اليمن: فرص التغيير في غياب صالح

أثار خروج الرئيس صالح من اليمن للعلاج دعوات داخلية وخارجية لانتهاز هذه الفرصة لإحداث تغيير سياسي يخرج البلاد من مأزقها الراهن. فيما يحدد ذلك في الواقع احتمالات الوضع الصحي للرئيس، ومدى تأثير غيابه على تماسك النظام، والخيارات المتاحة أمام الثورة لفرض التغيير.
1_1067971_1_34.jpg

يدفع شباب الثورة المعتصمون في الساحات باتجاه تشكيل مجلس انتقالي مؤقت، يملأ ما يعتبرونه فراغ السلطة الذي خلّفه صالح (الجزيرة)

مركز الجزيرة للدراسات

أثار خروج الرئيس صالح من اليمن للعلاج، بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها أثناء تأديته لصلاة الجمعة في 3 يونيو/حزيران الجاري، دعوات داخلية وخارجية لانتهاز هذه الفرصة لإحداث تغيير سياسي يخرج البلاد من مأزقها الراهن. ألمحت إلى ذلك -على سبيل المثال- التصريحات الصادرة عن واشنطن بعد الحادث، والتي أشارت إلى إمكانية انتهاز غياب الرئيس صالح لإحداث انتقال سلمي للسلطة. فيما يحدد ذلك في الواقع احتمالات الوضع الصحي للرئيس، ومدى تأثير غياب صالح على تماسك النظام، والخيارات المتاحة أمام الثورة لفرض التغيير.

المراهنة على الوضع الصحي للرئيس

غيبة صالح المفاجئة عن المسرح أصابت النظام السياسي بحالة من الإرباك، وانحسرت قدرته على المناورة السياسية بنفس كفاءة وجود صالح.
الأنباء المتوافرة حول الوضع الصحي للرئيس صالح ومدى خطورة إصابته وتأثيرها على حياته، وأهليته للقيام بمهامه كرئيس للجمهورية مرة أخرى، لا تزال متضاربة بين التهوين والتهويل. فهناك مصادر تقول: إنه يحتاج إلى أيام قليلة فقط ليعود ويمارس حياته الطبيعية، ومصادر أخرى تقول: إنه يحتاج إلى أشهر عديدة، وقد لا يعود إلى نفس حالته السابقة. ولا يخلو ذلك أن يكون جزءا من الحرب النفسية بين الثورة والنظام السياسي، لأهمية شخصية صالح المحورية في معادلة الصراع بين الجانبين، وفي الخيارات الممكنة لنقل السلطة.

ومن الواضح أن الطرفين يراهنان على الحالة الصحية للرئيس، والوقت الذي يحتاجه ليتعافى، لتحديد مسارات تطور الأوضاع في اليمن؛ فالثورة بأطيافها المختلفة تراهن على أن إصابة الرئيس بالغة ويحتاج إلى أشهر طويلة ليتعافى، والأوضاع المضطربة في اليمن لن تمهله هذه المدة الطويلة، وهو بذلك خرج عمليًا من المسرح السياسي، وتحققت أولى أهداف الثورة برحيل الرئيس، وتدفع باتجاه تحقيق باقي الأهداف، وإكمال عملية نقل سلسة وسلمية للسلطة عبر الخيارات المتاحة.

فيما الحزب الحاكم والنخبة الحاكمة يراهنان من جانبهما على أن صحة الرئيس جيدة، وهو في تحسن مستمر، ولن يلبث أن يعود "خلال أيام" ليقود النظام مرة أخرى. ليقطعا الطريق من جانب على خيارات الثورة في التغيير، ويرفعا من جانب آخر الروح المعنوية لأتباع النظام ومناصريه. ولعل الدلالة على ذلك القيام بترتيب مناسبة احتفالية "ديكورية" على ما قيل: إنه نجاح العملية الجراحية التي أجريت للرئيس، تم خلالها إطلاق الألعاب النارية والرصاص الحي بكثافة من مختلف الأسلحة في سماء العاصمة وعدد من المدن والقرى اليمنية (خلّفت 6 قتلى و86 جريحًا بسبب المقذوفات الراجعة إلى الأرض في المناطق الآهلة بالسكان)، وكان من ضمن أغراضها إظهار القوة، وإرهاب الطرف الآخر، والإيحاء في الوقت نفسه بأن عودة الرئيس باتت وشيكة.

