مصر على الحافة: طريق الرئاسيات الوعرة

مصير مصر معلق بالأحكام التي ستصدر من المحكمة الدستورية، فالبت في قانوني العزل السياسي و انتخابات مجلس الشعب ، يضع الانتخابات الرئاسية والبرلمان الحالي في الميزان، وليس من الواضح في كليهما أي الكفتين ستميل.
201261310406452360_2.jpg
مصير مصر  معلق بالأحكام التي ستصدر من المحكمة الدستورية، فالبت في قانوني العزل السياسي و
انتخابات مجلس الشعب ، يضع الانتخابات الرئاسية والبرلمان الحالي في الميزان (الجزيرة)

شوارع القاهرة المزدحمة عادة، خلت، ظهر السبت، 2 يونيو/حزيران2012 ، من الحافلات والمارة، أو كادت، وتسمّر المصريون، في منازلهم أو في المقاهي وأماكن العمل، أمام أجهزة التلفاز بانتظار نهاية محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك وابنيه ووزير داخليته ومساعدي الوزير من كبار ضباط الأمن.

بعد مقدمات بلاغية طويلة، جاء الحكم أخيرًا مزدوجًا ومفاجئًا. أصدر القاضي، المستشار أحمد رفعت، الذي لا يشك كثيرون في نزاهته، حكمًا بالسجن المؤبد على الرئيس ووزير الداخلية. ولكن المحكمة برأت جنرالات الأمن وابني الرئيس، فانصبّ غضب المحتجين على النيابة وأجهزة الدولة الأخرى، لأنهم لم يقوموا بواجبهم في توفير الأدلة الكافية لتجريم المتهمين.

خلال ساعات، كان ميدان التحرير، وميادين أكثر من عشر مدن مصرية أخرى، تعج بمئات الآلاف من المتظاهرين، لأنه بالرغم من الحكم المشدد على الرئيس السابق ووزير داخليته، لم يكن المصريون ينتظرون تبرئة جنرالات الداخلية الكبار من دم مئات القتلى الذين سقطوا في شوارع المدن خلال أيام الثورة. ولأن الحكم المفاجئ جاء بعد أيام فقط من إعلان نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، التي أفرزت كلاً من مرشح الإخوان، محمد مرسي، ورجل النظام السابق، أحمد شفيق، للمنافسة في الجولة النهائية على موقع الرئاسة، فقد تحولت الحركة الشعبية إلى ما يشبه الثورة الثانية.

بيد أن التصاعد البالغ للقلق والتوتر خلال الأيام القليلة السابقة على إجراء جولة انتخابات الرئاسة الثانية والنهائية في 16 و17 يونيو/حزيران 2012 ، لا ينبع من الاحتجاج على قرار المحكمة أو مفاجأة صعود شفيق إلى الجولة النهائية وحسب، بل يرتبط أيضًا باقتراب موعد صدور  حُكم المحكمة الدستورية حول شرعية قانون انتخابات مجلس الشعب، وما بات يُعرَف بقانون العزل، وبذلك تبدو الطريق إلى انتخابات الرئاسة، ومنها إلى تسليم السلطة وعرة وشاقة.

مليونية العدالة: حراك شعبي جديد

استمرت حركة الاحتجاج الشعبية يومين متتاليين: السبت والأحد، ثم دعت مجموعات النشطين الشباب إلى مليونية مساء الثلاثاء، 5 يونيو/حزيران 2012، والجمعة، 8 يونيو/حزيران. ما ساعد على نجاح الحشد الشعبي في القاهرة والمدن المصرية الأخرى، كانت المشاركة القوية والفعالة للإخوان المسلمين والتيار السلفي، بل إن مرشح الإخوان محمد مرسي، زار شخصيًا مساء السبت ميدان التحرير وانضم للمحتجين. كما تواجد في ميدان التحرير وشارك في الفعاليات الاحتجاجية كل من حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح ، الفائزيْن بالمرتبة الثالثة والرابعة في الجولة الأولى.

