إستراتيجية إيران في ظل العقوبات الجديدة

تسعى إيران لإقناع الولايات المتحدة وإسرائيل بأنها لا تريد حربًا، وتريد إقرارا بحقها في صناعة نووية سلمية والتسليم بها كقوة إقليمية ورفع العقوبات عنها، إلا أن قواعد اللعبة ستتغير في حالة إذا ما شن أحد الطرفين هجومًا على الآخر.
201282828835734_2.jpg


العقوبات لم تحقق النتائج المتوقعة، فإذا كانت العقوبات قد زادت فكذلك قدرات إيران النووية (غالو غيتي)

بعد 33 عامًا من المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية وعقدٍ من المحادثات التي كان الفشل حليفها، ترى إيران أن القضية الحقيقية ليست قضية نووية وإنما هي قضية تتعلق بتغيير النظام. أما الغرب الذي يفتقد للدليل الدامغ على وجود السلاح النووي في إيران فقد قرر الاتجاه إلى فرض العقوبات عليها حيث ستقف إيران مكتوفة الأيدي عاجزة عن دحضها. أما إذا ما قررت إسرائيل شنَّ الهجوم على إيران فإن قواعد اللعبة ستتغير تمامًا.

خلال الأسبوعين الماضيين، انصب كل حنق أوروبا والولايات المتحدة الأميركية على إيران وبلغ تلك الدرجة التي كانت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون قد حذرت من بلوغها في بداية إدارة أوباما وهي "العقوبات التعجيزية". ومن آثار هذه العقوبات على إيران: انخفاض صادرات البترول بما يفوق 1.3 مليون برميل يوميًّا، وتراجع ما يقرب من 10 بليون دولار من التجارة السنوية مع الإمارات العربية المتحدة، والتي تمثل مصدرًا رئيسًا في الواردات الإيرانية، فضلاً عن انهيار الريال الإيراني وارتفاع التضخم بنسبة 30%، بالإضافة إلى أنه من المتوقع انخفاض العائد السنوي بنسبة 50% بما يوازي 50 بليون دولار.

لقد أصبحت إيران منعزلة بالفعل؛ إذ انكمشت صادراتها من البترول وصارت ممنوعة من الوصول إلى الشبكات والأسواق المالية الدولية، كما تم إدراج العديد من شركاتها ومسؤوليها على القائمة السوداء.
إن العقوبات المفروضة على إيران تهدف إلى إجبارها على وقف برنامجها النووي؛ حيث يتهمها الغرب باستخدام هذا البرنامج لتصنيع القنبلة النووية. أما إيران فتدعي أنها تستعين به لأغراض الطاقة والاستخدامات الطبية.

وقد جاء رد إيران الرسمي على هذه العقوبات من خلال أربعة محاور:

  • أولاً: هددت باستخدام اليورانيوم المخصب لتزويد غواصة بالوقود وتحويل أسطولها البحري إلى قوة نووية (وهو ما يحتاج إلى 92% من النقاء)، فيما يُعد دليلاً على قدرتها الخارقة على تجاوز الخطوط الحمراء حتى قبل أن يدرك الغرب أن ثمة خطًّا أحمر يمكن تجاوزه.
  • ثانيًا: أصدرت تقريرًا يشرح رؤاها وأهدافها ويدعو إلى محادثات تُعقد كل ثلاثة أشهر، فيما يعد إقرارًا يلزم كل الأطراف بالانتظار ريثما تُعقد الانتخابات الرئاسية القادمة.
  • ثالثًا: بادرت إلى شنِّ ما أطلقت عليه وسائل الإعلام "الهجوم الأخاذ"؛ إذ قام سفيرها بالأمم المتحدة بتقديم ضمانات بأن الأمر لن يتطور إلى صراع، إشارة إلى أنه لن يتم على الفور غلق مضيق هرمز، رغم أن قدرتها المالية على القيام بذلك قد تراجعت كثيرًا مع فرض العقوبات التي قلَّلت من تدفقات صادراتها البترولية ووارداتها من السلع.

