جرت الانتخابات المصرية في أجواء سياسية بالغة التوتر مثقلة بنتائج الجولة الأولى |
جرت الجولة الثانية والنهائية من انتخابات الرئاسة المصرية يومي 16 و17 يونيو/حزيران 2012 بين المتنافسين الذين تخطوا الجولة الأولى: مرشح حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي للإخوان المسلمين، د. محمد مرسي، ورجل النظام السابق، آخر رئيس وزراء مبارك، الفريق أحمد شفيق. مع فجر الاثنين، 18 يونيو/حزيران 2012، أعلنت حملة مرسي فوزه بالرئاسة بفارق يناهز المليون صوتٍ. لم تعترف حملة شفيق بالهزيمة، بل أعلن الناطقون باسم الفريق أن مرشحهم هو الفائز. بمرور ساعات النهار، أكدت دوائر إعلامية وحقوقية، قامت هي الأخرى بمتابعة الانتخابات، فوز مرسي.
تأخر إعلان النتائج الرسمية، ولكن الأرقام المتوفرة تشير إلى أن مرسي تجاوز منافسه بأكثر من 800 ألف صوت، وذلك بعد إضافة أصوات المصريين المغتربين، التي صبّت لصالحه بفارق كبير. وبالرغم من أن هذه الأرقام تستند إلى محاضر النتائج المعلنة بلجان الاقتراع الفرعية، فليس من المستبعد أن تتغير قليلاً في الإعلان الرسمي النهائي، الذي سيأخذ في الاعتبار شكاوى واعتراضات حملتي المرشحين. وقد ارتفعت نسبة المقترعين في هذه الجولة عن الخمسين بالمائة، (ما يقارب 26 من بين 51 مليونًا يحق لهم التصويت)؛ وهي نسبة تفوق تلك التي سُجِّلت في الجولة الأولى، والتي لم تتجاوز 46 بالمائة. وإن كان في هذه الزيادة ما يشير إلى أن المصريين لم يُصابوا بعد بالإرهاق الانتخابي، فهي تحمل دلالة إضافية على حدة المنافسة وقدرة مناصري المرشحين على الحشد.
بيد أن أمل المصريين في أن تختتم انتخابات الرئاسة عملية انتقال السلطة، الطويلة والشاقة، من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى رئيس ونظام مدني حر، يتضاءل بصورة سريعة، بعد أن بدأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة هجمة مرتدة على قوى الثورة والتغيير، تستهدف الحفاظ على دوره في الحكم والسلطة.
هذه قراءة أولية للجولة الثانية من انتخابات الرئاسة ونتائجها، وللتحديات التي تواجه عملية انتقال السلطة، واحتمالات الصدام بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والقوى السياسية المتوقع وقوفها خلف الرئيس الجديد، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين.
العملية الانتخابية: الخوف المتبادل
جرت الانتخابات في ظل أجواء سياسية بالغة التوتر، مثقلة بنتائج الجولة الأولى. كانت جهود حثيثة بُذلت بعد ظهور نتائج الجولة الأولى لحشد القوى الثورية والأحزاب الديمقراطية، ومرشحي الرئاسة الرئيسيين الذين خرجوا من السباق، خلف مرسي، سيما بعد أن اتضح لهؤلاء جميعًا حجم التأييد الذي يتمتع به شفيق والإمكانات المالية المتوفرة لحملته. ولكن الانقسام الذي شاب الساحة السياسية المصرية منذ انتخابات مجلس الشعب في يناير/كانون الثاني 2012 استمر بلا هوادة. جرَّ المرشح السابق للرئاسة والقيادي الإخواني السابق، عبد المنعم أبو الفتوح، أقدامه جرًّا للإعلان عن تأييد متحفظ لمرسي؛ بينما أحجم المرشح السابق الآخر، حمدين صباحي، كلية عن تأييد أي من المرشحين. وبدا أن صباحي كان ينتظر معجزة تؤدي إلى قيام المحكمة الدستورية بإلغاء الانتخابات وإعادتها من البداية، أو اندلاع ثورة ثانية تعيد المنافسة الرئاسية إلى البداية. قدّم مرسي لأبي الفتوح وصباحي عروضًا جدية بتعيينهما نوابًا للرئيس، ولكن كليهما رفض العرض.
أما المرشح السابق، عمرو موسى، الذي حلّ خامسًا في الجولة الأولى، فإن الآمال كانت ضئيلة في الحصول على تأييده لمرسي؛ بل وبدا في الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية أنه بات مقتنعًا بفوز شفيق، وأخذ بالتالي في الإعراب عن مواقف تصالحية تجاهه، بالرغم من أن هزيمة موسى الساحقة في الجولة الأولى وقعت على يد شفيق وليس أي مرشح آخر.