تأثير غياب صالح على تماسك النظام
ودون شك فإن غيبة صالح المفاجئة عن المسرح أصابت النظام السياسي بحالة من الإرباك، وانحسرت قدرته على المناورة السياسية بنفس كفاءة وجود صالح. واقتصر تعامل النظام على التترس خلف الأدوات الأمنية والعسكرية، ومحاولة الحفاظ على الصورة المتماسكة والقوية للنظام حتى يعود الرئيس.

ومن المؤكد أن خروج الرئيس صالح تمامًا من المسرح السياسي في هذا التوقيت، سواء بسبب الوفاة أو العجز عن أداء مهامه بالكفاءة السابقة، سيشكِّل خسارة كبيرة للنظام والنخبة الحاكمة، ويضعفهما في مواجهة الثورة، إذ لا توجد شخصية "كاريزمية" في النخبة الحاكمة محل إجماع كشخصية صالح، وتكون قادرة بمفردها على اتخاذ القرارات المصيرية والحاسمة، أو تضاهيه بنفس المستوى من التكتيك والمكر السياسي والقدرة على المراوغة. والشعور العام بضعف أداء النظام السياسي بعد صالح من المحتمل أن يؤدي بصورة متزايدة إلى تراجع شعبية النظام، وتخلي أعداد متزايدة من أنصاره عنه مع الوقت، واللحاق بركاب القوى الثورية الجديدة.

إلا أنه ومن جانب آخر، فقد يكون صحيحًا أن غياب صالح سيضعف النظام، لكنه لن يؤدي إلى انهياره أو دفع النخبة الحاكمة إلى الاستسلام وتسليم السلطة بيسر للقوى الثورية؛ فمصدر قوة نظام صالح تأتي في الأساس من سيطرة العلاقات القرائبية والعصبية القبلية على مفاصل القوة في الدولة، وارتباط مصالحهم ومواقعهم الاجتماعية ببقاء النظام. وفي الواقع إن سيطرة هذه الحلقة من القوى العصبية (بمفهوم ابن خلدون للعصبية)، هو ما جعل النظام اليمني صامدًا في مواجهة الثورة الشعبية أربعة أشهر حتى الآن، قياسًا بالسقوط السريع للأنظمة في تونس ومصر. وخلف هذه الحلقة تأتي الحلقة الأكبر المحيطة بالنظام، وهم الأشخاص الذين تربطهم به علاقات نفعية. وفي مجتمع كالمجتمع اليمني يتسم بالندرة الاقتصادية وشح الموارد، وتكون الدولة هي المصدر الرئيسي للثروة والنفوذ الاجتماعي، وانحسار البدائل الأخرى، فإنه غالبًا ما يسود نوع من العلاقة النفعية بين النظام السياسي ومريديه وأنصاره، وتكون المنفعة المتبادلة بمثابة مادة الأسمنت التي تضمن تماسكه. مع الاعتراف بأن جزءًا من القوة الشعبية للنظام في المجتمع والشارع اليمني، لا تحكمها العلاقة النفعية، وإنما تنبع من إيمان وحب للرئيس وللنظام بشكل عام، وأحيانا من الخوف والكراهية للبديل الآخر، وجزءًا آخر يدفعه الخوف من القمع، وقدرة النظام على الحرمان من الحقوق.

وفي التحليل الأخير؛ فغياب صالح عن المشهد السياسي سيترك آثاره على قوة النظام، إلا أنه من المستبعد أن يؤدي إلى انهياره، فقوة النظام وجزء من شعبيته نابعة أساسًا من بقائه في السلطة، وقدرته على توزيع المنافع، وإشاعة الخوف. وخروج النخبة الحاكمة الحالية حتى وإن كان مؤقتًا لأشهر معدودة من السلطة، هو ما سيقوض نظام صالح ويفقده مصادر قوته؛ لذلك من المتوقع أن تقاوم القوى العصبية والنفعية بكل الوسائل الممكنة وبكل قوة منعًا لخروجها من السلطة وانهيار النظام. وفي حال الغياب النهائي لصالح سيتم البحث عن شخصية أخرى يتم الالتفاف حولها تحل محل صالح، والمرشح الأوفر حظًا لهذه المهمة هو أحمد نجل الرئيس الأكبر وقائد الحرس الجمهوري، ومن المحتمل أن يصل طموح تلك القوى العصبية والنفعية ليكون هو المرشح القادم في الانتخابات الرئاسية المبكرة، أو أحد الأشخاص المقربين منه، في تكرار ربما للنموذج الروسي (بوتين- ميدفيديف)، لتجاوز الإشكالية المثارة حول التوريث.