إن رد الفعل الإيراني المتساهل تجاه نظام العقوبات الشرسة يتواءم مع ما يطلق عليه حسين موساويان، وهو باحث إيراني بجامعة برينستون ومفاوض نووي سابق، شخصية إيران ما بعد الثورة؛ إذ يرى أن المثالية الثورية تفسر فشل إيران في تبني مناهج الواقعية السياسية حيال التهديدات القادمة من الدول الأخرى، مثل فشلها في الرد بالمثل على استخدام الرئيس العراقي صدام حسين للأسلحة الكيماوية في الحرب العراقية-الإيرانية. وهو ما قد يفسر أيضًا لماذا يقف الغرب حتى الآن عاجزًا عن تقديم دليل دامغ على أن إيران تقوم بتطوير السلاح النووي -وذلك رغم وفرة الاستطلاعات عبر القمر الصناعي والمعلومات الاستخباراتية التي تم جمعها خلال عقدٍ من التواجد العسكري على جانبي الحدود الإيرانية- لأنها ببساطة لا تمتلك سلاحًا نوويًّا، وإن كانت تتمتع بالقدرة على ذلك.

لقد دخلت مفاوضات تسوية الأزمة النووية المستعصية عامها العاشر، وخلال هذه الفترة تم عقد أكثر من 22 اجتماعًا رفيع المستوى وعددًا لا حصر له من الاجتماعات الفنية، كما أنه ومنذ عام 2006 عندما أصبحت الولايات المتحدة الأميركية طرفًا في المحادثات لم يتم إحراز أي تقدم ملحوظ.

غضب متراكم

والسبب وراء هذا الغضب المتراكم هو أن القضية النووية ليست إلا واحدة من مجموعة من القضايا المتراكمة التي أوقعت الشقاق بين إيران وأميركا؛ فهما حبيسان داخل علاقة ثنائية من الارتياب الذي يرقى إلى حد الهوس، وعداوتهما المحفوفة بالمخاطر تعود بتاريخها إلى 33 عامًا مضت منذ اندلاع الثورة الإيرانية، التي أطاحت بالشاه حليف أميركا القوى وجاءت بالحكم الإسلامي الديني إلى السلطة.

منذ البداية، رفضت أميركا النظام الجديد ولم تعترف به رسميًّا أبدًا. وفي نفس هذا العام جاءت أزمة احتجاز الرهائن الأميركيين لتحسم مصير أشد المواجهات صعوبة في تاريخ سياسات الدول الحديثة. إذ تفجرت هذه الأزمة لأن واشنطن وافقت على استقبال الشاه لأسباب علاجية، كما أنها لم تطالب الشاه أو أيًّا من أفراد أسرته بالتنازل أولاً عن العرش، فضلاً عن أنها لم تكن قد أخطرت الحكومة الإيرانية بانتقال الشاه إليها. أما من وجهة النظر الإيرانية، فإن الإستيلاء على السفارة عقب دخول الشاه لأميركا مباشرة كان بهدف حماية الثورة من انقلاب يدبره جهاز الاستخبارات الأميركية مثل الانقلاب الذي وقع في بداية الخمسينيات ودُبِّر في نفس قبو هذه السفارة وأطاح بمحمد مصدق الذي كان قد أمَّم البترول.

لقد أدت الأخطاء الثقافية من كلا الجهتين إلى أول مواجهة ممتدة بين أميركا وإيران، والمعروفة اليوم بأزمة الرهائن. لقد كان ذلك حدثًا فريدًا في تاريخ الولايات المتحدة؛ إذ جعلها تشعر بالعجز على الساحة الدولية وسلبها صورتها المثالية كدولة محبوبة لما تتمتع به من مُثُل ديموقراطية عالمية؛ كما أنها تعرضت ولأول مرة للإدانة اللفظية بوصفها بالإمبريالية ومناصرة ديكتاتور مجرم. لم تنس الولايات المتحدة أبدا هذه الإهانة ولم تغفرها لإيران قط.
في ذلك الحين، كانت إيران "تستعد" للمعركة وأصبحت متهيأة لقيادة العالم بمذهب إسلامي سياسي جديد، وقدمت خيارًا ثالثًا "لا هو بالشرقي ولا بالغربي". ولقد أثبتت المعركة التي خاضتها أنها نموذج استثنائي لما يهدف بحق إلى محاربة قوة أحادية القطب.

