الصراع على أبيي: السلاح والاعتراف

فقدت الحركة الشعبية السيطرة الميدانية على أبيي وهي تستعد لإعلان دولة جنوب السودان، فتبخر حاليا حلم ضم أبيي إلى الحيز الجغرافي للدولة الجديدة إلا أنها أحرزت مزيدا من التعاطف الغربي بما يساعدها في إدارة الصراع مستقبلا حول قضيه أبيي.
1_1063948_1_34.jpg

مظاهرات تندد بقرار سحب الجيش من أبيي (الجزيرة)

مركز الجزيرة للدراسات

بالرغم من الأشواك التي ظلت تزرع مسار اتفاقية السلام الشامل والأزمات التي تعرقل تطبيقاتها، إلا أن أزمة أبيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب مثلث قلب الصراع وجوهره وأكثره حساسية، منذ توقيع تلك الاتفاقية يناير/ كانون الثاني 2005م.

سباق مع الزمن
حسابات الربح والخسارة
سيناريوهات المستقبل

سباق مع الزمن 

يبدو أن الخرطوم بالرغم من أنها نفذت خطوة السيطرة على أبيي فقد وضعت نفسها في مواجهة مع الحركة الشعبية والمجتمع الدولي الذي يدعمها إلا أن الخطوة مثلت متنفسا لما يواجهها شمالا.
قبل بلوغ التاسع من يوليو القادم، الموعد المضروب للإعلان الرسمي لدولة جنوب السودان، احتدم الصراع على أبيي لأن المتنازعين يعتقدان أن من يسيطر عليها قبل التاسع من يوليو /تموز، يعظم من أوراقه السياسية في معادلة الصراع. إن لم يغب هذا الرهان عن التفكير حكومة الشمال إلا أنه كان واضحا في ممارسة الحركة الشعبية الجنوبية، إذ أن السيطرة على أبيي في هذا التأريخ تعطي دولة جنوب السودان أهمية كبيرة، لأنه يعني قدرة أكبر على الادعاء بالملكية، خاصة إذا صحب ذلك تجاوب إيجابي دولي متوقع يرسخ إجراءات السيطرة بمنطقة عازلة بين الدولتين شمال منطقة أبيي، وهو موقف يمكن تدبيره إن استطاعت الحركة الشعبية على المناورة حتى التاسع من يوليو /تموز. وقد مهدت لذلك بعدة خطوات:
  1. خطوة تضمين أبيي في الدستور الجديد الذي تنشأ على أساسه دولة الجنوب في تناقض واضح مع الدستور الحالي لجمهورية السودان الذي جرى على ضوئه الاستفتاء، ومكّن الجنوب من الانفصال، والذي يستند على اتفاقية السلام الشاملة ويحدد دولة الجنوب بحدوده في 1يناير/كانون الثاني 1956م، ليلة استقلال السودان عن الاحتلال البريطاني.

  2. أحاطت الحركة الشعبية أبيي بآلاف الرجال المسلحين سواء في زي شرطة الحركة الشعبية أو مسلحين من الجيش الشعبي، وقد أكملت الحركة الشعبية سيطرتها على أبيي في اللحظة التي خرج من المنطقة مائتان من أفراد الجيش السوداني تعرضوا لكمين شتت شملهم. وهو الكمين الذي أشعل غضب الجيش السوداني ودفعه لاجتياح أبيي بعد ساعات من وقوعه.

  3. توقيت ذلك مع زيارة لمجلس الأمن الدولي إلى السودان بما يشير إلى رفع قضية أبيي بقوة إلى قمة أولويات مجلس الأمن باعتبارها مهددا لاتفاقية السلام الشامل.

لكن الخرطوم ليست بعيدة عن إدراك ما تفكر فيه الحركة الشعبية، بل هي ذاتها كانت تحشد عناصر السيطرة على أبيي قبل التاريخ الحاسم.

