مركز الجزيرة للدراسات
في السابع من يونيو/حزيران الجاري أصدرت القوات المسلحة السودانية بيانا قالت فيه إن الحركة الشعبية هاجمت سرية من الجيش السوداني في منطقة أم دورين (45 كيلومترا جنوب شرق مدينة كادقلي)، وبعد ذلك، وعلى مدى أكثر من أسبوع، دارت معارك ضارية في ولاية جنوب كردفان شملت مدن كادقلي، هيبان، الدلنج، بقارة، البرام وغيرها، خلفت عشرات القتلى ومئات الجرحى وعشرات الآلاف من النازحين.
فهل ما يحدث بداية الحرب التي تنبأ بها البعض بين شمال السودان والجنوب الجديد علي الحدود بعد انفصال الجنوب وتكوين دولته؟ أم لا يزال بالإمكان نزع فتيل الأزمة وتغليب الحل السلمي؟
أسباب التوتر
ردود الفعل
حسابات الأطراف
احتمالات التطور
أولا: بعد صراع طويل بين شريكي الحكم، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، حول التعداد السكاني والسجل الانتخابي جرت في ولاية جنوب كردفان مؤخرا انتخابات على مقاعد المجلس التشريعي الأربعة والخمسين وعلى منصب والي جنوب كردفان، فاز فيها أحمد هارون عن المؤتمر الوطني بمنصب والي الولاية في مواجهة عبد العزيز الحلو عن الحركة الشعبية، ونال المؤتمر الوطني ثلاثة وثلاثين مقعدا في المجلس التشريعي في مقابل نيل الحركة الشعبية واحدا وعشرين مقعدا.
أصدر الجيش السوداني قرارا أبلغه للحركة الشعبية بإخراج جنودها التابعين لجيش تحرير السودان في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق إلى جنوب حدود الأول من يناير/كانون الثاني 1956 واشترط أن يتم ذلك قبل بداية يونيو/حزيران الجاري، حسب منطوق اتفاقية السلام الشامل |
ثانيا: تأتي هذه الأحداث بعد أسبوعين فقط من التوترات في الجزء الجنوبي الغربي لولاية جنوب كردفان، منطقة أبيي، التي وصلت فيها الأحداث إلى اجتياح الجيش السوداني لها، وطرد جيش الحركة الشعبية جنوبا، إذ لا يزال الشعور بالغبن يعتمل داخل الحركة الشعبية، ويسعى بعضهم للتنفيس عنه بغض النظر عن التداعيات السياسية.
ثالثا: أصدر الجيش السوداني قرارا أبلغه للحركة الشعبية بإخراج جنودها التابعين لجيش تحرير السودان في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق إلى جنوب حدود الأول من يناير/كانون الثاني 1956 واشترط أن يتم ذلك قبل بداية يونيو/حزيران الجاري، حسب منطوق اتفاقية السلام الشامل في بندها الخاص بالترتيبات الأمنية، الأمر الذي رفضته الحركة الشعبية في المنطقتين.
والحقيقة أن هذه المسألة هي جوهر الخلاف، وهي نقطة الضعف الأساسية في الترتيبات الأمنية لاتفاقية السلام الشامل التي تأسست على وجود ثلاثة جيوش للفترة الانتقالية التي تنتهي في 9 يوليو/تموز 2011، وتتكون من: الجيش الأول هو القوات المسلحة الحكومية، والجيش الثاني هو جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان، والجيش الثالث هو القوات المشتركة المكونة من الجيشين. ونصت الترتيبات الأمنية على تطوير القوات المشتركة إلي جيش قومي للسودان كله في حالة اختيار الجنوبيين الوحدة بعد الاستفتاء.
وتدمج فيه ما يتم الاتفاق عليه من قوات من الجيش الحكومي أو جيش الحركة الشعبية، أما في حالة اختيار الجنوبيين الانفصال فيتم حل القوات المشتركة، وينسحب الجيشان شمال وجنوب حدود 1/1/1956، حيث يجب أن ينسحب الجيش الحكومي إلى شمالها، بينما ينسحب جيش الحركة الشعبية إلى جنوبها. ولما طالب الجيش السوداني قوات الحركة الشعبية في ولايتي جنوب كردفان وولاية النيل الأزرق بسحب قواتها رفضت ذلك بحجة أن أفراد وضباط قواتها في المنطقتين هم مواطنون شماليون، كانوا جزءا من جيش الحركة الشعبية قبل اتخاذ الجنوبيين القرار بالانفصال، أما وقد انفصل الجنوب فلا سبيل إلى إلحاق مواطني قطر آخر، هو شمال السودان، بجيش دولة جديدة هي دولة جنوب السودان.