ترزح إيران تحت العقوبات الأميركية منذ 30 عامًا من إجمالي 33 سنة هي عمر الثورة الإيرانية، وخلال هذه الفترة لم تُرسِ أميركا أية علاقات دبلوماسية مع إيران (وهي التي كان لها، حتى في أحلك ظروف الحرب الباردة، سفارة في موسكو). كما أن الأمم المتحدة، بقيادة أميركا، فشلت في إدانة غزو العراق لإيران عام 1980، وتباطأت لسنوات طويلة في إدانة صدام حسين لاستخدامه الأسلحة الكيماوية. إن تخلي الأمم المتحدة عن إيران أثناء الحرب العراقية-الإيرانية جعل إيران تشعر بأن عليها أن تعتمد على نفسها فحسب، وهو درس لم تنسه قط، كما كان له بالغ الأثر أثناء القضية النووية. كانت إيران أيضًا هدفًا لأول استخدام معترف به رسميًّا للحرب الإلكترونية، ستوكسنت، والذي صدَّق عليه الرئيس أوباما في بداية توليه الرئاسة، حتى وإن بدا مادًّا يد الولايات المتحدة للتعاون وطالبًا من إيران أن تخفف من توتر العلاقات.

كان ظهور القضية النووية على السطح عام 2002 أثناء فترة رئاسة الرئيس بيل كلينتون، نتيجة لمعلومات سربتها منظمة تصنفها الولايات المتحدة على أنها إرهابية وتُدعى: مجاهدو خلق إيران، والتي قتلت أثناء حكم الشاه ستة من المواطنين الأميركيين، كما قتلت العديد من رجال الدين بعد الثورة الإيرانية، مما وضعها على قائمة الإرهاب في الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها. لقد قامت هذه المنظمة ومن خلال معسكرها الموجود على الحدود الإيرانية-العراقية بنشر معلومات عن أن إيران تقوم بتسليح برنامجها للطاقة النووية.

ويُعد ذلك هو الدليل المادي الوحيد على أن إيران تمتلك برنامجًا للتسليح، والذي وفقًا لتقييمات لاحقة صدرت عن تقديرات الاستخبارات الوطنية الأميركية (NIE) قد بدأ عام 2002 وأُغلق عام 2003. وقد كشفت فقرات استخلصت من أحدث تقرير لتقديرات الاستخبارات الوطنية المتاح للجمهور أنه قد تم تطوير السلاح استهدافًا للعراق وليس إسرائيل. وعندما غزت أميركا العراق عام 2003 وأطاحت بصدام حسين، أغلق الإيرانيون برنامج التسليح. أما إيران فما زالت مصرَّة على عدم التصريح بنفس المعلومة لأنها تخشى هجوم إسرائيل، التي سبق لها بالفعل ضرب منشآت أسلحة الدمار الشامل في العراق وسوريا، كما يمكن تفهُّم ذلك التحفظ في ضوء عدم ثقتها في المؤسسات الدولية ووصمها الدائم بالشر وتصويرها على أنها "محور الشر" رغم دعمها للجهود الغربية عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول لاحتواء القاعدة وطالبان.

في هذا المناخ، وفي وضع كانت إيران فيه محاطة بدول قوية نوويًّا (الولايات المتحدة في أفغانستان والخليج العربي، باكستان والهند في أقصى الشرق، روسيا إلى الشمال، وعراق صدام إلى الغرب، ثم إسرائيل) سعى رئيس الوزراء الإيراني محمد خاتمي إلى التواصل مع الرئيس جورج بوش مشيرًا إلى استعداد إيران لطرح كل القضايا على مائدة المفاوضات وبحث الوصول إلى "صفقة كبيرة"، بما في ذلك دعم إيران لحزب الله وحماس، وملف حقوق الإنسان بها، وبرنامجها النووي على نحو خاص؛ إلا أن البيت الأبيض لم يستجب قط.

في الواقع، لقد أجَّل الغرب وخاصة أميركا أي تعهد من أي نوع مع إيران، متحدِّين بذلك الأسلوب التقليدي لبناء الثقة والتواصل أولاً حول القضايا الأقل خطورة. ولكن ثمة ثلاثة موضوعات ذات أهمية بارزة:

  1. أفغانستان؛ حيث تتقاسم الولايات المتحدة وإيران المصالح في الإبقاء على حكومة مستقرة مناهضة لطالبان في كابول، وحيث يمكن لإيران أن توفر للناتو طرقًا للتموين بديلة عن تلك المارة بباكستان.
  2. السيطرة على تصدير الهيروين الأفغاني، التي تكلف إيران حاليًا الكثير من الدم والمال، والتي بدون إحكامها ستغرق أوروبا بالهيروين.
  3. وأخيرًا سوريا؛ إذ لو كانت الدول الغربية صادقة في الالتزام بإقرار السلام فيها -مثل كوفي عنان- لكانت قد رحبت بتعهدات كل القوى الإقليمية الكبيرة، وما كانت قد كالت بمكيالين عندما أدانت إيران لدعمها نظام الأسد وتغاضت عن روسيا. إن التضييق على إيران يعني أن السياسة المناهضة لإيران ستُودي بأية خطة للسلام أيًّا كان الثمن الذي يدفعه الدم السوري.

