وقَّع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس حكومة الوفاق الليبية، فايز السراج، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، اتفاقيتي تفاهم بالغتي الأهمية والأثر: الأولى: تتعلق بترسيم الحدود البحرية الاقتصادية شرق المتوسط؛ والثانية: تخص التعاون العسكري والأمني بين البلدين. والمعروف أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الاقتصادية كانت محل مباحثات بين تركيا وليبيا حتى قبل سقوط نظام القذافي؛ ولكن هذه المباحثات أصبحت أكثر إلحاحًا في الشهور القليلة السابقة على توقيع الاتفاق.
وقد أشارت مصادر إلى أن فايز السراج تردد شهورًا في توقيع الاتفاقيتين، ربما لأنه توقع أن تجعلا موقف حكومته أكثر تعقيدًا من حيث علاقاتها الإقليمية. ولكن الواضح أن السراج وصل إلى قناعة مؤخرًا بأن الاتفاق مع تركيا يصب لمصلحته ومصلحة حكومته، سيما بعد أن تصاعدت مساعي القوى المؤيدة للجنرال المنشق، خليفة حفتر، لاقتحام العاصمة الليبية وإطاحة حكومة الوفاق.
وليس ثمة شك في أن الاتفاقيتين، حتى إن أُخذت كل واحدة منهما على حدة، تمثلان انقلابًا جوهريًّا في التدافع الاقتصادي على ثروات شرق المتوسط، من جهة، وفي توازنات الصراع على مستقبل ليبيا، من جهة أخرى. ولذا، وكما كان متوقعًا، أثارت الاتفاقيتان ردود فعل متباينة من دول الجوار البحري للدولتين، بما في ذلك اليونان ومصر وإسرائيل، ومن الدول ذات الاهتمام الخاص بالشأن الليبي الداخلي، سواء تلك المجاورة لليبيا، مثل مصر، أو البعيدة عنها، مثل فرنسا والإمارات العربية والسعودية.
اليونان، على وجه الخصوص، اعتبرت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الاقتصادية اعتداءً صريحًا على حقوقها البحرية، وعلى حقوق دولة قبرص، المنقسمة منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، بين قبرص اليونانية، المعترف بها دوليًّا، وقبرص التركية، المعترف بها من أنقرة. وقد سعت أثينا خلال الأسابيع التالية لتوقيع الاتفاقية لحشد الدعم الإقليمي والأوروبي والدولي لموقفها. أما الاتفاقية الثانية، الخاصة بالتعاون العسكري والأمني بين أنقرة وحكومة الوفاق في طرابلس، فقد اعتبرتها دول مثل مصر والإمارات والسعودية وفرنسا، التي تؤيد الجنرال حفتر وتدعمه، تدخلًا تركيًّا في الشأن الليبي الداخلي، متجاهلة كلية أن حكومة الوفاق وحدها من تتمتع بالاعتراف والشرعية الدولية.
فما الذي تعنيه الاتفاقيتان لمصالح الأطراف المتدافعة حول ثروات شرق المتوسط وحول مستقبل ليبيا؟ وهل يمكن أن يتطور مناخ التأزم المتفاقم بعد توقيع الاتفاقيتين إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين تركيا وخصومها الإقليميين؟
تغيير قواعد التدافع شرق المتوسط
يعود الاهتمام بثروات شرق المتوسط إلى السنوات الأولى من هذا القرن، عندما بدأت إسرائيل مساعي ترسيم حدودها الاقتصادية البحرية والبحث عن حقول غاز متوقعة في منطقتها البحرية الاقتصادية المفترضة. أثارت الجهود الإسرائيلية اهتمام دول شرق المتوسط الأخرى، بما في ذلك تركيا، وقبرص، واليونان، ومصر، وسوريا، ولبنان. في 2003، تم توقيع اتفاقيات ثنائية من أجل ترسيم الحدود الاقتصادية بين مصر وقبرص؛ وفي 2005، وُقِّعت اتفاقية مشابهة بين مصر وإسرائيل. وقد تلا هاتين الاتفاقيتين، توقيع اتفاقية ترسيم بين قبرص ولبنان في 2007، وبين قبرص وإسرائيل في 2010. في 2009، اكتشفت إسرائيل حقلًا ضخمًا للغاز في منطقتها الاقتصادية، وأصبح الصراع، من ثم، على ثروات شرق المتوسط أكثر حدة وإلحاحًا.