ويبدو أن قيام الحركة الشعبية بتدبير كمين لقوات الجيش السوداني المغادرة أبيي في اتجاه الشمال على متن مركبات الأمم المتحدة وبرفقة جنودها، منح الجيش السوداني الفرصة الذهبية التي كان يبحث عنها للسيطرة على أبيي. وأكملت الخرطوم الاستيلاء العسكري بالسيطرة الإدارية بقرار رئيس الجمهورية حل مجلس إدارية أبيي، وإعفاء مسؤولي الهيئة الإدارية.

كانت ردود الفعل قوية في رفض سيطرة الجيش السوداني على منطقة أبيي، فأصدر مجلس الأمن الدولي بعد يوم واحد بيانا يطالب انسحاب الجيش السوداني في تزامن مع موقف بريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي، غير أن ردة الفعل الأمريكية كانت الأقوى حيث قالت إن خطوة الجيش السوداني ستعرض للخطر الوعود الأمريكية بتطبيع العلاقات مع السودان، ومساعدته في تخفيف الديون الدولية ورفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بل ذهبت السفيرة سوزان رايس، مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن إلى إمكانية استخدام قوات دولية ضد السودان وفقا للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولكن الخرطوم لم تأبه للتهديد الأمريكي، ذلك أن وعود واشنطن ظلت دون نتائج.

ردود الفعل الجنوبية كانت غاضبة ومرتبكة لحد كبير، فقد استنكرت الحركة الشعبية سيطرة الجيش السوداني على أبيي واعتبرته احتلالا، وطالبت المجتمع الدولي بالتدخل لطرد القوات السودانية، واضطربت في الاعتراف بتدبير الكمين الذي أثار غضب الجيش، فتارة ترفض الاعتراف به، وتارة أخرى تعتذر عنه بسبب استهدافه لقوات الأمم المتحدة المرافقة للقوات السودانية. وذهب بها الغضب إلى أن طلبت من وزير المالية السوداني إيقاف تصدير البترول الجنوبي عبر خط التصدير الوحيد عبر الشمال إلى ميناء بورتسودان في شرق البلاد. وهذا تعبير واضح عن الغضب والارتباك لاستحالة تحققه حيث أن قرار إيقاف البترول القادم من الجنوب بيد الجنوبيين أنفسهم ولكنه مستحيل فنيا، ثم إن توقيف البترول يعني إيقاف الشريان المالي الذي يمد حكومة الجنوب بالحياة اليومية، ويعني التوقف العملي للحياة هناك، وسيشكل هذا أسرع الخطوات لسقوط حكومة الجنوب، ولكن ضمن ردود الفعل الفعالة جاء سعي حكومة الجنوب إلى استعطاف المجتمع الدولي نحو المعاناة الإنسانية الهائلة التي خلقتها السيطرة الشمالية على أبيي بنزوح عشرات الآلاف باتجاه الجنوب.

حسابات الربح والخسارة 

يبدو أن الخرطوم بالرغم من أنها نفذت خطوة السيطرة على أبيي فقد وضعت نفسها في مواجهة مع الحركة الشعبية والمجتمع الدولي الذي يدعمها إلا أن الخطوة مثلت متنفسا لما يواجهها شمالا:

  1. لئن كانت خسارة الحركة الشعبية فادحة بفقدانها السيطرة الميدانية على أبيي عشية إعلان ميلاد دولة جنوب السودان، إلا أنها عززت تواصل التعاطف الغربي معها بما يساعدها في إدارة الصراع مستقبلا حول قضيه أبيي وغيرها من قضايا فك الارتباط بين الدولتين.
    وجدت الخطوة تأييدا من الشارع الشمالي باعتبارها ردا على ما يسميه هؤلاء استفزازا جنوبيا مستمرا للشمال.
  2. بهذه الخطوة جددت الخرطوم صورتها باعتبارها حامية المصالح الشمالية في مواجهة أطماع جنوبيه غير محدودة واستطاعت بهذا أن تخفف من الشعور بمسؤوليتها في انفصال الجنوب.
  3. بهذا التطور أوجد المؤتمر الوطني الحاكم في الشمال قضية وطنية كبيرة تصلح للاتفاق القومي بما يصرف الأنظار عن استحقاقات سياسية ماثلة كان عليه مواجهتها، من قبيل الإجابة على سؤال التحول الديمقراطي والأزمة الاقتصادية، وتأثيرات الثورات العربية والإصلاح السياسي الضروري المفضي إلى مزيد من الحريات.

