يثير فشل المؤسسات السياسية في العراق في اختيار رئيس جديد لمجلس الوزراء، بدلا من حكومة عادل عبد المهدي المستقيلة، تساؤلات دائمة عن قدرة النظام الساسي في العراق ما بعد 2003 على الاستمرار وسط فشله في التحديات الأساسية التي يواجهها، وأبرزها إدارة البلاد من جهة، وتعرض شرعيته إلى ضرر جسيم بسبب الاحتجاجات الشعبية المستمرة منذ نحو ستة أشهر.
اختار رئيس الجمهورية برهم صالح، محافظ النجف السابق عدنان الزرفي ليكون مكلفا بتشكيل الحكومة بعدما فشل المكلف السابق محمد توفيق علاوي في تمرير حكومته أمام البرلمان، وانسحب من التكليف في آخر يوم من المهلة الدستورية. لجأ صالح إلى خيار الزرفي بعد فشل الأحزاب الشيعية في الاتفاق على مرشح للمنصب خلال المدة الدستورية البالغة 15 يوما. المحكمة الاتحادية أيدت موقف صالح واعتبرته شرعيا، لكن الأحزاب الشيعية رفضت قرار الرئيس ورفضت مرشحه، وما زال الجدل محتدما، وسط أزمة سياسية واقتصادية طاحنة، وتحديات جديدة وقاسية يفرضها تفشي فيروس كورونا، مع هيمنة للقوى المسلحة، وتصعيد في ملف الصراع الأميركي الإيراني داخل العراق بأدوات عراقية.
إن أهم عنصرين لبقاء وفاعلية أي نظام سياسي هما: الدستور والمؤسسات، والدستور العراقي الحالي بوصفه وثيقة سياسية (وليس كما يشاع أنه عقد اجتماعي) اشتمل على عدد كبير من المغالطات والهنات ولم يكن في مواضع عدة متسقا مع أبسط قواعد الفقه الدستوري وهو ما يتضح جليا في عدة نصوص؛ فعلى سبيل المثال تجسد المادة (65) من الدستور إحدى تجليات هذه الشائبة(1)، فضلا عن قابلية نصوصه للتأويل المفرط، وبالتالي جرت العادة أن من يملك القوة في لحظة التأويل، هو القادر على فرض تأويله على الجميع بغض النظر عن مدى صحة ذلك التأويل.
ويبدو أن ثمة عوامل رئيسة أدت إلى ذلك، فالدستور العراقي كتب في ظروف استثنائية مرتبكة وغير مستقرة، وتحت قوة احتلال قادت عملية غزو وتغيير للنظام السياسي، وقد شكلت هي وغيرها من العوامل الأخرى تحولات كبرى عاصفة وغير طبيعية أثرت على نحو كبير في المخرج النهائي للدستور.
من جهة أخرى تعد المأسسة أحد أهم عوامل الاستقرار لدى الأنظمة السياسية ويشير الفقيه تالكوت بارسونز إلى أن المأسسة تعني الاستقرار وحيثما وجدت المؤسسات وجد الاستقرار(2).
بيد أن التجربة العراقية بعد 17 عاما على الاحتلال الأمريكي انتهت بشكل واضح إلى غياب المؤسسات عن النظام السياسي، فما يتوفر في عراق اليوم هو مجرد هياكل لمؤسسات تغيب عنها صفة المؤسسة بمعناها البنيوي الوظيفي، مقابل غلبة الفوضى وهيمنة الأجندات الحزبية، وعدم قدرة الدولة ومؤسساتها المفترضة على الاستجابة الفاعلة للتحديات التي تفرضها متغيرات داخلية وخارجية، مما قاد في النتيجة النهائية الى إفراغ المؤسسات من مضمونها وتحولها إلى مجرد هياكل غير فاعلة(3).
أولاً: النظام السياسي وديمقراطية الواجهة
حينما تغيب العقلانية والرشد عن تأسيس القواعد المنشئة لمرحلة الانتقال الديمقراطي، فإن ذلك سيقود بالضرورة إلى العجز عن بناء نظام ديمقراطي مستدام. بمعنى أن تعثر المرحلة الانتقالية سوف يهدد أي تجربة ديمقراطية ناشئة ويحكم على مصيرها بالفشل.