لم يتردد عدد من الشخصيات الليبرالية الأخرى، مثل أسامة الغزالي حرب وسعد الدين إبراهيم، إضافة إلى حزب المصريين الأحرار الليبرالي، وعدد من قادة حزب الوفد، وحزب التجمع اليساري، في الإعلان الصريح عن تأييد شفيق. وقد اصطفت خلف شفيق كافة وسائل الإعلام الحكومية، وغالبية الصحف ومحطات التلفزة الخاصة. بيد أن الدعم الأكبر لشفيق جاء من شبكة رجالات الحزب الوطني المنحل المنتشرة في أنحاء البلاد، ومن قطاع واسع من رجال الأعمال الأثرياء الذين عُرفوا بعلاقاتهم الوثيقة بالنظام السابق، ومن دوائر المؤسسة الأمنية المتمرسة بإدارة بالانتخابات، كما من دوائر الحكم المحلي، ذات الصلة المباشرة بالناخبين والدراية بالخارطة الاجتماعية التقليدية في المحافظات والمناطق الريفية. ولم يكن هناك ثمة شك في أن شفيق كان المرشح الأفضل لجهاز الدولة، بما في ذلك المؤسسة العسكرية، وقواعد النظام السابق، داخل جسم الدولة والحكم وخارجهما.
في الجهة المقابلة، انحازت القوى والقيادات الإسلامية، سواء في التيار السلفي واسع الانتشار أو في الجماعة الإسلامية والجمعيات الإسلامية التقليدية، مثل الجمعية الشرعية وأنصار السنة، إلى جانب مرسي. كما تلقت حملته دعمًا من قطاع واسع من النشطين الشباب الذي عملوا في حملة أبو الفتوح، ومن عدد أقل من أولئك الذين عملوا في حملة صباحي. وتلقى مرسي دعمًا من حركة 6 إبريل، ومن حزب التيار المصري، المشكل من شبان إسلاميين ثوريين، ومن عدد من المجموعات الثورية الأصغر. وقد نهضت الآلة الإخوانية التنظيمية في كافة أنحاء البلاد بصورة غير مسبوقة لدعم آخر المرشحين قدومًا لساحة المنافسة، وصاحب أقصر حملة انتخابية بين المرشحين جميعًا.
أصبح الخطاب الذي تبناه مرسي في الحملة الانتخابية الثانية، القصيرة إلى حد كبير، أكثر وطنية وتصالحية مع القوى والاتجاهات الأخرى مما كان عليه في الحملة الانتخابية الأولى، التي اتسمت بلغة إسلامية واضحة. كما أن الشخصيات الدعوية الإسلامية، التي رافقت مرسي في الكثير من محطات الجولة الأولى، غابت كلية عن الجولة الثانية. ولكن المؤكد أن حملة شفيق تفوقت سياسيًا على حملة مرسي؛ وقد وقف خلف شفيق، المعروف بقلة درايته السياسية، عدد من المحترفين، الذين عرفوا كيف يؤثرون على عموم الناخبين المصريين. وكان على مرسي في بعض لحظات حملته الانتخابية أن يسارع للحاق بجملة الوعود التي قدمها شفيق لقطاعات الناخبين الأكثر فقرًا أو المثقلين بالديون، مثل صغار الفلاحين والعمال وفقراء المدن الكبرى.
ما أضر بمرسي كان عجز آلته الانتخابية، في مواجهة إعلام منحاز لمنافسه، عن مواجهة الحملة الشرسة ضد مجلس الشعب، الذي تكرس في وعي المصريين باعتباره مجلس الإخوان والإسلاميين، بالرغم من إنجازات المجلس في حقل التشريع خلال الشهور القليلة من عمره التي سبقت انتخابات الرئاسة. ولكن ما ساعد مرسي، كان التعاطف المتزايد معه بعد صدور قراري المحكمة الدستورية يوم الخميس 14 يونيو/حزيران 2012، التي حكمت بعدم دستورية قانون العزل وعدم دستورية بعض مواد قانون انتخابات مجلس الشعب.
ولَّد القراران شعورًا بأن مرسي (والعملية السياسية برمتها)، يتعرضان لهجمة سافرة من أدوات النظام القديم والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، فساعدا على أن يحسم قطاع كبير من المترددين موقفه لصالح مرسي. وكان لخطاب التحدي الذي ألقاه مرسي مساء اليوم نفسه وقعٌ كبير على الرأي العام، عزّز من موقفه كمرشح للثورة وأملها الأخير في الوقوف أمام محاولة ابتعاث النظام السابق من جديد.
كما أظهرت حملة مرسي قدرة فائقة على تنظيم وإدارة الحملة الانتخابية، سيما في اختيار اللقاءات الجماهيرية والإعلامية واللقاءات مع الفئات المتخصصة؛ كما تعاملت مع النتائج بكفاءة، بدت في نجاحها في التوصل إلى مجموع الأصوات التي أُدلِيت لكل مرشح في الأغلبية العظمى من اللجان الفرعية قبل الرابعة من صباح الاثنين 18 يونيو/حزيران 2012. وقد اتخذت حملة مرسي عددًا من الخطوات التكتيكية عند اتضاح النتائج، بما في ذلك الإعلان المبكر عن فوزه، ومن ثَمَّ توفير صورة من محاضر النتائج للصحافة والمهتمين.
