زيادة المخاطر: إخفاق الاستراتيجية السعودية في اليمن

لما أعلنت السعودية منذ خمس سنوات الحرب في اليمن كانت تراهن للفوز فيها على قواتها العسكرية وحليفها الإماراتي والتغاضي الدولي لكن ارتباك استراتيجيتها وهشاشة تحالفاتها وتفاقم الوضع الإنساني جعلت التهديدات لأمنها أخطر وقدرتها على درئها أضعف.
28 أبريل 2020
رويترز
خسرت السعودية استراتيجيًا بعد خمس سنوات من بدء عاصفة الحزم (رويترز)

في نهاية 2014، سيطر الحوثيون على صنعاء، وفي بداية 2015، شرعوا في التقدم إلى عدن(1) لأجل ثلاثة أهداف: أولًا: السيطرة على أكبر مدينة يمنية حتى لا تتحول إلى مركز للمقاومة. ثانيًا: منع الرئيس، عبد ربه منصور هادي، من جعلها عاصمة مؤقتة يدير منها حكومته، ويعيد تجهيز نفسه لاستعادة المناطق التي ضاعت منه، والعودة مجددًا إلى صنعاء. ثالثًا: جعلها عاصمتهم الاقتصادية.

أفزعت هذه التطورات العربية السعودية التي تعتبر سيطرة الحوثيين على كامل اليمن خطرًا على أمنها لأنه سيتحول إلى دولة معادية ملاصقة للمناطق الرخوة بالمملكة، وهي المناطق الجنوبية الغربية. أما أسباب العداوة فعديدة: التناقض الأيديولوجي بين الطرفين، والعداوة الناتجة عن دعم السعودية التقليدي للرئيس، علي عبد الله صالح، في حروبه العديدة مع الحوثيين، كان آخرها حرب 2009 التي شهدت مشاركة السعودية في العمليات القتالية(2)، والتقارب الحوثي-الإيراني الذي قد يتحول إلى تحالف يسمح للقوات الإيرانية بإنشاء قواعد عسكرية في اليمن تكون على مرمى حجر من المدن الرئيسة للمملكة. 

عزَّز اعتباران مستجدان الحاجة للتصدي للحوثيين وأسهما في صياغة شكل الرد ومستواه: الأول: تولي محمد بن سلمان وزارة الدفاع وحاجته إلى بناء شرعية تُكسبه شعبية داخلية وتغطي على شرعية ولي العهد آنذاك، ابن عمه محمد بن نايف، وتُكسبه ثقة العائلة وخاصة مجلس البيعة. الحرب في اليمن توفر له فرصة تحقيق ذلك. الانتصار فيها ميسر لأن المملكة متفوقة في السلاح وتعد ثالث قوى عسكرية، في 2014، في الشرق الأوسط بعد إسرائيل وتركيا(3). والمكسب كبير لأنه سيكون القائد العسكري الذي حمى المملكة من خطر داهم، وفرض السلم السعودي على اليمن، وأبان أن المملكة قادرة على حماية أمنها دون اعتماد على قوى أجنبية. 

نقطة اعتماد السعودية على نفسها لحماية أمنها مهمة جدًّا في ذلك الوقت. الخلافات آنذاك بين المملكة والولايات المتحدة كانت كبيرة، بلغت مستوى جعل السعودية تعبِّر عن احتجاجها برفض تولي منصب رئيس مجلس الأمن(4). أسباب الخلاف عديدة: السعودية تأخذ على الرئيس، باراك أوباما، تخليه عن الرئيس المصري، حسني مبارك، خلال ثورات الربيع العربي، والنكث بوعد الإطاحة بالرئيس السوري، بشار الأسد. والولايات المتحدة من جانبها تعتبر المملكة مقصرة في واجباتها الأمنية(5)

عاصفة الإمكانات

يمتلك محمد بن سلمان لتحقيق غايته عدة أدوات: انفراده بالقرار في شؤون الدفاع مدعومًا بوالده، الملك سلمان، وشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، الدولية، والتفوق في السلاح والسيادة الجوية مقارنة بالحوثيين، وموافقة القوى الغربية والقوى الدولية الضمنية، والتحالف مع الإمارات، والدعم المتفاوت من عدة دول عربية وإسلامية.

