لبنان.. مخاطر ارتدادات الزلزال السوري

اشتباكات طرابلس بين لبنانيين سُنة وعلويين الأسبوع الماضي شرارة أولية لما قد يشهده لبنان من ارتدادات الزلزال السياسي الذي يضرب بنية النظام السوري والتوازنات العربية. فكيف سيتطور الوضع السياسي اللبناني مع حكومة ميقاتي التي تسيطر عليها القوى الموالية لدمشق، والتأزم السوري الداخلي.
1_1068711_1_34.jpg

انفجار اشتباكات الأسبوع الماضي في مدينة طرابلس بين لبنانيين سُنة وعلويين (الجزيرة)

مركز الجزيرة للدراسات

بالرغم من أن لبنان انتظر طويلاً تشكيل حكومة نجيب ميقاتي، إلا أن الولادة المتأخرة والعسيرة للحكومة لم تنجح في تعزيز الشعور بالاستقرار؛ فارتباط الوضع السياسي في لبنان بتوازنات ومتغيرات المحيط العربي، والتأثير السوري الكبير على الشأن اللبناني، يضع لبنان الآن في مهب عواصف الثورات العربية عموما، والثورة السورية على وجه الخصوص. ولعل انفجار اشتباكات الأسبوع الماضي في مدينة طرابلس بين لبنانيين سُنة وعلويين مجرد شرارة أولية لما يمكن أن يشهده هذا البلد من ارتدادات الزلزال السياسي الذي يضرب بنية النظام السوري والتوازنات العربية.

فيما يلي قراءة أولية لتطورات الوضع السياسي اللبناني واحتمالاته في ظل تشكيل حكومة ميقاتي التي تسيطر عليها القوى الموالية لدمشق، وفي ظل الـتأزم السوري الداخلي.

بالرغم من أن لبنان انتظر طويلاً تشكيل حكومة نجيب ميقاتي، إلا أن الولادة المتأخرة والعسيرة للحكومة لم تنجح في تعزيز الشعور بالاستقرار.
1- يوم الجمعة 17يونيو/حزيران الماضي كانت مدينة طرابلس في شمال لبنان مسرحًا لاشتباكات مسلحة بين منطقتين تتميّز إحداهما بأنها ذات غالبية سنية (باب التبانة) أما الثانية (جبل محسن) فتقطنها غالبية من العلويين. سقط سبعة قتلى وعدد من الجرحى بينهم جندي لبناني (لم يكن مشاركًا في الاشتباك) وأحد المسؤولين في الحزب العربي الديمقراطي (ذي الطابع العلوي). وكانت تظاهرة متضامنة مع الاحتجاجات في سوريا خرجت بعد صلاة الجمعة وضمّت العديد من الطلبة السوريين الذين يدرسون في فرع الجامعة اللبنانية في طرابلس، وردد المتظاهرون هتافات مطالبة بإسقاط النظام السوري؛ مما استفز أهالي جبل محسن. وقد تدخل الجيش اللبناني لوقف الاشتباكات، وأُعطي أوامر بإسكات مصادر النار أيًا كان مصدرها.

2- لم يكن هذا الحادث الأول من نوعه بين المنطقتين؛ إذ تكرر في الماضي مرّات كثيرة، لكنه كان يُعزى دائمًا لاحتقانات محلية؛ فالمدينة (طرابلس) ومحيطها المتوسع تشهد مدًّا سياسيًا إسلاميا متناميًا وزادت أهميته تحديدًا في العام 2008؛ فباتت قبلة سنّة لبنان بعدما أصبحت العاصمة بيروت تعتبر من وجهة نظرهم "ساقطة عسكريًا" منذ دخلتها قوات "حزب الله" وحلفائه في تيار ما يعرف بـ"8 آذار" (حركة "أمل"، وحزب البعث، والحزب القومي السوري الاجتماعي...)، وحسمت أزمة سياسية داخلية بإنزال هزيمة بالتيار الآخر المعروف بـ "14 آذار". وكما عُدّت هذه المواجهة (7 مايو/أيار 2008)، في بعض التحليلات، ذروة المواجهة "الشيعية-السنية"، كذلك يُنظر إلى حادث طرابلس على أنه أول اشتباك "سني-علوي" على خلفية الأحداث المتفاعلة في سوريا حاليًا. والواقع أن هذا الاشتباك كان متوقعًا، وغير مستبعد تكراره لأسباب ودوافع شتى طالما استمرت الأزمة في سوريا.

