المعارضة السورية بعد سميراميس.. الربح والخسارة

نقطة الضعف لاجتماع المعارضة السورية في دمشق الأسبوع الماضي أن المشاركين لا يسيطرون على صيغ توظيفه، لأنهم طرف ضعيف نسبيا قبالة كل من النظام والانتفاضة والقوى الدولية المعنية بالشأن السوري، ولأنهم غير قادرين على القيام بتحركات سياسية تفرضهم طرفا فاعلا في المعادلة.
1_1070688_1_34.jpg

كان مجرد عقد اجتماع شارك فيه نحو مائتين من المستقلين السوريين، ذوي الميل المعارض، خبرا مذكورا. ولقد اهتمت به وسائل الإعلام بالفعل على نطاق واسع. وبينما أثار هذا "اللقاء التشاوري الأول" تحفظ معظم ناشطي الانتفاضة والمشاركين فيها، فقد وصفته متحدثة أميركية بأنه "حدث مهم". وقال مثل ذلك متحدثون فرنسيون وبريطانيون. أما السلطات السورية فتبدو راضية عن انعقاده، وإن تكن عملت عبر وسائل إعلامها على السخرية منه ومن المشاركين فيه.

الاجتماع وما تمخض عنه
تمثلت الصورة الأولى عن اللقاء في نقل مشاهد -قالت القناة الإخبارية السورية إنها دون مونتاج- لدخول المشاركين إلى قاعة الاجتماع، وحوارات فوضوية واتهامية، أشبه باستجوابات، مع بعضهم من قبل مراسلي الإعلام المحلي المرضي عنه. وكان بين من رآهم المتابعون أشخاص ليسوا فقط غير معارضين، ولا غير مستقلين، بل هم من المقربين إلى أجهزة الأمن. ولقد قيل عنهم فيما بعد: إنهم حضروا دون دعوة شخصية، لكنهم فرضوا أنفسهم بطريقة ما، رغم إعلان الداعين إلى المؤتمر أن الدعوة إلى الحضور اسمية، وأن شخصا واحدا على الأقل لم يُسمح له بالمشاركة لعدم ورود اسمه بين المدعوين.

هذه المشاهد المبكرة دفعت إلى خفض سقف التوقعات من اللقاء. وقد ساهم كذلك في خفض هذا السقف عقده في مكان نخبوي، وحرص منظمي المؤتمر على دعوة وسائل الإعلام إلى تغطيته. لقد بدا أن المؤتمر عرض show  مطلوب من أجل جهة ما، وقد قيل: إن هذه الجهة هي طرف ما من النظام السوري، وربما طرف أميركي. ولكن ليس هناك دلائل حاسمة في هذا الشأن. ولعل صورة اللقاء الإعلامية، والسياق السياسي الذي اندرج فيه، والترحيب الفوري به من قبل الإدارة الأميركية، تُحدِّد دلالته ودوره أكثر من الوثائق التي صدرت عنه. وقد تسوِّغ ما قالته صحيفة "الغارديان" البريطانية عنه في اليوم التالي لانعقاده من أنه: تمرين في العلاقات العامة.

صدر عن الاجتماع بيان من نقاط عشر، منها: "دعم الانتفاضة الشعبية السلمية من أجل تحقيق أهدافها في الانتقال إلى دولة ديمقراطية مدنية تعددية"، ومنها: "إنهاء الخيار الأمني"، ثم "ضمان حرية التظاهر السلمي دون إذن مسبق"، و"إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، ومعتقلي الرأي"، و"رفض التجييش الإعلامي" مع مطالبة الإعلام الرسمي وشبه الرسمي بعدم التمييز بين المواطنين، ثم "إدانة جميع أنواع التحريض الطائفي والجهوي، والتأكيد على وحدة الشعب السوري"، و"إعادة اللاجئين والمهجَّرين"، ورفض التدخل الأجنبي وأية سياسات أو دعوات تشجع عليه، ثم الدعوة إلى "السماح للإعلام العربي والدولي بتغطية ما يجري في سوريا بكل حرية"، وأخيرا "عقد لقاءات مماثلة في مختلف محافظات سوريا، تنظمها وتدعو إليها هيئة تنسيق دائمة تنبثق عن هذا اللقاء". الهيئة المشار إليها في هذا البند الأخير لم تتشكل بعد، لكنها بصدد التشكل حسب معلومات مباشرة من أحد أبرز المشاركين في اللقاء.