ووردت تقارير بأن العملية الانتخابية شهدت تزويرًا مباشرًا، أو غير مباشر تجلّى حسب تقارير في استخدام قوى النظام السابق المال السياسي بشكل واسع وكثيف، وتجلّى الأول في توظيف وسائل تلاعب لا يسهل على المراقبين اكتشافها، مثل التصويت المتكرر للأفراد، والبطاقات الدوارة، بل ودس بطاقات التصويت بالجملة إلى صناديق الاقتراع. ولكن قانون الانتخابات الذي أصدره مجلس شعب الثورة، الذي ألزم لجان الاقتراع الفرعية بإجراء حساب الأصوات محليًا، بحضور مندوبي المرشحين، وتسليم صورة من محضر النتائج للمندوبين، مطابقة لتلك المرسلة إلى لجان الاقتراع الرئيسية ولجنة الانتخابات العليا، جعل من التزوير عملية غير مضمونة النتائج، بمعنى أن من قام بالتلاعب لم يكن ليعرف، ولا حتى على وجه التقريب، ما سيكون عليه الفارق النهائي بين المتنافسين.
النتائج: تأكيد اتجاهات الجولة الأولى
يمكن تقسيم المحافظات الـ 27 للجمهورية المصرية إلى خمس مجموعات تصويتية:
-
لأولى، تشمل المحافظات الست الكبيرة: (القاهرة، الجيزة، الدقهلية، الشرقية، الإسكندرية، البحيرة)، التي تضم كل منها كتلة تصويتية تتراوح بين 6,5 مليون صوت (القاهرة) و3,2 مليون صوت (البحيرة)، ويكاد مجموع أصواتها يصل إلى نصف عدد من يحق لهم التصويت في كافة أنحاء الجمهورية.
-
تضم المجموعة الثانية ست محافظات أخرى: (الغربية، المنيا، القليوبية، سوهاج، المنوفية، أسيوط)، التي تتراوح أصوات كل منها بين 2 و2,9 مليون صوت.
تشمل المجموعة الثالثة أربع محافظات: (كفر الشيخ، قنا، الفيوم، بني سويف)، التي تقع الكتلة التصويتية لكل منها بين 1,4 و1,9 مليون من الأصوات. -
تضم المجموعة الرابعة أربع محافظات أخرى: (أسوان، دمياط، الإسماعيلية، الأقصر)، تقل أصوات كل منها عن المليون وتزيد عن نصف المليون من الأصوات. أما المجموعة الخامسة، فتشمل سبع محافظات: (بورسعيد، السويس، البحر الأحمر، جنوب سيناء، مرسى مطروح، الوادي الجديد، شمال سيناء)، تقل أصوات كل منها عن نصف المليون من الأصوات.
احتدم الصراع بين الطرفين المتنافسين على المجموعتين الأولى والثانية، بدون أن يحقق أي منهما اختراقًا كبيرًا. حقّق شفيق انتصارًا في ثلاث من الست الكبرى، بما في ذلك محافظة القاهرة، صاحبة الكتلة التصويتية الأكبر على الإطلاق، وهي المحافظات ذاتها التي تقدم فيها على مرسي في الجولة الأولى، والتي حقق في اثنتين منها المركز الأول بين جميع المرشحين. وفاز مرسي في الثلاث الأُخَر من الست الكبار، كان صاحب المركز الأول في اثنتين منها في الجولة الأولى، كما كان تفوق على شفيق في الثالثة (الإسكندرية). تمثل الإنجاز الأكبر لمرسي في الفوز الحاسم بالإسكندرية، بعد أن تحسن أداء آلة الإخوان الانتخابية واصطفت الكتلة السلفية الضخمة في المدينة إلى جانبه. وكانت المفاجأة الثانية في إخفاق شفيق في تحقيق نصر كبير في القاهرة، التي كان يأمل أن تعطيه فارقًا يصل إلى مليون من الأصوات، بالرغم من أن نسبة التصويت فيها تجاوزت معدل الخمسين بالمائة المسجل في عموم البلاد. وقد استطاع مرسي تعويض تقدم شفيق بفارق نصف المليون صوت في القاهرة، بفارق يقترب من نصف المليون في محافظة الجيزة الأصغر، التي صوتت لمرسي بصورة كاسحة.
ولكن القاهرة، بكتلتها التصويتية المسيحية الكبيرة، التي قد تصل إلى المليون صوت، وتياراتها السياسية وقواها الاجتماعية المتنوعة، تظل عقبة كأداء أمام القوى الإسلامية السياسية؛ وليست محافظة القاهرة وحسب، بل والجزء القاهري من محافظة الجيزة أيضًا.