3- ذاك أن مسرح الاشتباكات، أي طرابلس، يتميّز باستقطابه لوجهي الأزمة المتشعبة التي يعيشها لبنان داخليًا وإقليميًا، فهو:

  • أولاً: بات محور الصراع على الزعامة السنية في لبنان؛ فالحكومة الجديدة التي تُعتبر سوريا عرّابها تضمّ، إلى جانب رئيسها نجيب ميقاتي، ثلاثة وزراء سنّة آخرين من المدينة. وهي خطوة غير مسبوقة في تشكيل الحكومات. وقد ذهب أحد التفسيرات إلى حد القول: إن المعارضة (المؤيدة لـ "تيار المستقبل" بزعامة سعد الحريري) افتعلت الاشتباك في ذلك اليوم تحديدًا لتوتير الأجواء، ومنع الوزراء الأربعة من إقامة احتفال مشترك بولادة الحكومة.

  • ثانيًا: كان تفاعل طرابلس مع الانتفاضة الشعبية في سوريا هو الأقوى في عموم لبنان، بسبب:
    • القرب الجغرافي من مناطق سورية –منها تلكلخ وبانياس وجوارها- شهدت قمعًا شديدًا.
    • نزوح بضعة آلاف من السوريين إلى مناطق في شمال لبنان.
    • وجود أحزاب ومجموعات إسلامية دعت مرارًا، وفي وقت مبكر، إلى تظاهرات تضامنا مع الشعب السوري، إلا أن السلطات لم ترخص لها بذلك واتخذت تدابير مسبقة لاحتوائها.

  • ثالثًا: كانت معركة السيطرة العسكرية لـ "حزب الله" وحلفائه على بيروت عام 2008 قد استدرجت ردود فعل دموية في الشمال، وأدت فيما بعد إلى سباق بين مختلف القوى لاستقطاب الشارع الشمالي، خصوصًا السني، والعمل على تسليحه. وهذا السباق لا يزال جاريًا، لأن الصراع الذي صُوّر سنيًا-شيعيًا (وهو كذلك جزئيًا) كان ولا يزال في بعض أوجهه معركة لاستعادة سوريا نفوذها على السنة بعدما فقدته بسبب "الاتهام السياسي" الذي وُجّه إليها بتدبير اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في فبراير/شباط 2005. وبعد انسحاب قواتها من لبنان انتقل نفوذها "بالوكالة" إلى حلفائها بقيادة "حزب الله".

4- لا بد من تذكير، ولو في عجالة، بمراحل الأزمة المركّبة والمتدرجة التي يعيشها لبنان، وقد بدأت عناصرها الحالية في العام 2005 مع مسلسل الاغتيالات السياسية بدءًا من رفيق الحريري وإحالة الجريمة إلى تحقيق دولي تنظر فيه محكمة دولية خاصة أُنشئت بقرار من مجلس الأمن الدولي. ومع انسحاب السوريين انتقلت العلاقة بين البلدين من "الوصاية" إلى التأزم. وغداة حرب صيف 2006 بين "إسرائيل" و"حزب الله"، الذي ساندته سوريا، استشعر هذا الحزب إرهاصات لمحاصرته، عبر تفعيل القرارات الدولية التي أنهت الحرب، ولنزع شرعية المقاومة وسلاحها بجعلهما محور خلاف داخلي من خلال قراءة نتائج تلك الحرب وأسبابها؛ فانفجرت أزمة سياسية استمرت ثمانية عشر شهرًا إلى أن توصل الأطراف إلى حلّ لها من خلال "اتفاق الدوحة" (مايو/أيار 2008)، لكنها تركت رواسب سياسية واجتماعية لا تزال تتفاعل حتى الآن، ولا يزال "سلاح المقاومة" محور جدل. ومنذ يونيو/حزيران 2010 عصفت أزمة جديدة بالحكومة الوفاقية بعدما شارفت لجنة التحقيق الدولية على إنهاء عملها، وشاعت تسريبات بأن المحكمة ستسمّي بموجب القرار الاتهامي مجموعة أشخاص ينتمون إلى "حزب الله"، الذي رفض هذا الاتهام واعتبره مسيّسًا ويهدف إلى توريطه. وبعد شهور من المساجلات، وبعد فشل مساع بذلتها سوريا والسعودية لإيجاد تسوية لتجنب تداعيات أي اتهام كهذا أُسقطت الحكومة التي كان يرأسها سعد الحريري، بعدما انقلبت الأكثرية التي كانت تؤيدها، بضغوط مارستها سوريا وحلفاؤها المحليّون. واليوم تواجه حكومة نجيب ميقاتي احتمال تجدد هذه الأزمة، لكن الطرف الآخر المؤيد للمحكمة لا يشارك في هذه الحكومة وإنما انتقل إلى المعارضة التي اتخذت من "السلاح غير الشرعي" محورًا لمعركتها السياسية.