لم توقِّع اليونان اتفاقية ترسيم حدود اقتصادية بحرية مع أي من جيرانها. فلا إسرائيل، ولا سوريا ولا لبنان، يمكن أن تكون طرفًا مجاورًا وشريكًا في هذه الاتفاقية؛ بينما لم تُبدِ الدول المرشَّحة الثلاثة، تركيا ومصر وليبيا، أية رغبة في توقيع اتفاقية ترسيم سريعة مع اليونان. السبب الرئيس خلف هذا الموقف، بالطبع، أن تصور اليونان لحدودها الاقتصادية البحرية اعتُبر، حتى من قبل أصدقائها، مبالغًا فيه.
وكان واضحًا أن تركيا، سواء أخذت تصور اليونان لحدودها البحرية، أو أخذت الاتفاقيات التي وقَّعتها حكومة قبرص اليونانية، في الاعتبار، ستكون الطرف الخاسر الرئيس. في جوهر الأمر، إن قبلت أنقرة بالتصور اليوناني وبالاتفاقات التي وقعتها قبرص، لن يتبقى لتركيا من منطقة بحرية اقتصادية شرق المتوسط سوى الجرف القاري لخليج أنطاليا. للدفاع عن مصالحها، وعن مصالح قبرص التركية، اقترح أدميرال بحري تركي، منذ 2008، أن ترسم تركيا حدودها الاقتصادية البحرية على أساس من خطوط الطول وليس خطوط العرض.
وقد اقتربت أنقرة بالفعل من مصر وليبيا منذ 2008 لترسيم الحدود البحرية الاقتصادية، ولكن هذه الخطوات لم تصل إلى نتيجة سريعة. باندلاع الثورات العربية في 2011، سيما بعد تولي محمد مرسي رئاسة مصر في 2012، تزايدت الآمال التركية بالتوصل إلى توافق مع مصر وليبيا حول رسم خارطة جديدة لشرق المتوسط. ولكن الانقلاب على مرسي، في 2013، ودخول ليبيا إلى ما يشبه الحرب الأهلية أبطأ من الجهود التركية. التوقيع على مذكرة ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية، بهذا المعنى، هي محطة مهمة في طريق تركيا الطويل لتأمين مصالحها ومصالح قبرص التركية في شرق المتوسط.
فما الذي تعنيه هذه الاتفاقية؟ لا تمس الاتفاقية الحدود البحرية لدول ساحل المتوسط الشرقي، سوريا ولبنان، وإسرائيل، وهي بذلك تترك الخلافات اللبنانية-الإسرائيلية بهذا الشأن للحل بينهما. كذلك هي الحال فيما يتعلق بحقوق السلطة الوطنية الفلسطينية، وبما يعتقده كثير من الخبراء المصريين تجاوزًا إسرائيليًّا على حقوق مصر. من جهة أخرى، تضيف الاتفاقية التركية-الليبية لحدود مصر البحرية الاقتصادية ما يقدر بـ 35 ألف كيلومتر مربع بخلاف ما يفترضه التصور اليوناني-القبرصي. كما تعطي الاتفاقية ليبيا حقها كاملًا في منطقتها الاقتصادية البحرية.