خيارات التغيير في غياب صالح

خروج الرئيس صالح تمامًا من المسرح السياسي في هذا التوقيت، سواء بسبب الوفاة أو العجز عن أداء مهامه بالكفاءة السابقة، سيشكِّل خسارة كبيرة للنظام والنخبة الحاكمة، ويضعفهما في مواجهة الثورة.
بعث خروج صالح من المشهد السياسي الآمال مجددًا في إيجاد مخرج لحالة الانسداد القائمة بين الثورة والنظام السياسي. وأفضت إلى الارتفاع المتزايد للثمن الذي يدفعه السكان جرّاء هذا الوضع، سواء على شكل تردي الأوضاع الاقتصادية، والارتفاع المطرد لأسعار المواد الأساسية، والتردي الكبير لخدمات الماء والكهرباء في معظم المحافظات (يصل انقطاع الكهرباء في العاصمة أحيانا إلى 12 ساعة في اليوم)، ونقص شديد في مشتقات الوقود: البترول، الديزل، غاز الطبخ، وتتواجد في السوق السوداء بوفرة بثلاثة أضعاف ثمنها على مرأى ومسمع من أجهزة الضبط، والانتشار الكثيف للأسلحة في أيدي الناس، والتفشي التدريجي لحالة عدم الأمن في المجتمع. ويفسر البعض ذلك على أنه ناتج عن الفراغ القائم في السلطة، فيما ترجعه المعارضة وقوى الثورة إلى أنه إهمال متعمد من قبل النظام، كصورة من صور العقاب الجماعي لتقليص حجم المؤيدين للثورة في المجتمع.

ورغم أن خروج الرئيس صالح كشخصية محورية في الأحداث فتح الباب على مصراعيه لبحث خيارات التغيير، إلا أنها مع ذلك تظل محدودة وتقف أمامها العديد من الصعوبات.

التغيير عبر نائب الرئيس
وهو الخيار المفضل للعديد من الأطراف الداخلية والخارجية، كونه يوفر تغيير سلسًا وسلميًا من داخل النظام السياسي، عبر تولي نائب الرئيس صلاحيات رئيس الجمهورية بصورة مؤقتة، وقيامه بالإشراف على إجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة.

وأهم العوائق أمام هذا الخيار حتى الآن الشعور العام بأن تفويض السلطات الرئاسية الممنوح للنائب مؤقت لغرض علاج الرئيس، ولا يصح أن يقوم بتغييرات كبيرة تمس مستقبل النظام والحزب الحاكم، تتجاوز حدود التفويض المؤقت الممنوح له. والأهم من كل ذلك أن نائب الرئيس يدرك أن هذا التفويض صوري؛ فالسلطة الفعلية لإصدار القرار في أيادٍ أخرى، بسبب الخلل الموجود في تركيبة النظام السياسي اليمني، وهو أن الهياكل الرسمية للنظام لا تعبر عن القنوات الفعلية لممارسة السلطة. فهناك قنوات غير رسمية – معترف بها- يمارس خلالها أقرباء الرئيس، الممسكين بمفاصل القوة، سلطات فعلية تصل إلى كل أجزاء النظام. ومحاولة نائب الرئيس ممارسة صلاحياته الدستورية رغمًا عنها، دون وجود قوة حقيقة تحميه، فإنه يعرض سلامته الشخصية فعليًّا للخطر.

ويقع نائب الرئيس حاليا تحت ضغوط كبيرة من أطراف داخلية وخارجية لممارسة سلطات الرئيس، يحجم عن الاستجابة لها حتى الآن، إلا أنه كلما طالت غيبة الرئيس، كان الضغط عليه أكبر، ومن المحتمل أن يستجيب لتحمل المسئولية لضرورات الظرف التاريخي المصيري الذي يعيشه اليمن، إذا ضمن الدعم والحماية الكافية من القوى المؤثرة الداخلية والخارجية.

وسيضع ذلك النظام السياسي على المحك، وقد يؤدي إلى انشقاقه من الداخل؛ إذ ستتضح الفجوة القائمة بين السلطات الدستورية القانونية ممثلة بنائب الرئيس، وسلطة القوة المادية والأمر الواقع ممثلة بأقرباء الرئيس.