ارتباط الوضع السياسي في لبنان بتوازنات ومتغيرات المحيط العربي، والتأثير السوري الكبير على الشأن اللبناني، يضع لبنان الآن في مهب عواصف الثورات العربية عموما، والثورة السورية على وجه الخصوص.
5- على هذه الخلفية بدأت الانتفاضة الشعبية في سوريا، منتصف مارس/آذار؛ مما أدى إلى تراجع إدارة الأزمة اللبنانية في سلم أولويات دمشق، وبدا واضحًا أن سوريا "فرملت" عملية تأليف الحكومة لتتفرغ لأزمتها على أمل الانتهاء منها سريعًا. قبل ذلك كانت دمشق تتوخى إيجاد "شركاء"، عدا إيران أو بالإضافة إليها، لرعاية هذه الحكومة، كالسعودية مثلا، أو ربما تركيا. ولعلها توقعت أن تهتم الولايات المتحدة أو فرنسا بالتغيير السياسي الذي قادته في لبنان، وفقًا لتقاليد سابقة، لكن مناورتها لم تُجدِ نفعا؛ لذلك جمّدت سوريا عملية تأليف الحكومة، وراحت تحاول ربط أزمتها بالأزمة اللبنانية من خلال تفعيل "نظرية المؤامرة" التي جهر بها الرئيس بشار الأسد في خطابه الأول أمام مجلس الشعب السوري نهاية مارس/آذار الماضي.

6- نظر سنّة لبنان إلى أحداث سوريا في بداياتها على أنها انتفاضة شعبية لا هوية طائفية لها، وبسبب مناخ الانقسام السياسي الحاد في لبنان فقد أحجموا عن أي تدخل أو حتى إبداء التعاطف رغم أن هذه الانتفاضة والقمع الشديد الذي مورس ضدّها راحا يُبرزان استهدافًا مبرمجًا لفئة محددة تتمثل بالسنّة. ورغم السلبية التي أشهرها اللبنانيون فإنهم فوجئوا بأن السلطات السورية توجّه لهم اتهامات بتمرير أسلحة عبر الحدود، بل عرض التلفزيون السوري الحكومي "اعترافات" لأشخاص قيل إنهم اعتُقلوا وأقرّوا بأن النائب جمال جراح (من "تيار المستقبل") وفَّر لهم أموالا وأسلحة لتسليمها إلى بعض المتظاهرين. وطالب السفير السوري في بيروت بملاحقة هذا النائب إلا أن الجهات الأمنية والقضائية المختصة انتظرت أن تمدّها دمشق بالملف لتتمكن من التحرك، وهو ما لم يحدث. لكن مواقع إلكترونية وسياسيين لبنانيين موالين لسوريا أكثروا من الإشارة إلى "تورط" جهات سعودية في التحريض على الاحتجاج في سوريا من دون أن يتمكنوا من إثبات ادعاءاتهم. وفجأة غادر سعد الحريري بيروت، رغم أنه رئيس حكومة تصريف الأعمال، ويبدو أنه تلقى نصائح وتحذيرات استخبارية عربية وغربية بوجوب الابتعاد قبل أن يصبح هدفًا سائغًا للاغتيال، خصوصًا مع تصاعد احتمالات إشعال فتنة تترافق والأزمة السورية بل يمكن أن تحرف الأنظار عنها. ويعتقد خبراء سياسيون أنه مع مضي ثلاثة شهور على استمرار الانتفاضة ربما تكون سوريا فقدت خيار "حرف الأنظار" هذا، باعتبار أنه حتى المسيرات التي نُظمت إلى الحدود مع إسرائيل في ذكرى النكبة (15 مايو/أيار) ثم في ذكرى النكسة (5 يونيو/حزيران)، لم تتطور على النحو الذي أُريد لها، رغم سقوط أكثر من ثلاثين قتيلا ومئات الجرحى في الجولان وجنوب لبنان.

7- عندما وُلدت الحكومة اللبنانية أخيرًا بدا النظام السوري كأنه في لحظة حسْم أزمته؛ فمن جهة أبدى حلفاؤه اللبنانيون مخاوف من أن تأخير الحكومة يمكن أن يُفهم كمؤشر ضعف، ثم إنهم لفتوا أنظار السوريين إلى أن القرار الاتهامي للمحكمة الدولية في قضية الاغتيالات السياسية يوشك أن يصدر، وبالتالي يُفترض أن تقرر دمشق ما إذا كانت تفضل صدوره في ظل حكومة تصريف أعمال لا يزال الحريري يرأسها أم تفضل مواجهته بحكومة يسيطر عليها حلفاؤها؟ ومن جهة أخرى كان الحل الأمني المتنقل داخل سوريا قد بلغ الذروة في جسر الشغور؛ حيث حدث أكبر انشقاق من نوعه في صفوف القوات الأمنية، وأُرسلت تعزيزات لإعادة إخضاع البلدة وكسر هذا التمرد. لكن نزوح آلاف الشغوريين إلى الجوار التركي خلق أزمة محرجة قد تُستخدم لفتح ثغرة تدويل للأزمة.