في المجموعة الثانية، حقق شفيق أكبر فوز له على الإطلاق في محافظة الغربية، حيث فاقت الأصوات التي أعطيت له تلك التي ذهبت لمرسي بما يزيد عن 600 ألف صوت. كما حقق شفيق انتصارًا كبيرًا في محافظة المنوفية، ذات الارتباط الوثيق بجسم الدولة والحكم منذ عهد الرئيس السادات؛ حيث تجاوزت حصته حصة مرسي بما يقارب نصف المليون من الأصوات. وقد فاز شفيق بفارق أقل في القليوبية، المحافظة اللصيقة بالقاهرة. هذا، بينما تفوق مرسي في الثلاث الأخر من المجموعة الثانية، محققًا فوزه الأكبر في المنيا، التي وفرت له فارقًا يقارب 400 ألف من الأصوات. ولكن ما رجح كفة مرسي في النهاية كان فوزه في أغلب محافظات المجموعات الثالثة والرابعة والخامسة.
جغرافيًا، وهو الأمر الذي لا يقل دلالة، فاز مرسي في 17 محافظة، تضم الأغلبية الساحقة من محافظات الصعيد، من الجيزة إلى أسوان، وساحل المتوسط، من مرسى مطروح إلى شمال سيناء، بحيث لم يتفوق شفيق سوى بواحدة على طول خط الصعيد الطويل، هي الأقصر، وواحدة أخرى على طول ساحل المتوسط، هي بورسعيد. وربما يدحض التوزيع الجغرافي للخارطة الانتخابية المقولة التي تنسب لمرسي الفوز في المحافظات المهمشة وحسب؛ فمحافظات الساحل التي صوتت له بقوة لا تُعتبر عادة بين تلك المهمشة على أية حال. ما ساعد شفيق، من جهة أخرى، على اللحاق بمنافسه، كان انحياز محافظات الدلتا الزراعية والقاهرة له، والصوت المسيحي الذي ذهب لصالحه في كافة أنحاء الجمهورية.
وربما يكون من المبكر الذهاب إلى تحليل اجتماعي لكتلتي المرشحيْن الانتخابية، إلا أن بعض المؤشرات تبين أن الوضع الاجتماعي لم يكن حاسما في سلوك التصويت، فبينما يُعتبر سكان الصعيد، في المتوسط، الأكثر فقرًا، وهم الذين صوتوا لمرسي بكثافة كبيرة، جاءت أغلبية أصوات شفيق في محافظة القاهرة من أحياء العاصمة الشعبية، الأفقر نسبيًا، في حين تقاسم أحياء الطبقة الوسطى القاهرية مع منافسه.
في صورة عامة، يبدو أن أغلبية الأصوات التي ذهبت لأبي الفتوح في الجولة الأولى صبت لصالح مرسي في الثانية؛ بينما حصل مرسي على نسبة أقل من أصوات صباحي، ونسبة أقل بكثير من أصوات عمرو موسى. أغلب الأصوات التي حصل عليها الأخير في الجولة الأولى، صبت لصالح شفيق في الثانية، إضافة إلى نسبة أقل من أصوات صباحي، وأخرى ضئيلة من أصوات أبي الفتوح. والأرجح أن جزءًا ملموسًا من أصوات صباحي قد امتنع عن التصويت، ولكن حملة المقاطعة في مجملها قد فشلت. وربما جاءت الزيادة الملموسة في أصوات المقترعين في الجولة الثانية عن سابقتها من أصوات القطاع السكاني المؤيد للسلفيين، الذي حال انقسام شيوخهم في الجولة الأولى دون إقبالهم على مراكز الاقتراع.
ويمكن الاستنتاج، أيضًا في صورة عامة، أن النتائج لا تنم عن وجود استراتيجية استهداف انتخابي متماسكة لأي من الطرفين؛ ففي النهاية، لم يستطع أي من المرشحين تحقيق اختراق ملموس في المحافظات التي تبين من الجولة الأولى الاتجاه الذي ستذهب إليه في الجولة الثانية. وهذا، ربما، ما يفسر الفارق غير الكبير، الذي حققه مرسي.
استمرار واتساع السيطرة العسكرية
سبق الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، وواكبها، وتلاها، صدور خمسة قرارات مهمة وبالغة الدلالة، عن المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة.
تمثل الأول في حكم المحكمة الدستورية قبل يومين فقط من بدء الانتخابات، بعدم شرعية قانون العزل السياسي، فأفسح الطريق أمام مواصلة شفيق جولة الانتخابات الرئاسية، بالرغم من صدور قانون عن مجلس الشعب بحرمان كبار رجالات النظام السابق من حقوقهم السياسية، وبالرغم من أن عرض القانون على المحكمة الدستورية من قبل اللجنة العليا للانتخابات كان إجراءُ شاب قانونيته الكثير من الشكوك.
أما القرار الثاني، فكان أكثر إثارة للجدل، وتعلق بالحكم بعدم دستورية عدد من مواد قانون انتخابات مجلس الشعب، وافتراض المحكمة الدستورية لنفسها حق الإعلان عن أن حل مجلس الشعب يفتقد المشروعية منذ تأسيسه. لم تستخدم المحكمة الدستورية في منطوق حكمها، ولا حتى في حيثياته، كلمة "حل"، ولكن الانطباع الذي رسَّبه الحكم أنها أرادت حل المجلس المنتخب من 28 مليونًا من المصريين.
