خريطة النزاع حول النفط بين دولتي السودان (الجزيرة) |
استعادة دولة السودان الشمالية منطقة هجليج النفطية من قبضة دولة السودان الجنوبية يعيد الأوضاع بينهما إلى توازن هش سابق يمكن أن ينفجر مجددا، فالحرب كانت هذه المرة حول ملف خلافي عالق يتعلق بالنفط، فجوبا بالجنوب لا تزال تبحث عن مخرج آخر غير دولة السودان الشمالي لتصريف ثروتها النفطية كي تواجه مشاكلها الداخلية أساسا، والخرطوم لا يزال لم يستعد توازنه الاقتصادي بعد فقدانه لمعظم ثروته النفطية نتيجة انفصال دولة جنوب السودان. وخلف هذا النزاع على مداخيل النفط، توجد خلافات أخرى لا تقل أهمية لم تتم تسويتها لحد الآن، وقد تهدد مجددا التوازن الهش بين البلدين.
نزاع مستمر
من الواضح أن "اتفاقية السلام الشامل" أنهت فصلاً من النزاع, ولكنها لم تحسم الصراع على مستقبل الحكم في السودان بسبب استمرار جدلية العلاقة بين هيمنة المركز وتهميش الأطراف؛ فالجنوب القديم انفصل, وبرز "جنوب جديد" استدعى كل إرث النزاع السابق بما في ذلك الحرب, وغذّاها التنافس على استحواذ الموارد الاقتصادية خاصة النفط الذي تتركز حقوله على خطوط تماس حدود الشمال والجنوب, فضلاً عن أن الانفصال حدث قبل الوصول إلى اتفاق حاسم بشأن تقسيم تركة السودان الموحد وفك اشتباك المصالح المتداخلة.
حروب تحت ظلال السلام
لم تكن معركة منطقة هجليج النفطية التي فرض الجيش الشعبي سيطرته عليها في العاشر من إبريل/نيسان 2012 أول الحروب بين الطرفين تحت ظلال السلام.
فقد كانت أولى تلك المعارك الكبرى بين الجيش السوداني والجيش الشعبي بعد شهرين فقط من توقيع اتفاق مجاكوس الإطاري المؤسس لاتفاقية السلام الشامل في 20 يوليو/تموز 2002, حين احتلت قوات المتمردين مدينة توريت عاصمة شرق الاستوائية بجنوب السودان, وتمكن الجيش السوداني من استعادة المدينة قبل استئناف المفاوضات بعد التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار برعاية المبعوث الرئاسي الأميركي للسلام جون دانفورث في 17 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه.
صمد اتفاق وقف إطلاق النار طوال سنوات التفاوض حتى التوقيع على الاتفاق النهائي للسلام في 9 يناير/كانون الثاني 2005, واستمر كذلك خلال السنوات التالية إبان الفترة الانتقالية ليشهد منتصفها في مايو/أيار 2008، أول خرق كبير لوقف إطلاق النار بحدوث اشتباكات عسكرية عنيفة بين الطرفين في منطقة أبيي الحدودية المتنازع عليها.
وتواصلت التوترات لتجتاح القوات المسلحة السودانية المنطقة عسكريًا في 30 مايو/أيار 2011، قبل أسابيع من نهاية الفترة الانتقالية واستقلال دولة جنوب السودان في 9 يوليو/تموز 2011.
في غضون ذلك، عادت الحرب الأهلية في ولاية جنوب كردفان إثر تمرد قوات الجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية بشمال السودان في 6 يونيو/حزيران 2011, بعد خلاف حول نتائج انتخابات الولاية التي أُعلن فيها فوز مرشح حزب المؤتمر الوطني الحاكم، أحمد هارون، بفارق ضئيل من مرشح الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو.
وفي سبتمبر/أيلول 2011، اندلع قتال آخر في ولاية النيل الأزرق؛ حيث بادرت القوات المسلحة السودانية إلى شن حرب استباقية على الحركة الشعبية/الشمال بزعامة مالك عقار حاكم الولاية الذي فاز في الانتخابات العامة التي أُجريت في إبريل/نيسان 2010.