المشهد من وجهة النظر الإيرانية

كيف نفهم إستراتيجيات "نظام مؤدلج سلطوي وغير واقعي"، معرَّض لخطر أن يُفرض عليه تغيير النظام من قبل قوى تتصرف بناء على دليل غير موجود؟

إن أول هدف إستراتيجي لإيران هو أن يتم الاعتراف بسيادتها وحقها الشرعي، باعتبارها من الدول الموقعة على اتفاقية الحد من الانتشار النووي، في تطوير اليورانيوم المخصب لأغراض سلمية. إلا أن الغرب يرى أن هذه الحقوق إنما تعني تحمل المسؤولية، وهو ما يفسره على أن إيران يجب أن تعلق كافة أنشطة التخصيب إذا ما أعرب الغرب عن مخاوفه -وهو سيناريو لا يمنح إيران أية ضمانات على أنها لن تظل رهينة لوقف النشاط إلى ما لا نهاية. بينما ترى إيران أن حقوقها تأتي أولاً، وأنها حتى بدون التمتع بالاعتراف الكامل بحقوقها فهي ملتزمة بمسؤولياتها، ومنها على سبيل المثال قبول عمليات التفتيش المستمرة التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وتأخذ إيران هذا الأمر بجدية شديدة؛ إذ صرَّح القائد الأعلى علي خامنئي بأنه سيستقيل من منصبه إذا لم تتمكن إيران من ممارسة حقوقها الشرعية في تخصيب اليورانيوم.

في ذلك الحين، حوَّل الغرب ، بعد أن فشل في العثور على دليل دامغ، جهوده بهدوء للتصدي لنية إيران في تصنيع قنبلة نووية مدعيًا أنها ترغب في ذلك استجابةً لمقتضيات الواقعية السياسية وفي ضوء قدراتها المتنامية.

لم تستطع إيران أن تثبت العكس، أي أنها ليس لديها النية في تصنيع القنبلة. وفي هذا الصدد، صدر العديد من الفتاوى وأُريق حبر كثير تأييدًا لمزاعمها، إلا أن إيران لم يعد يصدقها أحد تمامًا كما هو الشأن مع النتائج التي تكشف عنها تقديرات الاستخبارات الوطنية الأميركية نفسها. إن عروض إيران بأن يتم نوع من المقايضة (سواء عرضها عام 2011 بأن تقلِّل نسبة التخصيب إلى 5% مقابل تزويد الغرب لها بقضبان الوقود، أو عرضها مؤخرًا بتخفيض نسبة الـ 20% من التخصيب الذي تقوم به وتصدير مخزونها الاحتياطي مقابل تخفيف العقوبات) كانت دائمًا ما يأباها الغرب مدعيًا أنها إما عروض ضعيفة وجاءت متأخرة أو أنها مجرد خدعة لكسب الوقت. عندما رفضت الولايات المتحدة خطة العمل التي اقترحتها روسيا عام 2011 لحل الأزمة، والتي وافقت عليها إيران، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الملأ أنه كان من الواضح أن خطة الغرب الحقيقية لم تكن تسوية الأزمة وإنما تغيير النظام. وبالفعل، فإن الحقيقة الضمنية هي أن ما يهم الغرب لا صلة له بالحد من الانتشار النووي ورفع مستوى السلامة، وإلا لكان استغل وانتهز أي عرض للحد من نسب التخصيب أو مبادلة اليورانيوم المخصب مقابل قضبان الوقود، باسم حماية المصلحة العامة.

أما ثاني إستراتيجية كبرى لإيران فهي رفع العقوبات عنها وحذف ملفها النووي من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فبعد عشر سنوات، فإن إيران تريد أن تستبدل ما لديها من مخزون احتياطي من اليورانيوم المخصب بنسبة 20% مقابل التخفيف التدريجي للعقوبات (وليس مجرد قطع غيار الطيران المدني، وهو ما عرضه الغرب وما يعتقد أنه يجب أن يندرج تحت الإجراءات الإنسانية وليس السياسية). كما عرضت إيران أن تفتح منشآتها بمنتهى الشفافية إذا تم الاعتراف بحقها في التخصيب بنسبة 5%.