من الواضح أن الترتيبات الأمنية التي جرى الاتفاق عليها في اتفاقية السلام الشامل لم تتحسب لهذه المعضلة، فالمنتمين للجيش الشعبي في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، (قرابة أربعين ألفا حسب تقارير الحركة الشعبية التي تعتبرها الحكومة مبالغ فيها دقيقة بشكل كبير)، أصبحوا مواطنين شماليين، لا يستطيعون الالتحاق بجيش الحركة الشعبية جنوب، بينما لا يمكن استمرارهم مسلحين في شمال السودان كقوى خارجة على الجيش السوداني الرسمي، الذي نصت اتفاقية السلام على أحقيته منفردا بحمل السلاح في دولة شمال السودان.
ولهذا اندلعت الحرب في ولاية جنوب كردفان بين الجيش السوداني وجيش الحركة الشعبية لتحرير السودان لتحقيق هدفين للحركة الشعبية:
الهدف الأول: الذي يسعى له جيش الحركة الشعبية هو إثبات وجوده في الولاية والإشارة القوية إلى ضرورة حل قضيته المنفصلة عن انتمائه للجيش الشعبي لتحرير السودان.
الهدف الثاني: هو الانطلاق من النقطة السابقة لإعادة التفاوض حول مكاسب قطاع الشمال في الحركة الشعبية من اتفاقية السلام الشامل بعد مشاركة في الحرب زادت على العشرين عاما بما أشار إليه قادة هذا القطاع بنيفاشا(2).
أما الهدف الذي يسعى لتوكيده الجيش السوداني فهو تطبيق اتفاقية الترتيبات الأمنية التي تنص على انسحاب جيش الحركة الشعبية جنوب حدود 1956 بغض النظر عن انتماء أفرد هذا الجيش، سواء لأهل الجنوب أو الشمال.
رابعا: أهم ما خرج به أبناء ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق الذين التحقوا بالحركة الشعبية وقاتلوا إلى جانب الجيش الوطني السوداني لأكثر من عشرين عاما هو المشورة الشعبية لسكان الولايتين، كل على حده، بشأن اتفاقية السلام الشامل، لمعرفة مدى تحقيقها لتطلعاتهم بحيث يمكن الوصول إلى إحدى النتيجتين:
1- اعتبار الاتفاقية تسوية نهائية للنزاع السياسي في الولايتين وإرساء السلام.
2- تصحيح أي قصور في الترتيبات الدستورية والسياسية والإدارية والاقتصادية في إطار اتفاقية السلام الشامل بخصوص الولايتين.
وتتم الإجراءات التنفيذية للمشورة الشعبية من خلال مفوضية برلمانية ينشئها المجلس التشريعي في الولايتين فور انتخابه، وتقوم المفوضية بعمليات للتقويم والتقدير والتعرف على مدى الرضا عن الاتفاقية، وفي حالة إقرار المجلس التشريعي (برلمان الولاية)، استنادا إلى تقارير المفوضية، أن الاتفاقية حققت تطلعات مواطني الولاية تعتبر الاتفاقية تسوية نهائية وشاملة للنزاع السياسي.
أما إذا قرر المجلس أن الاتفاقية لم تحقق تطلعات شعب الولاية، يدخل المجلس في مداولات لتحديد أوجه القصور بشكل منفصل، ومن ثم تدخل حكومة الولاية مع الحكومة المركزية في مفاوضات بغرض تصحيح أوجه القصور في إطار الاتفاقية لتلبية تطلعات شعب الولاية المعنية، وفي حالة الاختلاف بين الحكومتين الولائية والمركزية يتدخل مجلس الولايات ليقوم بدور الوساطة بين الطرفين.
غير أن المشورة الشعبية دخلت في متاهات التطبيقات المتعثرة لاتفاقية السلام على مدى السنوات الست الماضية، وصارت هذه المشورة مصدرا للتوتر المستمر بين شريكي اتفاقية السلام. كما تسبب هذا التوتر في تغذية الشعور لدى المنتمين للجيش الشعبي في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بضياع الأهداف التي خرجوا من أجلها مقاتلين عشرين عاما، وخاصة بتزايد الشعور بتخلي الحركة الشعبية عنهم بعد ما ساقها انفصال جنوب السودان بعيدا عن حلفائها في الولايتين.
اعتبر حزب المؤتمر الوطني الحاكم ما يدور في ولاية جنوب كردفان تمردا مسلحا، وخروجا علي القانون والدولة، تقوده الحركة الشعبية مع قوى أجنبية وبعض قوى المعارضة في الداخل، مؤكدا أن هذا المخطط لا سبيل لاستمرار التعامل معه عبر الحوار السياسي مع من وصفهم بمن مارس القتل والضرب. وأعلن المكتب القيادي للحزب الحاكم إطلاق يد القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى بالاضطلاع بواجباتها في السيطرة علي الوضع وحسم التمرد.
