من اليمين، مصطفى بن جعفر، حمادب الجبالي، ومنصف المرزوقي (الجزيرة) |
بحلول 23 أكتوبر/تشرين الأول 2012، تنقضي سنة على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي بتونس، وهي المدة المقررة مبدئيًّا من أجل إنهاء صياغة الدستور لتشكيل مؤسسات منتخبة جديدة، لكن المجلس لم يكمل حتى الآن عمله، فثار جدل بين المعارضة التي ترى أن شرعيته الانتخابية انتهت، وبين القوى الحاكمة التي تنفي بحجة أن التأسيسي سيد نفسه.
ويتواجه الفرقاء السياسيون حول هذا الموعد بعد أن تشكّلت توازنات جديدة، فلقد التحقت قوى من اليسار بقوى النظام القديم؛ ويعرف الائتلاف الحاكم، الترويكا المكونة من النهضة وحزب المؤتمر والتكتل، مواجهة بين جناح يُلِحّ على إخراج قوى النظام القديم سريعًا من مفاصل الدولة وقوى أخرى تسعى إلى التعامل معها بتمهل وعلى مراحل. وكل فريق، سواء الائتلاف الحكم والمعارضة، أو داخل الائتلاف الحاكم نفسه، يحاول أن ينتهز فرصة 23 أكتوبر/تشرين الأول ليحقق مكاسب تقوِّي مركزه إما للبقاء في السلطة أو الوصول اليها.
اصطفافات سياسية
بالنسبة للمتابعين للوضع في تونس فإن الخلاف حول 23 أكتوبر/تشرين الأول هو في الأصل خلاف حول الحكم وكذلك حول الثورة، يؤثر في التحالفات السياسية السابقة أو الناشئة؛ فالأطراف السياسية التي تشكّك في تواصل شرعية المؤسسات القائمة كانت هي نفسها تقريبًا التي اعتبرت في مراحل سابقة أن على المجلس الوطني التأسيسي أن يهتم فقط بصياغة الدستور وحاولت محاصرة صلاحياته، وهي تقريبًا قوى النظام القديم، مع مساندة من قبل القوى اليسارية التي ناضلت ضد النظام السابق لكنها انهزمت في تلك الانتخابات، بالرغم من أن اليساريين في جانب مهم منهم وقفوا في السابق ضد تحديد صلاحيات المجلس الوطني التأسيسي. والجدل في هذا الموضوع هو جدل سياسي بامتياز وإن اتخذ صبغة قانونية، فما يوحّد قوى النظام القديم والقوى اليسارية في معركة 23 أكتوبر/تشرين الأول، هو معارضتها للحكومة المنبثقة عن المجلس التأسيسي وليس للمجلس التأسيسي في حد ذاته.
ذلك أن كثيرًا من القوى المؤيدة للترويكا الحاكمة (وهي أحزاب النهضة والمؤتمر والتكتل) تعتبر أن أخطاء الحكومة وضعف أدائها هو الذي سمح بالالتقاء الحاصل بين القوى اليسارية وقوى النظام القديم. ومع أن الحكومة التي يقودها أمين عام حركة النهضة، حمادي الجبالي، تسعى إلى تدارك الأمر وتقديم إنجازات تُرضي التونسيين من أجل سحب البساط من تحت الراغبين في الاستفادة من الاحتجاجات الاجتماعية، إلا أنها تبدو مقيدة اليدين بسبب سيطرة أنصار النظام القديم على الإدارة، وسيطرة المعارضين لها على منظمات المجتمع المدني وعلى الإعلام الذي لا ينشر أخبارًا كافية عن مجهودات الحكومة بينما يفسح المجال لمهاجميها.
