مع منتصف هذا الشهر، تكمل الثورة السورية شهرها السادس عشر. وبالرغم من أن جماعات النشطين الأولى التي قادت الحراك الجماهيري، والأطر السياسية التي ولدتها الثورة، حرصت من البداية على سلمية الحركة الشعبية، فإن سورية تعيش الآن حالة من العنف المتفاقم، ساهمت في تصعيدها سياسات القمع الدموية التي تبناها النظام، وتدخلات إقليمية ودولية، وعجز النظامين العربي والدولي عن إيجاد حل سياسي للأزمة في سورية وفرضه.
وقد انقضت خلال الأيام القليلة الماضية سلسلة من اللقاءات التي تشير إلى أن الأزمة السورية تطورت بالفعل من حركة شعبية داخلية، تطالب بالحرية والتغيير السياسي، إلى أزمة بالغة التعقيد وذات طابع دولي. ولكن هذه اللقاءات، سواء تلك التي ضمت قوى المعارضة السورية أو أطرافًا عربية وإقليمية ودولية، لا توحي بأن الأزمة في طريقها إلى الحل، بل توحي هذه اللقاءات، وإلى جانبها جملة من المؤشرات الأخرى، إلى أن الثورة السورية تتحول تدريجيًّا إلى حرب استنزاف، قد تطول نسبيًّا، بين قوى الثورة السورية المختلفة، من جهة، ونظام الحكم وقوات الجيش الموالية والميليشيات التابعة له، من جهة أخرى.
مؤتمر جنيف: ورقة الحكومة الائتلافية
عقدت مجموعة الاتصال حول سورية، التي تضم قوى دولية، على رأسها الولايات المتحدة وروسيا، وعدد من الدول العربية وتركيا، لقاء في مدينة جنيف يوم السبت 30 يونيو/حزيران 2012، سبقته توقعات متفائلة بالتوصل إلى توافق أميركي-روسي حول مستقبل النظام السوري. وكان الجانب الروسي قد فشل، أثناء التحضيرات للمؤتمر، في إقناع واشنطن وعدد من العواصم العربية بضم إيران إلى اللقاء؛ ما أدى في النهاية إلى استبعاد كل من إيران والسعودية. لكن، وبالرغم من المحادثات المكثفة بين وزيري خارجية الولايات المتحدة، هيلاري كلينتون، وروسيا، سيرغي لافروف، فإن الطرفين لم يتوصلا إلى اتفاق حاسم وقاطع حول الحل في سورية. شهد اللقاء تقدمًا بلا شك، ولكنه لم يكن كافيًا لإحداث انفراج ملموس في المواقف الدولية المتضاربة.
لا تزال الجهود الدبلوماسية لم تجد مخرجا للأزمة السورية، فالقوى الكبرى مختلفة حول مصير بشار الأسد، وخطة عنان لم تنجح في وقف قمع النظام للثائرين (الجزيرة) |
تمحور الخلاف بين روسيا، وإلى جانبها الصين، من جهة، والولايات المتحدة، ومعها الدول العربية المشاركة في اللقاء وتركيا، من جهة أخرى، حول المرحلة الانتقالية ومصير الرئيس بشار الأسد، وحول تقدير مسؤولية طرفي المواجهة المسلحة المتصاعدة في البلاد. وكان مصير الأسد، على وجه الخصوص، إحدى المسائل التي تطرقت إليها مسودة المشروع الذي تقدم به المبعوث العربي-الدولي حول سورية، كوفي عنان. ما طرحه عنان كان أن تُشكَّل حكومة ائتلاف وطني، تضم المعارضة وبعض شخصيات الحكم السوري، وتُمنح سلطات مطلقة لإدارة المرحلة الانتقالية، يستبعد منها كل من يعتبر وجوده معوقًا للعملية الانتقالية. وبالرغم من أن مقترح عنان لم ينص على استبعاد الأسد، فلم يتطلب الأمر كبير ذكاء للاستنتاج بأن المقصود هو الرئيس السوري.