وفضلا عن البيان، أصدر الاجتماع نصا صغيرا بعنوان: "عهد من أجل بلادنا التي نحب"، يعلن عزم المشاركين على البقاء جزءا من انتفاضة الشعب السوري السلمية، ورفض الخيار الأمني، وإدانة التمييز بين السوريين على أساس طائفي أو مذهبي أو عرقي، ورفض التدويل والتدخل الخارجي، وتغليب مصلحة الوطن وحرية المواطن على أية مصالح أخرى. مضمون هاتين الوثيقتين أسهم في موازنة التوقعات السلبية، لكن ليس إلى درجة تعديل الوظيفة السياسية للقاء، التي قد تتمثل في خلق مسار سياسي وسطي، متميز عن النظام وعن الانتفاضة في آن واحد.

عن حال المعارضة السورية
أثار الاجتماع سجالا فوريا في أوساط الطيف السوري المعارض، فالمعارضة التقليدية المنظمة في أحزاب -وهي لم تُدْعَ إلى الملتقى- لم تأخذ موقفا معلنا من الاجتماع. لكن "إعلان دمشق"، وهو ائتلاف سياسي معارض يضم تنظيمات عربية من أصول يسارية وقومية عربية مع تنظيمات كردية، بدا أقرب إلى التحفظ على اللقاء. وظهر موقف أشد تحفظا، بل أقرب إلى الإدانة؛ إذ أصدر "اتحاد تنسيقيات الثورة السورية"، وهو أحد التشكيلات الشبابية المنخرطة في حركة الانتفاضة، بيانا يدين فيه اللقاء ويتهمه بالتواطؤ مع النظام. وبدا موقف أكثر المعارضين في الخارج سلبيا أيضا حيال اللقاء. وعكست نقاشات على صفحات موقع الفيسبوك رغبة عامة في عدم تخوين المشاركين في المؤتمر، والفصل بين تحفظ قد يكون مشروعا وبين إدانة لا مسوغ لها، وقد تنعكس سلبا على البيئة العامة للانتفاضة.

وبرزت كذلك مواقف أكثر تحليلية، ترى أن اللقاء هو ثمرة لكفاح الشعب السوري، وأنه محاولة لملء فراغ لم تستطع أو لم تعمل المعارضة التقليدية على ملئه. وهذا صحيح، وإن كان لا يقول شيئا عن الوظيفة السياسية لهذا اللقاء. علما أن هذه قد تكون مستقلة إلى حد بعيد عن نيات وإرادة المشاركين فيه، ونتاجًا لعلاقات قوة داخلية وخارجية بين أطراف أقدر على توظيفه لأغراضها.

على أن اللقاء كان مناسبة ظهر فيها التكوين الطيفي، المفتقر إلى متن أو كتلة مركزية جاذبة للمعارضة السورية. هناك ضروب متنوعة من التمايزات والاستقطابات ضمن هذا التكوين الطيفي، منها ما يتصل بتمايزات أيديولوجية موروثة، بين إسلاميين وقوميين ويساريين، مع شقاقات داخل كل واحدة من هذه المراتب؛ ومنها التمايز بين حزبيين ومثقفين مستقلين، وقد كان لافتا الدور السياسي المهم الذي قام به مثقفون سوريون منذ أيام "ربيع دمشق" مطلع هذا القرن، ومنها التمايز بين معارضة الداخل ومعارضة الخارج، وهو ما يحاول النظام اللعب عليه بإسباغ صفة الوطنية على الداخليين وإنكارها على الخارجيين، ومنها أخيرا التمايز بين معارضة تقليدية ذات أصول حزبية وأيديولوجية منحدرة من أزمنة ما بعد الاستقلال الوطني، وبين معارضة جديدة تتمثل في جمهور الانتفاضة الواسع، غير المنخرط في أطر تنظيمية أو إيديولوجية محددة.