أحاطت قوات الجيش والشرطة مجلس الشعب لمنع النواب من العودة إليه. وخلال يومين من صدور الحكم، أرسل المشير طنطاوي، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، للدكتور محمد سعد الكتاتني، رئيس مجلس الشعب، يُعلمه بقرار المحكمة الدستورية، في إيحاء واضح بأن المجلس الأعلى يعتبر أن مجلس الشعب قد حُلَّ بالفعل. ولكن الكتاتني، مؤيدًا بعدد كبير من النواب، وكبار القضاة المتقاعدين والقانونيين الدستوريين، لم يزل يرى أن المجلس لم يُحَل، وأن الإعلان الدستوري المنظم للمرحلة الانتقالية لم يعط الحق بحل المجلس لأي من مراكز القوة التنفيذية، ناهيك عن منح هذا الحق لجسم قضائي، يفترض أن لا تكون له سلطة تنفيذية على الجسم التشريعي للدولة. ولم يفلح لقاء عُقِد بين الكتاتني والمجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 17 يونيو/حزيران 2012 في التوصل لحل مُرْضٍ لكلا الطرفين.
وتمثل القرار الثالث في قيام المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مساء يوم 17 يونيو/حزيران 2012، وبعد مرور ساعات قليلة على بدء عملية فرز الأصوات، بإصدار إعلان دستوري مكمل للإعلان الجاري العمل به. ينطلق الإعلان الدستوري الجديد من أن مجلس الشعب قد حُلَّ بالفعل، ويعيد سلطات مجلس الشعب التشريعية والرقابية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي سيظل محتفظًا بها حتى بعد تسلم رئيس الجمهورية المنتخب لموقعه في نهاية يونيو/حزيران وإلى أن يُنتخب مجلس شعب جديد. بهذا لن يكون باستطاعة رئيس الجمهورية وحكومته إصدار أي قانون، بما في ذلك الميزانية العامة، بدون موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. كما يستبطن الإعلان الدستوري، في نص غامض نسبيًا، حرمان رئيس الجمهورية من سلطات القائد الأعلى للقوات المسلحة، على الأقل حتى كتابة وإقرار دستور البلاد الجديد.
ويعطي الإعلان، إضافة إلى ذلك، للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الحق في تشكيل جمعية تأسيسية جديدة لكتابة الدستور خلال أسبوع من بروز حائل يمنع الجمعية التأسيسية الحالية، (التي انتخبها مجلس الشعب قبل توقف جلساته)، من مواصلة عملها. وينص الإعلان الدستوري على أن من حق رئيس الجمهورية أو رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو رئيس الوزراء أو رئيس الهيئات القضائية أو خُمس أعضاء الجمعية التأسيسية الاعتراض على أي نص يتم الاتفاق عليه في الجمعية التأسيسية وإحالة الأمر للمحكمة الدستورية للبت في الخلاف، بحيث يكون قرار المحكمة فاصلاً ونهائيًا.
ما تعنيه هاتان المادتان في الإعلان الدستوري الجديد أن الجمعية التأسيسية المنتخبة تعمل الآن تحت رحمة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأن أي تعثر في عملها أو اعتراض قضائي على قانونيتها سيؤدي إلى حلها مباشرة. كما أن قواعد التصويت التي أقرها مجلس الشعب لعمل الجمعية التأسيسية، في حال بروز خلاف بين الأعضاء حول نص ما، لم يعد لها من فعالية تذكر، طالما أن الإعلان الدستوري الجديد أعطى حق الاعتراض على نصوص مسودة الدستور لجهات عديدة، بما في ذلك خمس أعضاء الجمعية ذاتها.
في 14 يونيو/حزيران 2012، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة مرسومًا بتشكيل مجلس الدفاع الوطني، الذي كان نُصَّ عليه في الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس/آذار 2011. والمدهش أن المرسوم لم يثر انتباه كثيرين إلا بعد عدة أيام من نشره في الجريدة الرسمية. ينص المرسوم على أن مجلس الدفاع الوطني يتكون من رئيس الجمهورية، رئيسًا للمجلس، وعضوية 16 آخرين، 11 عضوًا بينهم من العسكريين، بما في ذلك وزير الدفاع؛ وأن المجلس يتخذ قراراته بالأغلبية المطلقة؛ وأنه يختص بالنظر في الشؤون المتعلقة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها.
كانت فكرة تشكيل مجلس للدفاع الوطني محل توافق بين كافة القوى السياسية، وتصورته القوى السياسية المختلفة باعتباره المؤسسة التي ستنظم الشراكة المدنية–العسكرية في تقرير المسائل الخاصة بأمن البلاد والدفاع عنها. ولكن صدور القرار بتشكيل مجلس الدفاع الموعود من أغلبية عسكرية يوحي برغبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في السيطرة على القرار الاستراتيجي للبلاد.