كانت القرارات السياسية تُتخذ في المملكة بتوافق العائلة الحاكمة، وتجسدت هذه الشراكة في تولي بعض أفرعها وزارات في الحكومة لفترة طويلة؛ الداخلية لفرع نايف، والدفاع لسلطان، والخارجية لسعود، والحرس الوطني لفرع الملك عبد الله. هذا النمط جعل اتخاذ القرار بطيئًا وحذرًا ولكنه آمن، فكانت المملكة في الماضي تتفادى المخاطرة، وتفضِّل المواجهة غير المباشرة. لكن محمد بن سلمان كان منذ ذلك الحين يريد إبعاد العائلة من دوائر القرار لأنه يعلم أن المعايير التي تتبعها في تولي العرش تمنعه من خلافة والده، وأن يكون النصر خالصًا له لا يشاركه أحد في فضله، ونجح في التفرد بقرار الحرب بدعم والده، الملك سلمان(6)

وفَّر له الرئيس، عبد ربه منصور هادي، شرعية شنِّ الحرب على اليمن؛ فالرئيس هادي هو الرئيس المعترف به دوليًّا، وقد أزاحه الحوثيون من الحكم، وسجنوه، لكنه تمكن من الفرار إلى عدن، ووجَّه دعوة للمملكة كي تسارع لمساعدته على العودة لصنعاء وبسط سيطرته على كامل اليمن. الحرب من الناحية القانونية الشكلية شرعية ويمكن الدفاع عنها في الهيئات الدولية لأنها تندرج ضمن صلاحيات سيادة الدول في الاستعانة بالحلفاء لدفع المخاطر. 

تفوُّق المملكة على الحوثيين في التسلح هائل كما سبقت الإشارة. تقع في المرتبة الثالثة في الإنفاق على شراء السلاح عالميًّا عام 2019. تمتلك السيادة الجوية. وتتدرع بمنظومات دفاع متطورة. وتحصل على مدد مستمر من الذخيرة من الولايات المتحدة وعدة دول غربية متطورة مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وتشاركها الولايات المتحدة المعلومات الاستخبارية(7) وتدعمها بقواتها البحرية(8).

غلب على المواقف الدولية التأييد أو القبول الضمني؛ الدول المؤيدة تعتبر المملكة حليفًا ينبغي دعمه، ومنع إيران من استعمال الحوثيين لتوسيع نفوذها إلى اليمن لأنها ستزعزع استقرار المملكة، وتسيطر على منفذ باب المندب الاستراتيجي للتجارة الدولية. الدول الموافقة ضمنيًّا مثل روسيا والصين تتقاسم مع المملكة مصالح كبيرة ولم ترد خسارتها لكنها في نفس الوقت احتاطت لمصالحها مع إيران فتفادت إغضابها، ووجدت المخرج من هذه المعضلة بدعوة الأطراف المتحاربة إلى التحاور والتوصل إلى تسوية سلمية.  

المشاركة الإماراتية مهمة ومتنوعة: أسلحة متطورة، خاصة في العمليات البرمائية، وتجربة قتالية مع الولايات المتحدة في أفغانستان جعلت وزير الدفاع الأميركي السابق، جيمس ماتيس، يسميها: إسبرطة الشرق الأوسط، وصناعات عسكرية متطورة، وترسانة من الطائرات الموجهة، وقاعدة سيبرانية أنشأتها بالتعاون مع إسرائيل، وقدرة مالية، وشبكة نفوذ في الولايات المتحدة خاطها السفير، يوسف العتيبة، تحرص على دعم البيت الأبيض للحرب والاستعانة به لمنع أي قرار في مجلس الأمن يدينها.
غلب على المواقف العربية والإسلامية دعم السعودية، يؤشر إلى ذلك اشتراك 10 دول في التحالف العربي، وإن تفاوتت المشاركة بين الدعم العسكري والسياسي، مثل إرسال السودان قوات من ثلاثين ألف مقاتل(9)، والتزام باكستان بالدفاع عن السعودية لحماية الحرمين من أي عدوان، ولم تعترض إلا إيران من الدول الإسلامية والعراق من الدول العربية.

العوامل السياسية والعسكرية والمالية ترجِّح انتصار السعودية وتحقيق أهدافها لكن مسار الحرب سار بخلاف ذلك، وتغير عدد من عوامل القوة إلى نقاط ضعف حولت الحرب إلى كماشة تستنزف السعودية وتعرِّض أمنها لخطر مزمن.