ولكن، ولأن الاتفاقية التركية-الليبية تشمل أيضًا حقوق قبرص التركية، فقد أصبح الشريط الطولي لقلب شرق المتوسط، وصولًا إلى حدود مصر وليبيا البحرية، منطقة اقتصادية تركية؛ مما يعني أن إسرائيل لن تستطيع تنفيذ خط أنابيب لنقل الغاز من حقولها المكتشفة إلى اليونان وإيطاليا بدون موافقة تركية.
كما أن استناد الاتفاقية إلى خطوط الطول، واعتبارها حدود اليونان البحرية الاقتصادية مقصورة على ساحل الأرض اليونانية الرئيسة، وليس على أساس مجال عشرات الجزر اليونانية الصغيرة شرق المتوسط ومدخل بحر إيجة، يعني أن الاتفاق يمنح تركيا وقبرص التركية مجالًا بحريًّا واسعًا، تجاهلته أثينا على الدوام. وكانت دول منتدى شرق المتوسط، الذي دعت له مصر في 2019، وضمَّ مصر واليونان وإسرائيل ودولًا أخرى أقل أهمية، بينما تجاهل تركيا وسوريا ولبنان، تواطأت مع التصور اليوناني للمناطق البحرية الاقتصادية، حتى بدون أن توقع اتفاقيات ترسيم حدودي مع أثينا.
نزاع الحدود البحرية
ليس من الصعب رؤية الفرق بين ردود الفعل المتعلقة باتفاقية الترسيم البحري التركية-الليبية، والأخرى الخاصة بالتعاون العسكري والأمني بين أنقرة وطرابلس. ولأن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية وضعت حدًّا لمبالغات أثينا البحرية، وفرقت بين حدود قبرص اليونانية وقبرص التركية، لم يكن غريبًا أن تكون اليونان أول من تصدى للاتفاقية التركية-الليبية والأعلى صوتًا.
أطلق رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، حملة متعددة الأوجه لمواجهة ما أسماه "تعدي تركيا على سيادة اليونان البحرية وأطماع تركيا شرق المتوسط". زار وزير الخارجية اليوناني مصر ومقر الجنرال حفتر في بنغازي، بينما توجه رئيس الوزراء إلى واشنطن وباريس. وفي خطوة قُصد بها إظهار الموقف اليوناني من تركيا وحكومة الوفاق في طرابلس، استقبلت الحكومة اليونانية الجنرال حفتر في أثينا.
لم تستطع أثينا إقناع القاهرة بتوقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية ثنائية، تعارض الاتفاقية التركية-الليبية وتمهد لإثارة شكوك قانونية حولها. فبالرغم من توتر العلاقات التركية-المصرية، أدركت أجهزة الدولة المصرية أن الاتفاقية التركية-الليبية تصب لصالح القاهرة وأن ليس من مصلحة مصر الذهاب بعيدًا مع الحسابات اليونانية. في 8 ديسمبر/كانون الأول، قال وزير الخارجية المصري: إن الاتفاقية التركية-الليبية لا تمس مصالح مصر. وفي 29 من الشهر نفسه، قال الناطق باسم الرئاسة التركية إن لديه معلومات رسمية وغير رسمية بأن القاهرة سعيدة بالاتفاقية.
وقد أشارت مصادر أميركية إلى أن الرئيس ترامب حذَّر رئيس الحكومة اليوناني من صدام عسكري قد يخسره مع تركيا. ولكن ترامب، الذي لم يظهر دعمًا صريحًا لليونان، اتصل هاتفيًّا بالرئيس التركي، 27 يناير/كانون الثاني، ودعاه إلى عدم التصعيد والعمل على حل الخلافات مع أثينا بالتفاوض.
