رئيس الوزراء التركي وزعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان يتحدث في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الحزب الرابع (رويترز) |
نظّم حزب العدالة والتنمية، (الأحد، 30 سبتمبر/أيلول 2012)، في العاصمة التركية أنقرة، مؤتمره العام الرابع منذ تأسيسه في 2001. ويُفترض أن يكون هذا هو المؤتمر العام الأخير الذي يترأسه زعيم الحزب ورئيس الوزراء التركي القوي، رجب طيب أردوغان، الذي عمل على أن يتحول المؤتمر إلى تظاهره حزبية كبرى، تعكس نفوذ الحزب الواسع ونفوذ زعيمه، وإلى تظاهرة سياسية إقليمية فريدة، تعكس دور تركيا المتزايد في محيطها، الذي يُعزى لسياسة أردوغان الخارجية. شهد المؤتمر ما يزيد عن 14 ألفًا من نشطاء الحزب وأعضائه، لم تستطع قاعة المؤتمر الضخمة استيعابهم جميعًا، وتابعه ملايين من الأتراك؛ كما شهده عدد كبير من الضيوف الأجانب، بمن في ذلك سياسيون من كافة دول المشرق، مثل الرئيس المصري محمد مرسي، وزعيم حركة حماس الفلسطينية، خالد مشعل، ورئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني، ورؤساء من دول آسيا الوسطى.
طرحت في المؤتمر خطة حزب العدالة والتنمية للنهوض بتركيا حتى 2023، الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية، وأشار زعيم الحزب إلى خطة أخرى تأخذ تركيا إلى سبعينيات القرن الحالي. وليس ثمة شك في أن حدث المؤتمر الرئيس كان الخطاب الذي ألقاه أردوغان، واستمر لثلاث ساعات، غطّى خلاله محاور عدة، من تاريخ البلاد وشأنها السياسي، إلى الاقتصاد والتنمية والشؤون الخارجية، وتضمن إحالات إلى أبيات شعرية، وتسبب في بعض لحظاته في بكاء الآلاف من أنصاره. هذا الخطاب حمل للمرة الأولى تلميحات أقرب إلى الوضوح عن تصور أردوغان لمستقبله والمستقبل السياسي الذي يبدو أنه يعمل على دفع البلاد إليه في السنوات المقبلة.
ينبغي، طبقًا للوائح المنظمة لعمل حزب العدالة والتنمية، على أي نائب عن الحزب في البرلمان، بمن في ذلك رئيس الحكومة نفسه، أمضى ثلاث دورات برلمانية، أن يتخلى عن مقعده البرلماني ويمتنع عن الترشح للانتخابات مجددًا، لدورة برلمانية واحدة على الأقل. ما يعنيه هذا في نظام حكم برلماني مثل النظام التركي أن أردوغان لا يمكنه الترشح مجددًا بعد نهاية هذه الدورة البرلمانية، ولن يمكنه بالتالي الاحتفاظ بموقعه رئيسًا للحكومة. ولأن الحزب، حديث الولادة نسبيًا، ارتبط منذ تأسيسه بشخصية أردوغان، حتى صار نجاحه الكبير في إدارة شؤون تركيا منذ انتخابات 2002 يُعزى إلى قيادته، فقد حاولت قيادات حزبية نافذة إقناع رئيس الحكومة بتغيير لوائح الحزب بما يسمح له بالاستمرار في القيادة. ولكن أردوغان قاوم الضغوط وأصرّ على أن ولايته الحالية هي الأخيرة له في البرلمان ورئاسة الحكومة. السؤال الذي شغل الدوائر السياسية طوال الشهور الماضية، داخل العدالة والتنمية وخارجه، يتعلق بما تبقى من مستقبل سياسي لأردوغان؟
في خطابه للمؤتمر الرابع، لم يقل أردوغان إنه سيتقاعد، أو إن ولايته الحالية تمثل خاتمة حياته السياسية. ما قاله كان في الحقيقة غير ذلك تمامًا: إنه سيستمر في خدمة الحزب والأمة التركية في أي دور آخر. وهذه أول إشارة إلى أن رئيس الحكومة يسعى لتولي رئاسة الجمهورية، المنصب الذي يحتله الآن رفيقه في تأسيس العدالة والتنمية، عبد الله غُل؛ الأمر الذي كان موضع تكهنات في الأوساط المقربة لرئيس الحكومة.
فإلى أي حد تبدو الطريق إلى رئاسة الجمهورية سالكة؟ وهل سيقبل أردوغان بمنصب هو الآن أقرب إلى الرمزية ويتمتع بسلطات محدودة؟ وأي مستقبل إذن ينتظر حزب العدالة والتنمية، وكيف سيملأ الحزب الفراغ الكبير الذي سيتركه أردوغان في رئاسة الحكومة؟
هندسة دستور الجمهورية الجديد
بعد يومين فقط من مؤتمر العدالة والتنمية العام، أقدم أردوغان على خطوة أخرى للإفصاح عن نواياه؛ ففي حديث إلى مجموعة حزبه البرلمانية، قال رئيس الحكومة: "نحن لم نستبد على أحد... ونحن نأمل في وضع دستور جديد معًا كأمة... التوقيت واضح، فإما أن يكتمل العمل مع نهاية هذا العام، أو أن أحدًا لا يجب أن يشغل وقتنا، وسنمضي في طريقنا".