رفعت الحركة الاحتجاجية العديد من الشعارات، سرعان ما ولدت عددًا من المطالب: 

  1. إعادة محاكمة من تمت تبرئتهم، سيما جنرالات الداخلية. 
  2. تفعيل قانون العزل، الذي كان يُفترض أن يمنع شفيق من المشاركة في سباق الرئاسة، وسبق للجنة العليا للانتخابات، في قرار تحيط شرعيته الشكوك، أن أرسلته للمحكمة الدستورية العليا للبت في دستوريته، مبقية على شفيق في السباق. 
  3. تشكيل مجلس رئاسة مدني، لاستلام السلطة من المجلس العسكري، يوقف العملية السياسية، ويعيد إطلاقها على أسس جديدة، تستبعد رجال النظام السابق وتبدأ عملية كتابة دستور دائم لجمهورية ما بعد الثورة.

إعادة المحاكمة تكفل بها النائب العام، الذي أعلن أن النيابة ستعترض على قرار البراءة. ولكن الثقة اهتزت في مصداقية النيابة وأجهزة الدولة، أو في إمكانية عقد محاكمة جادة لرجال الأمن، المتهمين بالتورط في قتل ضحايا الثورة، في ظل نظام الحكم الحالي. وهذا ما دفع العديد من النشطين إلى المطالبة بإقامة محكمة ثورة للتعامل مع ميراث النظام السابق. ولكن مثل هذا المطلب لم يجد دعمًا شعبيًا أو سياسيًا كافيًا. وربما كانت حظوظه أكبر لو تم رفعه خلال الأسابيع القليلة التالية على تنحي الرئيس السابق، عندما كان المناخ مهيئًا لمثل هذه المحكمة الاستثنائية.

وقد تم تداول أسماء مختلفة لتشكيل مجلس رئاسي مدني، بما في ذلك محمد البرادعي (الذي سارع للعودة إلى القاهرة من فيينا)، محمد مرسي، عبد المنعم أبو الفتوح، وحمدين صباحي. ولكن فكرة المجلس، التي وُصِفت بغير العملية ولا تجد سندًا دستوريًا، وتوحي بمعركة مفتوحة بين الشارع والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، سرعان ما تراجعت بعد رفض (أبو الفتوح) تبنيها.

مع اقتراب الحركة الشعبية من نهاية أسبوعها الأول، أصبح تفعيل قانون العزل مطلبًا رئيسًا، لكن مشكلته ليست فقط في أنه لم يُطبق بمجرد صدوره من قِبل اللجنة العليا للانتخابات، ولكن أيضًا في أنه أصبح محل تداول في المحكمة الدستورية. كانت أصوات عديدة، حتى في اللجنة التشريعية لمجلس الشعب، التي صاغت القانون، قد أثارت شبهة عدم دستورية النص من البداية. لا ينبغي بالطبع استبعاد إمكانية استجابة قضاة المحكمة الدستورية للضغط الذي يمارسه الرأي العام، ولكن المعضلة الكبرى التي يواجهها الحراك الشعبي أن القانون لابد في النهاية أن ينتظر قرار القضاة الدستوريين، ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يخضع المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمطلب الشارع في تطبيق القانون قبل اتضاح موقف المحكمة الدستورية. يتطلب إقناع المجلس الأعلى وتطويع إرادته السياسية معركة مستمرة، لا تقل عن حجم مستوى الثورة الأولى، لكن لا توجد وحدة في الساحة السياسية توحي بالاستعداد لخوض هذه المعركة.

