مع نهاية اغسطس/ آب 2012، أكمل الرئيس المصري، أول رئيس مدني للجمهورية والرئيس الأول لمصر الثورة، محمد مرسي، الشهر الثاني من رئاسته. الرئيس الذي كانت ولايته موضع شك وسخرية عندما تولى منصبه، بعد جولتين انتخابيتين قاسيتين ونتائج متقاربة، يبدو أنه استقر أخيراً في موقعه، مكذباً توقعات سقوطه السريع ومظهراً حنكة سياسية نادرة وشجاعة بالغة في اتخاذ القرار. وبعد عدة جولات خارجية سريعة، أخذته إلى أربع محطات مختلفة، يبدو مرسي وكأنه عازم على إعادة الحيوية للسياسة المصرية الخارجية.
حسم الصراع على قرار الجمهورية
تولى د. مرسي مقاليد الرئاسة بعد أن اتخذ المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حاكم البلاد منذ سقوط مبارك في 11 فبراير/ شباط 2011، سلسلة إجراءات دستورية لتقييد سلطات الرئيس. أهم هذه الإجراءات كان الإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره المجلس الأعلى في 17 يونيو/ حزيران 2012، على خلفية حكم مثير للجدل من المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب (البرلمان المصري)، أعاد السلطة التشريعية للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومنح المجلس سلطة تشكيل جمعية تأسيسية لكتابة الدستور، في حال تعرضت الجمعية القائمة للحل، واحتفظ للمجلس بالسلطة على شؤون القوات المسلحة. حاول الرئيس الجديد إعادة مجلس الشعب للانعقاد، ولكنه تعرض لهجوم كبير من المحكمة الدستورية والدوائر القضائية المتحالفة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وانتهت المحاولة، على أية حال، بالإخفاق.
لم يكن خافياً أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تصرف وكأنه شريك في الحكم. وبدون أن يتضح بشكل كامل الهدف الذي يسعى كبار قادة القوات المسلحة إلى تحقيقه، لم تمر عملية تشكيل حكومة د. هشام قنديل بدون تدخلات من المجلس. مثل هذا الوضع الملتبس لأداة الحكم، جعل الرئيس هدفاً للسخرية من دوائر إعلامية وسياسية، هالها وصول قيادي إخواني لمقعد رئاسة الجمهورية.
وفي حين يعتقد أن الرئيس كان يبحث طرق حل إشكالية ازدواج السلطة، وقعت الهجمة الإرهابية على موقع متقدم للجنود المصريين في سيناء مساء يوم الأحد 5 أغسطس/ آب 2012. ما أذهل الرئيس لم يكن فقط حجم الخسائر في صفوف الجنود، التي بلغت 16 شهيداً، ولكن أيضاً أن أحداً منهم لم يتمكن من إطلاق طلقة واحدة على المهاجمين. في اليوم التالي، وبالرغم من معارضة المسؤولين عن حمايته، ومعارضة المشير طنطاوي، وزير الدفاع وقائد الجيش ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، قام مرسي بزيارة شمال سيناء. وكما تفيد بعض المصادر، فلا زيارة الرئيس تلك لسيناء، في 6 أغسطس/ آب، ولا زيارته الثانية، في 10 أغسطس/ آب، التي أخذته إلى الموقع الذي تعرض للهجوم الإرهابي على الحدود المصرية – الإسرائيلية، مثلت تجربة مريحة للرئيس.
وتؤكد تلك المصادر، أن المشير طنطاوي ورئيس الأركان عنان، اللذين صحبا الرئيس في جولاته، تصرفا خلال الزيارتين وكأنهما أصحاب البيت، وأن رئيس الجمهورية مجرد ضيف رفيع، ولم يبديا شعوراً كافياً بفداحة ما حدث. لم يكتشف الرئيس حجم الإهمال لأمن المنطقة، وإهمال الجنود الملقى على عاتقهم مسؤولية أمن أقصى شرق البلاد وحسب، بل وتحسس عمق الأزمة التي تحيط بعلاقة السلطات العسكرية والأمنية بسكان سيناء. ومنذ عودته إلى القاهرة من زيارته الأولى، كان واضحا أن مرسي قد قرر اتخاذ الخطوات المناسبة لحسم الموقف السياسي، وإعادة الجيش إلى موقعه الطبيعي والضروري في حماية حدود البلاد وأمنها ومقدراتها.