حروب "الجنوب الجديد"
دشنت الاشتباكات العسكرية الثلاث بين الطرفين في أبيي وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق, ما بات يُعرف بعودة الحرب الأهلية إلى "الجنوب الجديد" في شمال السودان.
ويُشار إلى أن هذه المناطق الثلاث تقع شمال حدود 1956, تاريخ استقلال السودان, التي اعتُمدت في اتفاق مجاكوس الإطاري كحدود مرجعية في تعريف الشمال والجنوب, إلا أن الوفد الحكومي السوداني في مفاوضات السلام وافق على الرغم من ذلك على الدخول في مفاوضات مستقلة عن وساطة "إيقاد" حول مستقبل ما بات يُعرف بالمناطق الثلاث، في مسار مستقل برعاية كينية استجابة لضغوط زعيم الحركة الشعبية الراحل جون قرنق الذي اشترط أن يتضمن اتفاق سلام شامل اتفاقًا حول وضعية هذا المناطق التي كان عدد كبير من مقاتلي الجيش الشعبي ينتمون إليها، وكذلك عدد من كبار قادة الحركة الشعبية؛ مما أدى إلى نقل الحرب الأهلية التي كانت مقتصرة على الجنوب لأول مرة إلى مناطق في شمال السودان. كما طالب بأن تشترك في حصد ثمرات السلام بعدما شاركت في النضال ضد المركز.
تصدير أزمة الجنوب للشمال
أُبرم برتوكول "حسم النزاع في ولاية جنوب كردفان/جبال النوبة, وولاية النيل الأزرق" على نسق اتفاقية السلام، وتضمّن نصوصًا غامضة دعت إلى إجراء "المشورة الشعبية", المرادفة لحق تقرير المصير الذي مُنح للجنوب, عبر سلطتين تشريعيتين منتخبتين في الولايتين للموافقة على "الترتيبات الدستورية والسياسية والإدارية التي أقرتها الاتفاقية أو تصحيح أي قصور فيها عبر التفاوض مع الحكومة القومية بغرض استكمال النقص"، بجانب تسريح وإعادة دمج مقاتلي الجيش الشعبي في المنطقتين بمساعدة المجتمع الدولي. وكلا الأمرين لم يتم تنفيذهما خلال الفترة الانتقالية، خاصة مسألة وضعية مقاتلي الجيش الشعبي من الولايتين الذين يُقدَّر عددهم بنحو ثلاثين ألف مقاتل, وأدى ذلك الوضع الضبابي غير المحسوم إلى خلق مبررات لعودة الحرب الأهلية.
وزاد الأمر تعقيدًا أن انفصال الجنوب لم يؤد تلقائيًا إلى غلق ملف الصراع بين الشمال والجنوب, بسبب أن طائفة من قادة الحركة الشعبية من الشماليين الذين انضموا إليها، تجاوبًا مع رؤية زعيمها الراحل قرنق القومية المناهضة للانفصال والداعية لـ"سودان جديد" موحد على أسس جديدة تُعيد تشكيل توازن القوى في العلاقات المختلة بين "المركز المهيمن والأطراف المهمشة", اعتبروا أن انفصال الجنوب لا يسلبهم حقهم في الدعوة لـ"السودان الجديد" داخل كيان الشمال حتى بعد التقسيم, ونحتوا تعبير "الجنوب الجديد" للإيحاء باستمرار الأزمة الوطنية السودانية في العلاقة بين المركز والأطراف الجديدة, وأن استقلال الجنوب لا يعني أن القضية قد حُلّت, وسارعوا إلى تشكيل تحالف الجبهة الثورية السودانية مع حركات دارفور المسلحة الرافضة لاتفاق الدوحة للسلام لإعطاء بُعد قومي لتمرد قوى الهامش الجديد, واستفادوا من القوة المقاتلة للجيش الشعبي خاصة من أبناء جبال النوبة الذين لم يتم حسم وضعيتهم بالتسريح وإعادة الدمج, واستطاعوا من خلال قواعدهم في منطقة جبال النوبة الاستفادة من طبيعة المنطقة الجغرافية في شنّ حرب عصابات, وفي الحصول على الدعم من قواعد خلفية داخل دولة جنوب السودان.
