المفاوضات بين الصومال وصومالي لاند: المسار الوعر والمستقبل الغامض

يواجه الصومال تحدي بناء الدولة وتحقيق الوحدة وتعزيز الهوية الوطنية لكن حالة الغبن الشديدة والسائدة في الشمال التي ولدها الشحن السياسي لذهنية المواطن البسيط في صومالي لاند أتت بنتائج مدمرة لمشروع الوحدة مع الجنوب مما يفسر تطور فكرة الانفصال.
الجزيرة
نصب تذكاري ب هرجيسا عاصمة إقليم صوماليلاند لمقاتلة صومالية تحطمت أثناء الحرب الأهلية نهاية الثمانينيات (الجزيرة)

 مثَّلت جمهورية ما يسمى بـ"أرض الصومال" الانفصالية قضية رأي عام داخلية منذ نحو ثلاثة عقود في القرن الإفريقي، وفصلًا من فصول الأزمات السياسية والنزاعات في الصومال (الشمال والجنوب)، وتحولت أيضًا إلى صداع مزمن يؤرق السياسيين في الشمال من أجل تحقيق كيان مستقل يحظى باعتراف دولي أو إقليمي، واستخدمت السلطات في صومالي لاند سياسة الانفصال مشروعًا لدغدغة العواطف لدى أبناء الشمال، في ظل جنوح شريحة واسعة في الإقليم ذاته إلى مشروع الوحدة كهوية وطنية للصوماليين، باعتبار أن ما بقي من جغرافية الصومال جزء لا يمكن أن يتجزأ. 

وفي أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي أوائل التسعينات من القرن الماضي، شهدت دول إفريقية عدة تفككًا داخليًّا، إذًا فمشروع "أرض الصومال" ليس استثناء في هذا الصدد؛ حيث ظهرة بوادره في ظرف عصيب كان الصومال يعاني خلالها حربًا طاحنة وتدخلًا دوليًّا، بحكم أن ثلاثين عامًا من عمر سكان المحمية البريطانية ضاعت هباء ولم يؤسِّس حكم سياد بري العسكري (1969-1991) مشروع دولة قومية تلبي احتياجات وطموحات المواطن الصومالي في الشمال، لتنتهي بعدها حقبة الوحدة الاندماجية في الصومال (الشمال والجنوب). 

في هذا التقرير نحاول أن نسلط الضوء على مشروع صومالي لاند الممتد منذ نحو ثلاثة عقود، بالإضافة إلى رصد الجهود الإقليمية والدولية من أجل إعادة اللحمة والوحدة بين الشمال والجنوب، واستشراف مآلات الحاضر وتحديات انفصال الشمال وأسباب فشل جهود الوساطة التركية والجيبوتية، والخيارات الممكنة أمام الحكومة الصومالية الفيدرالية وإدارة صومالي لاند والسيناريوهات المتوقعة.

أرض الصومال: بين الوحدة والانفصال 
يتأرجح التاريخ السياسي لـ"صومالي لاند" بين كفتي الوحدة تارة والانفصال تارة أخرى مع الصومال الإيطالي، كما أن عمر الوحدة والانفصال من جانب واحد بين الجانبين يتقاربان، ولا يفصلهما سوى عامين فقط، ما يعكس أن مؤشر حلم الوحدة ما زال باقيًا بقدر ما تتضاعف أو تتضاءل فرص حتمية الانفصال لدى الشماليين، في حال استمر الوضع على ما هو عليه في الجنوب، ولم تحقق المفاوضات نتائج تُذكر، على الرغم من أن فرص نجاحها ضئيلة جدًّا بسبب تباين في المواقف ونقاط الخلاف الجوهرية والمصيرية بين الشمال والجنوب، خلافات ربما ستزيد من تفكك الصومال، ويضيع خلالها مستقبل جيل صومالي بأكمله، أي إنها أشبه بالمثل القائل: "بين حانا ومانا، ضاعت لحانا". 