في الميزان: البرلمان والرئاسيات

قانون ممارسة الحقوق السياسية (أو قانون العزل)، ليس الوحيد الذي ينتظر المصريون قرار المحكمة الدستورية بشأنه. القانون الثاني هو قانون انتخابات مجلس الشعب، الذي عُدِّل مرتين قبل عقد الانتخابات بطلب من القوى السياسية المختلفة، لينتهي إلى توزيع المقاعد المتنافس عليها إلى ثلثين للقوائم وثلث للأفراد، والسماح لأعضاء الأحزاب المرخصة بالتنافس على الفرديات جنبًا إلى جنب المرشحين المستقلين. وقد أُثيرت شبهات عدم الدستورية حول مسألتين في القانون:

  • الأولى: أن القانون كان لابد أن يخصص نصف وليس ثلث المقاعد للأفراد.
  • الثانية: أن السماح لأعضاء الأحزاب بالمنافسة على المقاعد الفردية يضر بفرص المستقلين.

في 7 يونيو/حزيران 2012، تسربت للصحف المصرية نصوص تقريري هيئة المفوضين في المحكمة الدستورية حول وضع القانونين: قانون العزل وقانون انتخابات مجلس الشعب. رجَّح تقرير المفوضين الأول عدم قانونية إحالة اللجنة العليا للانتخابات قانون العزل للمحكمة الدستورية، لأن اللجنة العليا للانتخابات هي هيئة إدارية وليست قضائية، بالرغم من أن أعضاءها من كبار قضاة البلاد. ولكن التقرير أكد أيضًا على عدم دستورية قانون العزل. أما تقرير المفوضين الثاني فيبدو أنه خلص إلى عدم دستورية قانون انتخابات مجلس الشعب.

وكانت مصادر المحكمة الدستورية أشارت إلى أن هيئة المحكمة الدستورية ستنعقد يوم الخميس 14 يونيو/حزيران 2012 للمداولة في القانونين المعروضين أمامها، أي قبل يومين فقط من إجراء الانتخابات الرئاسية. ما يثير الترقب والتوتر أن هيئة المحكمة ليست ملزمة بالأخذ بتقريري المفوضين؛ ولذا فليس بمقدور أحد، ولا حتى كبار المتخصصين، توقع ما ستقرره المحكمة. إن قرر القضاة الدستوريون عدم قانونية إحالة اللجنة العليا للانتخابات قانون العزل للمحكمة الدستورية، فقد يفتح هذا القرار الباب لاستبعاد شفيق من الانتخابات الرئاسية النهائية، وإعادة المرحلة الأولى للانتخابات من جديد بين 12 مرشحًا؛ أما إن حكموا بعدم دستورية القانون، فهذا يعني بقاء شفيق وإجراء نهائيات الرئاسة في موعدها. كما أن مصير مجلس الشعب بات معلقًا بقرار القضاة الدستوريين، سواء من جهة الحكم بعدم دستورية انتخابات المجلس، وبالتالي الدفع نحو حلّه وإجراء انتخابات برلمانية جديدة بعد شهور، أو إعادة الانتخابات في المقاعد الفردية التي نافس عليها مرشحون من الأحزاب. ثمة احتمال آخر لا يجب استبعاده وهو أن يعجز قضاة المحكمة الدستورية عن اتخاذ قرار حاسم في كلا القانونيْن في جلسة 14 يونيو/حزيران، وأن تستمر المحكمة في مداولاتها لعدة أيام أخرى، تجري خلالها انتخابات الرئاسة النهائية.

يوحي كل من هذه الاحتمالات بمصير دستوري مختلف، وبرد فعل سياسي وشعبي أكثر اختلافًا، بما في ذلك إمكانية تصاعد الحركة الاحتجاجية الحالية لتصبح أكبر وأكثر استمرارية. والحاصل أن كل هذه العوامل تضيف مزيدًا من التعقيد إلى المشهد السياسي المصري والعملية السياسية الانتقالية برمتها.