8- تتنازع الحكومة اللبنانية الوليدة مخاوف من ثلاثة مصادر:

  1. أن يتأجج الصراع الداخلي فيؤدي إلى تكبيلها وعرقلة عملها، خصوصاً إذا صدر القرار الاتهامي في الأيام المقبلة، وإذا جُوبه بردود فعل واسعة ونوعية من جانب "حزب الله".
  2. أن تتعامل الولايات المتحدة والدول الأوروبية بسلبية معها، كما هو متوقع، ما يعني لجم اندفاعها لتحسين الوضع الاقتصادي، وربما ممارسة ضغوط عليها من خلال العقوبات التي ستفرض على سوريا.
  3. أن لا تكون سوريا تخلت كلياً عن استخدام الساحة اللبنانية لخوض مجابهة مع الدول الغربية خصوصاً أن البيئة المسلحة والمتوترة في طرابلس تبدو مؤاتية لمختلف الاحتمالات، علمًا بأن المساومات السابقة التي كانت سوريا تجريها عبر لبنان ربما فات أوانها.

ولا تبدو فكرة "طرابلس منزوعة السلاح" واقعية أو قابلة للتحقيق، لكنها اختبار لمدى استعداد سوريا لتحصين موقف حليفها ميقاتي. وقد سبقتها قبل عامين فكرة "بيروت منزوعة السلاح" التي اصطدمت بعدم موافقة سوريا عليها، لأن السلاح "غير الشرعي" موجود بمعظمه في أيدي حلفائها.

بالإضافة إلى البيئة المتوترة في طرابلس، تتخوف أوساط لبنانية عدة من احتمالين خطيرين:

  • الأول: وقوع عمليات اغتيال لشخصيات سياسية.
  • الثاني: افتعال صدامات بين فصائل فلسطينية ومجموعات لبنانية، إذ أن السلاح الفلسطيني خارج المخيمات هو من الأوراق التي احتفظت بها سوريا ولم تعط موافقتها على سحبه، حتى بعد "توافق" اللبنانيين عليه كإجراء يعزز سلطة الدولة.

لا تبدو فكرة "طرابلس منزوعة السلاح" واقعية أو قابلة للتحقيق، لكنها اختبار لمدى استعداد سوريا لتحصين موقف حليفها ميقاتي. وقد سبقتها قبل عامين فكرة "بيروت منزوعة السلاح" التي اصطدمت بعدم موافقة سوريا عليها، لأن السلاح "غير الشرعي" موجود بمعظمه في أيدي حلفائها.
9- أدى تحليل الأحداث السورية إلى حسابات سياسية مفتوحة في لبنان. ففيما يعتبر حلفاء سوريا أن النظام لم يفقد قوته وأنه سيتجاوز الأزمة ولو ببطء، يعتقد الخصوم أن النظام قد يكون دخل نفقاً طويلاً سيشغله ويلزمه بالتعامل مع الأزمة التي وضعته في مواجهة طالما اعتبرها غير واردة. لكن هؤلاء وأولئك التقوا، من دون تنسيق، على أن الأفضل لبنانياً عدم التدخل بأي شكل من الأشكال، وعدم تشجيع النقاش الداخلي على تداول الأزمة السورية، انطلاقاً من الرغبة في تجنب إضافة انقسام جديد إلى الانقسامات الموجودة. ويدرك خصوم سوريا أن تراجع النظام أو انهياره قد يدفع "حزب الله"، في الفترة الأولى على الأقل، إلى تنفيذ خطط عسكرية لتأكيد سيطرته والحفاظ على وضعه القتالي ومنع خصومه من الإستقواء عليه.

10- هذه الحسابات تشغل أيضًا الأطراف الإقليمية المهتمة أو المعنية بالوضع اللبناني، كإيران وتركيا والعرب، فالأُولى خصوصًا قلقة على مستقبل حليفها السوري قلقها على مستقبلها في سوريا؛ فهي تريد أن تتأكد من أنها تستطيع مواصلة الاعتماد عليه، وأنه سيبقى على مساندته المعروفة لـ "حزب الله". ورغم تأييدها الواضح والمعلن للنظام فإنها تدرك الآن أن منظومتها الإستراتيجية تمر بمرح&