أبيي: نار تحت رماد المحكة الدولية
أما المنطقة الثالثة: أبيي, المتنازع عليها بين قبائل المسيرية الرعوية ودينكا نقوك الجنوبية، ينسحب عليها ذلك النزاع حول تبعيتها للشمال أو الجنوب, فقد اعتُبِرت على نطاق واسع بمثابة قنبلة موقوتة شبيهة بسيناريو النزاع الهندي-الباكستاني على كشمير.
وكان بروتوكول حسم النزاع حولها قد عُرِض في مقترح قدّمه المبعوث الأميركي دانفورث وقبِله الطرفان كأساس للتسوية, وقد أُوكل إلى لجنة خبراء تعيين حدودها, ثم إجراء استفتاء لتحديد تبعيتها لأي من الطرفين, ورفضت الخرطوم تقرير الخبراء الذي اعتبرته منحازًا لوجهة النظر الجنوبية, فأحيل بعدها ملف النزاع إلى محكمة التحكيم الدولية بلاهاي التي قضت في يوليو/تموز 2009 بإعادة ترسيم حدود منطقة أبيي, وهو حكم رغم اتفاق الخرطوم وجوبا مسبقًا على الالتزام بمقتضاه, إلا أن الطرفين لم يلتزما به.
وقد عارض القاضي عون الخصاونة, رئيس الوزراء الأردني الحالي, وكان أحد خمسة قضاة شكّلوا هيئة المحكمة, الحكم الذي أصدرته بموافقة زملائه الأربعة, حيث وصف قرار الأكثرية بأنه "غير مقنع، مليء بالتناقضات، مدفوع برغبتهم في الوصول إلى حل وسط يعطي للسودان بعضًا من حقوقه في النفط ولكنه لا يأخذ بعين الاعتبار حقوق القبائل العربية في جنوب كردفان"، وحذّر من مغبة الحكم التوافقي الذي أصدرته المحكمة لأنه سيؤدي إلى اندلاع صراع مسلح في المنطقة.
ولم يمض إلا أقل من عام على حكم محكمة التحكيم الدولية بشأن أبيي, حتى تحقق ما حذر منه الخصاونة, وعاد الصراع المسلح بين الطرفين ليجتاح الجيش السوداني المنطقة, قبل أن يتم الاتفاق على نشر قوات إثيوبية تحت غطاء الأمم المتحدة.
الصراع على هجليج
كان تقرير الخبراء المرفوض من الخرطوم أدخل منطقة هجليج النفطية في منطقة أبيي, غير أن الحكم التوفيقي الصادر عن هيئة التحكيم أعاد رسم خريطة المنطقة مقلِّصًا مساحة المنطقة التابعة للجنوب، فحكم بذلك بتبعية هجليج النفطية للشمال, غير أن رياك مشار, نائب رئيس دولة جنوب السودان حاليًا, أعلن تحفظه على إضافة منطقة هجليج النفطية للشمال قائلاً: إنها تتبع ولاية الوحدة الجنوبية التي توجد بها حقول النفط الرئيسية, وقال: إن الحركة ستطالب بإعادة ضمها عند ترسيم الحدود.
لم تكن هجليج محل جدل إبان المفاوضات بين الطرفين في لجنة ترسيم الحدود التي توصلت لاتفاق على ثمانين بالمائة، فيما عدا خمس مناطق من الخط الحدودي البالغ طوله نحو ألف وثمانمائة كيلومتر.