ولئن كانت خسارة الحركة الشعبية فادحة بفقدانها السيطرة الميدانية على أبيي عشية إعلان ميلاد دولة جنوب السودان، إلا أنها عززت تواصل التعاطف الغربي معها بما يساعدها في إدارة الصراع مستقبلا حول قضيه أبيي وغيرها من قضايا فك الارتباط بين الدولتين: النفط، الحدود، الجنسية، والديون الدولية وغيرها.

سيناريوهات المستقبل 

يمكن استحضار عدد من المشاهد والسيناريوهات لتطور الوضع:

أولا: نجاح جهود الوساطة التي يقودها ثابو امبيكي، رئيس الآلية الإفريقية الرفيعة لمتابعة قضايا ما بعد الاستفتاء. فالرجل كان حاضرا في الخرطوم ومن بعدها في جوبا فور انفجار الأزمة. وبالرغم من تشدد رئيس الحركة الشعبية سلفا كير تجاه التفاوض قبل انسحاب الجيش السوداني من أبيي إلا أن الرئيس البشير يرفض الانسحاب ولكنه ينفتح على تفاوض يؤسس ترتيبات أمنية وفق اتفاق جديد للإدارة الأمنية والمدنية في أبيي، ومن ثمة يمكن خروج جيش الحركة الشعبية والجيش السوداني من أبيي واستبدالهما بقوات مشتركة ورقابه دولية فعالة.

ثانيا: السيناريو الثاني هو الضغط باتجاه التدخل الأممي العسكري تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة، حيث أن الاتفاق الذي تعمل على أساسه القوات الأممية (اليوناميس) في السودان اليوم والمؤسس على قرار مجلس الأمن 1590 يستند على البند السادس الذي يقتضي رضا الأطراف بينما لا يقتضي البند السابع توفر هذا الرضا، ويمكن تأسيس ذرائع البند السابع على عنصري حماية المدنين، وتهديد الأمن والسلم الدوليين، خاصة بعد إعلان دولة الجنوب، حيث ستصبح المواجهة بين دولتين مستقلتين، وهو عنصر يلغي مفعول دعوى الحكومة السودانية الشمالية بأنها تمارس سيادة في حدودها وفي إطار سودان لازال موحدا شمالا وجنوبا. وربما يتطور التدخل الدولي إلى وصاية دولية تدير أبيي بعيدا عن الطرفين.

ثالثا: احتمال تطور الأحداث إلي حرب مفتوحة قبل أو بعد إعلان دولة الجنوب. وهذا السيناريو لا ترجحه المعطيات الراهنة لدي الطرفين إلا أن تكون الحرب هروبا إلى الأمام من مواجهة التحديات الداخلية لهما. فالدولتان في ظروف أمنية وسياسية واقتصادية ستجعل انجرارهما إلى حرب هلاكا حتميا، حيث أنه شماليا:

  1. الوضع الأمني بالغ التدهور، فالدولة تواجه حربا مفتوحة في دارفور منذ ما يزيد عن ثماني سنوات. وهناك اضطرابات أمنية في الشرق وفي الوسط أحيانا وهي بؤر قابلة لتفاقم الاشتعال إن استمرت الحرب في الجنوب.
  2. الحكومة في الشمال تواجه ظروفا سياسية واقتصادية غاية في الدقة حيث تهب عليها رياح الثورات العربية الضاغطة في اتجاه إصلاحات سياسية تجعل قدرة المؤتمر الوطني في الاستمرار في السلطة محفوفة بكثير من المخاطر.
  3. وعسكريا يحيط بالشمال من ناحية الجنوب أكثر من أربعين ألف مجند هم مسلحو جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق التابعين إلى الحركة الشعبية، وربما شكل هؤلاء احتياطيا استراتيجيا لدعم الحركة الشعبية في حالة اندلاع حرب مع الشمال.

