إيران: حساب المخاطر يؤجل الضربة الإسرائيلية

تصاعدت التوترات مجددًا حول الملف النووي الإيراني، لكن المحددات الرئيسية ظلت متشابهة مع المرات السابقة، وستقلّص، كالعادة، على الأرجح احتمالات الحرب على إيران، تدعمها عوامل مستجدة، أهمها الانتخابات الأميركية، فتشكل قوة كبح إضافية تمنع خيار شنّ عملية عسكرية على إيران طوال 2012.

201232184622533734_2.jpg
 

تصاعدت التوترات مجددًا حول الملف النووي الإيراني، لكن المحددات الرئيسية ظلت متشابهة مع المرات السابقة، وستقلّص، كالعادة، على الأرجح احتمالات الحرب على إيران، تدعمها عوامل مستجدة، أهمها الانتخابات الأميركية، فتشكل  قوة كبح إضافية تمنع خيار شنّ عملية عسكرية على إيران طوال 2012.

الحرب: معضلة الوقت المناسب

بدأت لغة التهديد بالحرب على إيران في التصاعد منذ فبراير/شباط 2012 على خلفية من تقارير متضاربة حول الملف النووي الإيراني؛ فقد أصدرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بفيينا، التابعة للأم المتحدة، تقريرًا جديدًا يثير شكوكًا حول احتمال استخدام أحد مواقع البرنامج النووي الإيراني لإجراء تجارب ذات طابع عسكري. وفي الوقت نفسه، تقول مصادر أميركية رسمية: إن إيران لا تزال بعيدة عن امتلاك سلاح نووي، وإن العقوبات الاقتصادية تترك وقعًا فعّالاً على إيران. وإلى جانب تصاعد ملحوظ في لغة القادة الإسرائيليين تجاه إيران، تفيد تقارير أخرى بأن الدولة العبرية حصلت على قذائف تخترق عدة أمتار من الخرسانة، مجهزة لضرب مواقع محصنة تحت الأرض.

وسرعان ما أخذت الصحف الإسرائيلية في نشر سيناريوهات مختلفة لضربة جوية إسرائيلية لإيران، بينما ثار جدل كبير بين جنرالات ومسؤولين إسرائيليين سابقين أو خبراء عسكريين حول قدرة الدولة العبرية على تنفيذ مثل هذه الضربة، أو حتى جدواها في تقويض أو تعطيل البرنامج النووي الإيراني. والإيرانيون، من جهتهم، سارعوا إلى التلويح باحتمال إغلاق مضيق هرمز في حال تعرضوا لضربة إسرائيلية أو أميركية، بدون أن ينسوا التوكيد على أن التهديدات الإسرائيلية لن تثنيهم عن استمرار جهودهم النووية.

ما ساهم في ارتفاع أسهم الحرب كانت زيارة قام بها رئيس الأركان المشتركة للجيش الأميركي، جنرال ديمبسي، للدولة العبرية في يناير/كانون الثاني 2012، فيما بدا أن الملف النووي الإيراني أصبح محل نقاش على أعلى المستويات العسكرية بين الدولتين الحليفتين. وفي 28 فبراير/شباط 2012، أكد الجنرال في جلسة استماع للكونغرس الأميركي أن مباحثاته مع القيادة الإسرائيلية، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ورئيس الأركان بني غانتس، تناولت بالفعل الملف النووي الإيراني، مشيرًا إلى أنه لم يطلب من الإسرائيليين عدم توجيه ضربة لإيران وأن المباحثات دارت حول التوقيت وحسب.

تمحورت توقعات الحرب هذه المرة حول مسألتين أساسيتين:

