اتفاق فتح وحماس: عودة " الشقيقة الكبرى"

نجحت الوساطة المصرية في عقد اتفاق بين فتح وحماس بحل الخلاف حول الأجهزة الأمنية، وتمثلت أوراق نجاحها في التخلي عن حصار غزة، وشعور السلطة الفلسطينية بانسداد العملية السلمية، وبأن مصر الجديدة على مسافة متساوية من كافة القوى الفلسطينية.







الجزيرة


مركز الجزيرة للدراسات


تغيرت السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 25 يناير، فأصبحت المصالحة الفلسطينية ممكنة بعد أن استعصت لسنوات طويلة. أعاد هذا التغيير مصر إلى شعبها، ومن ثم لأمتها، بعد أن سُلبت منهما وصارت لغيرهما داخليا وخارجيا.

ولعل أهم ما ينطوي عليه هذا التغير هو إنهاء وضع غير طبيعي اعترى السياسة الخارجية المصرية، وبلغ أوجّه في السنوات الخمس الأخيرة عندما أخذ مشروع توريث الرئاسة يتبلور، معتمداً على تحالفات داخلية عززت الزواج بين السلطة والثروة والنهب المنظم للموارد العامة، وحسابات خارجية أدت إلى إغفال جرائم إسرائيل والاستجابة لمطالبها ومحاصرة قطاع غزة.

وبمقتضى تلك الحسابات، أدار نظام حسني مبارك قضية المصالحة الفلسطينية بطريقة ترضي إسرائيل عبر محاولة فرض صيغة تبقي هيمنتها الأمنية على الضفة الغربية وتمدها إلى قطاع غزة. ويفسّر هذا لماذا ظلت قضية إعادة بناء الأجهزة الأمنية وتوحيدها نقطة الخلاف الرئيسة والعائق الجوهري أمام المصالحة، بعد أن ساهمت جولات الحوار المتوالية في حل الخلافات على بعض المسائل الأخرى وتقريب وجهات النظر بشأن بعضها الآخر.





لم يكن ممكناً التوصل إلى اتفاق إلا عندما تغيرت السياسة الخارجية المصرية وأعادت النظر في مفهومها للمصالحة وفي دورها تجاه قضية فلسطين بوجه عام

كان مؤدى الصيغة التي حاول النظام السابق فرضها هي إيجاد لجنة أمنية عليا تتحكم رئاسة سلطة رام الله في تشكيلها، وتباشر عملها في قطاع غزة أولاً، بحيث يتم دمج القوة التنفيذية التابعة لما أُطلق عليه الحكومة المقالة في نظام أمني يقوم عمله على التنسيق مع أجهزة الأمن الإسرائيلية. ولذلك، فشلت جولات الحوار في تحقيق اختراق بالرغم من التوصل إلى اتفاق على كثير من المسائل المتعلقة بالانتخابات الرئاسية والتشريعية والحكومة المؤقتة التي ستتولى السلطة خلال فترة الإعداد لها.

وبالرغم من قبول حركة "فتح" إجراء جولتي الحوار الأخيرتين، قبل ثورة 25 يناير، في سوريا (سبتمبر/أيلول ونوفمبر/تشرين الثاني 2010)، فإنه لم يكن لتغيير المكان أن يعني شيئا بدون مراجعة موقفها الذي كان مدعوما من النظام المصري السابق.

وعندما أُعلن في نهاية الجولة الأولى (سبتمبر/أيلول 2010) وجود اتفاق على جميع نقاط المصالحة باستثناء واحدة، لم يكن هناك أي جديد في ذلك الإعلان ما دامت النقطة المستثناة هي إعادة بناء الأجهزة الأمنية وتوحيدها. فالنقاط التي اتُفق عليها تتعلق كلها بمسائل إجرائية لا تعد معضلة، ويرتبط معظمها بقضيتي الحكومة المؤقتة والانتخابات. ولذلك كانت النقطة الباقية، وهي اللجنة الأمنية العليا التي تتولى إعادة بناء أجهزة الأمن وتوحيدها، هي بيت الداء.

وقد تبين هذا الأمر بوضوح في جولة دمشق الثانية في 9 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عاكساً خيارا سياسيا لدى سلطة رام الله، يتجاوز مسألة أجهزة الأمن، ومفاده أن التنسيق الأمني مع إسرائيل سيبقى وأن على "حماس" القبول بذلك.