والحاصل هو أن الصراع يكاد ينحصر اليوم بين القوى التي انتصرت في الانتخابات الفارطة والقوى التي انهزمت فيها، وكذلك بين أنصار الحكومة الحالية وأنصار الحكومة التي سبقتها (حكومة قايد السبسي) والتي اعتبرها كثيرون إحياءً للنظام الذي قامت عليه الثورة، ما يعني بطريقة أخرى أن الصراع يبقى منحصرًا إما حول الثورة أو حول الانتخابات، مما يجعل القوى المقابلة للترويكا الحاكمة موحدة فحسب حول معارضتها على وجه الخصوص لحركة النهضة. على أن داخل صفوف أنصار الترويكا، يظهر صراع آخر يضع وجهًا لوجه الحكومة والمدافعين عنها، فالكثير من الأنصار الذين انتظروا قيامها بتطهير حقيقي للإدارة والإعلام من أتباع النظام السابق، يلومون الحكومة على اتباعها منهجًا مترددًا في الحكم يصل أحيانًا إلى التعويل على بعض أتباع النظام القديم في عدد من الوظائف.
تجد حكومة الترويكا نفسها إذًا في مواجهة عدد من الضغوط بعضها يعود إلى عدم إحكام سيطرتها على الوضع مما يجعل الكثير من قراراتها لا يُنفَّذ على أرض الواقع، خاصة مع مؤسسة أمنية فقدت الكثير من نجاعتها وتماسكها، وإدارة لا يزال يسيطر عليها عناصر من النظام القديم، في حين يعود بعضها الآخر إلى ترددها في السياسة الواجب اتباعها تجاه النظام القديم مما يضع أنصارها في حرج شديد. بالإضافة إلى ذلك، فإن بطء التنسيق بين مكونات الترويكا والمنافسة الواضحة التي حكمت في مرحلة طويلة أقطابها، جعلها تتفاعل غالبا مع تطورات الساحة السياسية بمنطق رد الفعل، فجاءت قراراتها متأخرة وبات التوتر أشدّ.
استراتيجية المواعيد السياسية
ومع اقتراب موعد 23 أكتوبر/تشرين الأول، بادرت مختلف القوى إلى صياغة استراتيجيات للاستفادة من الموعد أو للحد من تأثيراته السلبية، فأصدرت الترويكا التي تعقد منذ أواخر شهر سبتمبر/أيلول 2012 اجتماعات ماراثونية، مبادرة سياسية حددت فيها خارطة طريق للمرحلة القادمة، برزت ملامحها في بيان التنسيقية العليا لأحزاب الائتلاف الثلاثي الحاكم يوم 13 سبتمبر/أيلول 2012، ثلاثة أيام قبل انعقاد المؤتمر الوطني للحوار الذي رعاه الاتحاد العام التونسي للشغل، مما اعتُبر عملية سحب بساط من تحت كل ما يمكن أن يصدر عن هذا المؤتمر. إضافة إلى ذلك قاطع الحزبان الأكبر داخل الترويكا أشغال المؤتمر المذكور. وبالرغم من أن مقاطعة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (حزب الرئيس منصف المرزوقي) وحركة النهضة (حزب رئيس الحكومة) كانت بداعي عدم الحوار مع أنصار النظام القديم الذين تم استدعاؤهم للمؤتمر وأيضًا بسبب انخراط معظم المشاركين في مسار التشكيك في مشروعية المؤسسات القائمة بحلول موعد 23 أكتوبر/تشرين الأول، فإن السبب يبدو في الحقيقة أكثر ارتباطًا ببقية الأجندة التي طرحها منظمو مؤتمر الحوار وعدد من المشاركين فيه، وهي أجندة لم تُخْفِ أن الهدف هو تأسيس مجلس للحوار يناقش كل القضايا، مما اعتبره حزب المؤتمر وحركة النهضة محاولة لسحب البساط من المؤسسات الشرعية المنتخبة وبخاصة المجلس الوطني التأسيسي.