آمال سلام مجهضة
في أواخر مارس/آذار 2012، ارتفعت الآمال باقتراب تجاوز الخلافات حول القضايا العالقة بعد توقيع مفاوضي الطرفين اتفاقًا إطاريًا في أديس أبابا بوساطة إفريقية يقودها الرئيس جنوب الإفريقي السابق ثابو مبيكي, وكان الطرفان وقّعا، في فبراير/شباط 2012، معاهدة عدم اعتداء. وكان من المفترض أن تنعقد قمة بين الرئيسين عمر البشير وسلفاكير في جوبا مطلع إبريل/نيسان 2012، لتعبيد الطريق أمام التسوية النهائية. وفيما كانت الاستعدادات تجري للقمة أعلن الرئيس سلفاكير على نحو مفاجئ في 26 مارس/آذار 2012 أن الجيش الشعبي استرد منطقة هجليج بالقوة، لافتًا إلى أنه كان يفضل أن يحدث ذلك بالتفاوض, وقد اتضح لاحقًا أن اشتباكات محدودة وقعت بالفعل ولكن الجيش الشعبي لم يسيطر على هجليج, وكان ذلك كافيًا لتقوية موقف جناح الرافضين في الخرطوم لاتفاق أديس أبابا.
تصاعدت إثر ذلك حدة الاشتباكات العسكرية وتبادل الاتهامات, لتصل إلى ذروتها باجتياح الجيش الشعبي لمنطقة هجليج النفطية.
هجليج: قلب الصناعة النفطية
تُعتبر هجليج مركز الصناعة النفطية الرئيسي في السودان, ففضلاً عن إنتاجها لنحو ستين ألف برميل يوميًا تشكّل أكثر من نصف إنتاج السودان النفطي بعد الانفصال، وهو المقدر بنحو مائة وخمسة عشر ألف برميل, تكتسب أهمية إضافية بوجود المنشآت الأساسية للصناعة النفطية مثل محطة المعالجة الرئيسية, ومحطة الضخ الأولى في الأنبوب الناقل للنفط لمسافة ألف وستمائة كيلومتر إلى موانئ التصدير على البحر الأحمر, وهذه المنشآت تمثل الأهمية نفسها لدولة جنوب السودان حيث تستخدمها لمعالجة ونقل نفطها المنتج في ولاية الوحدة المجاورة والذي يقدَّر بنحو ثلاثمائة وخمسين ألف برميل يوميًا.
وأسوأ سيناريو كان جرّاء حرب السيطرة على هجليج أن يحدث تدمير لمنشآت الصناعة النفطية فيها, مما يعود بعواقب اقتصادية وخيمة على الطرفين, كما يلحق الضرر بالصين وماليزيا والهند الدول التي استثمرت أربعة عشر مليار دولار في الصناعة النفطية السودانية, كما أن بكين, المستثمر الأكبر بينها, ستفقد سبعة بالمائة من إمدادها اليومي من النفط المستورد.
قلب موازين القوة
تسوق حكومة جنوب السودان حجتين لتبرير لجوئها إلى استخدام القوة العسكرية للسيطرة على منطقة هجليج, الأولى: أنها تابعة للجنوب وتسميها بانثاو, وأن ما قامت به هو استرداد لهذه المنطقة في نطاق مسؤوليتها الدستورية في حماية التراب الوطني والدفاع عن حدودها.
الحجة الأخرى: اتهامها للجيش السوداني باستخدام منطقة هجليج كقاعدة عسكرية لشن هجمات جوية وبرية داخل أراضيها, وتعتبر السيطرة على المنطقة ضرورية لوقف استخدامها من قبل الجيش السوداني في هجماته على ولاية الوحدة الجنوبية الغنية بالنفط.