بينما تراوح رد فعل الحركة الشعبية بين الدعوة إلى إيقاف القتال والعودة إلي طاولة الحوار لتأسيس ترتيبات أمنية واتفاق سياسي جديد، كما جاء على لسان مالك عقار، رئيس قطاع الشمال في الحركة الشعبية وياسر عرمان الأمين العام للقطاع، وبين الدعوة إلى إسقاط النظام وتحقيق التغير الجذري من أجل إزالة كافة أشكال التهميش، كما جاء في بيان أصدره عبد العزيز الحلو زعيم الحركة الشعبية في جبال من مخبئه بعد انفجار الأوضاع هناك.
أما الحركة السياسية الشمالية المعارضة فقد اتفقت جميعها على دعوة الطرفين إلي وقف إطلاق النار والجلوس إلى التفاوض. بينما طالب المجتمع الدولي الطرفين بضبط النفس وإيقاف القتال، والعودة إلى طاولة التفاوض، حذرت الولايات المتحدة حكومة السودان من إنها ستوقف عملية تطبيع العلاقات معها إذا أخفقت في وقف العنف المتصاعد في جنوب كردفان.
لا يستطيع الجيش السوداني التراجع عن إكمال مهمة طرد القوات المنتمية للحركة الشعبية جنوب خط حدود1/1/1956، لأنها في تصوره قوات دولة أجنبية من حيث الانتماء والتسلح والعقيدة.
سيجد الجيش السوداني نفسه في 9 يوليو/تموز 2011 في مواجهة قوس واسع من الاضطراب يمتد من حدوده الجنوبية الشرقية مع دولة الجنوب الجديدة حيث قوات الجيش الشعبي في منطقة النيل الأزرق الشمالية وفي اتجاه الغرب نحو جنوب كردفان ثم الامتداد الغربي أيضا نحو جنوب أبيي الذي يلتقي مع ولاية جنوب دارفور |
لدى الحكومة السودانية تقدير، بنته على تجارب سابقة، في التعامل مع المجتمع الدولي بأنه لن يفي بوعوده معها بتحسين العلاقات، وإنما المتوقع أن تسوء بعد ضمان انفصال دولة الجنوب برضا واعتراف دولة الشمال. ولهذا قد ترجح الخرطوم مواجهة المهددات الأمنية في الحدود مع الجنوب قبل تاريخ الإعلان الرسمي للانفصال.
أما من جهة الحركة الشعبية فإن المراقبين يرون أن جيشها في جبال النوبة برئاسة عبد العزيز الحلو أعاد ذات أخطاء الجيش الشعبي في منطقة أبيي قبل ثلاثة أسابيع، بتوفير الذرائع للجيش السوداني بضربه قبل موعد إعلان حكومة الجنوب.
وبالرغم مما هو واضح برجحان الميزان العسكري لمصلحة الجيش الحكومي إلا أنه من المؤكد تزايد المكاسب السياسية للحركة بتوظيف الحدث دوليا عبر المنظمات غير الحكومية الغربية ودوائر سياسية غربية ذات علاقة بالحركة ظلت تساندها في الحرب الطويلة بين الشمال والجنوب مستغلة الأوضاع غير الإنسانية المتدهورة الناجمة عن نزوح عشرات الآلاف من المتأثرين بالحرب.
ليس بإمكان الحركة الشعبية، وهي تستعد لإعلان دولة الجنوب، أن تتخذ القرار السياسي بتقديم الدعم العسكري أو السياسي لجيشها في جبال النوبة لسببين: الأول لما لهذا من أثر سياسي سلبي على إعلان دولة الجنوب. والثاني، لما يثير ذلك من ردة الفعل لدى الجيش السوداني من خلال دعم حزام التمرد على حكومة الحركة الشعبية على امتدادات واسعة في مناطق بحر الغزال وأعالي النيل، مما يجعل ميلاد دولة الجنوب وسط اضطراب سياسي وعسكري، يقوي عوامل الفشل في تكوين الدولة الوليدة.
من المحتمل أن تتطور الأمور وتتخذ سبل المعالجة المسارات التالية، إذا ما غلبنا النظرة الإيجابية للمستقبل:
الفشل في الوصول إلى تسوية في جنوب كردفان يقود بالضرورة إلى ذات الفشل في منطقة النيل الأزرق، حيث إن المنطقتين عبارة عن حزمة أمنية وسياسية واحدة لا يمكن تجزئتها، ولا يمكن حلها بلا رؤية وبرنامج لتجاوز ظروف الحرب بحوار سياسي عميق وموسع ليستوعب الجميع |