الوقوع في الكماشة

ثلاثة أمور رئيسة غيرت مسار الحرب المرسوم: إعطاء الأولوية للقوات الجوية لتحقيق النصر دون استعداد لخوض عمليات برية قد تكون مكلفة لكنها ضرورية للسيطرة على الأرض، وتعارض الأولويات مع الإمارات، وطول أمد الحرب الذي رفع التكلفة الإنسانية والتي استفزت بدورها الهيئات الإنسانية الدولية فاضطرت القوى الغربية الداعمة للسعودية إلى النأي بنفسها.
تمكنت القوات الجوية السعودية من إصابة بنك الأهداف المقرر في الأيام الأولى من الحرب. كان إنجازًا تكتيكيًّا حرم الحوثيين من بعض المنشآت والآليات ومن حرية التحرك في المناطق المكشوفة، لكنه لم يكن كافيًا للسيطرة على الأرض. أقصى ما يستطيع تقديمه هو تمهيد الطريق أمام عمليات برية واسعة تشنها السعودية والقوات الحليفة والرديفة. كانت حسابات الرياض مختلفة. كان عدد قواتها البرية المقاتلة السعودية داخل الأراضي اليمنية قليلًا مقارنة بقوات الحوثيين أو بالمساحة التي تعتزم السيطرة عليها، وينحصر دورها بالأساس في دعم القوات المسلحة الموالية للرئيس، عبد ربه منصور هادي(10). كان مقدرًا لهذه الخطة الفشل بمقارنتها بحروب سابقة في اليمن. حارب الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، الحوثيين ست حروب، وكان يسيطر على الجو وشن عمليات برية بقوات أفضل تسليحًا اعتادت القتال في نفس بيئة الحوثيين، ولم يفلح في القضاء عليهم، وكانت الحرب تنتهي كل مرة بهدنات، يظل الحوثيون يحتفظون بسلاحهم وتنظيمهم، وقد ازدادوا خبرة وثقة في النفس. تستحق الجولة السادسة من تلك الحروب وقفة؛ شاركت السعودية في العمليات القتالية إلى جنب النظام اليمني، فاستعملت قواتها الجوية، لكنها مُنيت بهزائم في العمليات البرية، مكنت الحوثيين من السيطرة على مناطق واسعة داخل المملكة، لم تستردها إلا بهدنة وليس بعمليات قتالية(11). لم يستخلص محمد بن سلمان الدرس. كان وضع سلفه وزير الدفاع، خالد بن سلطان، أفضل. حليفه الرئيس اليمني، علي صالح، عسكري، متمرس على الحرب في تضاريس اليمن الوعرة، ويقود قوات موحدة القيادة، وأقوى تماسكًا، شدَّت القوات الحوثية من طرف صعدة الجنوبي، فسهَّلت على القيادة السعودية شدهم من طرفها الشمالي. لم ينهزم الحوثيون بل استطاعوا أن يخوضوا عمليات ناجحة على الجبهتين معًا، جعلت نتيجة الحرب التعادل إن لم تعد نصرًا لهم إذا كان النصر في حالتهم يقاس بنجاحهم في منع المهاجمين من تحقيق أهدافهم. لا يحظى ابن سلمان بحليف مماثل. تصدع الجيش اليمني خلال الربيع العربي إلى جناحين، جناح ظل مواليًا للرئيس، علي صالح، وجناح انشق مع الرجل الثاني في نظام الحكم، علي محسن الأحمر، وقد انخرطا في مواجهات مسلحة كادت تودي بكليهما. ولم تسلم القبائل التي كانت رديفة للقوات اليمنية من التصدع، فلقد وقف آل الأحمر مع الثورة وتعهدوا بحمايتها، وخاضوا جولات قتالية مع القوات الموالية لصالح. ولما تنازل صالح عن الحكم ظلت قطاعات مهمة من القوات المسلحة موالية له، في الحرس الجمهوري والاستخبارات والأمن المركزي لأنها كانت بقيادة أقاربه، وقد بينت الأحداث فيما بعد أنها لم تكن تنفذ أوامر الرئيس هادي، وأنها كانت تنتظر تبدل الظروف للقتال إلى جانب الحوثيين. 