ولعل ذلك يفسر ما وصلت إليه الحالة العراقية التي انتهت الآن إلى نوع من الديمقراطية الشكلية أو ما يمكن أن نطبق عليه نموذج (ديمقراطية الواجهة). إذ على الرغم من وجود الأدوات الشكلية للعمل الديمقراطي مثل مفوضية للانتخابات وصندوق انتخابي وقانون انتخابي وقانون أحزاب، إلا أنه في واقع التطبيق الفعلي لم يقد ذلك إلى بناء تراكمي يساهم في الإسراع في تحقيق أهداف الانتقال الديمقراطي، ويعود ذلك إلى أن هذه الأدوات قد تم تأسيسها وبناء قوانينها وأنظمتها وتقسيماتها الإدارية وتوزيع المناصب فيها على نحو يضمن إدامة سلطة الأحزاب المهيمنة، لا من أجل بناء منظومة ديمقراطية تجسد نظاما سياسيا ديمقراطيا بما يسهم في صيرورة عملية تنموية سياسية قادرة على ترسيخ المفاهيم الديمقراطية في المجتمع شكلا ومضمونا. وقد كان ذلك نتاج إرادة جماعية أو تواطؤ جماعي للقوى السياسية الفاعلة بمختلف أطيافها وتنوعاتها، اتفقت على الوصول الى هذه المنتج السياسي الذي يضمن الاستحواذ على مخرجات الانتخابات بدلا من أن يعزز أو يضمن التنافسية الانتخابية النزيهة(4).
فضلا عن ذلك فإن مفاهيم حقوق الإنسان واحترام الحريات العامة والعدالة الاجتماعية وغياب القانون بسبب هيمنة المليشيات والمؤسسات الاجتماعية ما قبل الدولة ( كالمؤسستين الدينية والقبلية مثلا) ما زالت محل جدل، وتفاقم ذلك بعد حالة القمع المفرط لحركة الاحتجاج الشبابي التي اندلعت في مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، فانتهاكات حقوق الإنسان أضحت سمة مستمرة والاعتقالات غالبا لا تلتزم بما نص عليه الدستور والمواثيق الدولية، كما أن الفصل بين السلطات يشهد تراجعا بدلا من أن يكون تصاعديا مع تغول مؤسسة الفساد، كما أن الفعل السياسي للقوى السياسية لا يحترم السياقين الدستوري أو القانوني ولا يخضع لهما. هذه المؤشرات وربما عشرات المؤشرات الأخرى تقودنا إلى القول بأن نموذج ديمقراطية الواجهة هو المنتج النهائي لمرحلة الانتقال الديمقراطي في العراق.
ثانياً: في مقدمات نشوء الأزمة السياسية الحالية
لا يمكن عزل تراكم عوامل الفشل في أداء النظام السياسي (نظام دستور 2005) عن الأزمة الحالية التي يعيشها النظام ويجر معه العراق إلى خيارات أحلاها مر.
وأهم ما يسجل على هذا النظام السياسي هو قدرته الفائقة على إنتاج الأزمات وتدويرها، فضلا عن الاعتماد المستمر على العامل الخارجي في حل المعضلات التي تواجهه. وكان الوجود الأميركي منذ عام 2003 لغاية الانسحاب "المسؤول" في نهاية 2011 في عهد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، بمثابة جدار الصد للأزمات المتعاقبة التي مرت على النظام السياسي. فبحكم وجودها على الأرض كانت الولايات المتحدة تملك الجغرافيا، ومن خلال الجغرافيا كانت تتحكم بمعظم أنماط التفاعل السياسي وتفرض الحلول أو تصل أحيانا إلى تفاهمات عبر الاتفاقات الضمنية أو المعلنة مع الطرف الفاعل الآخر في المشهد السياسي العراقي وهو إيران.
غير أن الطبقة السياسية العراقية وجدت نفسها فجأة في خضم صراع داخلي أمام غياب حائط الصد الأميركي، ولم تستطع إيران رغم محاولاتها أن تكون حائط صد بديل، بل على العكس كانت تدخلاتها بمثابة عامل تعقيد للمشهد العراقي الذي وصل إلى أوج أزماته السياسية في الفترة التي أعقبت الانسحاب الأميركي، حيث جرى إبعاد القيادات السنية المؤثرة، وتعامل رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي بتعال ثم بقمع مع حركة الاحتجاج في المناطق ذات الغالبية السنية، ومن بعد ذلك وقع الانهيار الأمني حينما سيطر تنظيم الدولة (داعش) على مناطق شاسعة من العراق.