كما أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة قرارًا بتعديل قراره السابق رقم 56 لسنة 2011، ينص على تشكيل لجنة بديوان رئاسة الجمهورية للشؤون المالية والأفراد، برئاسة اللواء عبد المؤمن فودة، كبير الياوران، وعضوية أربعة آخرين. وبالرغم من توكيد المجلس الأعلى للقوات المسلحة على أن اللواء فودة لن يكون رئيسًا لديوان الرئيس، فالواضح أن ما سيترتب على القرار إجبار رئيس الجهورية الجديد على العودة إلى هذه اللجنة عند اتخاذ أي قرار يتعلق بمالية أو أفراد رئاسة الجمهورية، وأن يحصل على موافقة أغلبية اللجنة لنفاذ القرار. ولا يمكن فهم مثل هذا القرار إلا في سياق تقليص صلاحيات الرئيس حتى فيما يتعلق بمؤسسة الرئاسة نفسها، وشؤونها المالية وكادرها الوظيفي؛ بمعنى أن الرئيس لن يستطيع أن يعيِّن مستشارين أو معاونين له بدون موافقة لجنة الديوان، المعينة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
في النهاية، ولأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يحتفظ لنفسه بالسلطات التشريعية، فإن الرئيس المقبل للجمهورية لن يستطيع إصدار قوانين بمراسيم، بل لابد لأي مشروع قانون يخطط هو أو حكومته لإصداره أن يحال للمجلس الأعلى للقوات المسلحة للموافقة عليه. وهذا ما يعني أن القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بما في ذلك تلك الخاصة بتشكيل مجلس الدفاع الوطني أو ديوان الرئاسة، ستبقى نافذة ولن يستطيع رئيس الجمهورية تغييرها إلى أن يفقد المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطات التشريعية بعد انتخاب مجلس الشعب الجديد. ولأن عشرة أيام لا تزال تفصل بين الإعلان الرسمي عن نتائج انتخابات الرئاسة وتولي الرئيس مهماته، فإن أحدًا لا يعرف ما إن كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة يخطط لإصدار قرارات أخرى في هذه الأيام العشرة.
آفاق وملفات الصدام
إحدى أهم دلالات انتخابات الرئاسة، إذا أعلنت اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية فوز محمد مرسي، أنها تضع نهاية فعلية لسياسة الاستبعاد التي تبنتها الدولة المصرية تجاه الإخوان المسلمين طوال ثمانية عقود؛ وهذا الاستبعاد فرَّغ السياسة من معناها في مصر وولَّد فترات متفاوتة ومتكررة من الصراع والعنف الداخليين. القوة السياسية الرئيسية في البلاد تعود الآن للمشاركة في بناء الجمهورية الجديدة. من جهة أخرى، قد يجنَّب فوز مرسي البلاد من مخاطر عودة النظام السابق إلى الحكم، وما كان يمكن لفوز شفيق أن يحدثه من ردود فعل داخلية وفقدان للاستقرار.
ولكن الانتخابات أظهرت في الوقت نفسه أن البلاد، وقواها السياسية المختلفة، وحزب الحرية والعدالة على وجه الخصوص، تفتقد البنية التحتية الضرورية لممارسة السياسية في مناخ حر، ديمقراطي وتعددي. تفتقد مصر الجديدة مراكز أو شركات استطلاع رأي حرة ومحترفة؛ تعددية فعلية في وسائل الإعلام، الموزعة حاليًا بين ملكية الدولة وملكية رجال أعمال ربطتهم علاقات وثيقة بالنظام السابق؛ وتفتقد قاعدة متنوعة من رأس المال، القادر على مساندة توجهات وقوى سياسية مختلفة.
ولأن الحياة السياسية المصرية بعد الثورة تعاني من انهيار التوافق الضروري بين القوى السياسية لإنجاز عملية الانتقال إلى الديمقراطية، فقد توفرت للمجلس الأعلى للقوات المسلحة فرصة كبيرة لتعزيز موقعه ودوره. كان الحراك الشعبي قد نجح في تطويع إرادة المجلس الأعلى في أسبوع الاحتجاج الكبير، 18-25 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، عندما أُطيح بحكومة شرف ومعها وثيقة علي السلمي. ولكن فوز الإخوان والسلفيين في انتخابات مجلس الشعب، في يناير/كانون الثاني 2012، تسبب في ابتعاد كثير من القوى والشخصيات الليبرالية والعلمانية عن منطقة التوافق، ومحاولة البحث عن سند لدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمواجهة الثقل الإسلامي الكبير. في الوقت نفسه، كان الإخوان يرتكبون سلسلة من الأخطاء في سياق العلاقة مع الجماعات الشبابية الثورية والقوى السياسية الليبرالية والعلمانية، ساهمت هي الأخرى في تصعيد الخلافات السياسية. وما إن أُعلن عن تشكيل الجمعية التأسيسية الأولى، حتى تفاقمت حالة الخلاف والاستقطاب بين الإسلاميين والقوى السياسية الأخرى.