التفوق الجوي نفسه بات بمرور الوقت عامل إخفاق؛ لم تكتف القيادة السعودية باستعماله في تحييد بنك الأهداف المعادية بل كبديل عن العمليات البرية، فتوسعت في استعماله، فقصفت تجمعات مدنية، مثل الأعراس، ودمرت منشآت مدنية ضرورية لليمنيين مثل المستشفيات والمدارس والأسواق(11)، فجعلت قطاعات متزايدة من اليمنيين تحتمي بالحوثيين وتجد سلطتهم أهون الأضرار. تطلق الدراسات الاستراتيجية على هذه الحالة معركة العقول والقلوب، وتكون خسارتها نقطة تحول فارقة في الحروب التي تسعى إلى إقامة نظام سياسي موال. لم ينفع أميركا مثلًا انتصارها العسكري الساحق في أفغانستان طالما أخفقت في كسب قلوب الأفغانيين وعقولهم. صارت أقصى أماني البيت الأبيض حاليًّا، بعد 18 سنة من القتال، إعادة جنوده سالمين. 

ضربت الإمارات الركيزتين الرئيستين اللتين قامت عليهما الاستراتيجية السعودية لتحقيق النصر: إعادة حكم اليمن للشرعية ممثلة في الرئيس، عبد ربه منصور هادي، وتشكيل قوات مسلحة بقيادة مركزية موحدة تحارب لتحقيق ذلك. 

لم ترض الإمارات عن حكم هادي لسببين: اعتراضها على إشراك شخصيات من حزب الإصلاح والقريبين منه في الحكم لأنها تعتبر الحركات الإسلامية الخطر الرئيس على الوضع السائد، ورغبتها في أن تتولى قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي الموالية لها مناصب حكومية مهمة ليكونوا ضامنين لمصالحها بعد انتهاء الحرب. قاوم هادي ضغوطها لدواع مبدئية وعملية. كان وحزب الإصلاح شركاء في الحكم في عهد الرئيس السابق، علي صالح، وكانا شريكين أيضًا بعد الثورة، فلا يجد مسوغًا لإقصاء قوة سياسية حليفة، وفي أمَسِّ الحاجة إليها حاليًّا في مقارعة الحوثيين، خاصة في مناطق اليمن الشمالية؛ حيث تتوفر على الحاضنة الاجتماعية. أما تسليم مناصب حكومية مهمة لقيادات جنوبية تنزع للانفصال فإنه يعد اعترافًا بشرعية مطالبها وغطاء لترسيخ حكمها في جنوب اليمن بالسيطرة على المؤسسات الرسمية والأجهزة الأمنية وتحصيل الموارد المالية قانونيًّا. 
رعت الإمارات تشكيل فصائل مسلحة ترفض اتباع الأوامر الصادرة من قيادة الجيش التابعة للرئيس هادي. تتوزع أهدافها القتالية على حماية المجلس الجنوبي ثم إضعاف هادي، ثم إعاقة تقدم الحوثيين نحو المناطق الجنوبية. وتتشكل من خليط يجمع بين أتباع المذهب السلفي المدخلي وعناصر جنوبية مسلحة وبقايا من القوات اليمنية المسلحة يقودهم ابن أخ الرئيس السابق، علي صالح. هذه الفئة الثالثة تؤدي دورًا مهمًّا في شق صفوف القوات المسلحة اليمنية. قائدها طارق صالح كان قائدًا عسكريًّا خلال عهد عمه الرئيس السابق، علي صالح. مهمته الأساسية تشكيل وحدات قتالية تحمي حكم عمه وعائلته التي يجهزها لخلافته. وقد برزت الحاجة إلى هذه الوحدات لما شرع صالح يحضر ابنه أحمد لخلافته وأبعد حليفه القوي في الجيش، علي محسن الأحمر، من دائرة المقربين، وخشي أن يقف في وجه التوريث ويحبطه بمساعدة آل الأحمر. وقد كان علي محسن قائد الفرقة المدرعة الأولى في الجيش، وهي القوة الضاربة الأساسية. وتكون مهمة طارق العائد من الإمارات جمع هذه القوى الموالية داخل الجيش للالتفاف مجددًا حول العائلة ومناهضة الرئيس، هادي، ونائبه، علي محسن الأحمر.