بفعل تكوينها الطيفي هذا، لم تستطع المعارضة التقليدية السورية القيام بمبادرة موحدة، توفر غطاء سياسيا ضروريا للانتفاضة، أو ضربا من القطب السياسي المقابل للنظام، والمؤهل لتوظيف الكفاح الشعبي.
هناك جهود تبذل هنا وهناك لبناء إطار تنسيقي جامع للمعارضة التقليدية، يكون سندا للانتفاضة، لكن إيقاع العمل بطيء بدرجة كبيرة. وقد أُعلن عن تشكيل إطار تنسيقي شاركت فيه أحزاب داخلية وشخصيات معروفة مقيمة خارج البلاد (برهان غليون وهيثم مناع وآخرون)، لكنه لا يبدو جامعا، ويصعب تقدير مدى فاعليته اليوم. ولعل هذا ما حدا بشباب التنسيقيات إلى القيام بدور سياسي مباشر، وإلى التعبير عن مواقف سياسية، على نحو ما فعلت "لجان التنسيق المحلية" حين أصدرت رؤية سياسية لمستقبل سوريا في 11 يونيو/حزيران الماضي، أو الموقف المناهض للقاء سميراميس (مكان انعقاد المؤتمر) الذي عبر عنه "اتحاد تنسيقيات الثورة". وهو أيضا ما خلق الفراغ السياسي الذي جعل لقاء سميراميس نفسه ممكنا.

هل من كاسبين وخاسرين؟
تعطي المواقف الدولية المرحِّبة بلقاء سميراميس انطباعا بأن النظام سجل نقطة أولية في صراعه مع الانتفاضة، دون أن يتخلى ذرة واحدة عن اعتماده الحاسم على الحل العسكري والأمني في مواجهة الاحتجاجات الشعبية. لكن لهذا السبب بالذات قد يثبت أن هذا المكسب قصير الأمد، ولن يلبث أن تذروه عاصفة الاحتجاج الشعبي القوي وما تستثيره من تنبه دولي قوي إلى سلوك النظام السوري.

ولقد تسبب اللقاء في بلبلة نسبية في أوساط ناشطي الانتفاضة، أولئكم الذين وُجِّهت الدعوات لبعضهم للمشاركة فيه ورفضها أكثرهم. لكن جانبا من هذه البلبلة ربما يعود إلى حداثة التجربة وليس بالضرورة إلى مآخذ قطعية عليها. وعلى أية حال، يبدو أن الجميع في بيئة الانتفاضة مدركون أن استعادة زمام المبادرة تتم في الشارع وعبر تصعيد النشاط الاحتجاجي. ويبدو أن انتهاء امتحانات الشهادة الثانوية والجامعات بشير في نظر الناشطين بتوسع أكبر للانتفاضة ومشاركة شبابية أكبر.

في المحصلة، يمكن اعتبار لقاء سميراميس مبادرة جانبية لم يستطع النظام الاستفادة منها بسبب تصلب بنيته ورهانه الكلي على أداوته القمعية، وكذلك لصعوبة ترويض وشراء ذمم أكثر المشاركين في اللقاء أيضا. ولم يُضعِف هذا اللقاء الانتفاضة التي تتواتر أنشطتها في بؤر الاحتجاج المنتشرة في طول سوريا وعرضها. كما لم يغير اللقاء شيئا أساسيا في وضع المعارضة التقليدية التي لا تأثير مباشرا لها على الأنشطة الميدانية للانتفاضة. ولا هو أخيرا، بالشيء الذي تستطيع أية قوى دولية فاعلة أن تعوّل عليه جديا أو تبني عليه سياسات جديدة حيال "المسألة السورية".