في النهاية، لم يستطع الروس والأميركيون ردم خلافاتهما إلا باستخدام نص توافقي غامض. وافق الأميركيون والعرب وتركيا، للمرة الأولى، على مساواة عنف قوات النظام بعنف قوات المعارضة. ووافق الروس، للمرة الأولى، على التطرق لعملية انتقال سياسي في سورية. ولكن مصير الأسد ظل غامضًا؛ بمعنى أن البيان النهائي اقتصر على التوصية باتفاق السوريين على تشكيل حكومة ائتلافية تتمتع بكافة الصلاحيات، بدون الفقرة المتعلقة باستبعاد أية جهة. ولكن هذا لم يكن موضع الانتقاد الوحيد الذي وُجِّه لبيان جنيف؛ فقد خلا البيان أيضًا من أي جدول زمني، ومن أية إشارة لتحويل البيان إلى قرار دولي ملزم (تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة).
من جنيف إلى باريس: رحيل الأسد
خلال الأيام القليلة التالية لعقد لقاء مجموعة العمل الدولية حول سورية، سارع الطرفان، الروسي والأميركي، إلى تقديم تفسيراتهما المختلفة لما تم الاتفاق عليه في جنيف. وزيرة الخارجية الأميركية أكدت على أن لا بقاء للأسد في الحكم، وأشار مسؤولون أميركيون وغربيون آخرون إلى أن الروس وافقوا في جنيف، بعد ممانعة طويلة، على أن سورية بصدد انتقال للسلطة، وأن الحكومة التي تتمتع بكافة الصلاحيات لقيادة المرحلة الانتقالية تعني أن الأسد لا مكان له في مستقبل سورية. لم ترد وزارة الخارجية الروسية على مسألة انتقال السلطة، ولكنها كذَّبت في تصريح رسمي أن موسكو توافق على استبعاد الأسد، وأشارت إلى أن مصير الرئيس السوري لابد أن يُترَك للشعب السوري وتوافقه، ولكن الروس لم يوضحوا تصورهم لكيفية التوصل إلى هذا التوافق.
وفي مناخ من الخلافات، أصبح واضحًا أن مؤتمر أصدقاء سورية، المقرر عقده في باريس يوم الجمعة 6 يوليو/تموز 2012، سيصبح مناسبة للإعلان عن التفسير الغربي-العربي-التركي لاتفاق جنيف. ولتوقعهم هذا المسار، ولأسباب أخرى تتعلق باستمرار التدافع الدولي-الإقليمي على سورية، قرر الروس والصينيون التغيب عن لقاء أصدقاء سورية، في إشارة لا تخفى إلى تصميمهم على أن اتفاق جنيف هو أقصى ما يمكن التوصل إليه في هذه المرحلة.
تصاعد الخلافات الدولية حول سورية كان موضوع المقابلة التي نشرتها الغارديان البريطانية، في يوم انعقاد مؤتمر أصدقاء سورية، مع كوفي عنان، الذي لوحظ تغيبه عن لقاء باريس. هاجم عنان تنافس روسيا والغرب على سورية، وقال: "إن سورية ستواجه حربًا أهلية سيتسع نطاقها ما لم توقف روسيا والغرب ودول عربية تنافسها الهدّام لفرض وقف لإطلاق النار وإطلاق عملية سياسية". وأضاف المبعوث العربي-الدولي المشترك: "إن الدعم من مجلس الأمن الدولي بأسره للانتقال السياسي في دمشق كان إنجازًا كبيرًا لا ينبغي تبديده، على الرغم من الخلافات في لقاء جنيف لمجموعة العمل حول سورية". وقال -في تعليق على الانتقادات التي وجهتها المعارضة السورية لمهمته-: "نسعى لتنفيذ بعض القرارات التي جرى اتخاذها في جنيف، والأهم من ذلك استكشاف الطريقة الأكثر فعالية على أرض الواقع لوقف العنف وإطلاق العملية السياسية. وأنا افهم رد فعل المعارضة (السورية)، وربما فعلت الشيء نفسه لو كنت في محلها أو ذهبت أبعد، لأنها لم تحصل على 100% مما تريد؛ لكن هذا لا يعني أنها لم تحصل على شيء".