وفي هذا السياق، لم يكن ممكناً التوصل إلى اتفاق إلا عندما تغيرت السياسة الخارجية المصرية وأعادت النظر في مفهومها للمصالحة وفي دورها تجاه قضية فلسطين بوجه عام. وما أن قبلت حركة "فتح" وسلطة رام الله اختيار اللجنة الأمنية العليا بالتوافق حتى أصبح الطريق مفتوحاً أمام الاتفاق الذي تتجاوز أهميته الآن تحقيق مصالحة بين الطرفين الرئيسيين في المعادلة الفلسطينية، إذ بات مرتكزاً لإستراتيجية جديدة للعمل الوطني.






أوراق بين يدي "مصر الجديدة"


أتاح التغير الذي حدث في سياسة مصر الخارجية عقب ثورة 25 يناير استعادة أوراق كان النظام السابق قد فرَّط فيها. استردت مصر الجديدة البازغة إرادتها الحرة فاستعادت مكانة الدولة العربية الكبيرة، أو "الشقيقة الكبرى" في نظر كثير من العرب، بمجرد إعطاء إشارة إلى أن سياستها لم تعد مرهونة برضاء إسرائيل والولايات المتحدة. وهي المكانة التي لم يعرها النظام السابق اهتماماً، ولم يفهم معناها ودلالتها، فتصرّف كما لو أنه يحكم "جمهورية موز" من النوع الذي ينقرض في العالم الآن.





بالرغم من أن التغير في سياسة مصر وتصحيح موقفها إزاء الطرفين كان كافياً لإقناع قيادة "فتح" بأن التوازنات الداخلية الفلسطينية لم تعد كما كانت في السنوات الأخيرة، فقد ساهم في ذلك أيضا وصول الجهود السلمية إلى طريق مسدود

وعندما تستعيد مصر إرادتها، يتغير الكثير حتى قبل أن تتحرك. أما عندما تتحرك لمعالجة خطأ استراتيجي في سياستها تجاه القضية الفلسطينية، فهي تستعيد "البوصلة" التي فقدتها لفترة طويلة. وإذ فعلت "مصر الجديدة" ذلك دون تردد، فقد وجدت بين يديها دون جهد كبير الورقة التي تستعصي في غيابها المصالحة الفلسطينية، وهي وقوفها على مسافة متساوية من حركتي فتح و حماس، وبالتالي وقف الضغوط التي مارسها النظام السابق على الثانية لكي تقدم تنازلات إلى الأولى.

كانت طريقة إدارة هذا الملف خلال السنوات الماضية إحدى أهم عوامل استمرار الانقسام واستعصاء المصالحة. وعندما تغيرت هذه الطريقة فُتح الطريق الذي كان مغلقاً، وأمكن التوصل إلى ورقة التفاهمات التي وُقعت بالأحرف الأولى مساء الأربعاء 27 أبريل/نيسان الماضي، بعد 4 ساعات فقط وفق ما رواه د. محمود الزهار القيادي في "حماس" في حديثه الذي نشرته صحيفة "المصري اليوم" في 3 مايو/أيار الجاري: ( كان الترتيب أن تُعقد جلسة قبل الغذاء وأخرى بعده ونكمل في اليوم التالي. ولكننا أنهينا كل شيء بعد 4 ساعات فقط...).

وكانت نقطة التحول الرئيسية هي قبول حركة "فتح" تشكيل اللجنة الأمنية العليا من ضباط مهنيين بالتوافق، وفقاً للبند الثالث الخاص بالأمن في "ورقة التفاهمات،" التي تضمنت ديباجتها: ( اتفق الطرفان على أن تكون هذه التفاهمات ملزمة لهما عند تطبيق اتفاق الوفاق الوطني الفلسطيني).

وبالرغم من أن التغير في سياسة مصر وتصحيح موقفها إزاء الطرفين كان كافياً لإقناع قيادة "فتح" بأن التوازنات الداخلية الفلسطينية لم تعد كما كانت في السنوات الأخيرة، فقد ساهم في ذلك أيضا وصول الجهود السلمية إلى طريق مسدود.

ولذلك، بدا أن الإحباط الذي انتهى إليه من راهنوا على هذه الجهود ساعد في إنجاز الاتفاق بسرعة قياسية، فكان بمثابة ورقة أخرى أتاحت لمصر إمكانية تحقيق نتيجة في أقصر وقت وبأقل مجهود.