خيار المجلس الانتقالي
وفي مقابل الموقف الحذر والمتردد (حتى الآن) لنائب الرئيس، يدفع شباب الثورة المعتصمون في الساحات باتجاه تشكيل مجلس انتقالي مؤقت، يملأ ما يعتبرونه فراغ السلطة الذي خلّفه صالح. وإنشاء مجلس انتقالي مؤقت هو الخيار المطروح بقوة من جميع أطياف الثورة اليوم. ويرونه الخيار الأنسب في ظل انسداد أفق الخيارات الأخرى، وتردد القوى الإقليمية والدولية في اتخاذ مواقف جادة وواضحة تجاه دعم التغيير. وأن إنشاء هذا المجلس يمثل التصعيد المناسب الذي تمليه ظروف المرحلة، ويحقق للثورة عددا من المكاسب، أهمها: إيجاد سلطة موازية تمثل الشرعية الثورية، تفرض الأمر الواقع، وتؤكد على أن خيار الثورة لا يمكن التراجع عنه. وأنه يوجِد في نفس الوقت إطار مؤسسي واحد يعبر عن جميع مكونات الثورة. والأهم من ذلك أن هذا الخيار يمضي بالثورة قدما بصرف النظر عن احتمالات عودة الرئيس صالح من عدمه.

وقد طرحت التكتلات الشبابية أكثر من صيغة للمجلس؛ إذ لا يوجد حتى الآن اتفاق على صيغة موحدة تستوعب كل مكونات الثورة، غير أن العمل جار عليها. وقد أعلنت أحزاب اللقاء المشترك من جانبها أنها بصدد تشكيل مجلس رئاسي مؤقت بالتشاور مع جميع أطياف الثورة، سيعلَن عنه رسميا خلال أيام قليلة، وسيبدأ فورا في ممارسة سلطاته في المناطق التي خرجت عن سلطة نظام الرئيس صالح ليملأ فراغ السلطة الحاصل فيها، ويعبر عن السيادة الشعبية، ويمثل الشعب لدى الجهات المختلفة.

وأهم الصعوبات أمام هذا الخيار تتمثل في مواقف بعض الأطراف الإقليمية والدولية المعارضة له، وتهدد بأنها لن تعترف به. وأيضا هذا الخيار يعني عمليًا سحب الشرعية من كامل النظام السياسي، ويفوِّت الفرصة أمام إمكانية إحداث تغيير من داخل النظام السياسي عبر نائب الرئيس في حال اتضح تردي الحالة الصحية للرئيس صالح، أو أن عودته لا زالت بعيدة. كما أنه يخلق سلطة موازية تدخل في تنافس وصراع مع النظام القائم على شرعية التمثيل داخليًا وخارجيًا. وقد تكون خطوه لتصعيد الأوضاع في اليمن باتجاه السيناريو الليبي، خصوصًا في ظل تترس النخبة الحاكمة خلف الأدوات العسكرية والأمنية لحسم الصراع، ما قد ينزلق بالبلاد إلى هاوية العنف والحرب الأهلية.

خيار العودة إلى المبادرة الخليجية

بعث خروج صالح من المشهد السياسي الآمال مجددًا في إيجاد مخرج لحالة الانسداد القائمة بين الثورة والنظام السياسي.
عقب الإعلان عن إصابة الرئيس صالح ونقله إلى المملكة العربة السعودية، صرح الدكتور عبد اللطيف الزياني الأمين العام لمجلس التعاون، أن المبادرة الخليجية لا زالت تمثل إطارا ومدخلاً مناسبًا لحل الوضع المتأزم في اليمن. ولا توجد معلومات مؤكدة حول ما إذا تم طرح المبادة مجددًا على الطرفين في السلطة والمعارضة. إلا أنه من المستبعد الخوض فيها في هذا التوقيت؛ فالنظام السياسي على الأرجح لن يقبل بها، وهو في موقف ضعيف بسبب وضع الرئيس الصحي. كما أن المملكة العربية السعودية التي تُعتبر اللاعب الرئيسي في هذا المسار، وأكبر الداعمين للرئيس صالح، لا يبدو أنها راغبة حتى الآن في ممارسة ضغط أكبر على الرئيس لقبول ما رفضه سابقًا. ولا يوجد ما يدل على أنها مستعدة لتغيير نهجها وخياراتها السابقة في التعامل مع الثورة اليمنية. وفي الجانب الآخر من غير المتوقع أن تقبل أحزاب اللقاء المشترك بإدخال الإضافات التي طلبها الرئيس صالح ليقبل النظام بالمبادرة، في وقت ترى الوضع القائم لصالحها بعد