من جهة أخرى ظلت عملية اختيار رئيس الوزراء العراقي تخضع لعلاقة مركبة، لا علاقة لها بشكل واضح بنتائج الانتخابات أو اتجهاتها، بل بعوامل أخرى أكثر حسما تتمحور في ثلاثية حكمت هذا الاختيار، وهي ثلاثية (واشنطن-طهران-النجف)، وهي ثلاثية تقضي بتجاوز أي (فيتو) من أحد هذه الأطراف الثلاثة كي يمكن تمرير المرشح، وحصوله على المنصب.
بيد أن هذه المعادلة تعرضت للخلل بعد الانسحاب الأميركي، حيث صار لطهران كلمة أقوى وأكثر حسما، لا سيما وأن إيران ملأت الفراغ الأميركي، وسيطرت على مواقع النفوذ الجوهرية، وهو تحول شعرت النجف بخطورته وحاولت تحقيق توازن في المعادلة، وهو ما تجلى على نحو واضح في اختيار رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي في انتخابات 2014 على حساب الرغبة الإيرانية في استمرار رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي في ولاية ثالثة، وتجسد ذلك في الرسالة الموجهة من قبل مرجعية النجف إلى حزب الدعوة بضرورة اختيار شخصية أخرى غير المالكي وهذا ما تم فعلا.
وساهمت عودة القوات الأميركية إلى العراق لقيادة قوات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة في استعادة الولايات المتحدة جزءا من نفوذها في العراق. كان ينظر إلى رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي على أنه قريب من واشنطن، وتمكن من قيادة عمليات التوازن بين الأطراف السياسية وتهدئة غضب الشارع السني والإعلان عن نيته الالتزام بالعقوبات الأميركية على طهران. وبطبيعة الحال كان ذلك سببا كافيا لتعتبره إيران خصما وتعمل على معادلة جديدة تتمثل في دعم قوى سياسية نشأت من فصائل مسلحة منتمية للحشد الشعبي ومعروفة بالولاء لإيران. كان هذا البديل الإيراني محاولة إيرانية لوقف سيطرة القوى السياسية الشيعية التقليدية التي لم تعد قادرة على خدمتها.
وينبغي أن نشير هنا إلى أن النظام السياسي يزداد اعتماده على مؤسسة خارجة عنه ولا تنتمي اليه، ألا وهي المؤسسة الدينية (مرجعية النجف تحديدا)، فالنظام السياسي العراقي المحدد وفق دستور 2005 لا يمنح أي دور سياسي للمؤسسة الدينية، والأدوار موزعة بين السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، ومع ذلك فإن دور المؤسسة الدينية السياسي آخذ بالتصاعد.
ثالثاً: حركة الاحتجاج الشبابي واستقالة عبد المهدي
يمكن القول إن حركة الاحتجاج الشبابي في العراق شكلت مفاجأة للداخل وللعالم ليس في كثافة الكتلة البشرية التي استطاع الشباب حشدها فحسب بل في ديناميتها وتأثيرها الواسع في قطاعات سياسية واجتماعية وثقافية عدة، وهي غير مسبوقة في العراق بهذا الحجم والسعة والانتشار. فقد شكل الشباب عماد الاحتجاجات التي مثلت ذروة التعبير عن الرفض للواقع السياسي والاجتماعي وللنخب الحاكمة، وعبّرت عن الشعور بالمعاناة والتهميش، وعن التطلع لدولة مستقلة وفاعلة وحاضنة لأبنائها، كما كانت الاحتجاجات إعلانا عن ميلاد جيل جديد ذي فاعلية وتأثير.
وكان من بين أبرز مطالب الاحتجاجات وشعاراتها ما يدعو إلى محاربة النفوذ الإيراني لا سيما بعد الاتهامات بأن عناصر إيرانية أو مليشيات تابعة لإيران قد استهدفت المتظاهرين واستخدمت القوة المفرطة ضدهم.