يعترف الجنوبيون بأن فكرة الوحدة انطلقت من الشمال الصومالي، الذي نال استقلاله من المستعمر البريطاني قبل أربع سنوات من الجنوب، في يونيو/حزيران عام 1960، لتظهر إلى الوجود الدولة الصومالية الحديثة في وحدة اندماجية على نظام جمهوري ديمقراطي، لتكون نواة دولة الصومال الكبير التي حملت على عاتقها مسؤولية تحرير الصومال الكبير وتوحيده بعد ذلك(1). إذًا، هي رمزية يتفاخر بها الشماليون، ويطالبون بموجبها بحق تقرير المصير ونيل الاعتراف لدولتهم، لكن الوحدة الاندماجية بين الجانبين كانت طوعية، وهو ما برهن على مدى انخراط ساسة الشماليين آنذاك في مؤسسات الدولة، ليصبح فيما بعد مؤسس صومالي لاند، محمد إبراهيم عقال، رئيس الحكومة الصومالية المدنية، عام 1969، لتنتهي تلك الفترة بانقلاب عسكري أطاح الدولة المدنية، وشرع في تفكيك البنية الاجتماعية والسياسية بين الجزأين.

وكانت فلسفة الوحدة أقوى من التمزق أو التشرذم بين الكيانين منذ فترة الاستعمار الأوروبي، فكان عامل التجانس الديني والعرقي والثقافي بين الشمال الجنوب أكبر قوة رافعة للوحدة الصومالية، على عكس ما فرضته الدولة الاستعمارية من وحدة هشة وضعيفة في مستعمراتها القديمة، وخاصة في حالة شمال السودان، وجنوبه، وهي الوحدة التي اهتزت وتحولت إلى فصام نكد بين الجانبين، نتيجة توافر مسائل جوهرية في الهوية والأساس التاريخي القانوني ونظرة المجتمع الدولي من مصالح اقتصادية وجيواستراتيجية في جوبا.

لكن حالة الترهل والتفكك التي بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي في الصومال، دفعت أقطابًا سياسية في الجنوب والشمال، إلى تأسيس أحزاب سياسية في المهجر، وجبهات مسلحة في الداخل؛ ففي شهر أبريل/نيسان عام 1981، اجتمع عدد من السياسيين المنتمين لـ"أرض الصومال" في لندن وأسسوا الحركة الوطنية الصومالية (Somali National Movement)، وهي الحركة التي حملت شعار تحرير الصومال في وهلتها الأولى من براثن النظام العسكري، لكنها تحولت فيما بعد إلى جناح سياسي للشماليين فقط، وتطورت إلى حركة تنادي بالانفصال عن الصومال من جانب واحد بعد إسقاط الحكومة المركزية في 26 يناير/كانون الثاني عام 1991، لتعلن ميلادًا جديدًا للإقليم بعد أشهر قليلة، في 18 مايو/أيار عام 1991. 

جذور فكرة الانفصال ومسار المفاوضات
بعد انتهاء فترة الحكومات المدنية (1960-1969) بانقلاب أبيض قاده الجنرال محمد سياد بري، شعرت الطبقة السياسية في الجزء الشمالي من البلاد بأن قضيتهم قد سُحبت من تحت أقدامهم وأن مشروعهم النضالي للتحرر من المستعمر البريطاني قد أصابته خيبة أمل باندماجهم مع الجنوب في وحدة طوعية؛ حيث انقلبت الدولة العسكرية على الديمقراطية الوليدة في الصومال، من خلال اعتقالات طالت سياسيين من بينهم رئيس الوزراء آنذاك، محمد إبراهيم عقال، بل أخذت الأمور بُعدًا خطيرًا، بإلغاء البرلمان والدستور، والتوجه نحو الماركسية بعيدًا عن الهوية الثقافية والدينية للمجتمع الصومالي. 