أوروبا، وبغير التعبير عن القلق لتأزم الأوضاع شرق المتوسط، لم تعلن عن موقف قاطع لإدانة الاتفاقية التركية-الليبية. هذا، بالطبع، لا يشمل الموقف الفرنسي؛ فالعلاقات التقليدية الوثيقة بين اليونان وفرنسا، من جهة، وتوتر العلاقات الفرنسية-التركية، على خلفية صدام الدولتين في سوريا وليبيا، من جهة أخرى، دفعت باريس إلى اتخاذ موقف صريح في مساندة الموقف اليوناني. في المؤتمر الصحفي الذي عقده ماكرون وميتسوتاكيس، أعرب الأول عن قلقه مما أسماه بالتصرفات التركية الاستفزازية، بما في ذلك خرق تركيا لتعهداتها في مؤتمر برلين بالامتناع عن إرسال المزيد من السلاح لليبيا، وأعلن عن إرسال فرقاطتين فرنسيتين للحفاظ على الأمن في شرق المتوسط؛ الأمر الذي رحب به رئيس الحكومة اليوناني، الذي أعرب بدوره عن الأمل في تعزيز التعاون الاستراتيجي الفرنسي-اليوناني.
بيد أن أحدًا لا يتوقع أن تصبح فرنسا طرفًا في أي صراع عسكري محتمل في شرق المتوسط، لا بخصوص الخلافات حول الحدود الاقتصادية البحرية، ولا لمنع الإمدادات التركية لحكومة الوفاق. وبالنظر إلى تواضع الخطوة الفرنسية البحرية، فإن أقصى ما يمكن أن يطمح إليه اليونانيون أن تقوم باريس ببذل جهود أكبر داخل الاتحاد الأوروبي لدعم الموقف اليوناني.
في 4 يناير/كانون الثاني، وقَّعت اليونان وقبرص وإسرائيل، في العاصمة اليونانية، على اتفاق مبدئي لمد خط أنابيب غاز من الحقول الإسرائيلية شرق المتوسط، مرورًا بقبرص وكريت، وصولًا إلى الأرض اليونانية الرئيسة، ومنها إلى إيطاليا، باسم "إيست-ميد". وبالرغم من أن المشروع، الذي يتصور أطرافه أنه سيُنجز مع 2025، يعتبر مشروعًا طموحًا، فإن الإسرائيليين لم يشيروا إلى ما إن كانوا سيطلبون موافقة تركية على مرور الأنبوب عبر المياه الاقتصادية التركية. الأهم، أن إيطاليا، التي كان من المتوقع أن تكون طرفًا في المشروع لم ترسل مندوبًا عنها للتوقيع، وسط شكوك في روما حول جدوى المشروع وإمكانية تمويله وتنفيذه، سيما أن أوروبا الجنوبية لا تعاني من نقص في إمدادات الغاز، بعد بدء عمل الأنبوب التركي-الروسي في الثامن من يناير/كانون الثاني.
في الجانب الآخر، أُعلن في تركيا، في نهاية يناير/كانون الثاني 2020، عن إرسال سفينة الاستكشاف، يافوز، إلى منطقة قبرص التركية البحرية الاقتصادية، للبحث عن الغاز والنفط، طبقًا لرخصة منحتها حكومة قبرص التركية في 2011 لشركة النفط التركية. كما صعَّدت تركيا لغتها تجاه اليونان بمطالبتها بالتراجع عن تسليح جزر متنازع عليها في مدخل بحر إيجة. ولم تُخفِ أنقرة عزمها التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الاقتصادية البحرية الليبية، في حال طلبت حكومة الوفاق ذلك.
مهما كان الأمر، فإلى جانب قبرص اليونانية، يبدو أن إسرائيل وفرنسا تبرزان باعتبارهما الداعم الرئيس للموقف اليوناني. ولكن هذا الدعم لا يوحي بأن فرنسا أو الدولة العبرية على استعداد لأن تقفا عسكريًّا إلى جانب اليونان، في حال اندلع صدام عسكري بين حليفتي الناتو، تركيا واليونان. كما أنهما ليستا في موقع يمنحهما توفير دعم قانوني لإعادة ترسيم خارطة المناطق الاقتصادية البحرية شرق المتوسط.