ما يقوم به المجلس الأعلى للقوات المسلحة اليوم لا يتصل بالتحوط من تسلم مرسي مقعد الرئاسة وحسب، ولكن أيضًا بهجمة مرتدة على الحراك الشعبي، تستهدف الحفاظ على سيطرة المؤسسة العسكرية على مقدرات الدولة والحكم، بصورة مباشرة وغير مباشرة، لأطول فترة ممكنة، أو إلى أن يرضى المجلس على موقعه وامتيازاته الدستورية.
ولذا، فإن موعد تسليم السلطة في 30 يونيو/حزيران 2012 سيكون مجرد بداية وليس نهاية الطريق نحو بناء جمهورية مدنية، حرة وتعددية. والواضح، على أية حال، أن كل ملفات الصراع على مستقبل البلاد باتت مفتوحة، سيما بعد المظاهرة المليونية في ميدان التحرير، مساء الثلاثاء 19 يونيو/حزيران 2012:
-
ملف الإعلان الدستوري المكمِّل برمته، المرفوض من الإسلاميين والقوى الثورية، والذي كان رفضه العنوان الرئيس لمليونية الثلاثاء 19 يونيو/حزيران 2012.
-
ملف مصير مجلس الشعب، الذي لم تزل أغلبية نوابه ترى أن أية جهة لا تسطيع اتخاذ قرار بحله.
-
ملف صلاحيات الرئيس المنتخب، خاصة في مواجهة تغول المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومحاولته فرض سيطرته على مقدرات الدولة والحكم.
-
ولا ينبغي إغفال احتمال، لم يزل ضعيفًا وإن لم يكن مستبعدًا كلية، أن يُفاجَأ المصريون بإعلان اللجنة العليا للانتخابات فوز شفيق وليس مرسي، متوسلة إلى ذلك بطريقة أو أخرى. خاصة وأن هناك من المؤشرات ما يوحي بذلك، كالتأخر في إعلان نتائج الانتخابات، وإشارة حملة شفيق إلى أنها تراهن على الطعون لترجيح كفتها، وإصدار المجلس العسكري بيانا عشية إعلان النتائج يحذر من الفوضى ويلوِّح بالقبضة الحديدية ويدعو إلى قبول نتائج الانتخابات التي ستعلن عنها اللجنة العليا، وهي كلها رسائل موجهة إلى الاخوان والقوى الثورية المساندة لهم.
أن تُفتَح هذه الملفات جميعًا في وقت واحد، وبعد أيام من انتهاء انتخابات الرئاسة، يعني أن مصر مقبلة على مواجهة مريرة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومعه مؤسسات الدولة والقضاء الموالية له، من جهة، والإخوان المسلمين، ومعهم، بدرجات متفاوتة من الصلابة، الجماعات الثورية الشبابية، والقوى السلفية المختلفة، وبعض القوى والشخصيات الليبرالية. قد تؤدي هذه المواجهة إلى انفجار سريع في الساحة السياسية، سيما إن أُعلن شفيق رئيسًا، أو إلى سلسلة متصلة من التدافعات والأزمات لعدة شهور مقبلة، وربما تمتد لأكثر من عام.
في النهاية، سيكون على المجلس الأعلى للقوات المسلحة تقديم تنازلات ملموسة لصالح بناء دولة مدنية، حرة، وديمقراطية، على أن يستمر الصراع بعد ذلك بوتيرة منخفضة، ولعدة سنوات مقبلة، من أجل تحرير الدولة كلية من السيطرة العسكرية. الخيار الآخر أن يقوم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بانقلاب عسكري سافر، بعد إدراكه أن الانقلاب العسكري المقنَّع الذي يقوم به منذ الأسبوع الثاني ليونيو/حزيران لم يحقق أهداف الاستحواذ على القرار وصناعة الاستقرار في الوقت نفسه.
في انتظار الصفقة التاريخية
لتأخذ مصر مسارًا يصب لصالح الحرية والتحول الديمقراطي، لابد من إدراك المسائل التالية:
-
لابد من الحرص على تولي الرئيس المنتخب مهمات منصبه في نهاية يونيو/حزيران 2012؛ إذ مهما كانت الضغوط ومخططات تحديد صلاحياته، فإن وجود رئيس جمهورية منتخب في موقعه، يقف إلى جانب الحركة الشعبية وضد مخططات السيطرة العسكرية على الحكم والدولة، هو أمر بالغ الأهمية في حسابات موازين القوة.
-
ما أصبح واضحًا بعد أسابيع من الجدل حول تقدم الإخوان بمرشح للرئاسة، أن الإخوان وحدهم من يملك المؤهلات ومصادر القوة الضرورية للوقوف أمام قوة المؤسسة العسكرية، وبقايا النظام السابق في جسم الدولة وخارجها. بدون الإخوان، كان المجلس العسكري سيبسط سيطرة كاملة على البلاد بدون عقبات تذكر من القوى السياسية الأخرى. لذلك بحساب الموازين الحالية، سيقود الإخوان الصراع بالضرورة، وستضطر القوى الأخرى إلى القبول بقيادتهم.