كل هذه الأسباب، خلقت غبنًا وحزنًا دفينًا في نفسية الساسة في الشمال الصومالي، وورَّثت سياسة سياد بري القمعية البلاد فوضى داخلية، وفتحت جبهات عسكرية وميليشيات مسلحة ومعارضة في المهجر والداخل، وهو تحول ازداد عمقًا بعد الحرب الصومالية-الإثيوبية عام 1977، حيث كان المعارضون الصوماليون يحملون راية إسقاط الديكتاتور الصومالي مع العديد من الدول التي رأت في المعارضة الصومالية فرصة للانقضاض على رجل الصومال العسكري، حتى تمكنت الجبهات الصومالية من إسقاطه مطلع عام 1991، لكنها كانت ثورة بلا أجندات سياسية أو مشروع قومي وطني، بل كانت ذراعها اليمنى دول الجوار، وبالأخص إثيوبيا، للقضاء على نظام يشكِّل تهديدًا لها. 

فمع سقوط الجنرال سياد بري، ارتفع صوت الانفصال في الشمال، كما الوحدة مع الجنوب في ستينات القرن الماضي؛ حيث اجتمع زعماء العشائر الشمالية وقيادة الحركة الوطنية الصومالية في مدينة بُرْعُو، واستمر اجتماعهم قرابة شهر من 27 أبريل/نيسان إلى 18 مايو/أيار 1991، واتفق المشاركون فيه، على تأسيس كيان مستقل عن بقية الصومال(2). ومن هنا بدأت قصة أرض الصومال كنظام منفصل عن الصومال، فما هي مبررات ومسوغات الانفصال لدى صومالي لاند، وصعوباته وتحدياته في البيت الصومالي.
 

مسوِّغات الانفصال 

  1. تكمن أقوى حُجَّة لأرض الصومال في الانفصال عن شطره الجنوبي، أن الاتحاد مع الصومال الإيطالي كان طواعية؛ ما يعطي الإقليم حق الانسحاب فيما لو شكَّل الاتحاد عبئًا على صومالي لاند، ويندرج هذا المبرر ضمن الأساس التاريخي والقانوني الدولي، فالإقليم كان كيانًا منفصلًا ومستعمَرًا من قبل إنجلترا قبل خيار الوحدة مع الجنوب(3).
     
  2.  لم تعالَج فكرة الإدماج مع الصومال الجنوبي على نحو دقيق، بل كانت مدفوعة بأحاسيس وعواطف وطنية جياشة، وأثَّرت سلبًا على مستقبل القضية الشمالية، وأدت إلى كوارث ومجازر في الشمال ارتكبها نظام سياد بري في الجنوب.
     
  3. ارتكب نظام سياد بري جرائم ومارس التهميش والإقصاء في شمال الصومال، ما ولَّد حالة الشحن الشديدة التي يتذكر تفاصيلها أبناء الشمال، تجاه الانفصال النهائي والاستقلال التام عن كيان الوحدة، ومردُّه الخطاب الشعبوي المبني على اعتبار أن الجميع من الطرف الآخر شاركوا في سياسات "سياد بري" القمعية ضد الشماليين(4).
     
  4. يرزح الجنوب الصومالي تحت الفوضى الأمنية والسياسية، بينما الشق الشمالي يتميز في جوانب عديدة، أمنيًّا واقتصاديًّا، وسياسيًّا، وبدرجة عالية، حيث ينعم بالاستقرار والأمن مقارنةً مع بقية مناطق الصومال، بل ويتفوق في بعض الحالات على دول معترف بها دوليًّا في القرن الإفريقي(5).
     

صعوبات الانفصال 
على الرغم من أن أرض الصومال، تشهد استقرارًا داخليًّا وسياسيًّا لمدة عقدين ونيف، إلا أن مطالبها بحق تقرير المصير من خلال ضمان اعتراف دولي أو حتى إقليمي لشعبها، لم تتحقق، نتيجة للأسباب التالية:

  1. يبدو أن التجانس الثقافي والعرقي أقوى رابط يُبقي اللُّحمة والوحدة بين الشطرين (الشمال والجنوب) ويشكِّل تحديًا ثقافيًّا وفلسفيًّا وسياسيًّا أمام محاولات الاعتراف بـ"أرض الصومال" كدولة مستقلة في القرن الإفريقي(6).
     