غير أن إعلان حكومة الجنوب لاحقًا استعدادها للانسحاب من هجليج بشروط، ثم انسحابها الفعلي منها، يرجَّح أنها صعّدت الموقف عسكريًا ودفعه إلى حافة الهاوية لكسر الجمود الراهن في المفاوضات مع الخرطوم, ولاستدعاء تدخل دولي يضغط باتجاه تسوية الملفات العالقة, خاصة مع ازدياد وطأة الضغوط الاقتصادية على جوبا بعد قرارها وقف إنتاج النفط, الذي يشكِّل ثمانية وتسعين بالمائة من موارد موازنتها العامة, على خلفية عدم التوصل إلى اتفاق بشأن رسوم نقل النفط عبر الأراضي السودانية, وهو قرار انتقدته واشنطن حليفتها الرئيسية, ولم تجد حكومة الجنوب الدعم المالي الذي كانت تتوقعه من أصدقائها مما دفعها إلى خلط الأوراق للبحث عن مخرج من هذا المأزق، لكنها لم تحقق هذا الهدف بعد أن استردت دولة السودان الشمالي منطقة هجليج دون شروط.
الشمال مصدوم والجنوب معزول
قادت سيطرة الجيش الشعبي على هجليج إلى ردود فعل اتسمت بالصدمة في الشمال بسبب سهولة سقوط المنطقة على الرغم من أهميتها الاقتصادية الاستراتيجية, وهو ما سبَّب حرجًا بليغًا لقيادة الحكم وللقوات المسلحة وزعزع الثقة الشعبية فيها. كما أن ذلك يزيد من ضغوط الأزمة الاقتصادية الحادة التي تواجه الخرطوم بعد فقدان نحو سبعين بالمائة من الاحتياطات النفطية بانفصال الجنوب. لكن هذا الوضع تغيّر قليلا بعد نجاح قيادة السودان الشمالي في استرداد هجليج بعمل عسكري، فيتعزز بذلك وضع الرئيس البشير وجناح المراهنين على التصعيد في مواجهة السودان الجنوبي. أما ضغط الأزمة الاقتصادية فلا يزال دون حل وسيفرض إكراهاته على القيادتين الشمالية والجنوبية مستقبلا، لأن استقرار حكمهما سيتحدد بالأساس بقدرتهما على مواجهة المشكلات الاقتصادية الداخلية، ولن يستطيعا حلها إلا بالتوصل إلى صيغة مشتركة للتعاون في الشأن النفطي.
وفي المقابل أدت سيطرة الجيش الشعبي إلى تعزيز زعامة الرئيس سلفاكير في الجنوب, وإلى حشد التأييد الشعبي لحكمه، وتعزيز النزعة الوطنية الجنوبية التي لا تزال تعيش نشوة الاستقلال, ويشكّل ذلك عاملاً مهمًا في تخفيف الضغوط على حكومة الجنوب المواجَهة بتحديات بناء الدولة الوليدة, خاصة بعد الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تجابهها بعد قرارها وقف إنتاج النفط. لكن وضع قيادة الجنوب سيهتز قليلا بعد انسحابها من منطقة هجليج، فالمراهنة عليها وخطابها حول مبررات الحرب سيبدوان فاقدين للمصداقية، وسينصرف اهتمام الجنوبيين إلى القضايا الداخلية، وفي مقدمتها القضية الاقتصادية الاجتماعية، ولن يتمكن قادة السودان الجنوبي من مواجهتها إلا بحل مشكلات المداخيل البترولية.
على أن حرب هجليج جعلت دولة السودان الجنوبي تقع في عزلة دولية، فمن جهة أجهضت آخر محاولات الوساطة الإفريقية بقيادة مبيكي لإنقاذ المفاوضات المتعثرة, حيث رفضت الخرطوم العودة للتفاوض قبل استعادة سيطرتها على هجليج.
ولم تحظ سيطرة الجيش الشعبي على هجليج بأي تأييد خارجي, بل سارعت كل الأطراف الدولية الفاعلة إلى مطالبتها بالانسحاب بدون شروط, بما في ذلك الولايات المتحدة, والاتحاد الأوروبي, ومجلس الأمن الدولي، وهي أطراف ظلت الخرطوم تتهمها بالتحيز, وهي المرة الأولى التي تجد حكومة البشير موقفًا دوليًا جامعًا مؤيدًا لها في شأن علاقتها الجنوب.