تعديل ميزان القوى العسكري
بالرغم من أن اتفاقيتي ترسيم الحدود البحرية والتعاون العسكري والأمني هما اتفاقيتان منفصلتان، وإن وُقِّعتا في يوم واحد، فليس من الصعب رؤية الارتباطات الوثيقة بينهما، سيما من وجهة نظر أنقرة وحكومة الوفاق لوقائع الأمور. فكما أن سقوط حكومة الوفاق يمكن أن يؤدي إلى قيام الجنرال حفتر بإلغاء الاتفاقيتين؛ أدت ردود الفعل على الاتفاقيتين إلى تعزيز الدعم الذي يتلقاه حفتر من فرنسا ومصر والإمارات، بالرغم من أن موقف هذه الدول من اتفاقية ترسيم الحدود البحرية ليس متطابقًا بالضرورة.
ما لا يخفى أن تركيا وفرت بالفعل بعض الدعم لحكومة الوفاق منذ بدأ حفتر هجومه على طرابلس في ربيع 2019، ولكن هذا الدعم لم يكن كبيرًا ولم يأت من القوات المسلحة التركية. لتقديم دعم تركي ملموس، سواء على مستوى المعدات أو الخبراء، بما في ذلك وجود عناصر من الجيش التركي على الأرض الليبية، كان لابد من توقيع اتفاق رسمي بين الدولتين وحصول أنقرة على تأييد البرلمان التركي لمثل هذا التدخل خارج الحدود. وهذا ما تم بالفعل في 21 ديسمبر/كانون الأول 2019، عندما أقرَّ البرلمان التركي اتفاقية التعاون العسكري والأمني.
ولكن، وبالرغم من تعهد الرئيس أردوغان حملة توعية وتوضيح سياسية طوال الفترة بين توقيع الاتفاقية والتصويت البرلماني، للحصول على تأييد الرأي العام التركي، فقد اقتصرت أغلبية الأصوات البرلمانية التي دعمت الاتفاقية على أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحليفه، حزب الحركة القومية. ولأن ثمة شكًّا في حجم التأييد الشعبي التركي لاتفاقية التعاون العسكري والأمني (بخلاف اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، التي وجدت تأييدًا شعبيًّا واسع النطاق)، كان المتوقع أن تبدأ القيادة التركية تحركًا حذرًا في الساحة الليبية.
لم تكن دلالات الاتفاق العسكري والأمني خافية على معسكر الجنرال حفتر ومؤيديه؛ ففي حين أخذ وضع حفتر العسكري في التحسن خلال ديسمبر/كانون الأول 2019 بفعل الدعم التقني الذي أضافه المرتزقة الروس والخبرة العسكرية التي وفرها الروس والفرنسيون، أوحت الاتفاقية بتدخل عسكري تركي مباشر على أكثر من صعيد لصالح حكومة الوفاق. ولذا، لم يكن غريبًا أن تتوالى ردود الفعل المنددة بالاتفاق من دول عُرفت بتأييدها لحفتر، مثل مصر وفرنسا والسعودية والإمارات. كما عملت الكتلة العربية الداعمة لحفتر على عقد اجتماع لجامعة الدول العربية، في 31 ديسمبر/كانون أول، للخروج بموقف عربي مناهض لتركيا؛ بيد أن تحفظ دول عربية أخرى أفرغ البيان العربي من محتواه.