  2. تتمركز قبائل عدة في الشمال الصومالي لا تتشاطر فكرة الانفصال مع القبائل الأخرى التي تدعو جهارًا نهارًا للانفصال عن بقية الصومال؛ حيث تعارض عشائر "هرتي دارود" ذات الأغلبية في محافظتي سول وسناغ وعشيرة "سمرون" مشروع الانفصال. يضاف إلى ذلك رفض بعض عشائر إسحاق وخاصة تلك القاطنة في محافظة توغطير، فكرة الانفصال من أساسها(7)، لكن ما يجمع تلك القبائل هو الحفاظ على نظامهم المستقل، ويرغبون في بقائهم ككيان منفصل يتمتع بحكم شبه ذاتي مستقل، لكن ليس السرد خارج إطار الوحدة القومية مع الجنوب.
     
  3. أما خارجيًّا، فالأنظمة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي وإيغاد) يرفضان انفصال الإقليم، حفاظًا على اتفاقية القاهرة، عام 1964، والتي تنص على عدم إحداث تغييرات في الحدود التي تركها الاستعمار، ورفض أي حركة انفصالية، لكن هذه الاتفاقية لم تمنع إريتريا وجنوب السودان من الحصول على حق تقرير المصير ومن ثم الاستقلال(8).

لكن ما هو لافت للنظر أن نظام أرض الصومال يتمتع بعلاقات واسعة مع العديد من دول العالم، رغم أنه لم يحقق الاعتراف الدولي كركن خامس من أركان الدول المعاصرة؛ حيث يتعاون مع أكثر من 20 دولة في محيطه الإفريقي والعالمي، والدليل على ذلك، استضافة أرض الصومال في الانتخابات الأخيرة (2017) أكثر من 70 مراقبًا أجنبيًّا من 27 بلدًا انتشروا في مراكز الانتخابات، واستُخدمت فيها تكنولوجيا IRIS المتطورة للتعرف على بصمات العين للناخبين عند الإدلاء بأصواتهم، وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام هذا النظام في انتخابات في إفريقيا(9).

المفاوضات ومسارها  
مثَّلت المفاوضات بالنسبة لـ"أرض الصومال" مخرجًا لفك العقدة مع الجنوب، فقد خرجت الأزمة بين الجانبين من غياهب الاتحاد الإفريقي إلى تدويلها عبر بريطانيا، والتي دعت في مؤتمر لندن حول الصومال، عام 2012، إلى إجراء مفاوضات بين الجانبين، لأول مرة بعد عقود من الزمن. 
يمكن تناول المفاوضات بين الجانبين لتفكيك مسارها، ورصد المعوقات وأسباب فشلها في النقاط التالية:

1. فترة حكم الرئيس الأسبق، شيخ شريف شيخ أحمد (2009-2012)
في يونيو/حزيران عام 2012، وقَّع الطرفان (الصومال وصومالي لاند) على "إعلان دبي" كوثيقة تاريخية لبدء المفاوضات بين الجانبين، وهي أول مفاوضات رعتها الإمارات بعد مؤتمر لندن الذي دعا الأطراف الصومالية إلى النقاش وتحديد مستقبل علاقاتهما، ووقَّع الميثاق الرئيس الصومالي الأسبق، شيخ شريف شيخ أحمد، والرئيس السابق لـ"أرض الصومال". وجاء الاجتماع الذي رعته دولة الإمارات استكمالًا لمؤتمري لندن وإسطنبول اللذين ينصان على دعم المجتمع الدولي للحوار بين الحكومة الاتحادية الانتقالية للصومال، وحكومة أرض الصومال، وذلك بهدف توضيح العلاقات المستقبلية بينهما، فضلًا عن المصادقة رسميًّا على عملية المحادثات بين الجانبين التي بدأت في لندن(10). هذا الإعلان مهَّد الطريق لانطلاق قطار المفاوضات بين مقديشو وهرجيسا لأول مرة بعد عشرين عامًا.