المستقبل: اتفاق شامل أو استنزاف دائم
في ضوء هذه التفاعلات تتأرجح مآلات مستقبل الصراع بين دولتي السودان حول ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول والأرجح: العودة إلى طاولة المفاوضات في نهاية المطاف لحسم القضايا العالقة, بيد أن ذلك يعتمد على عدة عوامل:
-
أولاً: استعادة الخرطوم سيطرتها على هجليج؛ كما حدث بالفعل، فاسترداد المنطقة يعد معركة مصيرية لحكومة البشير ليس فقط لإعادة التوازن لموقفها التفاوضي, وللاعتبارات الاقتصادية الملحة, بل كذلك لاعتبارات توازنات السيطرة على الحكم، فالرئيس البشير المستند على القوات المسلحة يحتاج لانتصار عسكري تستعيد به تلك القوات وزنها المرجح في لعبة السلطة الذي اهتز بسبب عجزها عن حماية المنطقة الاستراتيجية الأكثر أهمية.
-
ثانيًا: إعلان حكومة جنوب السودان, تحت ضغوط دولية, انسحابها من هجليج، وهو ما أعلنته بالفعل جوبا.
-
ثالثًا: العودة للتفاوض لن تعني بالضرورة التوصل إلى حلول تلقائية عاجلة للقضايا العالقة ما لم يتم تغيير نهج التفاوض وفريق الوسطاء, فمن الواضح أن نهج تجزئة الحلول لم يعد مجديًا في غياب نهج تسوية شاملة متكاملة للقضايا العالقة كافة على صعيد واحد يوازن مصالح ومكاسب الطرفين؛ فوجود فريق وساطة جديد يتمتع بثقل ووزن دولي ودعم حاسم أصبح عاملاً ضروريًا لرؤية مفاوضات تفضي إلى حلول ناجعة بعدما وصلت الوساطة الإفريقية إلى طريق مسدود.
ويرجح هذا السيناريو أن الصين حليفة الخرطوم تجد مصلحتها النفطية في توافق السودانيين، والسودانان لهما مصلحة في إعطاء الملف النفطي أولوية في العلاقات بينهما والتوصل إلى تعاون بخصوصه، وأمريكا تولي كذلك أهمية للتعاون بين البلدين في هذا الشأن لأن من مصلحتها أن يستقل السودان الجنوبي بمداخيله حتى يتمكن من تعزيز جبهته الداخلية.
الاحتمال الثاني
بروز حالة لا سلم ولا حرب مع استمرار حدة العداء والاشتباكات المحدودة, تستدعي نموذج الصراع الإثيوبي-الإريتري: انفصال فحرب فعداء وعدم حسم للنزاع لأكثر من عقد.
الاحتمال الثالث
الانزلاق إلى حرب شاملة بين دولتي السودان, ومع توافر العوامل التي يمكن أن تقود إلى ذلك بتداعيات غير مسيطر عليها إلا أنه يبقى احتمالاً محدودًا؛ فالطرفان يدركان أن كلفة التورط في حرب شاملة أكبر من قدرتهما على احتمالهما, كما أن الأوضاع الاقتصادية المتردية للطرفين تجعلها خيارًا انتحاريًا في وقت لا يجد هذا السيناريو تشجيعًا داخليًا, ولا خارجيًا من قوى إقليمية أو دولية مستعدة لتحمل كلفتها.
والخلاصة، يظل التوازن بين دولتي السودان هشا وقابلا للانفجار في أية لحظة، لكن هناك عدة عوامل ترجح إما التعاون بينهما أو منع المواجهة العسكرية من الاتساع، فكل من النظامين يسعى في الوقت الراهن إلى ترسيخ سلطته داخليا، وهما يحتاجان للتعاون للحصول على الكفاية من مداخيل النفط. والقوى الكبرى الرئيسية المعنية، وهما الصين وأمريكا، تريد كل منهما دفع الطرفين للتعاون لأسباب مختلفة، فالصين من أجل الحفاظ على مصالحها النفطية، والولايات المتحدة من أجل حماية النظام الوليد بدولة السودان الجنوبية.