ومما زاد الأمر اضطرابا وتعقيدا أن كل محاولات المحتجين لخرق جدار اللامبالاة من السلطة كانت تجابه بسيل من الاتهامات الجاهزة ومحاولات القمع من قبل السلطات العراقية كآلية دفاع مسبقة للتخلص من عبء الاستجابة للمطالب.
لقد استطاع الشباب في حركتهم الاحتجاجية جلب الانتباه والدعم الداخلي والدولي، وأجبرت المرجعية الدينية في النجف على التخلي عن تحفظاتها وخطاباتها في المنطقة الرمادية إلى المطالب الصريحة باستقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، وهذا ما دفع رئيس الوزراء إلى تقديم استقالته إلى البرلمان في مخالفة للنظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم (2) لسنة 2019 الذي نص على تقديم رئيس مجلس الوزراء استقالته إلى رئيس الجمهورية، وقد تضمن نص الاستقالة أنها جاءت استجابة لمطالب المرجعية(5).
رابعاً: أزمة اختيار رئيس الوزراء والمشروعية الدستورية
يمكن القول إن الأزمة السياسية الحالية المترتبة على اختيار رئيس الوزراء ليست نتاج هذه المرحلة وإن بدا لأول وهلة أنها كذلك، فالأزمة ابتدأت أساسا عام 2010 حين ذهبت المحكمة الاتحادية في قرارها الصادر 25 مارس/آذار 2010 بالعدد (25/ اتحادية/ 2010) ْ ومضمونه أن تعبير (الكتلة النيابية الأكثر عددا) الواردة في المادة (76) من الدستور تعني إما الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من خلال قائمة انتخابية واحدة، أو الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من قائمتين أو أكثر من القوائم الانتخابية، ودخلت مجلس النواب، وأصبحت مقاعدها -بعد دخولها المجلس وحَلِف أعضائها اليمين الدستورية في الجلسة الأولى- الأكثر عددا من بقية الكتل، فيتولى رئيس الجمهورية تكليف مرشحها بتشكيل مجلس الوزراء طبقا لأحكام المادة (76) من الدستور وخلال المدة المحددة فيها(6).
وذهبت آراء عدة صادرة من باحثين ومهتمين بالشأن العراقي، فضلا عن سياسيين، إلى أن هذا القرار جاء لمنع القائمة العراقية التي فازت في 2010 بالانتخابات بالمركز الأول من تشكيل الحكومة بسبب تفسير المحكمة الاتحادية الذي يعد تفسيرا غريبا يناقض جميع التجارب الديمقراطية.
تحول هذا التفسير إلى عقدة سياسية ظهرت بعد انتخابات 2018، حينما ادعى كل من ائتلاف النصر بزعامة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي وائتلاف البناء (بزعامة هادي العامري) أنه هو صاحب الكتلة النيابية الأكثر عددا في البرلمان، ثم جرى التغاضي عن هذا الشرط الدستوري، ليقوم كل من تحالف "سائرون" بزعامة (مقتدى الصدر)، و"الفتح" بزعامة (هادي العامري) باتفاق سياسي اختير بموجبه عادل عبد المهدي مرشحا لمنصب رئيس مجلس الوزراء دون الاستناد إلى "الكتلة النيابية الأكثر عددا" التي كان ينبغي تسجيلها في الجلسة الأولى للبرلمان.
تسبب هذا الاتفاق خارج السياقات السياسية والدستورية بإدخال البلاد في أزمة مشروعية دستورية ظهرت لاحقا حين استقال رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وشرعت القوى السياسية في البحث عن بديل له واختلفت حول صاحب الكتلة الأكبر، والآليات الدستورية التي ينبغي اتباعها، وهو جدل ما زال قائما لغاية الآن(7).
إن أهم ما يسجل على القوى السياسية العراقية هو عدم انصياعها للشرعية الدستورية أو إخضاع سلوكها السياسي للنص الدستوري أو القوانين النافذة في حالات عدة، وبدلا من أن يكون الفعل السياسي متوائما مع النص الدستوري يجري التعالي والقفز على الدستور بذريعة الحفاظ على مسار العملية السياسية، وهو ما ولد سلسلة من الأخطاء لم يعد بالإمكان حلها عن طريق تواطؤ جمعي كما جرت العادة(8).