  1. الأولى: أن أفضل توقيت لتوجيه ضربة إسرائيلية للبرنامج النووي الإيراني هو أشهر ربيع هذا العام. ولن تكون مناسبة لا أشهر الشتاء؛ حيث قد تؤثر تقلبات الطقس على مقدرة القاذفات بعيدة المدى، ولا أشهر الصيف؛ حيث تتصاعد وتيرة الانتخابات الرئاسية الأميركية. والأهم، من زاوية نظر دعاة الحرب، أن إيران تقترب من عتبة "المناعة ضد الضربة"، سواء لأسباب تقنية-عسكرية، أو لأن برنامجها النووي سيكون وصل إلى نقطة اللاعودة وعدم القابلية للتعطيل.
  2. الثانية: أن على القادة الإسرائيليين أن يجدوا حلاً لموقف واشنطن من الضربة، بمعنى الاتفاق مع الإدارة الأميركية حول ما إن كانت الدولة العبرية ملزَمة، أو غير ملزَمة، بإخبار الإدارة الأميركية قبل وقت كافٍ من توجيه الضربة؛ وعندما صدرت تسريبات عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي تفيد بأن الدولة العبرية ليست ملزمة أصلاً بالإخبار المبكر للأميركيين، بدا وكأن إدارة أوباما لم تنزعج، ربما لأن مثل هذا الموقف قد يُعفي واشنطن من الاتهام بالتواطؤ مع الحليف الإسرائيلي في حرب محفوفة باحتمالات التفاقم.

 أميركا: الحليف الضروري

في الواقع، إن الإسرائيليين لا يمكنهم تعهد ضربة ملموسة ومؤثرة للبرنامج النووي الإيراني بدون مساعدة أميركية، لا في الربيع ولا الخريف ولا أي وقت آخر؛ فالبرنامج النووي الإيراني، من ناحية، موزع على العديد من المواقع، في شمال البلاد وجنوبها، وبعض هذه المواقع، من ناحية أخرى، قد تم تحصينه بصورة كبيرة. يحتاج الإسرائيليون بالتالي عددًا هائلاً من الطائرات لتنفيذ ضربتهم، وستحتاج هذه الطائرات إعادة تعبئة بالوقود من عدد كبير آخر من الطائرات الناقلة للوقود، كما ستحتاج قذائف خاصة لتنفيذ مهمتها. والمؤكد، حتى الآن، أن الدولة العبرية لا تمتلك العدد المطلوب من طائرات الوقود، وثمة شك في أنها تمتلك العدد المطلوب من القذائف الخاصة. هذا، ناهيك عن الصعوبات المتعلقة بخط الطيران من الدولة العبرية إلى إيران، الذي لا يبدو آمنًا حتى الآن، سواء عبر السماء الأردنية-العراقية، أو التركية.

وهذا ما يجعل الموقف الأميركي مسألة بالغة الأهمية، وليس فقط ما يتعلق منه بالعلم المسبق.

وتتضح حاجة الإدارتين الإسرائيلية والأمريكية إلى التحرك المشترك في اللقاء الذي تم هذا الشهر بين القيادتين، ففي كلمة له أمام لجنة العلاقات الإسرائيلية-الأميركية، إيباك، (الأحد،4 مارس/آذار 2012)، تعهد الرئيس الأميركي باراك أوباما باستخدام جميع أدوات القوة الأميركية لردع إيران عن امتلاك السلاح النووي، مؤكدًا أن سياسته "ليست سياسة احتواء" التهديد الإيراني، بل "منع إيران من تطوير سلاح نووي". وقال أوباما إنه لن يتردد في استخدام القوة للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة، وأن طهران "تحت ضغوط كبيرة وقيادتها منقسمة"، ولم تزل هناك "فرصة للدبلوماسية للنجاح". واعتبر أوباما في خطابه، الذي بدا أنه خُصِّص في كليته لطمأنة إسرائيل وأنصارها في واشنطن، أن إيران نووية هي "ضد المصالح الأمنية الإسرائيلية وضد مصالح الأمن القومي الأميركي". وقال: إن "التقويم المشترك للولايات المتحدة وإسرائيل هو أن إيران لم تحصل على السلاح النووي بعد. ونحن نراقب برنامجهم عن كثب... ومن مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة أن يتم حل هذا التحدي دبلوماسيًّا؛ لكن جميع الخيارات تبقى على الطاولة، وهذا يشمل جميع عناصر القوة الأميركية: جهد سياسي لعزل إيران، جهد دبلوماسي لبناء وحث الحلفاء على التعاون وضمان مراقبة برنامج إيران، وجهد اقتصادي لفرض عقوبات قاسية، وجهد عسكري للاستعداد لأي طارئ".

كان خطاب أوباما أمام منظمة إيباك مقدمة للقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في اليوم التالي (الاثنين، 5 مارس/آذار 2012). وطبقًا لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية (الثلاثاء، 6 مارس/ آذار 2012) فإنّ لقاء الرئيس الأميركي مع نتنياهو كان باردًا للغاية، ولم يتمكن الزعيمان من جسر الهوات في مواقفهما.