 تكرر الصدام بين الفريق الذي تناصره السعودية والفريق الذي تناصره الإمارات. منع الائتلاف الجنوبي إقامة الرئيس هادي في عدن ليدير منها حكومته وقواته الأمنية والعسكرية، وأطلقوا النار على الطائرة التي تقله لتعود أدراجها إلى الرياض(12)، وهاجموا بالسلاح الحكومة الموالية له في قصر معاشيق، واعتزموا أيضًا إخراجها من عدن لولا وساطة سعودية عقدت هدنة هشة سرعان ما انهارت مجددًا.

لم يعد للسعودية موطئ قدم مؤثر في اليمن؛ فالشمال يسيطر على معظمه الحوثيون سياسيًّا وعسكريًّا، والجنوب تسيطر عليه قوى جنوبية سياسية وعسكرية متمردة على الرئيس هادي وتحارب قواته وترفض الزحف نحو الشمال لقتال الحوثيين لأن هدفها السيطرة على الجنوب وجعله قدر المستطاع مستقلًّا عن أية حكومة مركزية في صنعاء. 

الأزمة الإنسانية، الناتجة عن طول أمد الحرب والحصار البحري الذي تضربه السعودية على موانئ اليمن، أهدرت دعم الدول الغربية ورفعت إلى صدراة الأهداف إنهاء المأساة الإنسانية ونزعت الشرعية عن كل هدف يطيلها. المأساة بالفعل هائلة. اعتبرت الأمم المتحدة الوضع في اليمن أكبر كارثة إنسانية في 2018(13). نقلت منظمة هيومن رايتس ووتش عن "مشروع بيانات اليمن"، أن عدد القتلى والجرحى بلغ 17.500 مدني منذ 2015، وأن "ربع المدنيين الذين قُتلوا في الغارات الجوية كانوا من النساء والأطفال. يعاني أكثر من 20 مليون شخص في اليمن من انعدام الأمن الغذائي؛ منهم 10 ملايين معرضون لخطر المجاعة".

وبحسب مشروع بيانات اليمن، "شنَّ التحالف بقيادة السعودية أكثر من 20.100 غارة جوية على اليمن منذ بدء الحرب، بمعدل 12 هجومًا يوميًّا. قصف التحالف المستشفيات، والحافلات المدرسية، والأسواق، والمساجد، والمزارع، والجسور، والمصانع ومراكز الاحتجاز".

يذكر تقرير هيومن رايتس ووتش: أن التحالف" قام بتأخير وتحويل ناقلات الوقود، وإغلاق الموانئ الهامة، ومنع البضائع من الدخول إلى الموانئ التي يسيطر عليها الحوثيون. كما مُنِع وصول الوقود اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية في المستشفيات ولضخ المياه إلى المنازل". وينقل عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "وجود أكثر من 24 مليون يمني (80% من السكان) بحاجة إلى مساعدات غذائية"(14).

وتشير إحصاءات المنظمات الدولية إلى "أن 14 مليون يمني لا يستطيعون الحصول على خدمات صحية مباشرة، كما أن هناك 50% من المرافق الصحية معطلة والبقية لا تؤدي خدماتها بشكل كامل، بسبب نقص الأدوية، فضلًا عن أن أكثر من 15 مليون يمني لا يحصلون على مياه نظيفة؛ الأمر الذي تسبب في انتشار الكثير من الأوبئة". دمرت الحرب "أكثر من ألفي مدرسة، وتسببت في حرمان مليوني طفل من التعليم. بحسب تقديرات منظمة الصليب الأحمر، ووفقًا لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، يحتاج ما يقرب من 7.4 ملايين طفل في اليمن إلى مساعدات إنسانية". كشفت منظمة الهجرة الدولية عن "نزوح أربعمئة ألف يمني، منذ مطلع 2019 بسبب الحرب، وأوضحت في تقرير حديث لها أن الصراع المستمر منذ خمسة أعوام أدى إلى نزوح أكثر من ثلاثة ملايين شخص"(15).