أعلنت حزمة القرارات الرئاسية الأولى يوم 8 أغسطس/ آب، وحملت إبعاد كل من رئيس جهاز المخابرات العامة، قائد الحرس الجمهوري وقائد أمن الرئاسة، ومدير أمن القاهرة، ومحافظ شمال سيناء، عن مناصبهم؛ والطلب من المجلس الأعلى للقوات المسلحة إبعاد اللواء حمدي بدين، قائد الشرطة العسكرية، عن منصبه. بعض هؤلاء أطيح به لمسؤوليته عن الإهمال الاستخباراتي أو الأمني في سيناء، والبعض الآخر لعلاقته بالأجواء التي أحاطت بجنازة الجنود المغدورين، التي كان يفترض أن يلتحق الرئيس بها، والتي سيطرت عليها مجموعات من المعارضين للثورة وللإسلاميين، وشهدت اعتداءات مهينة على رئيس الوزراء، وعلى المرشح السابق للرئاسة عبد المنعم أبو الفتوح، وعلى قادة من حزب النور وشخصيات عرفت بدورها في الثورة. ويبدو أن هيئة الرئاسة قد وصلت إلى استنتاج بأنه كان هناك مخطط لإهانة الرئيس أيضاً في حال تواجده في الجنازة.
فاجأت قرارات مرسي الأولى الجميع، سواء قيادة الجيش والدوائر السياسية أو الشارع المصري؛ ولكن التأييد الذي أظهره عموم المصريين لحزم الرئيس وإجراءاته كانت مشجعة. مساء 11 أغسطس/ آب، كان نص إعلان دستوري جديد، يلغي الإعلان المكمل الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة في يونيو/ حزيران 2012، ويعيد للرئيس المنتخب صلاحياته التنفيذية والتشريعية في غيبة البرلمان، قد أعد. نشر الإعلان في صباح اليوم التالي في الجريدة الرسمية، ومن ثم أعلنت حزمة القرارات الثانية، التي تضمنت تعيين اللواء عبد الفتاح السيسي قائداً عاماً جديداً للجيش ووزيراً للدفاع، واللواء صدقي صبحي رئيساً للاركان، وإحالة كل من المشير طنطاوي والفريق عنان للتقاعد مع اختيارهما مسشتارين عسكريين للرئيس. كما تمت إحالة قادة البحرية والدفاع الجوي وقوات الجو للتقاعد، نظراً لأقدميتهم على اللواء السيسي، وتعيين كل منهم في منصب مدني.
بذلك، وضع مرسي حداً قاطعاً لالتباس السلطة، وللغموض الذي أحاط بوضع مصر السياسي في المرحلة الانتقالية. بعد تلك القرارات، يمكن القول إنه وحتى يتم إنجاز مسودة الدستور ويستفتى الشعب عليه، فإن السلطات التي بات الرئيس مرسي يتمتع بها تفوق حتى تلك التي كانت لدى مبارك.
خطوات سريعة في المجال الخارجي
كما كان متوقعاً، قام الرئيس مرسي بزيارته الخارجية الأولى إلى المملكة العربية السعودية (10 – 11 يوليو/ تموز 2012). ثمة عدد من الأسباب جعلت من السعودية أول مقصد لمرسي في الجوار العربي. العلاقات المصرية – السعودية هي علاقات تقليدية، تعود إلى ما قبل ولادة الجمهورية، ولم تضطرب هذه العلاقات إلا لفترة قصيرة في العهد الناصري. ولكن المهم في هذه المرحلة أن الثورة المصرية، وإطاحة نظام مبارك، وتولي شخصية إسلامية رئاسة الجمهورية الجديدة، تسببت في إثارة القلق في السعودية: دولة مصرية حرة وديمقراطية، في ظل قيادة إسلامية، قد تشكل تحدياً لمصداقية النظام السياسي السعودي. ولم يكن الرئيس المصري يسعى لتطمين الشركاء العرب التقليديين في السعودية وحسب، ولكن ليطمئن أيضاً إلى وضع الملايين من العاملين المصريين في السعودية.