بارد أو لا، ليس بالأمر المهم، سيما أن العلاقة الشخصية بين أوباما ونتنياهو ليست حميمة بالضرورة. المهم، أن الرئيس الأميركي -كما أكدت تقارير متضافرة من الجانبين الأميركي والإسرائيلي- أبلغ نتنياهو أنه لا يحبّذ ضربة إسرائيلية لإيران في الوقت الراهن، وأن كثرة الخوض في الموضوع لا تفيد الموقف الإسرائيلي، بل تؤدي إلى ارتفاع في أسعار النفط، التي تضر بالاقتصاد العالمي المتأزم وتساعد على تعظيم الموارد الإيرانية. نتنياهو، من جهته، طالب أوباما بالحصول على جدول زمني مفصل للتحرك الأميركي لمنع إيران من الحصول على القدرة النووية، وبمعرفة الخطط المفصلة للتحرك الأميركي، بما في ذلك الحقل الدبلوماسي وجدول العقوبات المفروضة على إيران وأثرها. كما طلب نتنياهو من أوباما أن يعرف مجمل الخطوات وردود الفعل الأميركية في حال لم تؤت الخطوات الأميركية ثمارها، ونوع الدعم الأميركي لإسرائيل في حال قامت بعملية عسكرية ضد إيران، فهل ستقدّم الولايات المتحدة، مثلاً، دعمًا للقوات الإسرائيلية في حال تورطت الأخيرة في إيران؟

في حديثه أمام الإيباك في اليوم التالي، وظّف رئيس الوزراء الإسرائيلي ذكرى الهولوكوست والظروف الدولية التي سادت أوروبا والعالم عام 1944، في أواخر الحرب العالمية الثانية، ليبرر إصرار إسرائيل على حقها  في العمل العسكري لمنع إيران من الحصول على القوة النووية. وقال -في إشارة للخلاف بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي-: إنه على الرغم من التحالف الأميركي-الإسرائيلي الوثيق إلا أنه لا يجب حرمان إسرائيل من حقها في الدفاع عن نفسها إزاء الخطر الإيراني. علاوة على ذلك، لم يتردد رئيس الوزراء الإسرائيلي في خطابه في القول: إن التاريخ أثبت أن من يدعي أن توجيه ضربة عسكرية للمشروع الذري الإيراني سيلحق أضرارًا أكثر من الفوائد المرجوة من مثل هذه الضربة، هو مخطئ ويعرِّض وجود الشعب اليهودي للخطر.

في عددها الصادر يوم الخميس، 8 مارس/آذار 2012، أشارت صحيفة معاريف الإسرائيلية إلى أن صفقة تمّ التوصل إليها بين رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو والرئيس أوباما، تلتزم إسرائيل بموجبها بعدم ضرب المنشآت الإيرانية هذا العام، وفي المقابل تقوم الولايات المتحدة، بعد انتخابات الرئاسة الأميركية، بتزويد الدولة العبريّة بالوسائل اللازمة لهذه الغاية، بما في ذلك قنابل أميركية متطورة قادرة على اختراق الملاجئ الإيرانية في عمق الأرض، وطائرات لتزويد المقاتلات الإسرائيلية بالوقود في الجو.

تأجيل ضروري لحرب محفوفة بالمخاطر

نتنياهو هو أول رئيس لحكومة إسرائيلية لم يخض حربًا كبيرة أو يتسبب في إشعال واحدة. بالرغم من صوته المرتفع ولغته الراديكالية، فهذا رئيس حكومة حذر. ونتنياهو يعرف أن لا ضربة يمكن أن توجَّه لإيران بدون دعم أميركي، قبل وأثناء وفي أعقاب الضربة.