2. فترة حكم الرئيس السابق حسن شيخ محمود (2012-2017)
في فترة الرئيس الصومالي السابق، حسن شيخ محمود، أُجريت أربع جولات من المفاوضات بين الجانبين، في كل من جيبوتي وإسطنبول وأنقرة، وهي الفترة التي توصف بأنها كانت ذهبية لأرض الصومال، لتحقيق توسع في علاقاتها مع العالم والمنظمات الدولية.

  • في 13 من أبريل/نيسان عام 2012، استضافت أنقرة مفاوضات على مستوى الرؤساء بين حسن شيخ محمود ومحمود أحمد سيلانيو، بحثا فيها أبرز القضايا الجوهرية، وتمخضت عن لقاء الوفدين نتائج عدَّة، كان من أهمها: الموافقة على إمكانية أن تتلقي أرض الصومال المساعدات من المنظمات الدولية؛ ما يعني اتصالًا مباشرًا مع منظمات دولية ودول أوروبية، وهو البند الذي وُظِّف لاحقًا داخل أرض الصومال، كأنه مكسب سياسي جَنَتْه صومالي لاند من مفاوضاتها المباشرة مع الصومال، وحققت خلاله اتصالًا مباشرًا مع العالم الخارجي. 
     
  • أما إسطنبول فاحتضنت ثلاثة اجتماعات بين الوفود الصومالية من الصومال وصومالي لاند؛ حيث عُقد الاجتماع الأول في 9 من يوليو/تموز عام 2013، وقد دار النقاش حول إمكانية استعادة المجال الجوي للصومال بشكل عام، والذي كان يتم التحكم فيه من نيروبي من قبل موظفين من الأمم المتحدة، بينما التأم الاجتماع الثاني في 16 من يناير/كانون الثاني عام 2014، وكان النقاش يدور حول آلية استعادة المجال الجوي، والتنديد بالمجازر التي نفذها نظام الحكم العسكري السابق على الصومال، وخاصة في المناطق الشمالية في البلاد عام 1988. أما الاجتماع الثالث فقد كان في يناير/كانون الثاني عام 2015، لكن انتهى هذا الاجتماع بفشل كبير بعد أن عَلَتْ لغة اللوم والتهم بين الوفدين؛ حيث إن الوفد الصومالي تضمن أعضاء تنحدر أصولهم من "صومالي لاند" وخرق ما اتُّفق عليه سابقًا وخاصة فيما يتعلق بالمجال الجوي.
     
  • أما الجولة الرابعة من المفاوضات فقد عُقدت في جيبوتي، في ديسمبر/كانون الأول عام 2014، والتي حضرها الرؤساء من الطرفين، لكن هذا الاجتماع لم يحقق أيضًا، الكثير من أهدافه، بل جاء تأكيدًا على ما اتُّفق عليه سابقًا، وخاصة فيما يتعلق بعدم تسييس البرامج الإنسانية والإنمائية(11).

لكن ما لا يختلف عليه اثنان، أن المفاوضات التي جرت بين الجانبين، لم تناقش القضايا الجوهرية والعلاقات المستقبلية ومصير الوحدة ومسار المفاوضات في الصومال، بل كانت تدور فقط حول دهاليز قضايا لا تمس المعضلة الرئيسية القابعة في التفاصيل، وهي الانفصال، ما أدى إلى عدم التوصل إلى نتائج وأهداف حقيقية بين الأطراف الصومالية.

