الأزمة العراقية حول قضية نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي، المتهم في قضية إرهاب، تعبير عن اختلال توازنات القوى الموجودة داخل العراق وخارجه بعد الانسحاب الأميركي؛ فرئيس الوزراء نوري المالكي اعتقد أن وزنه ازداد لأن أميركا ستكون أكثر حاجة إليه، فظن أنه يمكن أن ينتهز هذه الفرصة دون أن يثير سخط الأميركيين أو معارضة الإيرانيين، فيحقق مكاسب سياسية داخلية من خلال التخلص من خصومه السياسيين، وهم في المقام الأولى القائمة العراقية بقيادة أياد علاوي والهاشمي، التي هزمته في الانتخابات السابقة، ولن يضمن بقاءه كرئيس للوزراء مستقبلاً إلا إذا قضى على تماسكها، وأسقط قياداتها، وبسط يده على مفاصل الدولة الأمنية.
لكن القوى العراقية الأخرى تحمل أجندات مختلفة؛ فالقائمة العراقية انتقلت من رد الفعل إلى الفعل، فنقلت المعركة إلى تحالف المالكي نفسه، فعرضت على خصومه التوصل إلى تسوية تبقيهم على رأس الحكومة مقابل التخلي عنه، وانتهزت من جانب آخر تذمر الأكراد فاستعانت بهم للضغط عليه، وإن كان للأكراد حسابات تنحصر بشكل أساسي في الحصول على تنازلات من بغداد تخص إقليمهم لكنهم لا يجعلون إبعاد المالكي من قيادة الحكومة على رأس أولوياتهم.
أما القوى الدولية، وعلى رأسها أميركا وإيران، فتتفق على منع تحول الأزمة إلى فوضى تهدد مصالح الجميع، وهي تدفع حاليًا نحو تسوية للحفاظ على التوازنات القائمة، وليست مستعدة كما يبدو من تحركاتها لأن تترك طموح المالكي يطيح بالتوازنات الرئيسية بالعراق.
الخلافات: القديم والجديد
الأزمة بين نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي والسيد طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية ليست إلا حلقة في سلسة من الأزمات بدأت منذ فترة بعيدة، فكانت هناك اختلافات عديدة في وجهات النظر منذ حكومة المالكي الأولى، وبدأت ضراوتها تزداد في الحكومة الثانية بسبب اختلاف وجهات نظرهما في الكثير من القضايا العالقة في المشهد السياسي، ومنها انتقادات الهاشمي للاعتقالات العشوائية والتعامل مع الملف الأمني، وانتقاده زج الكثير ممن اعتبرهم أبرياء في غياهب المعتقلات السرية، وزادت حدة الأزمة بعد أن استلب المالكي حق القائمة العراقية في تشكيل الحكومة وبتأييد وتخطيط ومباركة إيرانية بعد الانتخابات الأخيرة. وكانت انتقادات الهاشمي العلنية لإدارة المالكي لملف التظاهرات بداية العام الحالي باتهامه للمتظاهرين بانتمائهم إلى البعث والقاعدة عاملاً مضافًا زاد الهوة بينهما، وكان تأييد الهاشمي قضية الفيدرالية ضربة قاصمة للعلاقة بين الاثنين؛ فاستغل المالكي الانسحاب الأميركي من العراق وعودته من الولايات المتحدة للتخلص منه، ويبدو ذلك من خلال الترابط بين مسارين استثمار ملفات قضائية لتحقيق غايات سياسية، فصدر اتهام لحماية الهاشمي الأمنية بارتكاب أعمل إرهابية، تمثلت في عمليات قتل وتفجير في بغداد، أكدها المتهمون في اعترافات تلفزيونية، وذكروا مسؤولية الهاشمي المباشرة عليها، فصدر بناء على ذلك قرار بإلقاء القبض عليه؛ ومما يدل على أن ذلك ليس حدثا منفصلا وإنما هو جزء من إستراتيجية سياسية تستهدف خصومه في العراقية، فإن المالكي أصدر في نفس الوقت قرارًا بإقالة نائبه في مجلس الوزراء القيادي في القائمة العراقية الدكتور صالح المطلك، فاستهدف بذلك اثنين من القيادات الخمسة في تلك القائمة، مع وجود ملفات جاهزة لكل من رافع العيساوي وزير المالية والقيادي فيها، فضلاً عن الدكتور سلمان الجميلي رئيس الكتلة في البرلمان والدكتور سليم الجبوري القيادي في الحزب الإسلامي المنضوي في القائمة العراقية بتهم الإرهاب. وقد سبق أن حاول المالكي استعمال الإغراء لضرب خصومه، فعرض منصب نائب رئيس الوزراء على رافع العيساوي بدلاً من المطلك بهدف ضرب عصفورين بحجر: الأول التخلص من المطلك، والثاني شق العراقية من الداخل في حال قبول العيساوي بالمنصب، ولكنه رفض العرض مما جعل المالكي يهدده بملف الإرهاب في قضية ما يُعرف بـ(حماس العراق).