وإذا كان التغير في سياسة مصر كافيا، على الجانب الآخر، لإقناع قيادة "حماس" بالتجاوب الكامل، لأنه أعاد إليها الثقة في سلامة مقاصد "الشقيقة الكبرى"، فقد ساعد في ذلك أيضا اضطراب الوضع في سوريا التي كانت توفر لحماس، بفضل العلاقة الخاصة بينهما، بعض ما كانت في حاجة إليه للصمود في مواجهة حصار قاس.
ومع ذلك تظل الورقة الرئيسية التي اعتمدت عليها مصر في تحركها هي الصورة الايجابية لثورة 25 يناير في كثير من الأوساط العربية وخصوصا لدى الشعب الفلسطيني.






دور "مصر الجديدة" وعلاقاتها الدولية


لم ينتظر أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية اتفاق المصالحة الفلسطينية للتحرك ضد مصر ودورها الجديد الذي أتاح إنجاز هذا الاتفاق. كان طبيعياً أن يصيب القلق المؤسسة الحاكمة في إسرائيل منذ اندلاع ثورة 25 يناير، وقبل تنحي مبارك الذي اعتبره بعض أركانها كنزاً استراتيجياً. وقاد أنصار إسرائيل و"اللوبي" التابع لها منذ ذلك الوقت حملات تخويف من وقوع مصر في قبضة حكم إسلامي.





لا يمتلك نتانياهو أية صدقية حين يقول أن المصالحة التي صنعتها مصر "وجهت ضربة قاسية ضد السلام" والأرجح، أنه سيكون صعباً على أوباما، الذي أظهرت إسرائيل قلة حيلته وعرَّضته لحرج لم يواجه رئيس أميركي سابق مثله، أن يضغط على مصر

والمتوقع أن تزداد هذه الحملات ويتسع نطاقها بعد أن أظهرت "القاهرة الجديدة" ما يبعث على قلق أكبر في إسرائيل التي فقدت "كنزها"، ورأت الجدار الفولاذي الذي شرع في بنائه النظام السابق لإحكام الحصار على قطاع غزة يتحول إلى جسر يعبر عليه دور مصري بدا لسنوات طويلة أنه صار أثراً بعد عين.

غير أن إسرائيل ليست في مركز يمكنَّها من تأليب أميركا وأوروبا ضد مصر. فليس في إمكان أية حملات أن تغيّر حقيقة أن إسرائيل هي التي دمرت جهوداً سلمية متوالية وأحرجت إدارة أوباما ووضعتها في موضع العاجز قليل الحيلة، ورفضت فتح أي منفذ للتفاوض مع السلطة الفلسطينية.

وليس سهلاً إقامة الحجة على أن مصالحة فلسطينية تقودها مصر هي التي تعرقل سلاماً دقت سياسة حكومة بنيامين نتانياهو المسمار الأخير في نعشه. ولذلك لا يمتلك نتانياهو أية صدقية حين يقول أن المصالحة التي صنعتها مصر "وجهت ضربة قاسية ضد السلام"! والأرجح، أنه سيكون صعباً على أوباما، الذي أظهرت إسرائيل قلة حيلته وعرَّضته لحرج لم يواجه رئيس أميركي سابق مثله، أن يضغط على مصر التي  تبحث عن طريق آخر إلى السلام الذي قوَّضته إسرائيل عبر مطالبة وزير خارجيتها بعقد مؤتمر دولي بالتوازي مع تحقيق المصالحة الفلسطينية.

كما أن إنجاز المصالحة الفلسطينية يعني سحب ورقة "الإمارة الإسلامية الغزَّاوية" من التداول الصهيوني على نحو قد يجعل من الصعب تأليب الغرب على مصر بسبب اتجاهها إلى فتح معبر رفح. وستؤدي هذه المصالحة إلى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل يونيو/حزيران 2007 حين أُغلق المعبر.

ولذلك قد لا يكون التغير في إدارة مصر للملف الفلسطيني وفي تعاملها مع إسرائيل مؤثراً في علاقاتها مع الغرب، بخلاف أي تحول يمكن أن يحدث في سياستها تجاه إيران. فهذا التحول، الذي فتحت "مصر الجديدة" بابه، ولكن بحذر شديد، قد يكون له أثر أكبر في هذه العلاقات في المدى القصير في ضوء المعطيات الراهنة وإلى أن تتبلور السياسة المصرية الجديدة تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي بمختلف جوانبه.