3. فترة حكم الرئيس الحالي، محمد فرماجو (2017- حتى الآن)
في فترة الرئيس الحالي، محمد عبد الله فرماجو، يسود الجمود حاليًّا بين الطرفين، نتيجة سياسات فرماجو التي يعلوها خطاب القومية الوطنية وروح العواطف الجياشة، فقد كان شعار الرجل أنه يحمل راية الوحدة للصوماليين شمالًا وجنوبًا، وهو خطاب ربما خلق فزَّاعة في ذهنية السياسي الصومالي في أرض الصومال، الذي ما فتئ يسعى إلى اتخاذ مسافة من مقديشو، وهو ما عكسه رئيس صومالي لاند في خطابه السنوي، عام 2019؛ حيث قال: إن الرئيس الحالي في الصومال يحمل كرهًا وعداء لم يشهده مسار العلاقات بين الجانبين(12)، وذلك بسبب سياسات الحكومة الصومالية الفيدرالية تجاه الأنظمة الفيدرالية التابعة لها، وأرض الصومال، وفرض سياسة جديدة مردها عدم بناء علاقات خارجية دون الرجوع إلى مقديشو.

على الرغم من أن "فرماجو" دعا في أكثر من خطاب له إلى بدء المفاوضات مع صومالي لاند، لكن دعواته لم تلق آذانًا صاغية بعد، كما لم يحقق اجتماعه الأخير برعاية آبي أحمد في أديس أبابا مع رئيس أرض الصومال، موسى بيحي، نتائج تُذكر، ولم تمهد أيضًا لعقد اجتماع بين الأطراف الصومالية ولو على مستوى الوفود. 

يمكن القول: إن فترة حكم الرئيس فرماجو كانت هي الأقل حظوظًا وفرصًا في عقد لقاءات بين الجانبين، بل أبعدت القضية عن مسار المفاوضات ونحو التراشق بالكلام والتصريحات الحادة بين الأطراف الفاعلة في الصومال عمومًا. إذن، ما أسباب فشل المفاوضات الإقليمية منها والدولية؟

أسباب فشل المفاوضات الإقليمية والدولية
تكمن عدة أسباب جوهرية تعرقل مسار أي تفاوض مستقبلي يتمخض عنه نتائج ملموسة تتوصل إليها الوفود الصومالية هنا أوهناك، ويمكن سرد تلك الأسباب في النقاط الآتية: 

  1. بين الوحدة والانفصال: يتمسك أطراف ووفود أرض الصومال بخيار الانفصال عن جنوبه، كمشروع شعبي تم الاستفتاء عليه عام 1998، وحظي بأغلبية ساحقة، وأن الحكومات في أرض الصومال، تمثِّل خيار الشعب، وتسعى لتحقيق استقلال تام وإدارة ذاتية الحكم لا تمتُّ للجنوب بصلة تُذكر، لكنه خيار يرفضه بشدة الجنوب متمثلًا في الحكومة المركزية الفيدرالية والشعب الصومالي، هربًا من "البلقنة" كمصير مجهول للقومية الصومالية. 
     
  2. غياب الرؤية والأجندات: تجتمع الأطراف الصومالية، دون أن تحمل أجندات وسياسات واضحة لكلا الطرفين، سوى التمسك بالانفصال كخيار للشمال مقابل الوحدة للجنوب، ما يشبه الدوران في دائرة لا بداية لها ولا نهاية.
     
  3. غياب دور الوسيط الإقليمي أو الدولي: في أحيان كثيرة تلعب الدول والمنظمات دورًا فعالًا في تقريب وجهات النظر بين المعارضة أو الحكومة أو بين الجماعات والحكومة، وتنجح تلك الوساطة الدبلوماسية سواء عبر ممارسة الضغط على أحد الأطراف للتنازل عن بعض مساعيه، وقبول التفاوض مع شروط الطرف الآخر. في الحالة الصومالية، يبدو أن دور الوسطاء غير فعَّال، فتركيا وجيبوتي لا تريدان التعمق في عمق المفاوضات بين الأشقاء في الصومال، وتبديان تحفظًا على المشاركة في إقناع الأطراف الصومالية بالتفاهم فيما بينها. 