والحقيقة هي أن العقوبات لم تحقق النتائج المتوقعة، فإذا كانت العقوبات قد زادت فكذلك قدرات إيران النووية؛ وما بدأ منذ عشر سنوات بتخصيب 3% من خلال بضع مئات من أجهزة الطرد المركزي تضاعف ليبلغ 20% مع الآلاف من أجهزة الطرد المركزي. فضلاً عما سبق، فإن قرار إيران بالتخلي عن برنامج التسليح ليس له، إذا ما صدقت تقديرات الاستخبارات الوطنية، أية علاقة بالعقوبات بل هو قرار تم اتخاذه عقب سقوط صدام حسين. في الواقع، لقد أثبت الغرب أنه لعجزه عن الحرب فقد جاءت خططه- بما في ذلك العقوبات والعزل والإدانة والخطوط الحمراء- ذات تأثير ضعيف على الخيارات التي تبناها النظام الإيراني الحالي.

ويتمثل الهدف الإستراتيجي الثالث لإيران في أن يتم الاعتراف بها كقوة إقليمية مهمة؛ فمنذ شرع الغرب في احتواء إيران ثم العمل على عزلها، تبنت طهران إستراتيجية التوجه نحو "الشرق" لتضمن التأييد والدعم، ولتحمي تجارتها ونفوذها، ولتحظى بمكانة تخولها الهيمنة إقليميًّا. ويُعد اعتزاز إيران بالإنجاز العلمي المتمثل في البرنامج النووي أمرًا وثيق الصلة بهذه الإستراتيجية، ويفسر تأييده من قبل المتعنتين وقوى المعارضة على حد سواء. ورغم ذلك، فإن تلهف إيران وتوقها لدور إقليمي هو موضوع ثابت ومستمر وليس من المستغرب أن يعاد الإشارة إليه في تقريرها الأخير المقدم للأمم المتحدة. إلا أن إيران تعرف أيضًا أن "الصفقة الكبيرة" لن تكون إلا حُلمًا كاذبًا إذا ما اكتُشف أنها تطور سلاحًا نوويًّا، ناهيك عن استهداف إسرائيل.

أما إستراتيجية إيران الرابعة فهي تنمية الصناعة الذرية بهدوء وبطء شديديْن لدرجة أنها تجاوزت بالفعل العديد من الخطوط الحمراء دون أن تثير صراعًا مع الغرب. لقد نشأ الغرب في الواقع على حقائق أكسبته سمات العناد والتصلب، أما إيران فعلى النقيض من ذلك سلاحها الأساسي في العدوان (غير تمويل ميليشياتها المقربة) هو اللغة، التي تتلاعب بها لتسلط الضوء على ما تريده. إنها تتمتع بقدرة فائقة في استخدام البلاغة اللغوية في التخويف والتهديد والخداع ثم الانسحاب (عند ارتفاع سعر البترول)، وهي تستخدم الكلمات لمحاربة ومناورة أعدائها، وهي أداة غالبًا ما يكون الغرب الواقعي (وإسرائيل) شديدي التسرع حيالها.

إذا كان تغيير النظام، أكثر من التوصل إلى اتفاقية نووية، هو الهدف الأقصى للغرب؛ فإن أولى أولويات النظام الإيراني هو البقاء، مما يعني أن عليه الاعتماد على نفسه. وتبقى إيران قريبة من أعداء واشنطن القدامى: العراق وأفغانستان، لأن الثلاثة بشكل من الأشكال ضحايا لحروب الولايات المتحدة، وسترغب إيران في سحب الاثنين الآخرين إلى دائرة الصراع إذا ما صارت ضحية لجولة ثانية. ورغم ذلك وحيث إنه ما من ردع لأسلحة الدمار الشامل، سيكون همُّ إيران الأول هو إقناع الولايات المتحدة وإسرائيل بأنها لا تريد حربًا. إلا أن قواعد اللعبة ستتغير في حالة إذا ما شن أحد الطرفين هجومًا على الآخر. ستصر إيران على براءتها وعلى أنها لم يكن لديها النية قط في تصنيع قنبلة نووية؛ ولكن الآن يجب عليها أن تفعل لحماية سيادتها.