"مصر الجديدة" ومستقبل التوازنات الفلسطينية


غاب حسني مبارك وأركان نظامه، فتغيّر الميزان الفلسطيني الداخلي. رجعت مصر إلى موقعها الطبيعي، فعاد هذا الميزان إلى طبيعته وفق معطيات اللحظة الراهنة. فقد تدخلت مصر مبارك في الساحة الفلسطينية لتغليب أحد طرفيها الرئيسيين على الآخر بالتنكر لنتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في يناير/كانون الثاني 2006، من أجل إرضاء إسرائيل والولايات المتحدة. كما كان هذا التدخل، في أحد أبعاده، مرتبطاً بسياسة داخلية اتجهت منذ 2006 إلى إقصاء جماعة "الإخوان المسلمين" ومحاصرتها وتشديد الضغوط الأمنية عليها. واعتبر صانعو تلك السياسة حماس امتداداً لهذه الجماعة.




ما أن سقط نظام مبارك حتى زالت أسباب التدخل لمصلحة طرف فلسطيني ضد آخر، وشرعت مصر في بناء سياسة لمصلحة قضية فلسطين عبر التعاون مع مختلف الفصائل والمحافظة على مسافة متساوية تجاه الفصيلين الرئيسيين
وما أن سقط نظام مبارك حتى زالت أسباب التدخل لمصلحة طرف فلسطيني ضد آخر، وشرعت مصر في بناء سياسة لمصلحة قضية فلسطين عبر التعاون مع مختلف الفصائل والمحافظة على مسافة متساوية تجاه الفصيلين الرئيسيين. ولذلك عاد الميزان الفلسطيني الداخلي إلى وضعه الطبيعي وفق معطيات الوضع الراهن. ويقوم هذا الميزان على توازن بين طرفين رئيسيين يقتسمان تقريبا القسم الأكبر من الساحة السياسة والاجتماعية الفلسطينية، مع وجود أكثر من عشرة أطراف أخرى صغيرة الحجم ولكن بعضها كبير المقام من حيث دوره التاريخي ومجاله النضالي.

ويعني ذلك أن الميزان الذي سيحدد الأوزان النسبية للفصائل الفلسطينية، وبالتالي التوازنات بينها، سيكون داخليا بالأساس في الفترة القادمة ومرتبطاً بالإرادة الشعبية، ما دامت الدولة الأكثر تأثيراً في هذا الميزان ملتزمة حياداً ايجابياً ومساندة للعمل الوطني في مجمله وليس لطرف ضد آخر.

غير أن الحياد الايجابي بهذا المعني لا يعني غياب أي تأثير، وإنما يضعه في مرتبة تالية للتفاعلات الداخلية والاختيار الشعبي، وإلا صار حياداً سلبياً. فمن الطبيعي أن تميل مصر في المستقبل إلى توجه أو خيار ترى أنه الأكثر فائدة للقضية، وأن يكون في ميلها هذا دعم ضمني للطرف (أو الأطراف) الذي يتبناه، ولكن من دون تدخل فج أو ممارسة ضغط أو إرغام. ومن الطبيعي، أيضاً، أن يتوقف الخيار الذي ستميل إليه مصر في المستقبل القريب على الرئيس الجديد والحكومة التي ستُشكل عقب المرحلة الانتقالية بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية.

فإذا كان الخيار باتجاه مراجعة أوسع نطاقاً للسياسة المصرية تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي بوجه عام، سيكون هذا في مصلحة الطرف (أو الأطراف) الأكثر تمسكاً بالمقاومة التي يمكن توقع ظهور مقاربات جديدة بشأنها في الفترة المقبلة بحيث لا تقتصر على النضال المسلح. وربما يكون العكس صحيحاً، أيضاً، في حال أسفرت الانتخابات عن تشكيلة سياسية ( رئاسة وحكومة وبرلمان) أكثر ميلاً إلى عدم التوسع في مراجعة السياسة المصرية تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي.

والحال أن التوازنات الفلسطينية القادمة ستكون داخلية في المقام الأول. فليس متوقعاً أن تتدخل مصر مرة أخرى لتعطيل الميزان الداخلي وفرض توازنات غير طبيعية. ولكن دورها سيؤثر في هذه التوازنات من خلال تفاعلها الطبيعي ودورها الإيجابي تجاه القضية الفلسطينية.