مهما تعددت أسباب فشل المفاوضات فإن قضية انفصال صومالي لاند ليست أبعادها وتداعياتها محلية أو إقليمية بل تتعدى جغرافية القرن الإفريقي، وتحمل في طياتها نظرية "المعالجة والمعاناة"، وهناك رأي سائد حاليًّا بأن الانفصال لا يقلِّل دائمًا من العنف وعدم الاستقرار، بل قد يدفع انفصال إقليم عن جسد الدولة إلى مطالبة أقاليم أخرى بالانفصال، ويفتح الباب أمام معاناة جديدة تطيل أمد العنف. لتنطبق هذه النظرية تمامًا على المعضلة الصومالية، فإذا نجحت المفاوضات في انفصال صومالي لاند، ستذهب ولايات أو أقاليم أخرى نحو هذا المسار حتمًا.

الخيارات الممكنة والسيناريوهات المتوقعة
لا تتوافر حاليًّا، لدى الأطراف الصومالية والفاعلة في الأزمة بين الإقليمين أية خيارات تُذكر سوى انتظار انتهاء فترة الرئيس الصومالي، محمد عبد الله فرماجو، والترقب لما ستؤول إليه أوضاع الشطر الجنوبي، لاستئناف العلاقات وإنهاء حالة الاحتقان والتوتر السياسي بين الطرفين؛ حيث أعلن موسى بيحي رئيس أرض الصومال عن تجميد المفاوضات مع الحكومة الصومالية في مقديشو(13).

تكمن هناك ثلاثة سيناريوهات لمستقبل المفاوضات بين الجانبين والتي تسير في الوضع الراهن في مسار وعر ونحو مستقبل مجهول، وهي كالتالي: 

  1. استمرار الوضع على ما هو عليه: وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا في المرحلة الراهنة والقادمة ما لم يتمخض عن الرئاسيات المقبلة رئيس جديد وحكومة أخرى تعزف لحن الاعتدال مع الأشقاء في الشمال، لكن ما هو مرجح حاليًّا أن يبقى الجمود سيد الموقف بين الشطرين، الشمالي والجنوبي. 
     
  2. استئناف المفاوضات: يرى البعض من المحللين أن دولة إقليمية، وخاصة إثيوبيا، بإمكانها حاليًّا دفع الجانبين نحو الجلوس إلى طاولة المفاوضات مجددًا، كما أن تركيا التي رعت المفاوضات السابقة ترغب في استئناف التفاوض بين الجانبين، على أمل تحقيق إنجازات تردم الهوة بين الصومال وصومالي لاند. 
     
  3. تدخل إقليمي أو دولي: يذهب البعض من المحللين إلى القول بأن حالة الفشل التي تهيمن على مسار المفاوضات بين الجانبين لن تستمر طويلًا، فمن المتوقع أن تتدخل دول أوروبية أو إقليمية لممارسة ضغوط على الجانبين، لبدء المفاوضات والاتفاق على بنود وأهداف واضحة، ستحدد مصير العلاقات المستقبلية وشكل الدولة الموحدة بين الجزأين، أو الانفصال التام لـ"أرض الصومال"، من خلال تنظيم استفتاء جديد في المنطقة بمراقبة دولية مثل نموذجي السودان، عام 2011، وإريتريا، عام 1993. 

من الواضح للعيان، أن مستقبل المفاوضات بين الجانبين غامض حتى هذه اللحظة، فليست أرض الصومال تقبل التنازل عن مطالبها الشرعية لتقرير مصيرها والانفصال عن بقية الصومال، كما أن حكومة مقديشو أو أي رئيس صومالي جديد لن يقبل فكرة الانفصال، ففي ظل وجود هذا التباين، فإن المفاوضات القادمة لن تحقق نتائج تذكر آجلًا أو عاجلًا. 

خلاصة 
يمكن القول في نهاية المطاف: إن الصومال يواجه حاليًّا بشكل عام تحدي بناء الدولة في الحقبة ما بعد الحرب الأهلية، وتحقيق وحدة شمولية ترسخ ركائز الهوية الوطنية للمجتمع الصومالي شمالًا وجنوبًا، لكن حالة الغبن الشديدة والسائدة في الشمال التي جاءت نتيجة الشحن المقصود من الأطراف السياسية في أرض الصومال وبثها في ذهنية المواطن البسيط في صومالي لاند، أتت بنتائج عكسية على أي مشروع قومي للوحدة مع الجنوب مستقبلًا؛ ما يفسر تطور فكرة الانفصال، وأخذها منحى تصاعديًّا ينسف الجهود الراهنة والمستقبلية لكلا الطرفين.