وبنفس سياقات الخروج عن الدستور جرت عملية اختيار محمد توفيق علاوي وزير الاتصالات السابق في حكومة المالكي، وأيضا من خلال تفاهم بين زعيمي "سائرون" مقتدى الصدر و"الفتح" هادي العامري، لكنه كان هذه المرة تفاهما شخصيا أكثر من كونه مؤسسيا أو حزبيا، وكان ذلك تكرارا لنفس الخلل في تكليف عبد المهدي، وفي كل الأحوال لم يتمكن علاوي من إكمال مهمته نتيجة افتراق في الرؤى بينه وبين ثلاثة كتل رئيسة (اتحاد القوى بقيادة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، ودولة القانون بزعامة نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق، والتحالف الكردستاني بشقيه: الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني) وانضمت إليهم قوى سياسية أخرى استطاعت عرقلة انعقاد جلسة التصويت على الثقة في مجلس النواب ومنع النصاب من الاكتمال.
في النهاية اعتذر محمد علاوي عن إكمال مهمته، لتعود الكرة مرة أخرى إلى رئيس الجمهورية الذي طلب من القوى السياسية الشيعية ترشيح مكلف آخر لرئاسة الوزراء، وهو ما فشلت فيه نتيجة الخلافات التي عصفت بينها على الرغم من محاولات إيرانية لضبط ايقاعها بعد معاناتها من النزاعات بعد غياب أبرز شخصين كانا يقومان بترتيب قرارات هذه القوى وفرضها، وهما الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس اللذان قتلا في غارة أميركية في بغداد مطلع العام الحالي.
وفي الوقت نفسه أرسل رئيس الجمهورية كتابا إلى المحكمة الاتحادية يسأل فيها عن حقه في تكليف مرشح من قبله دون الرجوع إلى الكتل السياسية، وقد أفتت المحكمة الاتحادية بقرارها المرقم (29/اتحادية/2020) الصادر بتاريخ 16 مارس/آذار 2020، بأن المادة (76/ثالثا) التي نصت على أن "يُكلف رئيس الجمهورية، مرشحا جديدا لرئاسة مجلس الوزراء، خلال خمسة عشر يوما، عند إخفاق رئيس مجلس الوزراء المكلف في تشكيل الوزارة"، تعطي لرئيس الجمهورية (الخيار حصريا) بتكليف مرشح جديد لرئاسة مجلس الوزراء وهذا ما عمل عليه رئيس الجمهورية حين كلف محافظ النجف السابق عضو البرلمان الحالي عدنان الزرفي، وهو ما اعترضت عليه معظم القوى السياسية الشيعية الكبيرة (باستثناء سائرون) بوصفه تجاوزا على الحصة الشيعية وعلى "النص الدستوري".
إن انتقال الحق في الترشيح من البرلمان إلى رئيس الجمهورية يتعارض مع سياق عمل الأنظمة البرلمانية نسبيا، حيث يتعلق الأمر بالاستحقاق الانتخابي المباشر عن طريق تكليف الحزب أو الائتلاف الفائز، وفي حال فشله إما أن يتم إجراء انتخابات مبكرة أو تكليف الحزب أو الائتلاف الفائز الثاني، إلا أن نص الدستور العراقي في مادته (76) ثالثا وخامسا وفي المادة (81) ثانيا يحيل هذا الحق حصرا إلى رئيس الجمهورية، وبالتالي فإن العيب هو في النص الدستوري وليس بتفسير المحكمة التي اعتمدت على النص اللغوي من دون الأخذ بالسياق التأويلي الذي يراعي الأسس التي تقوم عليها الأنظمة البرلمانية.
خامساً: تطور الأزمة السياسية: مشاهد متوقعة
تُقدِّم الأوضاع الراهنة في العراق وكذلك طبيعة القوى السياسية المهيمنة، وتجارب العمل السياسي خلال السنوات الماضية منذ غزو العراق، مجموعةً من البدائل المتوقعة على المدى القصير، سواء فيما يتعلق بتشكيل حكومة جديدة، أو فيما يتصل بالتحديات الأخرى التي بات العراق يواجهها بإلحاح.