والمكاسب التي يبغي المالكي تحقيقها هي التخلص من القائمة العراقية بإقصاء قياداتها بدءًا بالدكتور إياد علاوي الذي أعلن المالكي سابقًا عن رفض وجوده في العملية السياسية، ويسعى لتحقيق ذلك بمحاولة شق وحدة القائمة باستمالة السيد أسامة النجيفي رئيس البرلمان ليكون بديلاً لعلاوي، والتخلص من الهاشمي والمطلك كمعارضين لسياسته.
أما موقف حلفائه في التحالف الوطني، فهو يختلف من معارض متمثلاً بالسيد عمار الحكيم الرافض لسياسة المالكي ولكنه في مأزق كبير بعد خروج هادي العامري قائد منظمة بدر ونوابها من المجلس، إلى مؤيد مطلق للمالكي في الكثير من قراراته المعادية للقائمة العراقية. أما التيار الصدري المتردد دائمًا في اتخاذ القرارات، فهو من ناحية معارض شديد للمالكي في أن يكون رئيسًا للوزراء، ويجتمع مع العراقية ويلمِّح إلى إمكانية التحالف معها لإسقاطه، لكنه من ناحية أخرى يؤيد المالكي، وقد يكون ذلك ناتجًا عن الضغط الإيراني على السيد مقتدى الصدر، وهناك سبب آخر يتعلق بالمكاسب التي يسعى للحصول عليها بالضغط على المالكي من خلال اللعب على الخلافات فيرفع من ثمن تحالفه وإلا سيرحل إلى العراقية. أما الحليف الآخر وهو الدكتور إبراهيم الجعفري رئيس كتلة التحالف الوطني وزعيم تيار الإصلاح، ورئيس الوزراء السابق، فيبدو أنه قد يكون هو المستفيد الأبرز من الأزمة ليرد الصفعة إلى المالكي الذي أخذ منه رئاسة الوزراء، فضلاً عن أنه عزله من رئاسة حزب الدعوة، فاستغلت القائمة العراقية هذا التصدع وألمحت إلى أنها تقبل بالجعفري كمرشح لرئاسة الوزراء بديلاً عن المالكي.
أما كتلة المالكي، دولة القانون، فمشكلتها تتجسد في القياديين الكبيرين في حزب الدعوة، وهما: علي الأديب وحيدر العبادي اللذان يعارضان المالكي، وهدّدا بالانشقاق عن الحزب والتلميح بإمكانية عودة الجعفري كأمين عام له؛ فالأديب يعتقد أنه الشخصية الثانية في الحزب وكان هو الأوْلى برئاسة الحكومة بعد تنحية الجعفري، فضلاً عن أن المالكي أبعدهما وقرَّب اثنين من الصفوف الثانية للحزب، وهما حسن السنيد وعبد الحليم الزهيرى ليصبحا هما الأقوى في الحزب والكتلة.
لكن في المقابل، يمسك المالكي الآن بمصادر قوة مهمة في السلطة التنفيذية متمثلة بالسيطرة على الأجهزة الأمنية: الدفاع والداخلية، وكان رفض أي مرشح من العراقية لتوليها، ونصّب الدكتور سعدون الدليمى وزير الثقافة وزيرًا للدفاع بالوكالة وهو من الموالين له، فضلاً عن مستشارية الأمن الوطني، ومديرية الاستخبارات والمخابرات التي يديرها بالوكالة أحد الموالين له، علاوة عن الهيئات المستقلة التي اتخذ إجراءات بعد الأزمة حولها مع البرلمان بإقصاء مدراء هيئة الإعلام والاتصالات، والمساءلة والعدالة، وشبكة الإعلام العراقية، وهيئة النزاهة، وتعيين مدراء بالوكالة من كتلته السياسية. وكلها أمور تصب في صالحه ولكن هناك نقاط ضعف كثيرة، أهمها عدم وجود ولاء مطلق له من أطراف التحالف الأخرى.
أما القوى المخاصمة للمالكي فتحاول أن تخرج بنتائج من هذه الأزمة على الشكل التالي:
-
تحاول القائمة العراقية التخلص من المالكي عن طريق شق صف التحالف الوطني بمطالبتها بترشيح الدكتور الجعفري أو عادل عبد المهدي لرئاسة الحكومة، والاثنين من الشيعة، والهدف هو طمأنة تلك القوى بأنها لا تطلب رئاسة الوزراء بل ستبقى لهم، وتطمئن الجانب الإيراني الرافض لقيادة العراقية أو قيادة السنة لرئاسة الحكومة في الفترة المقبلة.