من مبدأ "ما لا يُدرك كُلُّه لا يترك جُلُّه" فإن المفاوضات بين الجانبين هي الطريق الآمن والمستقبل الواعد للشمال والجنوب، فتوقفها لا يعنى بالضرورة استحالة استئنافها مجددًا، وهي وحدها التي يمكن أن تضمن مستقبلًا لـ"أرض الصومال" أي طلاقًا أبديًّا أو وحدة طوعية مع نصفه الآخر. أما تجربة الخيارات الأخرى للبحث عن الاعتراف في كومة من القش مجهولة النتائج، فلن تحقق للسواد الأعظم في صومالي لاند شيئًا يُذكر، بينما التهديدات والضغط من قبل مقديشو على هرجيسا، ستكون مغامرة سياسية لا تُحمد عقباها، فالحوار وحده يُبقي الخيارات ممكنة والبدائل متاحة للجميع أمام طاولة المفاوضات.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) إبراهيم عبدي، محمد، صومالي لاند بين الانفصال والعودة للوحدة، مركز الجزيرة للدراسات، 10 مارس/آذار 2015، (تاريخ الدخول: 2 مارس/آذار 2020):
https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2015/03/20153108547881375.html
(2) أرض الصومال.. حلم الانفصال: الواقع والتحديات، الصومال الجديد، 27 أغسطس/آب 2018، (تاريخ الدخول 2 مارس/آذار 2010):  https://bit.ly/2TuFZVv 
(3) الزهراء علي، فاطمة، التطلعات الانفصالية بين التنظير والواقع، ساسة بوست، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 3 مارس/آذار 2020):  https://bit.ly/2VQ5DoT 
(4) عبدي، محمود، مفاوضات الصومال وأرض الصومال: رهان على عامل الـوقت، السفير اللبنانية، 13 فبراير/شباط 2013، (تاريخ الدخول: 3 مارس/آذار 2020):  https://bit.ly/2ImhqUj 
(5) حلني، علي، أرض الصومال... رحلة البحث عن الاعتراف، جريدة الشرق الأوسط، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، (تاريخ الدخول 3 مارس/آذار 2020):  https://bit.ly/2TBohhK 
(6) مرجع سابق، فاطمة الزهراء علي، التطلعات الانفصالية بين التنظير والواقع.
(7) مرجع سابق، أرض الصومال.. حلم الانفصال: الواقع والتحديات.
(8) مستقبل المفاوضات بين الصومال وصومالي لاند: سيناريوهات وتوقعات، موقع عين إفريقيا، 10 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 4 مارس/آذار 2020):  https://africaeye.org/2018/10/3440 /
(9) مرجع سابق، علي حلني. 
(10) خليل، محمود، الإمارات ترعى توقيع ميثاق المصالحة بين الأطراف الصومالية، الاتحاد الإماراتية، يونيو/حزيران 2018، (تاريخ الدخول 4 مارس/آذار 2020):  https://bit.ly/2PPK9oi 
(11)- Muhumed Mohamed Muhumed, The Somaliland-Somalia Talks in 2012-2015, Institute for Somali Studies, Academic Journal for Somali Studies,  Volume 4, 2019, pp.15-17.
(12)- Madaxwayne Muuse Biixi oo ka hadlay Gudigi Farmaajo Magacaabay iyo Dhoofka xoolaha, SAAB TV, Jul 19, 2019, https://www.youtube.com/watch?v=7qjg7PRQPo0 
(13) ابتدون، الشافعي، أرض الصومال.. ثمن الشراكة مع الإمارات، العربي الجديد، 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، (تاريخ الدخول 5 مارس/آذار 2020): https://bit.ly/2wx8VD0