الإدارة الأميركية الحالية لا تريد حربًا الآن في الشرق الأوسط؛ فالحرب كما تجري في أفغانستان حاليًا هي مقبرة لخرائط مخططيها. وما يبدأ بضربة جوية إسرائيلية لإيران، لا يمكن لأحد أن يعرف أين ينتهي. هموم الإدارة الأميركية الرئيسة الآن تتعلق بإعادة انتخاب الرئيس. ولأن الاقتصاد الأميركي يتحرك ببطء نحو الخروج من الأزمة المالية-الاقتصادية الطاحنة، التي تخيم على الوضع الاقتصادي على جانبي الأطلسي منذ 2008، فإن تصعيدًا في الشرق الأوسط سيضاعف من أسعار النفط، التي تعتبر أصلاً عالية نسبيًا، ويقوض محركات التعافي الاقتصادي، ويترك مساعي الرئيس للعودة إلى البيت الأبيض في مهب الريح.

ما لا يقل أهمية أن الولايات المتحدة تواجه سلسلة من التحديات على مستوى إستراتيجيتها العالمية، سيما سياستها في المشرق العربي-الإسلامي؛ ففي الوقت الذي أعلنت إدارة أوباما عن وضع حوض الباسيفيك على رأس جدول أولوياتها العالمية، قامت بالانسحاب من العراق، وهي بصدد تغيير طبيعة وجودها في أفغانستان، ولم تحدد موقفها بعد من نتائج الثورات العربية، ومن حالة الثورة المستعصية في سورية. والحرب على إيران قد تؤدي إلى مزيد من التعقيد في المشرق ككل. هذا فوق أن واشنطن ترى أن الثورات العربية، سيما الثورة السورية، كانت كارثة سياسية لإيران، وأن ضربة إسرائيلية لإيران الآن قد تعيد بعض التعاطف مع طهران.

لمجمل هذه الأسباب؛ فالأرجح أن الإدارة الأميركية أَمْيل لعقد صفقة مع الإسرائيليين، تلبي بعض أو معظم مطالبهم، في مقابل تأجيل التحرك العسكري، لاسيما إن كان هناك من الأدلة ما يكفي للتدليل على أن إيران لم تزل بعيدة نسبيًا عن الحصانة الإستراتيجية. قد تكون عناصر الصفقة قريبة مما نشرته الصحف الإسرائيلية، وقد لا تكون. ولكن المؤكد أن نتنياهو ليس جاهزًا للحرب بعد، وأنه استخدم تصعيد التهديدات لابتزاز الجانب الأميركي، الذي لا يريد أن يرى حربًا تنفجر في الشرق الأوسط حتى نهاية العام على الأقل.

بيد أن الطرفين يدركان أن العقوبات الاقتصادية والمالية، ومحاولة استخدام القناة الروسية للضغط الدبلوماسي، لا تشكل إستراتيجية متماسكة للتعامل مع الملف النووي الإيراني. إن كانت إيران تخطط لتطوير سلاح نووي، أو لامتلاك تقنية إنتاج هذا السلاح، فالعقوبات المالية-الاقتصادية لن تكسر الإرادة الإيرانية. ليس فقط لأن ليس ثمة سابقة تثبت فعالية العقوبات في إحداث تغيير إستراتيجي في سياسات الدول، ولكن أيضًا لأن موارد إيران وحدودها مع العديد من الدول الأخرى، الصديقة أو الرافضة لسياسة العقوبات الاقتصادية، يجعل من العقوبات سياسة من لا سياسة له.

المسارات المحتملة

في النهاية، إذن، ستدفع الخشية الإسرائيلية من أثر البرنامج النووي الإيراني على توازنات المنطقة الإستراتيجية، واحتمال أن يؤدي إلى فوضى نووية في المشرق، باتجاه الحرب. ولتجنب الحرب، لابد أن تُعقد صفقة إيرانية-أميركية شاملة، لا توفر الشروط الحالية مناخًا مواتيًا لها. الاحتمال الأضعف، أن تذهب الدولة العبرية لتوجيه ضربة جوية لمواقع إيرانية قبل دخول الولايات المتحدة أجواء الانتخابات الرئاسية في يوليو/تموز. وهو الاحتمال الأضعف لأن ضربة إسرائيلية بدون تعاون أميركي وثيق ستكون محدودة، ولأن أثرها على البرنامج النووي الإيراني سيكون أقل من المخاطر المتوقعة لتفاقم الصراع. أما الأكثر احتمالاً فهو أن ينتظر الإسرائيليون حتى تكون واشنطن أكثر استعدادًا للتعاون وتوفير الدعم الضروري، قبل وأثناء وبعد توجيه الضربة.