في 11 أغسطس/ آب 2012، استقبل الرئيس المصري في القاهرة أمير قطر، سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الذي وصل العاصمة المصرية في زيارة قصيرة ليوم واحد. كان واضحاً أن الزيارة، التي تضمنت إعلان الضيف القطري عن إيداع 2 مليار دولار في البنك المركزي المصري لتعزيز وضع المالية المصرية العامة، تستهدف التوكيد على علاقات قطر بالقيادة والنظام المصريين الجديدين. ولكن، كون الزيارة سبقت قرارات مرسي الحاسمة بيوم واحد، فقد أثارت جدلاً في الأوساط السياسية المصرية حول خصوصية وعمق العلاقات بين الدوحة والرئاسة المصرية الجديدة.
خلال أسابيع قليلة، كان مرسي يصل إلى مدينة مكة المكرمة ثانية، للمشاركة في مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي الطارئ (14 – 16 أغسطس/ آب 2012)، الذي دعا له العاهل السعودي. كانت التوقعات جميعاً تشير إلى أن الأزمة السورية ستحتل أولوية اهتمام المؤتمرين، ولكن ما لم يكن متوقعاً هو أن يفاجئ الرئيس المصري، الوافد الجديد إلى منتدى القمة الإسلامية، بطرح مبادرة للتعامل مع الأزمة. لم يتقدم مرسي بمشروع تفصيلي، ولكنه اقترح تشكيل لجنة من الأربعة الكبار، ذوي الاهتمام المباشر بالأزمة السورية: مصر، السعودية، تركيا وإيران، للعمل على إيجاد حل. ثمة اعتقاد بأن المفاجأة لم تكن فقط في طرح المبادرة، ولكن أيضاً في طرح إيران طرفاً في اللجنة.
المنطق الذي أسس للمبادرة المصرية بسيط ولا يخلو من الابتكار: أن المبادرة توفر لإيران فرصة لأن تصبح طرفاً في الحل بدل أن تكون جزءاً من المشكلة، كما هو الحال الآن. ولكن، ونظراً لأن الدبلوماسية المصرية لم تكن قد أجرت الاتصالات الضرورية بالأطراف المعنية قبل طرح المبادرة، فإن الاستجابة لم تكن سريعة أو واضحة، سيما من إيران والسعودية. ولا بد من مرور بعض الوقت، وأن تنجز المباحثات الأولية، قبل أن يتضح ما إن كان التصور المصري لحل الأزمة السورية سيمضي قدماً.
كلمة الرئيس المصري محمد مرسي (وسط) في الجلسة الافتتاحية لقمة دول عدم الانحياز في طهران 30 أغسطس 2012 أثارت عاصفة من ردود الأفعال (الفرنسية) |
خطوة مرسي الكبيرة في السياسة الخارجية كانت الرحلة المزدوجة (27 – 30 أغسطس/ آب 2012)، التي شملت زيارة للصين لثلاثة أيام وتوقف، في طريق العودة، لعدة ساعات في العاصمة الإيرانية طهران.
الهدف الأساسي لزيارة الصين كان اقتصادياً، وهو ما يفسر العدد الكبير من رجال الأعمال المصريين الذين رافقوا الرئيس في رحلته. ولكن الدلالات السياسية لم تكن خافية. هذه أول خطوة للرئيس المصري خارج النطاق العربي، وأول زيارة لأي من الدول الكبرى. وبينما كانت التوقعات تشير إلى أن رحلة مرسي الدولية الأولى ستكون إلى الولايات المتحدة، ذهب الرئيس إلى الصين؛ في توكيد ربما على أن خيارات مصر الجديدة على الصعيد الدولي ستكون مفتوحة ومتعددة، وأن على واشنطن أن تعتاد على الطابع الاستقلالي للقرار المصري الخارجي.
أما الهدف من الزيارة القصيرة لطهران، التي أثارت عاصفة من ردود الفعل، منذ الإعلان عنها، فكان حضور الجلسة الافتتاحية لقمة دول عدم الانحياز وتسليم رئاسة المجموعة، التي كانت تقودها مصر في الدورة السابقة، إلى إيران. ألقى مرسي في المؤتمر كلمة مدوية، كانت موضع اهتمام عربي شعبي واهتمام دولي، بعد أن تضمنت هجوماً صريحاً على نظام الأسد في سورية والدعوة لتنحيه ومساندة الشعب السوري وثورته؛ بل إن مرسي لم يتوان، في إحدى فقرات خطابه، عن وضع نضال الشعبين الفلسطيني والسوري من أجل الحرية في سياق واحد. ولأن الرئيس المصري كان يتحدث في طهران، عاصمة الحليف الرئيس للنظام السوري، لم يعد هناك من شك في أن ما وصفت بأنها الزيارة التي قد تضع حداً للقطيعة الطويلة بين البلدين، تعني أن المقاربة المصرية الجديدة لإيران لن تغض النظر عن ملفات الخلاف واصطدام المصالح بين البلدين، سواء فيما يتعلق بالمسألة السورية أو غيرها من القضايا.