انتهى مؤتمر أصدقاء سورية كما كان متوقعًا؛ إذ لم يؤكد على رحيل الأسد وحسب، بل وطالب بأن يصدر مجلس الأمن قرارًا بشأن الانتقال السياسي في سورية تحت الفصل السابع، ووعد بمزيد من المساعدات الإنسانية للسوريين، ومساعدات مدنية للمعارضة. وإنْ أُضيف إلى بيان باريس تصريحات السيدة كلينتون، التي دعت لمعاقبة روسيا والصين على تعطيل عملية التوصل إلى اتفاق دولي حول التغيير في سورية. يمكن القول: إن مؤتمر باريس كان مهرجانًا لإظهار الحد الفاصل بين من يؤيدون ثورة السوريين ومن يعملون على المحافظة على نظام الحكم. وكما كان متوقعًا، أيضًا، خرجت قيادات المعارضة السورية، سيما قادة المجلس الوطني السوري، لتوجه انتقادات لاذعة لنتائج اللقاء، وإخفاقه بصورة ملموسة مقارنة بلقاء أصدقاء سورية السابق.
المعارضة ومؤتمر القاهرة: خلاف على التمثيل
بين لقائي جنيف وباريس، عقدت المعارضة السورية مؤتمرًا جامعًا في القاهرة (2 – 3 يوليو/تموز 2012)، بدعوة من جامعة الدول العربية وتحت رعايتها. المؤتمر الذي حضره زهاء 300 من قيادات ونشطاء المعارضة السورية، بما في ذلك بعض نشطاء الداخل السوري، تم تأجيله من قبل عدة مرات، وقُصِد به توحيد قوى المعارضة وتوافقها على تصور موحد للمرحلة الانتقالية ولسورية ما بعد نظام الأسد. ولأن مؤتمر القاهرة جاء في أعقاب لقاء مجموعة العمل في جنيف، وأن غموض بيان جنيف لم يكن خافيًا، فقد سارعت معظم أصوات المشاركين في مؤتمر القاهرة إلى التوكيد على أن لا مرحلة انتقالية في ظل وجود الأسد، وهو الأمر الذي انعكس أيضًا في الوثائق الصادرة عن المؤتمر.
شابت مؤتمر القاهرة خلافات حادة حول مسألتين رئيسيتين: مستقبل المعارضة كجسم سياسي، ووضع الأقلية الكردية. رفض أغلب المجتمعين مطالب القوى الكردية القومية التي شاركت في المؤتمر باستخدام مصطلح "الشعب الكردي" في الفقرة المتعلقة بحقوق الأكراد، وهو ما أدى إلى انسحاب القوى الكردية، بالرغم من أن رئيس المجلس الوطني السوري الحالي، وأحد أبرز المشاركين في المؤتمر هو الناشط السياسي الكردي عبد الباسط سيدا (الذي لم يوافق القوميين الأكراد على الانسحاب، على أية حال). ولكن المسألة التي عكست الخلاف الدائم بين قوى المعارضة، سيما بين هيئة التنسيق والمجلس الوطني، فتعلقت بما إن كانت هناك ضرورة لتشكيل لجنة متابعة بعد انفضاض المؤتمر. ما كان يعنيه هذا المقترح أن اللجنة ستتحول تلقائيًا إلى الممثل السياسي للمعارضة السورية، وتضع بالتالي نهاية لوضع المجلس الوطني، الذي يرى قادته أنه الجسم السياسي الحائز على أكبر قدر من الشرعية لتمثيل ثورة الشعب وحركته.
اتفق المؤتمرون في النهاية على وثيقتين رئيستين، الأولى: تتعلق بالرؤية السياسية المشتركة للمرحلة الانتقالية، وكان أبرز ما حملته هو المطالبة بإسقاط السلطة الحاكمة كلية. أما الثانية، فحملت عنوان "وثيقة العهد الوطني: العدالة، الديمقراطية، والتعددية"، ولم تختلف في تصورها لمستقبل سورية عن تلك التي خرج بها لقاء المجلس الوطني وقوى المعارضة الأخرى في إسطنبول قبل شهور. ولكن عدم الاتفاق على تشكيل لجنة المتابعة كان مؤشرًا واضحًا إلى أن التوافق على الرؤية لا يعني تبلور جسم واحد لقوى المعارضة وشخصياتها، وأن الخارطة السياسية للمعارضة السورية ستبقى على ما هي عليه، على الأرجح. وربما يكون مؤتمر القاهرة المحاولة الأخيرة في جهود التوحيد التنظيمي للمعارضة.