الجمعية التأسيسية: اتفاق وأسئلة

الحدث المطمئن الوحيد كان اتفاق القوى السياسية المصرية، مساء 7 يونيو/حزيران، وبعد مخاض عسير، على معايير تشكيل الجمعية التأسيسية، المكلفة بوضع مسودة الدستور. وكان المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد هدد القوى السياسية بوضع إعلان دستوري جديد، أو العودة إلى دستور 1971 المعدل، في حال لم تستطع حسم الخلافات بينها حول تشكيل الجمعية التأسيسية، فولَّد جدلاً واسعًا حول احتمال تعدي المجلس الأعلى بذلك على مجلس الشعب المنتخب، الذي نزع منذ انعقاده السلطات التشريعية من المجلس الأعلى.

باتفاق القوى السياسية، انعقدت جلسة مشتركة لمجلسي الشعب والشورى (الغرفة العليا للبرلمان)، الثلاثاء 12 يونيو/حزيران، وانتخبت أعضاء اللجنة التأسيسية المائة. ولكن هذه الخطوة الإيجابية، تترك خلفها سؤالين مهمين:

  • الأول: ما هو مصير هذه الجمعية إن صدر قرار المحكمة الدستورية بعدم دستورية انتخاب مجلس الشعب؟
  • الثاني: ما هي على وجه اليقين صلاحيات الرئيس المنتخب، إن كان تعديل نظام الحكم الجمهوري ليصبح برلمانيًا-رئاسيًا محل اتفاق بين القوى السياسية المختلفة؟

منافسة على حد السكين

كان اللجوء إلى القضاء واحدًا من أبرز مظاهر الحياة السياسية المصرية خلال حقبة الاستبداد السابقة، عندما كان القضاء الملجأ الوحيد المتاح لإنصاف القوى والشخصيات السياسية في مواجهة آلة حكم مهيمنة وباطشة. وربما بات من الصعب بعد سقوط النظام فطْم المصريين عن عادة استدعاء المحاكم الإدارية والدستورية للفصل في كل خلاف سياسي، صغر كان أو كبر، بما في ذلك مسائل تشريعية بحتة، يُفترض أن تترك للتدافع البرلماني.

هذا هو أحد أسباب التوتر البالغ وحالة الوقوف على حافة السكين التي تعيشها البلاد وهي تنتظر المحطة التالية، بالغة الأهمية، من المرحلة الانتقالية. ولكن السبب الثاني يتعلق بالمقاومة الكبيرة للنظام القديم والتي تنعكس في ترشح أحمد شفيق للانتخابات الرئاسية ونجاحه في القفز إلى انتخابات الإعادة النهائية. وبينما يسود اعتقاد في أوساط سياسية متعددة بأن شيئًا من التزوير قد شاب الانتخابات الرئاسية الأولية، فإن ثمة خوفًا متزايدًا من أن يتسع نطاق التزوير في الانتخابات النهائية لإيصال شفيق إلى مقعد الرئاسة.

السبب الثالث، أن الفترة الزمنية الطويلة نسبيًا للمرحلة الانتقالية لم تزد العلاقات بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة، من جهة، والقوى الثورية والإخوان المسلمين، من جهة أخرى، سوى تعقيدًا. وبدلاً من أن يجد المعسكران وسيلة للتفاوض على تصور توافقي للجمهورية الجديدة، رسَّبت المرحلة الانتقالية الطويلة المزيد من الشكوك المتبادلة حول نوايا كل طرف تجاه الآخر.

ما بات واضحًا، على أية حال، أن مصر تصل إلى منعطف حاسم في مسار الانتقال نحو جمهورية حرة وتعددية وديمقراطية. وستوفر الأيام القليلة القادمة أدلة قاطعة حول ما إن كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة يعمل على إعادة إنتاج النظام القديم في نسخة محسنة قليلاً، أو أنه سيقبل بانتقال حقيقي وكامل للحكم لقوى سياسية جديدة؛ وحول ما إن كانت مصر تمضي نحو الاستقرار، أو نحو انفجار شعبي جديد.