السيناريو الأول: نيل حكومة المكلف عدنان الزرفي الثقة وهذا يتطلب عقد جلسة للبرلمان بنصاب (165) فما فوق مع أغلبية مطلقة فسرتها المحكمة في قرارها رقم (23) لسنة 2007(9) بأنها النصف زائد واحد من عدد الحاضرين. وحصول تشكيلته الوزارية على النصف زائد واحد على الأقل لمجموع الوزارات، كما يفرض الدستور العراقي التصويت على البرنامج الحكومي أيضا.
السيناريو الثاني: فشل المكلف عدنان الزرفي في نيل الثقة بعد تحقق النصاب (165) بعدم حصوله على الأغلبية المطلقة التي ذكرت أعلاه. وحينها سيتوجب على رئيس الجمهورية تكليف مرشح آخر خلال 15 يوما.
السيناريو الثالث: فشل المكلف عدنان الزرفي في تقديم برنامج حكومته وتشكيلته الوزارية خلال فترة (30) يوما المقررة دستوريا(10)، وهنا سيكون أمام رئيس الجمهورية نفس الخطوة السابقة، أي تكليف مرشح آخر خلال 15 يوما.
السيناريو الرابع: الفشل في تحقيق نصاب البرلمان المطلوب لعقد جلسة للبرلمان (165 نائبا) خلال فترة الثلاثين يوما الدستورية، وهي خطوة قد تدفع رئيس الوزراء المكلف عدنان الزرفي إلى تقديم اعتذاره إلى رئيس الجمهورية كما فعل المكلف السباق توفيق علاوي، أو أن يلجأ إلى المحكمة الاتحادية بوصفه قد قدم برنامج حكومته وتشكيلته الوزارية إلى البرلمان خلال المدة الدستورية، وأنه غير مسؤول عن فشل مجلس النواب في الانعقاد.
السيناريو الخامس: اعتذار رئيس الوزراء المكلف عدنان الزرفي نتيجة ضغوط إيرانية وقوى سياسية شيعية.
السيناريو السادس: حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، وذلك بأن يحل البرلمان نفسه بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بناء على طلب من ثلث أعضائه، أو طلب من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية، ثم يدعو رئيس الجمهورية، عند حل مجلس النواب، إلى انتخابات عامة في البلاد خلال مدة أقصاها ستون يوما من تاريخ الحل(11).
السيناريو السابع: حدوث انقلاب عسكري، وعلى الرغم من استبعاد هذا المشهد إلا أنه يبقى احتمالا قائما.
ويبدو أن السيناريو الأول والثالث هما الأكثر ترجيحا من بين هذه السيناريوهات.
(1) تقول المادة (65) من الدستور العراقي: (يتم إنشـــاء مجلــسٍ تشـــريعـــي يُدعى (مجلس الاتحاد) يضم ممثلين عن الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، وينظم تكوينه، وشروط العضوية فيه، واختصاصاته، وكل ما يتعلق به، بقانون يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب)، وهذا النص لا ينتمي إلى أبسط اشتراطات الفقه الدستوري ومبادئه إذ لا يمكن لمجلس تشريعي أن يسن بقانون.
انظر الدستور العراقي ، المادة (65) http://ar.parliament.iq/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1-%D8%… /
(2) Talcott Parsons,, Structure amd process in modern societies, New York Free Press.1960,PP. 240-241.
(3) يرى كل من جابريل إيه آلموند وجي بنجهام باول الابن أن هناك ثلاثة مفاهيم تتفاعل داخل الدولة وهي النظام والبنية والوظيفة، تؤثر وتتأثر فيما بينها ومع البيئة المحيطة، وأن أي نظام سياسي هو عبارة عن مؤسسات تعنى بصياغة الأهداف العامة. للمزيد انظر:
جابريل إيه آلموند وجي بنجهام باول الابن: السياسات المقارنة في وقتنا الحاضر: نظرة عالمية، ترجمة هشام عبد الله، الطبعة الخامسة، عمان، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، 1998، ص 16-17.
(4) يرى كل من لايري ديموند ومارك ف بلاتنر أن هذه النماذج من الديمقراطيات المتعثرة التي تعاني التراجع أو مرحلة ما بين الديكتاتورية والديمقراطية، يمكن وصفها بعدة أوصاف منها: "الديمقراطية الزائفة"، "الديمقراطية الصورية"، "شبه الديمقراطية"، "الاستبدادية الانتخابية"، "الاستبدادية الانتخابية". انظر: لايري ديموند، ومارك ف بلاتنر (محرران): الديمقراطية أبحاث مختارة، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2016، ص9.