-
الأكراد لهم أهداف أخرى، فبعد نهاية ربيع العلاقات الوطيدة بين التحالف الكردستاني والمالكي بعد مشاكل بينهما، تجسدت في قضايا كثيرة، منها زيارة رئيس الوزراء الأردني لإقليم كردستان دون علم بغداد، وكذلك في قضية خانقين، فضلاً عن قانون النفط والغاز والمناطق المتنازع عليها، ثم كانت القشة التي قصمت ظهر البعير استقبال الأكراد للهاشمي ورفضهم تسليمه إلى بغداد؛ لأنهم يحاولون استخدام أزمة الهاشمي كورقة ضد المالكي للحصول على تنازلات في قضايا تخصهم، وهم هنا لا يقبلون برئاسة العراقية للحكومة لوجود مشاكل مع بعض قيادتها المتمثلة بأسامة النجيفي والمطلك، وهم أيضًا لا يقبلون بخيار الجعفري كبديل للمالكي لأنهم ساهموا في إقالته من الحكومة السابقة، ولكنهم سيقبلون بعادل عبد المهدي وهو حليف مهم لهم أو يتفاوضون مع المالكي لكسب مزيد من المزايا وخاصة في قضية النفط والغاز.
ولو عدنا إلى مجمل الأزمات سنرى أن موازين القوى لا تميل بشكل واضح نحو طرف من الأطراف لوجود خلافات داخل الكتلة الواحدة وبين الكتل نفسها؛ لهذا قد تكون بيضة القبان في هذه الأزمة هي التحالف الكردستاني والتيار الصدري، وهما غالبًا ما يحققان المزيد من الامتيازات على حساب الآخرين بعد كل أزمة.
حسابات أميركا وإيران
للقوى الدولية بالعراق أدوار متعددة ومختلفة من حيث القوة والتأثير؛ فالدور الأميركي كان –ولا يزال- الأقوى في التوصل إلى توافق لا يتعارض والمصالح الأميركية. لكن في ضوء الانسحاب، فإن هناك معركة بين إيران وأميركا وحلفائهما في المنطقة بوسائل جديدة، وهذا المستوى هو العامل الأهم في الأزمة التي لا يمكن حصرها في خصومة شخصية بين المالكي والهاشمي؛ فاللاعبون الدوليون يجعلون العراق مسرحا لاستراتيجياتهم مستغلين انعدام الثقة بين قياداته، فما يجري هو في أحد أهم أبعاده صراع أميركي-إيراني يستند إلى احتمال انهيار نظام الأسد. فإيران تريد أن تخلق نظامًا مواليًا لها بشكل كامل في بغداد لتعويض خسارتها في دمشق. أمّا أميركا فتخطط لخنق إيران بالكامل عبر الإطاحة بحليفها الأسد وقلب موازين القوى في بغداد؛ فالمالكي سعى سابقًا لأن يقيم سلطته على مساحة التوافق بين أميركا وإيران، وقد نجح لحد الساعة، مع أن هذه المساحات غير مستقرة، فإيران تبحث عن تابع كامل خصوصًا وأن حلفاءها السياسيين داخل العراق يُضعِفون نزوع أي حاكم في بغداد نحو الاستقلال النسبي عن طهران، فضلاً عن أن إيران أرسلت مؤخرًا موفدين إلى السليمانية برئاسة سردار مجيدى نائب قائد قوات القدس الإيراني الذي اجتمع بقيادات من القائمة العراقية والسيد الهاشمي عارضًا وساطة لحل الأزمة، وهي رسالة بأن إيران حليفة لكل العراقيين بعد الانسحاب الأميركي، وبأنها لا توافق بالكامل على رؤية المالكي للقضية، ثم هي رسالة للمالكي بأنهم قد يتخلون عنه إذا ذهب بعيدًا في تحالفه مع الأميركيين، لكنهم لم يتخلوا عنه بالكامل. من جهة أخرى، كسب المالكي دعم الأميركيين في أكثر من معركة مع خصومه داخل الطائفة وخارجها وليس آخرها تثبيته كرئيس للوزراء لدورة ثانية. لكن هذا التوازن غير مستقر، وقد ينقلب عليه في أية لحظة.
آفاق الأزمة
هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة في تعامل الأطراف العراقية مع الأزمة:
-
الأول: تسوية الأزمة بعودة الجميع إلى طاولة المفاوضات بعقد مؤتمر وطني شامل دعا له رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، ويحظى بدعم أميركي تجلَّى في ضغوطات مورست على المالكي الذي أبدى موافقته، ولكنه قد يرفض أن يكون في أربيل، وقد تكون السليمانية هي المكان المقبول من كل الأطراف.
-
والثاني: تشكيل حكومة الأغلبية السياسية، وهذا ما يريده المالكي ولكنها صعبة المنال لصعوبة تحقيق الأغلبية البسيطة من أيٍّ من الكتل المشاركة.
-
والسيناريو الثالث: حل البرلمان والدعوة لانتخابات جديدة وهو مطلب شعبي عراقي ولكن ترفضه أغلب الكتل السياسية لأن في ظل هذا الأداء السيئ منذ الانتخابات إلى الآن من الصعوبة عودة الـــ(325) نائبًا إلى قبة البرلمان، وهناك تخوف من صعود قوى جديدة إلى الساحة مستفيدة من نقمة الشارع العراقي على الموجودين في المشهد الحالي.