هل من انعكاسات سياسية وأمنية؟
بعد يوم من اجتماع سميراميس اعتقلت الجهات الأمنية نحو 400 طالب جامعي من المدينة الجامعية في حلب. ومضت في انتشارها العسكري في جبل الزاوية وفي قصف قراه. وتواترت معلومات عن اعتقالات واسعة في مناطق متعددة من البلد، من التل قرب دمشق إلى بلدة القصير التابعة لحمص إلى قرى إدلب في الشمال الغربي إلى مدينتي الرقة ودير الزور في الشمال الشرقي. كل هذه شواهد على أن النظام ماض في سياسته ذاتها دونما تعديل، وأن تعويله الأساسي هو على حسم الصراع مع الانتفاضة بالقوة. على أنه من المحتمل جدا أن يفكر النظام في كيفية ربط اجتماع سميراميس بمسار "الحوار الوطني" الخاص به هو، الذي يُفترض أن ينطلق في 10 يوليو/تموز. ولكن المواقف المعلنة لأبرز المشاركين في اللقاء التشاوري الأول ترفض الحوار مع النظام حاليا. وليس هناك أي مبرر للشك في ثبات المعنيين على هذا الموقف، وإن أمكن استدراج بعض المشاركين فيه غير المعروفين إلى حوار النظام، بغرض القول: إن النظام يتحاور مع المعارضة.

يبقى أن العامل الحاسم في الحكم على انعكاسات لقاء سميراميس هو فاعلية الانتفاضة من جهة، ونهج النظام في مواجهتها من جهة ثانية. وهذان هما العنصران المقرران لتحولات المشهد السياسي السوري منذ أكثر من ثلاثة شهور ونصف. وكل القرائن تشير إلى أن الانتفاضة ماضية في سبيلها، ولن تحيد عن هدفها المتمثل في "إسقاط النظام"؛ وأن النظام في المقابل ماض في سبيله، ولن يحيد ما استطاع عن هدفه في تحطيم الانتفاضة وإعادة الشعب السوري المطالب بالحرية إلى "بيت الطاعة".

تقديرات ختامية
قد تكون نقطة الضعف الأكبر لاجتماع سميراميس أن المشاركين فيه لا يسيطرون على صيغ توظيفه. وهذا ليس فقط لأنهم طرف ضعيف نسبيا قبالة كل من النظام والانتفاضة والقوى الدولية المعنية بالشأن السوري، وإنما أساسا لأنهم لا يبدون قادرين على إطلاق سلسلة من التحركات السياسية التي تفرضهم طرفا سياسيا فاعلا في المشهد السوري. لو أمكنهم القيام بذلك لكانوا أفضل تحكما بنتائج أعمالهم، وأقدر على حمايتها من توظيفات تتعارض مع مقاصدهم الخاصة. ويعتزم المشاركون إقامة "هيئة متابعة" لكن ليس واضحا إن كانت هي ذاتها هيئة التنسيق الدائمة التي تكلم عنها بيانهم، والتي يُفترض أن تكون معنية بعقد اجتماعات أخرى في المحافظات السورية. من شأن ذلك أن يكون خطوة نحو إمساك اجتماع سميراميس بمصيره وتحكمه بأعماله.

وبينما تتواتر شواهد على أن البلاد السورية ستشهد مزيدا من اللقاءات والمبادرات والهيئات السياسية في الأيام والأسابيع القريبة القادمة، فإنه قد يُنظر إلى لقاء سميراميس كبادرة أولى في الداخل باتجاه نشوء حياة سياسية سورية جديدة، دفع السوريون ثمنا عزيزا من أجلها، ولا يزالون.