والحقيقة أن مبادرة الترويكا، التي أصبحت حتى في غياب حزب المؤتمر وحركة النهضة موضوع اجتماع مؤتمر الحوار الذي رعاه اتحاد الشغل، قد شكّلت علامة فارقة في السجال السياسي الحالي. فعلاوة على أنها وضعت تواريخ مضبوطة للانتخابات، فإنها شكّلت نقلة نوعية في العمل الداخلي لأحزاب الائتلاف الحاكم، حيث اتضح حجم التوافقات التي يمكن أن تصل اليها الترويكا بهدف تجاوز أكبر النقاط الخلافية، خاصة المتعلقة بطبيعة النظام السياسي المقبل، حيث اتجه الجميع إلى نظام مزدوج، فتخلت حركة النهضة عن النظام البرلماني الذي كانت تدافع عنه بمفردها في الساحة السياسية التونسية. حيث شكّلت الضغوط التي تعرضت إليها حركة النهضة والأخطاء التي وقعت فيها خلال الأشهر السابقة والضربات التي تلقتها في حادثة السفارة الأميركية بالخصوص، عوامل دفعتها للتراجع عن أطروحة النظام البرلماني، مما سيكون له أبعد الأثر في تمتين أواصر الائتلاف الثلاثي، ومما سيسهل عملية صياغة الدستور ويحقق، بتلافي الاستفتاء حوله، ربحًا كبيرًا في الوقت. في الوقت نفسه، ارتبكت الأحزاب الأخرى إزاء خارطة الطريق المقترحة من قبل الترويكا، بل إنها أصبحت لا تخفي رغبتها في تأجيل الانتخابات التي اقترحتها الترويكا ليوم 23 يونيو/حزيران 2013 إلى الخريف بعد أن كانت تستعجلها.
وبغض النظر عن السجال حول موعد 23 أكتوبر/تشرين الأول وحول مبادرات الأطراف المختلفة، فإن مبادرة الترويكا ومؤتمر الحوار الذي رعاه اتحاد الشغل قد امتصّا التوتر لدى أكبر قسم من الرأي العام التونسي فرَجُحت كفة أن يكون 23 أكتوبر/تشرين الأول يومًا عاديًّا.
ولم تقف مبادرة الترويكا على اقتراح مواعيد للانتخابات فقط بل إنها عبّرت عن التزامها بتفعيل الهيئات العليا الثلاث (الانتخابات والإعلام والقضاء)، وهو مطلب أساسي ظلّت المعارضة ترفعه طيلة الفترة الماضية، واقترحت السيد كمال الجندوبي لرئاسة هيئة الانتخابات مجددًا، وقد كان في الأصل مرشح المعارضة. كما أعربت الترويكا عن استعدادها للتفاعل الإيجابي مع مقررات مؤتمر الحوار وإن حافظت على توجسها من الأجندة المقررة له.
الصراع على المواقع
لكن تجاوز موعد 23 أكتوبر/تشرين الأول بسلام لا يتوقف على قرارات الفاعلين السياسيين في المركز فقط، ذلك أنه يمكن أن تحصل في الساحة أيضًا اختراقات قد تذهب بكل مساعي التهدئة أدراج الرياح. مثال ذلك ما وقع بمدينة تطاوين يوم الخميس 18 أكتوبر/تشرين الأول 2012، حيث تحولت مسيرة سلمية إلى أحداث عنف أودت بحياة أحد المعارضين. وكما كان متوقعًا فقد أخذت هذه المسألة حيزًا مهمًّا من التغطية الإعلامية، بل إنها سمحت لحركة نداء تونس بأن تظهر في مظهر الضحية التي تسعى الترويكا لإقصائها، وجعلت بعض رموز هذه الحركة يحمّل المسؤولية عن حادثة تطاوين لأطراف من الائتلاف الحاكم. من هذا المنطلق، فإن سعي حركة النهضة إلى تنظيم أنشطة احتفالية يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول بمناسبة الذكرى الأولى لأول انتخابات نزيهة في البلاد قد تستغله بعض القوى لإحداث انفلاتات أمنية خاصة مع ما يتردد عن اعتزام أنصار النظام القديم إحداث حالة من الفوضى في البلاد.