في المقابل، تحركت تركيا لتأمين موقف عربي مؤيد لموقفها وموقف حكومة الوفاق. ولعل زيارة الرئيس التركي المفاجئة لتونس، في 25 ديسمبر/كانون الأول 2019، وزيارته الجزائر، في 26 يناير/كانون الثاني 2020، وكلتاهما دولتا جوار ليبي عُرفتا بموقفهما المناهض للجنرال حفتر وتدخلات مؤيديه، كانتا أبرز تجليات التحرك التركي. بين الزيارتين، أصرَّت تركيا على دعوة كل من الجزائر وتونس لمؤتمر برلين الدولي حول ليبيا، باعتبارهما الأَوْلى بالمشاركة في المؤتمر من دولة مثل الإمارات، البعيدة مئات الأميال عن ليبيا. في النهاية، شاركت الجزائر بالفعل في المؤتمر، ولكن تونس امتنعت عن المشاركة بحجة تأخر تسلمها دعوة المؤتمر.
وربما كان مؤتمر برلين، 19 يناير/كانون الثاني، الذي عملت الحكومة الألمانية على انعقاده منذ شهور، أبرز محطة دولية لمعالجة الأزمة الليبية. وقد جاء المؤتمر، الذي لا يوجد شك في تعبيره عن رغبة أوروبية بلعب دور أكثر فعالية في ليبيا، بعد أيام من لقاء دعت إليه روسيا وتركيا في موسكو (13 يناير/كانون الثاني)، لتوقيع أطراف الصراع الليبي على وقف لإطلاق النار.
وُلدت الدعوة التركية-الروسية المشتركة لوقف إطلاق النار في ليبيا من سعي الدولتين للتوصل إلى تفاهم مشترك حول الأزمة الليبية، التي بدا واضحًا، بعد توقيع الاتفاقية التركية-الليبية، أنها توشك أن تضعهما في مواجهة عسكرية مباشرة، لم يصلا إليها حتى في الساحة السورية. ولكن، وبعد أن وقَّع رئيس حكومة الوفاق على وثيقة وقف إطلاق النار، سارع حفتر بتحريض من حلفائه الإماراتيين، إلى مغادرة موسكو بدون توقيع على الوثيقة.
في برلين، لم يشارك الليبيون، لا من جهة حفتر ولا من جهة حكومة الوفاق، مباشرة في جلسات المؤتمر، ولكنهم وُجدوا على هامش الجلسات وعقدوا مباحثات، كل على حدة، مع المستشارة أنغيلا ميركل، مضيفة المؤتمر، ومع قادة آخرين ممن شاركوا في المؤتمر. حاولت المستشارة ميركل حثَّ حفتر على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، ولكن الجنرال تهرب من جديد. وفي ظل الفشل في تأمين موافقة حفتر الرسمية على وقف إطلاق النار، انتهى المؤتمر إلى توافق المشاركين على الالتزام بقرارات الأمم المتحدة حول الأزمة الليبية والامتناع عن تأجيج الصراع الداخلي بوقف الإمدادات العسكرية لأطراف الصراع. كما أقرَّ المؤتمر الدعوة لتشكيل لجنة عسكرية من ممثلين عن الوفاق وعن حفتر، لإقرار وقف دائم لإطلاق النار وفصل القوات المتحاربة.
بمعنى آخر، وبالنظر إلى أن حفتر لم يظهر أية نوايا جادة لإيقاف هجومه على طرابلس، جاءت نتائج مؤتمر برلين مشابهة لأغلب اللقاءات الدولية الأخرى حول الأزمة الليبية. ولأن آلية ما للمراقبة لم يُتفق عليها، كان واضحًا في نهاية المؤتمر أن أحدًا من القوى المشاركة في المؤتمر والمؤيدة لهذا الطرف أو ذاك في ليبيا لن يلتزم بقرار التوقف عن تقديم الدعم العسكري لمعسكري الصراع الليبي الرئيسين.