حرب استنزاف قد تطول
توحي لقاءات جنيف والقاهرة وباريس، التي تمت خلال فترة لم تتجاوز أسبوعين، بحجم الجهد الكبير الذي باتت الأزمة السورية تتطلبه على الأصعدة السورية والعربية والدولية. ولا يمكن القول: إن هذه الجهود لم تثمر، أو إنها لم تأت بجديد. ثمة قبول روسي واضح بأن تغييرًا سياسيًا لابد أن يقع في سورية، وهو القبول الذي يعكس حجم الضغوط التي تتعرض لها القيادة الروسية عربيًّا ودوليًّا، وأن موسكو تخلّت أخيرًا عن الإشادة بإصلاحات نظام الأسد أو تبني سياسة المطالبة بإصلاحات يقوم بها النظام. وهناك مؤشرات من مؤتمر أصدقاء سورية على مزيد من الدعم لقوى المعارضة. وهناك، أخيرًا، توافق سوري وطني على وثيقتين رئيستين. ولكن هل يكفي هذا كله للاستنتاج بأن الأزمة في طريقها إلى الحل؟
الإجابة بالتأكيد: لا. ثمة تطورات ثلاثة تعيشها سورية منذ بداية يونيو/حزيران 2012، تشير بوضوح إلى تفاقم الأزمة، لا إلى نهايتها:
-
الأول: أن مبعوث الأمم المتحدة عجز حتى الآن عن تطبيق أي من مشروع النقاط الست الذي اقترحه للتعامل مع الأزمة؛ بل إن الأمم المتحدة أوقفت فعليًّا بعثة المراقبة الدولية التي أرسلتها إلى سورية.
-
الثاني: أن معدلات العنف وصلت إلى مستويات قياسية منذ انطلاق الثورة؛ فمن ناحية، تبدو قوات النظام وكأنها تسابق الزمن لفرض سيطرتها على أنحاء البلاد، موقِعةً خسائر فادحة بالأهالي، في كافة المناطق الثائرة. ومن ناحية أخرى، تحسن أداء قوات الجيش الحر، سواء من حيث التسليح، أو من حيث انضمام المزيد من الضباط والجنود المنشقين إلى صفوفها، إضافة إلى الآلاف من المدنيين المتطوعين.
-
الثالث: يتعلق باتساع الهوة بين النظام والقوى التي تدعمه، مثل إيران وروسيا، من جهة، وقطاعات الشعب المناهضة وقوى المعارضة والدول العربية والإقليمية والغربية التي تساند الثوار السوريين، من جهة أخرى؛ فبينما يحاول المعسكر الأول الحفاظ على قلب النظام الأساسي بكل الوسائل، ومهما بلغت التكاليف، يستهدف المعسكر الثاني إسقاط النظام كلية. ما كان يمكن تصوره قبل شهور من وجود مساحة سياسية رمادية في الوسط، يمكن أن تفتح مجالاً للتفاوض، تبخر عن آخره في دوامة العنف المتصاعدة.
ليس ثمة مؤشر على أن روسيا والصين ستخطوان، سريعًا، خطوة أخرى باتجاه التوافق مع الدول الغربية على مصير الأسد. ولكن حتى إن تغير الموقف الروسي، وقبلت موسكو بأن المرحلة الانتقالية تتطلب تنحي الأسد، فليس هناك ما يضمن بأن الأخير والمجموعة العلوية الملتفة حوله ستتخلى عن الحكم، سيما أن هناك في رأس النظام وفي أوساط إيرانية من يرى أن الخيار الأخير للأسد قد يكون تقسيم البلاد وانسحاب النظام إلى دولة علوية. ما أصبح واضحًا الآن، على أية حال، أن سورية ماضية نحو حرب استنزاف طويلة، ستحسمها المقدرات العسكرية للطرفين، وأن أي حل سياسي لن يبدأ في التبلور قبل أن تستشعر قيادة النظام ومن يقف خلفها أن الهزيمة باتت محققة.