من هذا المنطلق يرى البعض أن أصوات النظام القديم المرتفعة خلال هذه الفترة لا تهدف فقط إلى التشكيك في شرعية المؤسسات المنتخبة، باعتبار أنها مؤسسات شكّلت علامة فارقة في القطع مع النظام القديم نفسه، وإنما أيضًا إلى تكثيف الحضور الإعلامي وجلب الأنظار الخارجية خاصة إلى حركة نداء تونس التي يُتوقَّع أن يقضي قانون استبعاد المسؤولين في نظام بن علي على كل آمالها في العودة إلى السلطة. من هنا، فإن حركة نداء تونس قد قررت أن تسلك سياسة هجومية ولكنها تسعى، باستخدام الإعلام الذي تسيطر على أعظم جانب منه، إلى أن تبدو في الوقت نفسه في موقف الضحية. المشكل هو أنه كلما زاد "نداء تونس" في البروز ازداد أنصار الترويكا المناهضون للنظام القديم تشددًا إزاء الحكومة ورغبة في تجاوزها، فيتهمونها بأن تهاونها في محاسبة النظام القديم ومكافحة الفساد هو الذي أكسب أنصار ذلك النظام الجرأة التي أصبحوا يتحلون بها اليوم.
بالموازاة مع هذه الضغوط، يسعى حليفا النهضة، وخاصة حزب المؤتمر، إلى الاستفادة من الوضع الناشئ من أجل دفع الحركة إلى تنازلات أكبر على مستوى النظام السياسي المقبل، ولكن أيضًا على أساس تقاسم القرار الذي احتكره رئيس الحكومة لنفسه في الأشهر الأخيرة. سيؤدي ذلك نظريًّا إلى تنازلات أكبر من جانب حركة النهضة لباقي الفرقاء السياسيين، وبالتالي إلى دفع البلاد في مسار تهدئة، لكن سيتوجب عليها بالموازاة مع ذلك أيضًا أن تقنع الرأيَ العام بأداء جديد، وأنصارَها بأنها ستكون أكثر وفاء لأهداف الثورة في مكافحة الفساد.
غير أن الترويكا وأنصار النظام القديم، ليسا القوتين المتقابلتين الوحيدتين في الساحة، حيث يتقاسم معهما الفضاء طيف من الأحزاب اليسارية والقومية الصغيرة التي شكّلت مؤخرًا ائتلافًا أطلقت عليه اسم "الجبهة الشعبية". وبالرغم من أنه لا أحد يتوقع أنه سيكون لهذا الائتلاف من 11 حزبًا، أي اختراق انتخابي في المستقبل القريب، إلا أن قدرة بعض أحزاب هذه الجبهة على توتير الوضع الميداني أمر أثبتته التجربة.
وبالرغم من أنه عُرِف عن بعض الأطراف الممثلة في هذه الجبهة عداؤها الشديد لأحزاب النظام القديم إلا أن الاتفاق على معارضة الترويكا، وبالأخص في معارضة حركة النهضة، شكَّل عامل تقارب مع "نداء تونس". وبالفعل فإن بعض المصادر تتحدث عن استعدادات تقوم بها أحزاب مثل "الوطنيين الديمقراطيين" لإثارة الاضطرابات في بعض المناطق وهو ما تستعد له قوات الداخلية. وقد جاء تغيير أكبر مسؤول أمني في البلاد أربعة أيام قبل يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول في نظر البعض دليلاً على استعدادات الوزارة لمجابهة أية انفلاتات.
استعادة المبادرة
امتصت المبادرات المختلفة، من الترويكا الحاكمة واتحاد الشغل، كثيرا من التوتر لدى الرأي العام المتخوف من اضطرابات أمنية واسعة في الفترة القادمة. ويُنتظر أن تلعب الرئاسات الثلاث، رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس التأسيسي، دورًا في تقريب المبادرات المطروحة على الساحة منذ أكثر من أسبوع. غير أنه من ناحية أخرى، فإن بعض المصالح السياسية تجعل قوى بعينها تفضل إثارة قلاقل أمنية. وفي السياق ذاته فإن أطرافًا مثل نداء تونس تخشى أية إجراءات قانونية تحرمها من النشاط في الفترة القادمة، فراحت تستبق قانون العزل السياسي الذي اقترحه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بإثارة الكثير من التشكيك والسجال الذي قد ينزلق نحو تصعيد أمني.
والحاصل، أن المبادرات السياسية والاستعدادات الأمنية الكبيرة، قلَّلَتا من احتمالات الانزلاق الأمني وأبقتا المبادرة بيد المجلس الوطني التأسيسي لتسوية الخلافات السياسية.