أما في الجنوب فالأوضاع أكثر تدهورا وهشاشة، بحيث يعني اندلاع الحرب ربما نهاية الحركة الشعبية وتبخر أحلام ولادة دولة جنوب السودان حيث:

  1. تعاني الحركة من أوضاع اقتصادية مزرية، جعلتها عاجزة عن توفير احتياطي نقدي تواجه به الخدمات الصحية والتعليمية والمعيشية الملحة في ظل غياب تام لاقتصاد إنتاجي في المجالات الحيوية يمكن من مواجهة نزيف المصاريف الحربية.
  2. ضعف الاقتصاد الإنتاجي جعل الجنوب يعتمد على الشمال في سلع الحياة اليومية بنحو 80%، مما يعني تفشي مجاعة هائلة بمجرد اندلاع الحرب وإغلاق طرق الإمداد المعيشي من الشمال، وهو وضع ينذر بنزوحات هائلة، وزلازل أمنية وإنسانية لا يستطيع الجنوب مواجهتها.
  3. ضعف الاقتصاد الإنتاجي جعل الجنوب يعتمد على الشمال في سلع الحياة اليومية بنحو 80%، مما يعني تفشي مجاعة هائلة بمجرد اندلاع الحرب وإغلاق طرق الإمداد المعيشي من الشمال.
    يواجه الجنوب أكثر من سبع حركات متمردة مسلحة على طول شريط الحدود بين الشمال والجنوب عبر ولايات بحر الغزال، وأعالي النيل ابتداء من حركة السلطان عبد الباقي في بحر الغزال، ومرورا بحركة بيتر قديت التي تسمي نفسها جيش تحرير جنوب السودان في منطقة ميوم شمال بحر الغزال، وحركات جورج أطور وقبريال تانح في منطقة أعالي النيل. واندلاع الحرب يعني زحف هذه الحركات بدعم من الشمال لضرب قوات الحركة الشعبية.
  4. الجسد السياسي الجنوبي شديد الضعف، فهنالك عدد من الحركات السياسية ذات الأبعاد العسكرية لا تتفق مع طريقة إدارة الحركة الشعبية لجنوب السودان، والحرب ستكون فرصتها للانقضاض على الحركة لملأ الفراغ السياسي.

ولهذا فان أثر الحرب في الجنوب سيكون كارثيا على الحركة الشعبية وعلى أحلام ولادة الدولة الجديدة.

غير أن للحرب أخطارا أوسع على الإقليم، ففي ظل الخلل الواضح في ميزان القوة بين الشمال والجنوب ستضطر الحركة الشعبية لفتح أبواب التدخل الدولي والإقليمي لمساعدتها في مواجهة عدوها في الشمال. وسنجد أن مدى اليد الإسرائيلية قد طال إلى منطقة البحيرات والهضبة الإفريقية.

رابعا: غير أن أغرب الاحتمالات هو ما اقترحه الوسيط الرئيس في اتفاقية السلام الشامل الجنرال الكيني لازاروس سومبيو بإنشاء دولة مستقلة في أبيي على غرار مملكة ليسوتو بجنوب إفريقيا كحل للمأزق الحالي الخاص بنزاع شمال وجنوب السودان على ملكية الأرض. وبالرغم من طرافة الاقتراح إلا أن كثيرا مما يبدو طريفا في لعبة الأمم يجد طريقه إلى التنفيذ ولو بعد حين.