 لم تستطع الدول الغربية الداعمة للسعودية التغاضي عن هذه المأساة، فتوالت الدول التي تنأى بنفسها من المشاركة المباشرة أو غير المباشرة في المجهود الحربي. أصدر الكونغرس قرارًا بوقف إمداد السعودية بالسلاح(16). أوقفت ألمانيا وهولندا وبلجيكا بيع الأسلحة لها، وقلَّصت دول أخرى مبيعاتها ووعدت أخرى بمراجعاتها. دفعت هذه الإجرءات السعودية إلى خفض عملياتها الجوية كي لا توقع ضحايا مدنيين يزيدون في حدة الاعتراض الدولي، وإيلاء أهمية متزايدة لوقف المعاناة الإنسانية لأنه بات الأولوية التي تحظى بتوافق دولي واسع. هذا هو السياق الجديد الذي جعل السعودية تجري مفاوضات مع الحوثيين دون إشراك للحكومة اليمنية(17). تداعيات ذلك تؤثر في المسار العام للحرب. صارت الأزمة اليمينة إنسانية في المقام الأول وليست سياسية، والمفاوضات سابقة يستند إليها الحوثيون للاعتراف الدولي بهم طرفًا شرعيًّا وليس فصيلًا متمردًا خارج القانون. 

أرادت الإمارات تجنب التنديد الغربي فقررت سحب قواتها من اليمن(18). باتت السعودية أكثر عزلة وضعفًا. تخلى عنها أوثق حلفائها قبل أن تحقق الحرب أهدافها، فأضعف الثقة في قيادتها، وأثار مزيدًا من الشكوك حول سلامة خياراتها، وشجع الحوثيين وإيران على تكثيف ضغوطهم لأنها أثبتت نجاعتها في شق صفوف خصومهم. 

اتساع المخاطر وتقلص الخيارات

لما شنَّت السعودية الحرب على اليمن منذ خمس سنوات لم تكن تتوقع أن الحصيلة ستكون زيادة في المخاطر على أمنها وضعفًا في القدرة على درئها. نجح الحوثيون في توسيع نطاق عملياتهم إلى داخل المملكة نفسها. قصفوا عاصمتها، الرياض، ومنشآتها النفطية الحيوية للتكرير والنقل البحري(19)، واضطروها إلى عقد اجتماعات لقادة دوليين خارج العاصمة احتياطًا لأمنهم. واستغلت إيران عزلة الحوثيين الدولية وحاجتهم للسلاح فوثقت صلتها بهم ليكونوا مدخلًا لنفوذها وسيفًا مصلتًا على المناطق الرخوة بالحدود الجنوبية السعودية.  

لم يعد للملكة موطئ قدم مؤثر في اليمن تدرأ به تلك المخاطر بالقوة. يسيطر على شماله حكم الحوثيين المعادي ويسيطر على جنوبه حكم المجلس الانتقالي الجنوبي المناوئ. يختلفان فيما بينهما لكنهما يتفقان على تصفية حلفاء السعودية.

ليس الخيار الدبلوماسي أفضل جدوى. لم تعد الأمم المتحدة والقوى الغربية تعطي الأولوية لإعادة الشرعية إلى الحكم بل لإنهاء المعاناة الإنسانية في أقرب وقت، وتُحمِّل السعودية مسؤولياتها، وتحثها على وقف عملياتها القتالية إذا أرادت تجنب مزيد من العزلة الدولية. يصب هذا في صالح الحوثيين الذين يستعملون المعاناة الإنسانية لكسب مزيد من التعاطف الدولي وإزاحة مطلب إعادة الشرعية من جدول التفاوض وإرغام السعودية على القبول بالوضع القائم.

لم تبق للسعودية إلا ورقة الاعتراف الدولي بالرئيس هادي. ليست كافية لتغيير الوضع القائم، لكنها قد تقنع الحوثيين والمجلس الانتقالي الجنوبي بالحاجة إليها للحصول على الاعتراف الدولي في مقابل قبولهم بتشكيل سلطة مشتركة قد تكون فيدرالية تشبه فيدرالية العراق يرأسها الرئيس هادي، ويحظى الإقليمان، الشمالي والجنوبي، بسلطات تفوق سلطات الحكومة المركزية، ويشكلان سلطات فعلية موازية، مستقلة بقواتها وميزانياتها ومداخيلها وعلاقاتها الخارجية.