رئاسة جديدة وسياسة جديدة
ليس هناك شك في أن د. محمد مرسي نجح خلال الشهرين الأولين من عهده في إعادة بناء دوره وموقعه. ويبدو وكأنه يعمل بصورة حثيثة على إعادة بناء الجسم السياسي للدولة وبناء سياستها الخارجية. اقتران الداخل والخارج في حركة الرئيس المصري يشير إلى إدراكه لأهميتهما معاً في بناء شرعيته وشرعية النظام الجديد. بيد أنه من الضروري الحذر من المبالغة في قراءة قرارات الرئيس الداخلية وحجم التوقعات التي أطلقتها. مشكلة مرسي لم تكن مع الجيش المصري ولا حتى مع قادته؛ مشكلته كانت مع ازدواج السلطة التي أسست لها خطوات المجلس الأعلى للقوات المسلحة السابقة على تسلم الرئيس مهام موقعه. ولذا، فإن ما قام به الرئيس من حسم لهذا الازدواج لا ينبغي أن يرى باعتباره مسعى لإضعاف الجيش، لكونه العقبة الرئيسة أمام سيطرة الإخوان على الحكم والدولة، كما يشاع. الحقيقة، أن مرسي يهدف إلى تعزيز قوة الجيش ومقدراته، التي يرى أنها تراجعت إلى حد كبير في ظل الرئيس مبارك وبفعل انخراط قيادة القوات المسلحة في العمل السياسي بعد ذلك.
كما أن الاعتقاد بأن الإجراءات التي اتخذها مرسي تضع نهاية للارتباط الوثيق بين المؤسسة العسكرية وإدارة الدولة هو اعتقاد متسرع. التداخل بين المؤسسة العسكرية وإدارة الدولة، من جهة، وانخراط الجيش في قطاعات الاقتصاد الإنتاجي والتجارة والبناء، من جهة أخرى، هو تداخل عميق، وواسع النطاق، ويعود إلى عقود من الزمن؛ وقد يتطلب عقوداً أخرى لإعادة النظر في كثير من جوانبه، وإعادة بناء المؤسسة العسكرية، كما الدولة المصرية ككل، على أسس جديدة.
المهم الآن أن قيادة جديدة قد وضعت على رأس القوات المسلحة المصرية، وأن هذه القيادة تدرك أبعاد الثورة المصرية ودلالاتها. وإن كانت القيادة الجديدة للقوات المسلحة أعلنت التزامها بالشرعية السياسية وبدأت عملية إصلاح أوضاع الجيش، فإن الرئيس، من جانب آخر، بدأ إعادة بناء الرئاسة المصرية باعتبارها مؤسسة، متعددة الأطياف، وليس مجرد فرد؛ تماماً كما وعد في حملته الانتخابية.
على صعيد السياسة الخارجية، ينبغي أيضاً التزام الحذر في تقدير الخطوات الصغيرة والمتلاحقة التي اتخذها الرئيس مرسي. فقد أثارت زيارات الرئيس المصري للسعودية والصين وإيران تعليقات متناقضة. ففي حين رأى البعض في زيارة السعودية والموقف الحاسم المعلن في طهران من الأزمة السورية دليلاً على أن النظام المصري الجديد لن يغير في سياسة الانحياز للمعسكر الأميركي وحلفائه الإقليميين، رأى آخرون أن الذهاب إلى الصين ومجرد التوقف في إيران دليل على أن مرسي سيأخذ مصر إلى المعسكر المناهض للسياسة الأميركية وإلى معسكر تحالفي جديد.
الحقيقة، تبدو أقرب إلى الموقف الوسط، ليس بالمعنى الميكانيكي ولكن بقدر ملموس من سابق التصميم والتصور. ما يحاوله مرسي، على الأرجح، في هذه الفترة المبكرة من رئاسته، ليس التخلي عن التحالفات السابقة أو الاقتصار عليها، بل فتح قائمة الخيارات، إقليمياً ودولياً.