وهذا ما أكدته تطورات الأيام التالية على مؤتمر برلين. ففي أول فبراير/شباط 2020، أكدت نشرة استخباراتية فرنسية أن ما قدمته الإمارات من دعم عسكري لحفتر خلال الأسابيع الأولى من 2020 يفوق حجم ما قدمته طوال 2019. من جهة أخرى، أكد الرئيس التركي وجود خبراء عسكريين أتراك في ليبيا، يعملون على تدريب وتنظيم القوات التابعة لحكومة الوفاق، بدون أن يشير إلى إرسال قوات تركية مقاتلة بعد. كما ذكرت تقارير، أيدتها وسائل إعلام عربية، وألمح إليها الرئيس الفرنسي في شجبه للموقف التركي في ليبيا أثناء مؤتمره الصحفي مع رئيس الحكومة اليونانية، أن معدات عسكرية مختلفة الأنواع، بما في ذلك معدات تقنية متقدمة، أوصلتها ناقلات بحرية تركية إلى ميناء طرابلس.
وبالنظر إلى تحسن الأداء العسكري لقوات حكومة الوفاق في محاور القتال جنوب طرابلس وخط المواجهة بين سرت ومصراتة، خلال النصف الثاني من يناير/كانون الثاني، ونجاح قوات الوفاق في إسقاط طائرتين مسيَّرتين تابعتين لقوات حفتر، لم يعد ثمة شك في تصاعد الدور العسكري التركي في الساحة الليبية.
رهانات مفتوحة
بتوقيع مذكرة التفاهم حول الحدود البحرية الاقتصادية بين تركيا وليبيا، نجحت تركيا، وللمرة الأولى منذ فتح ملف ثروات شرق المتوسط، قبل نحو العقدين، في تغيير قواعد التدافع على هذه الثروات. ثمة اعتقاد في أنقرة بأن الاتفاق أصبح بالفعل جزءًا من القانون الدولي، وأن خيارات اليونان لمواجهة خارطة الحدود الجديدة محدودة. ولكن من غير الواضح بعد ما إن كان الاتفاق التركي-الليبي قد أقفل هذا الملف بالفعل أو أن اليونان ستقوم في النهاية باللجوء إلى التحكيم الدولي. مشكلة أثينا، بالطبع، أن التحكيم الدولي لا يبدأ بدون موافقة الطرفين؛ وأنه حتى إن وافقت أنقرة على ذلك فإن مجرياته تأخذ عادة سنوات طويلة قبل التوصل إلى حكم قاطع.
قانونيًّا، لابد من النظر إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بمعزل عن اتفاقية التعاون العسكري والأمني. ولكن من الصعب فصل الاتفاقيتين على المستوى السياسي. فبالرغم من أن اتفاقية ترسيم الحدود توفر حماية لحقوق ليبيا لا تقل عن تلك التي توفرها لحقوق تركيا وقبرص التركية، فليس هناك ما يضمن عدم قيام نظام حكم ليبي بديل لحكومة الوفاق بإلغاء الاتفاقية. بكلمة أخرى، وبالنظر إلى أن الإمارات والسعودية وفرنسا (مع تردد الموقف المصري، وعدم وضوح الموقف الروسي)، التي توفر الدعم الرئيس لحفتر، اختارت المواجهة الإقليمية مع تركيا، وأظهرت انحيازًا مكشوفًا لليونان وقبرص اليونانية، فليس من المستبعد أن يقوم الجنرال حفتر بإلغاء الاتفاقية إن نجح في إطاحة حكومة الوفاق وفرض سيطرته الكاملة على ليبيا.
وهذا بالتأكيد ما سيجعل التزام تركيا باتفاقية التعاون العسكري والأمني لا يقل عن التزامها باتفاقية ترسيم الحدود البحرية. بمعنى، أن استمرار حكومة الوفاق وحمايتها أصبح مصلحة حيوية لتركيا ولتصورها لدورها وموقعها في شرق المتوسط، حتى بغض النظر عن حقيقة أن وقوف تركيا إلى جانب الوفاق هو وقوف إلى جانب الشرعية الدولية وانحياز لطموحات الشعب الليبي في الحرية والديمقراطية والحكم المدني التعددي.