عودة إلى ملف "خمس سنوات على الحرب في اليمن: استراتيجيات الفاعلين ومآلات الصراع"

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) الحوثيون يزحفون نحو عدن.. وهادي يستنجد بـ«درع الجزيرة»، موالو صالح «العمود الفقري» لإسقاط تعز، الشرق الأوسط، 23 مارس/آذار 2015، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2020):
https://bit.ly/2zmprqP 

(2) آشير أوركابي، الحرب السعودية مع الحوثيين: حدود قديمة، خطوط جديد، معهد واشنطن، 9 أبريل/نيسان 2015، 
 (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2020):
https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/saudi-arabi…

(3)Armin Rosen and Jeremy Bender, The Most Powerful Militaries In The Middle East, Business Insider.  
 Oct 27, 2014
(Accessed April 25, 2020)
 https://www.businessinsider.com/most-powerful-militaries-in-the-middle-…;

(4) أنجوس مكدوال، السعودية ترفض عضوية مجلس الأمن لعجزه عن حل قضايا الشرق الأوسط، رويتر، 18 أكتوبر/تشرين الأول 2013، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2020):
https://ara.reuters.com/article/topNews/idARACAE9B27GF20131018 

(5)  Mark Landler, Obama Criticizes the ‘Free Riders’ Among America’s Allies, The New York Times.
March 10, 2016
 (Accessed April 25, 2020)
https://www.nytimes.com/2016/03/10/world/middleeast/obama-criticizes-th…

(6)  شقيق الملك السعودي: حرب اليمن مسؤولية الملك وولي عهده، العربي الجديد، 4 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2020): 
https://bit.ly/2VZLPhg

(7) Mark Hosenball, Phil Stewart, Warren Strobel,Exclusive: U.S. expands intelligence sharing with Saudis in Yemen operation, Reuters.
APRIL 11, 2015O
 (Accessed April 25, 2020)
 https://reut.rs/2S7VGAK

(8) U.S. warship in Arabian Sea seizes suspected Iranian weapons, Reuters.
FEBRUARY 13, 2020
 (Accessed April 25, 2020)
https://reut.rs/2VTgVHw

(9) 30 ألف مقاتل سوداني باليمن.. تعرَّف على رواتبهم ومناطق انتشارهم والأدوار المنوطة بهم، الجزيرة نت، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2020): 
https://bit.ly/2Y6KI2m

(10) Ben Brimelow, Saudi Arabia has the best military equipment money can buy — but it's still not a threat to Iran, Business Insider.
 Dec 16, 2017
(Accessed April 25, 2020) 
https://www.businessinsider.com/saudi-arabia-iran-yemen-military-proxy-…

(11) Yemen rebels say completed Saudi withdrawal, Reuters.
   26 Jan 2010 
(Accessed April 25, 2020)
 https://reliefweb.int/report/yemen/yemen-rebels-say-completed-saudi-wit…

(11) منظمة هيومن رايتس ووتش، التقرير العالمي، اليمن 2019، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2020): 
https://www.hrw.org/ar/world-report/2020/country-chapters/337274

(12) David Hearst, EXCLUSIVE: Yemen president says UAE acting like occupiers,Dispute appears to have started over argument about who controls Aden airport, Middle East Eye.
 12 May 2017
(Accessed April 25, 2020) 
https://www.middleeasteye.net/news/exclusive-yemen-president-says-uae-a…

  (13) الأمم المتحدة: اليمن يجسد أسوأ أزمة إنسانية لعام 2018، CNN بالعربية، 4 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2020): 
https://arabic.cnn.com/middle-east/2018/04/04/yemen-worlds-worst-humani…

(14) منظمة هيومن رايتس ووتش، التقرير العالمي، اليمن 2019:
https://www.hrw.org/ar/world-report/2020/country-chapters/337274

(15) حرب اليمن في عامها السادس.. مجاعة وأوبئة ودمار، الجزيرة نت، 29 ديسمبر/ كانون الأول 2019، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2020):
https://bit.ly/2S6s4ni

(16) Michael D. Shear and Catie Edmondson, Trump Vetoes Bipartisan Resolutions Blocking Arms Sales to Gulf Nations, The New York Times.
 July 24, 2019
(Accessed April 25, 2020)
https://www.nytimes.com/2019/07/24/us/politics/trump-veto-arms-saudi-ar…

(17) مفاوضات بين السعودية والحوثيين لبحث تهدئة عسكرية، الجزيرة نت، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2020):
https://bit.ly/3bBN5xO

(18) شاركت بـ18 ألف عسكري وجندت 200 ألف يمني.. الإمارات تعلن عودة قواتها وتكشف حصيلتها باليمن، الجزيرة نت، 9 فبراير/شباط 2020، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2020):
https://bit.ly/3bFt6OH

(19) أبرز هجمات الحوثيين على السعودية، الجزيرة نت، 14 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2020): 
https://bit.ly/2xY9eb5