-
إن نجح الإخوان في حشد الجماعات الشبابية الثورية خلف أهداف واضحة ومحددة، بين مرحلة وأخرى، فلن يكون من الصعب إجبار الأحزاب السياسية غير الإسلامية على الالتحاق، تمامًا كما حدث في ميدان التحرير مساء الثلاثاء 19 يونيو/حزيران. لكن سيضطر الإخوان إلى بذل جهود مضنية لتحقيق التوافق بين كافة أطياف الساحة السياسية، على أن لا يكون ثمن هذا التوافق التنازل عن مطالب جوهرية. فالإخوان مضطرون، من ناحية، إلى أن ألا يخسروا الشارع الثوري من جديد، وأن يسلموا، من ناحية أخرى، أن من غير الممكن في هذه المرحلة لأية قوة سياسية التفرد بحكم البلاد.
-
لابد من أن يحدد الإخوان أهدافًا استراتيجية واضحة للحراك الشعبي والقوى السياسية المنضوية في إطاره، أهدافًا تؤمِّن الحد الأدنى من الانتقال بالبلاد إلى دولة مدنية، حرة وديمقراطية، وقابلة للتحقق في الآن نفسه. ولابد أن يتجنب الإخوان التفاوض على تنازلات جوهرية عن هذه الأهداف. إن تقديم تنازلات جوهرية في أيٍّ من ملفات الخلاف الكبرى، يظنها الإخوان، أو القوى السياسية الأخرى، تنازلات تكتيكية الآن، سيؤدي إلى دفع ثمن باهظ في المستقبل، يؤجل عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد لآجال طويلة، وينتهي بمصر، ربما، إلى وضع شبيه بالوضع التركي بعد انقلاب 1980، أو بالوضع الجزائري الراهن.
-
إحدى الحساسيات البالغة لخصوصية الوضع المصري أن مصر في حاجة ماسة لجيشها ولتماسكه وقوته. ولذا، فمن الضروري تجنب تحويل الصراع مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى صراع مع الجيش ككل، أو إلى حملة منفلتة لتشويه الجيش. صراع القوى الديمقراطية والثورية في مصر مع المؤسسة العسكرية لم يصل حتى لما يشبه الصراع ضد القوات الموالية للنظام في سورية. إن الهدف الاستراتيجي للثورة في مصر لابد أن يكون نقل المؤسسة العسكرية من موقع الوصي على البلاد إلى موقع الشريك في بناء نظام حكم ديمقراطي، حر، وإصلاح مؤسسة الدولة.
-
المسألة الجوهرية في المجمل أن يدرك الإخوان والقادة العسكريون، معًا، أن مصر قد تغيرت، وأن عملية التغيير ستستمر، سواء كان الثمن باهظًا أو أقل تكلفة. مثل هذا الإدراك سيكون ضروريًا لأن يخوض الإخوان المعركة من أجل تحقيق الأهداف الضرورية لمواصلة عملية الانتقال، وسيكون ضروريًا لأن يتراجع المجلس العسكري عن مواقفه قبل الوصول بالبلاد إلى لحظة الانفجار والصدام الدموي.
التوقع الأكثر احتمالاً و ربما الأفضل لمصر، أن هذه الأزمة، الأكثر استحكامًا منذ إطاحة مبارك، ستنتهي بصفقة تفاوضية بين الإخوان والمؤسسة العسكرية. هاتان هما القوتان الرئيستان في البلاد، وكل حديث عن قوة ثالثة لا تؤيده معطيات الواقع حاليا. هاتان القوتان فقط يستطيعان الحشد ويملكان القدرة على التنظيم والفعل، بغض النظر عن اختلاف مصادر القوة ووسائل كل منهما. فإذا كانت قرارات المجلس العسكري تحمي النظام السابق ولا تعدِّل فيها إلا تحت الضغوط، فإن المرشح المحسوب على النظام السابق حصل على قدر كاف من الأصوات جعله يكاد يتقاسم أصوات المصريين مع الإخوان.
على الطرفين أن يصلا إلى صفقة مرضية للأغلبية المصرية، تحافظ على مكتسبات الثورة وتسمح بتعظيم هذه المكتسبات خلال السنوات القليلة القادمة، وتطمئن المؤسسة العسكرية بأن الإخوان، وقوى الثورة الأخرى، لا يستهدفون تقويض الدولة المصرية، ولا يحملون مخططًا للثأر التاريخي.
ولكن التوصل إلى هذه الصفقة يتطلب تطويع إرادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتفرده في تقرير مستقبل البلاد؛ وأن يرتضي المجلس الإخوان شريكًا أصيلاً.
عندما يحين وقت التفاوض على هذه الصفقة، فإن الإخوان سيواجهون تحدي العمل بقدر كاف من الوضوح، للحفاظ على القطاع الأوسع من القوى الثورية والشارع المؤيد للثورة إلى جانبهم. إن خسر الإخوان من وقفوا معهم في انتخابات الرئاسة وما بعدها، فسيجهضون
عملية التغيير، وينتهون لقمة سائغة للهجمة المرتدة القادمة من المؤسسة العسكرية ومعسكر النظام السابق، الهجمة التي تنتظر، ليس بعيدًا، على قارعة الطريق.