بيد أن على تركيا تجاوز عدد من العقبات قبل تحقيق هذا الهدف:
الأولى: أن حكومة الوفاق تحتاج ما هو أكثر من النجاح في الدفاع عن طرابلس. لتأمين حكومة الوفاق ودفع الأزمة الليبية نحو تسوية سياسية فعلية، لابد من تغيير ميزان القوى بصورة ملموسة، بما في ذلك دحر قوات حفتر من جنوب طرابلس، وإخراجها من مدن الكفرة وترهونة وسرت، التي تشكل مصدر التهديد الرئيس لأمن طرابلس ومصراتة. وفي مواجهة تعاظم الدعم الذي تقدمه دول المعسكر المؤيد لحفتر، لابد من توفر دعم تركي مكافيء، على الأقل، سواء على صعيد المعدات والتدريب والتنظيم، أو على صعيد القوة المقاتلة، لتحقيق انقلاب فعلي في توازن القوى.
الثاني: أن المزيد من تورط أنقرة العسكري في ليبيا يتطلب دعمًا من الرأي العام التركي؛ وليس من الواضح بعد أن القيادة التركية نجحت في إقناع عموم الأتراك بالارتباط الوثيق بين اتفاقيتي ترسيم الحدود البحرية والتعاون العسكري والأمني. بخلاف سوريا، حيث يرى الأتراك تهديدًا ملموسًا وملحًّا لأمن بلادهم القومي، لم تتبلور أغلبية تركية بعد لدعم وتأييد تدخل عسكري تركي واسع في ليبيا. وفي دولة ديمقراطية، تعددية، يصعب على حكومة منتخبة تحمل تكلفة تدخل عسكري كبير خارج الحدود بدون تأييد سياسي داخلي واسع النطاق ودعم شعبي.
الثالث: أنه بات من الواضح أن روسيا بدأت بالفعل خطوات جادة لتأسيس وجود عسكري لها في ليبيا، إلى جانب الوجود العسكري في سوريا. ثمة اعتقاد في موسكو بأن الدفاع عن حوض البحر الأسود الروسي لابد أن يبدأ في شرق المتوسط، وأن قاعدة عسكرية روسية على الساحل السوري لا تكفي وحدها لبناء ردع استراتيجي روسي في شرق المتوسط. ويبدو أن روسيا اختارت جانب حفتر لتأمين وجودها المستقبلي في ليبيا. حتى الآن، على أية حال، اقتصر الدعم العسكري الروسي لحفتر على المرتزقة الروس، وثيقي الصلة بالكرملين. ولكن أحدًا لا يمكنه استبعاد تصاعد التدخل الروسي، بما في ذلك المعدات والخبراء من عناصر الجيش الروسي. وبالنظر إلى تزايد حدة التوتر في العلاقات الروسية-التركية في سوريا، فليس من الواضح بعد كيف يمكن لتركيا التعامل مع إشكالية التدخل الروسي في ليبيا إلى جانب حفتر. كما من غير الواضح بعد ما إن كان بإمكان أنقرة إقناع واشنطن بالتدخل في ليبيا لتحقيق توازن مقنع مع الدور الروسي.
بكلمة أخرى، وفي ضوء غياب أية بارقة أمل على تبلور مسار حل سياسي للأزمة الليبية، فإن من الصعب تفادي ضرورة إعادة بناء التوازن العسكري في مواجهة حفتر. ولأن تركيا هي القوة الوحيدة الآن التي أعلنت عن عزمها حماية حكومة الوفاق وتعزيز دورها وموقعها، فإن أعباء بناء هذا التوازن تقع في معظمها على كاهل الأتراك. إنْ نجحت أنقرة في مهمتها الليبية، فسيحمي هذا النجاح مصالح تركيا في شرق المتوسط، ويعزز من دورها الإقليمي. أما إن أخفقت، فستكون العواقب وخيمة، على تركيا وعلى مستقبل ليبيا.