمة العربية، سيما دول الجوار التونسي، ليبيا والجزائر. |
في حين ليس من المعروف عن محمد الغنوشي أنه يحمل طموحات رئاسية، فليس من المستبعد أن يكون مرشحاً للرئاسة إن سارت المرحلة الانتقالية بدون عقبات غير متوقعة.
أحد أبرز الإجراءات التي أعلن عنها الرئيس الانتقالي، والتي قصد بها أن تلعب دوراً في تهدئة الشارع وتوفير الشرعية للمرحلة الانتقالية ذاتها، كان تشكيل حكومة ائتلاف وطني، وتشكيل هيئة وطنية لبحث ملف الإصلاح السياسي.
والواضح بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة أنها تضم عدداً من وزراء الحكومة السابقة ممن لم يعرفوا بارتباطهم بشبكة النخبة الفاسدة وقربهم من الرئيس السابق؛ ولكن هؤلاء هم أيضاً أعضاء في حزب التجمع الدستوري الحاكم. واللافت أن المقاعد الوزارية السيادية قد احتفظت بها هذه المجموعة من الوزراء. وتضم الحكومة، إضافة إلى ذلك، عدداً آخر يرشحهم اتحاد الشغل، المنظمة النقابية التي لعبت قياداتها الوسطى من النقابات الأساسية (لا قياداتها التنفيذية العليا التي عرفت بقربها من النظام) دوراً واسعاً في الحركة الشعبية، وعدداً من المستقلين، وممثلين عن ثلاثة أحزاب معارضة معترف بها. ويشير مثل هذا التوزيع لمقاعد الحكومة الانتقالية إلى أنها تحمل عنصر استمرار قوي مع النظام السابق، وتستبعد القوى الحزبية المعارضة للنظام السابق التي لم تتمتع بوضع قانوني، سيما حزب النهضة، الذي يعتبر أحد أكبر الأحزاب المعارضة والذي تعرض لحملة قمع واعتقال ونفي مستمرة طوال سنوات حكم الرئيس بن علي، إلى جانب حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي يقوده الدكتور منصف المرزوقي، وحزب العمال الشيوعي التونسي بقيادة حمه الهمامي.
ما أن أعلن عن تشكيل الحكومة حتى انطلقت مظاهرات متفرقة جديدة، تعارض الدور القوي والبارز لحزب التجمع الدستوري في الحكومة. وقد حاول رئيس الوزراء محمد الغنوشي امتصاص رد الفعل الشعبي بالوعد بترخيص الأحزاب المعارضة غير القانونية التي تقدمت بطلب الترخيص سابقا. ولكن المؤكد أن تشكيل هذه الحكومة لم يكن ممكناً بدون تعاون الأحزاب المعارضة التي قبلت المشاركة وإعطاء الحكومة صبغة ائتلافية، بدون أن تحمل سمة الائتلاف الوطني الواسع.
أما الهيئة الوطنية الخاصة ببحث ملف الإصلاحات السياسية، فليس من الواضح كيف سيتم اختيار أعضائها، وعلى أية أسس. ولكن تعيين أستاذ القانون الدستوري عياض بن عاشور رئيساً لهذه اللجنة، وهو المعروف بتوجهاته العلمانية الراديكالية، التي التقت دائماً مع توجهات النظام السابق المناهضة للتيار الإسلامي، بالرغم من حرصه على الحفاظ على مسافة سياسية بينه وبين النظام، فيؤكد هو الآخر على عنصر الاستمرارية في الحكم، وعلى أن الإصلاحات التي قد يتم تبنيها في النهاية ستظل محدودة ضمن إطار معين.
لم يعد ثمة شك في أن هناك إرادة قوية خلف المرحلة الانتقالية، إرادة داخلية وخارجية، تعمل على الحفاظ على أسس النظام التونسي وتوجهاته، مع بعض الإصلاحات التي تعزز من شرعية النظام وتعمل على احتواء عوامل الانفجار الاجتماعي. وسيتمحور التدافع خلال الفترة الانتقالية بين القوى التي ستعمل على أن تكون الإصلاحات في أضيق نطاق ممكن، وتلك التي تعتبر أن الاستجابة الوحيدة الكافية للانتفاضة الشعبية هو بناء نظام ديمقراطي حقيقي، غير إقصائي، وتعزيز سلطة القانون. وسيكون للشارع والقوى الشعبية والمنظمات المدنية دور حيوي في ترجيح نتيجة هذا التدافع؛ بمعنى أن انسحاب القوى الشعبية خلال الفترة الانتقالية، سيسمح للنظام بإعادة إنتاج نفسه، تماماً كما وقع بعد إطاحة الرئيس بورقيبة في 1987.
المشكلة حتى الآن أنه في حين أن المركز السياسي للدولة ونظام الحكم لم يزل متماسكاً وفعالاً، فإن مركزاً سياسياً مقابلاً لم يتبلور بعد من حضن الحركة الشعبية. |
وبالرغم من أن الحكومة الفرنسية والإدارة الأميركية قد أكدتا على احترام إرادة الشعب التونسي، وبدا كأنهما تحرصان على عدم التدخل في الشأن التونسي الداخلي، فما يزال الموقفان الفرنسي والأميركي غير واضحين تماماً فيما يتعلق بالمرحلة الانتقالية ومدى التحول الديمقراطي في تونس ما بعد بن علي.
المشكلة حتى الآن أنه في حين أن المركز السياسي للدولة ونظام الحكم لم يزل متماسكاً وفعالاً، فإن مركزاً سياسياً مقابلاً لم يتبلور بعد من حضن الحركة الشعبية. ظلت أحزاب المعارضة والمنظمات المدنية تنشط في شكل منفرد، وقد فتح بعضها قنوات التفاوض مع نظام الحكم، لتحقيق مكاسب حزبية سريعة، بدون الالتفات إلى حجم الانتفاضة الشعبية وعمق وشمول مطالبها. ولم تستطع قوى ومنظمات المعارضة، أو لم تحاول، بناء تحالف جبهوي، يؤطر المطالب الشعبية ويقود حركة الشعب. وإن كان من المرجح تنسيق الجهود وربما التحالف بين القوى التي تم استبعادها في مرحلة ما بعد رحيل بن علي.
بيد أن من الضروري، في النهاية، ملاحظة أن الشارع التونسي قد أدرك خلال الأسابيع القليلة الماضية قوته الهائلة، وقدرته على فرض التغيير. وسيكون من التسرع، حتى في ظل تشظي قوى المعارضة وتأخر تبلور جبهة معارضة شعبية سياسية، افتراض أن حركة الشارع قد تراجعت، أو أن الشارع سيقبل بإصلاحات شكلية وتجميلية للنظام.