(5) نصت المادة (18) أولا: يقدم الرئيس طلب إعفائه من منصبه الى رئيس الجمهورية، لكن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ناقض ما صادق عليه مجلس الوزراء الذي يرأسه (النظام الداخلي) ونُشِر في جريدة الوقائع العراقية، وذهب إلى البرلمان ليقدم استقالته. للمزيد انظر:
وزارة العدل، جريدة الوقائع العراقية، بغداد، العدد 4533، 23 مارس/آذار 2019، ص 7.
(6) انظر قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم 25/اتحادية 2010 في موقعها الإلكتروني:
https://www.iraqfsc.iq/krarat/2/2010/25_fed_2010.pdf
(7) أرسل رئيس الجمهورية في (19/12/2019) كتابا إلى المحكمة الاتحادية العليا لتحديد الكتلة الأكبر الوارد ذكرها في المادة (76) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005، صباح يوم الأحد 22/12/2019، بكامل أعضائها وأصدرت القرار الآتي:
(إنه بعد الرجوع إلى أوليات تفسيرها لحكم المادة (76) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005، وذلك بموجب قرارها الصادر بتاريخ 25/3/2010 بالعدد (25/اتحادية/2010) والذي أكدته بموجب قرارها الصادر بتاريخ 11/8/2014 بالعدد (45/ت. ق/2014) ومضمونهما أن تعبير (الكتلة النيابية الأكثر عددا) الواردة في المادة (76) من الدستور تعني إما الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من خلال قائمة انتخابية واحدة، أو الكتلة التي تكونت بعد الانتخابات من قائمتين أو أكثر من القوائم الانتخابية، ودخلت مجلس النواب وأصبحت مقاعدها -بعد دخولها المجلس وحَلِف أعضائها اليمين الدستورية في الجلسة الأولى- الأكثر عددا من بقية الكتل، فيتولى رئيس الجمهورية تكليف مرشحها بتشكيل مجلس الوزراء طبقاً لأحكام المادة (76) من الدستور وخلال المدة المحددة فيها).
وبالتالي فإن هذا الرأي لم يأت بشىء جديد وإنما أعاد التأكيد على تفسير سابق عام وهو ما جعل الأزمة مستمرة. انظر تفاصيل القرار في موقع المحكمة الاتحادية العليا الإلكتروني:
https://www.iraqfsc.iq/news.4524 /
(8) يقصد بالمشروعية الدستورية أن يكون السلوك السياسي متسقا مع النص الدستوري لا أن يخالفه أو يتجاوزه تحت أية ذريعة. انظر في هذا المجال: د. منذر الشاوي: فلسفة الدولة الطبعة الأولى، عمان، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، 2012، الفصل الثالث 269-540.
(9) ذهبت المحكمة إلى تعريف الأغلبية المطلقة في قرارها المرقم (23/اتحادية/2007) بالآتي: المقصود بـ(الأغلبية المطلقة) الواردة في المادتين (61/ثامنا/أ) و(76/رابعا) من الدستور هي أغلبية عدد الأعضاء الحاضرين في الجلسة بعد تحقق النصاب القانوني للانعقاد المنصوص عليه في المادة (59/أولا) منه.
وقد قالت المحكمة على لسان متحدثها إياس الساموك بأن الأغلبية المطلقة لعدد الأعضاء -من أجل تحقيق النصاب وفقا لتفسير المحكمة (33/اتحادية/2009)- تبلغ في الدورة الحالية 165 عضوا، وبهذا أصبح لدينا نوعين من الأغلبية المطلقة، الأولى الأغلبية المطلقة المتعلقة بالتصويت، والثانية الأغلبية المطلقة المتعلقة بتحقق النصاب لعقد الجلسة. انظر:
https://www.iraqfsc.iq/news.3803 /
(10) تنص المادة (76/ثانيا) من الدستور على أن يتولى رئيس مجلس الوزراء المكلف تسمية أعضاء وزارته، خلال مدة أقصاها ثلاثون يوما من تاريخ التكليف.
انظر: الدستور العراقي (المادة (76)، مصدر سابق.