ما قصده أردوغان في كلماته هو اللجنة البرلمانية لكتابة الدستور، التي كان الحزب الحاكم، صاحب الأغلبية البرلمانية الكبيرة، قام بتشكيلها من ثلاثة أعضاء من كل من الأحزاب الأربعة الرئيسية في البرلمان: العدالة والتنمية، وأحزاب المعارضة الثلاثة، الشعب الجمهوري، القومي، والسلام والديمقراطية. ويترأس اللجنة منذ بدأت عملها جميل تشيشيك، رئيس البرلمان التركي. وبالرغم من أن برنامج العدالة والتنمية الذي تقدم به للشعب في الانتخابات الماضية وعد الأتراك بوضع دستور جديد، فهذه هي المرة الأولى التي يجعل فيها أردوغان من الدستور أولوية صريحة لحكومته.
كان الاتفاق الذي عقدته الأحزاب الممثلة في البرلمان التركي في أكتوبر/تشرين الأول 2011 حول تشكيل اللجنة الدستورية قد أقر بالفعل مهلة زمنية تنتهي في ديسمبر/كانون الأول 2012، ولكن إعلان أردوغان الحاسم عن ضرورة وضع مسودة الدستور في المهلة المحددة يعني أن رئيس الحكومة يعلق آمالاً ما على الدستور الجديد. وهذا ما استدعى توكيده على أن حزبه سيمضي منفردًا في وضع مسودة الدستور إن فشلت اللجنة الحزبية، رباعية الأطراف، في التوصل إلى مسودة إجماعية.
منذ برزت مسألة الدستور إلى ساحة الجدل السياسي، لم يخف أردوغان رغبته في أن يعيد الدستور الجديد هيكلة النظام السياسي التركي. ما يريده أردوغان بالفعل أن تتحول تركيا إلى دولة رئاسية؛ ولكنه يدرك أن نقل البلاد مرة واحدة من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي لن يكون سهلاً. ولذا، فالأرجح أن العدالة والتنمية يدفع نحو وضع دستور يقسم السلطات بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، نظام أشبه بالنظام الفرنسي. ما يعزز سعي العدالة والتنمية إلى مثل هذه الهيكلة الجديدة لنظام الحكم أن حزمة التعديلات الدستورية الأخيرة التي أقرها البرلمان التركي في 2008، أقرت للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الانتخاب الشعبي المباشر لرئيس الجمهورية، بدلاً من التقليد التركي المتبع منذ قيام الجمهورية بانتخاب الرئيس في البرلمان.
بذلك، ستجري انتخابات الرئاسة المقبلة في أغسطس/آب 2014 للمرة الأولى بالاقتراع المباشر؛ وهو الوضع الذي سيثير أسئلة حول الشرعيات والصلاحيات المؤسسة لمنصبي رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية. وهذا ما يعول عليه أردوغان في سعيه لإعادة بناء النظام السياسي. بمعنى، أنه ما دام الشعب سيصوت مباشرة لاختيار رئيسه، ويصوت مباشرة لاختيار الأغلبية البرلمانية، ومن ثمَّ رئيس الحكومة، فلماذا تعلو صلاحيات رئيس الحكومة تلك الممنوحة لرئيس الجمهورية؟
يتجه أردوغان، على الأرجح، بعد أقل من عامين، إلى المنافسة على مقعد رئاسة الجمهورية، ويعمل بصورة حثيثة على أن يصبح منصب الرئيس أكثر قوة مما هو عليه الآن. اعتاد أردوغان منذ توليه رئاسة الحكومة أن يُمضي إرادته بوسيلة أو أخرى؛ ولكن هذا لا يعني أن الطريق إلى رئاسة قوية ممهد أو سلس.
فمن جهة، قد لا تستطيع مجموعة العدالة والتنمية في اللجنة الدستورية إقناع ممثلي أحزاب المعارضة بتغيير النظام السياسي في البلاد؛ وربما يتطلب مثل هذا النص الدستوري صفقات باهظة مع واحد أو أكثر من أحزاب المعارضة. من جهة أخرى، في حال أنجزت اللجنة الدستورية مسودة الدستور بالتوافق، فالمؤكد أن المسودة ستقر في البرلمان بأغلبية كبيرة تفوق شرط ثلثي الأصوات المطلوب لإقرار دستور جديد أو تعديلات دستورية. ولكن إخفاق اللجنة في التوافق قبل نهاية العام، يعني أن العدالة والتنمية يحتاج أصوات كتلة الحزب القومي البرلمانية لتحقيق الثلثين، أو أن يذهب بالمسودة إلى الاستفتاء الشعبي. في الحالة الأخيرة، ليس من المتيقن أن توافق أكثرية شعبية على دستور جديد يتضمن تغييرًا ملموسًا في بنية النظام السياسي، الذي يبدو أن الأتراك اعتادوا عليه. المسألة الثالثة، تتعلق بموقف رئيس الجمهورية الحالي، عبد الله غُل، ومستقبل حزب العدالة والتنمية.
مسارات عبد الله غُل والعدالة والتنمية
تولى عبد الله غُل رئاسة الجمهورية في صيف 2007 في ظل أجواء من الاستقطاب السياسي، تعلقت بحجاب زوجته وخلفيته الإسلامية وخشية قوى المعارضة من هيمنة العدالة والتنمية على مقدرات الدولة. ولكن غل نجح خلال السنوات التالية في كسب ثقة شرائح واسعة من الشعب، وفي النهوض بمنصبه ليكون رمز الوحدة والحفاظ على التوازن بين مؤسسات الدولة وأذرعها المختلفة. ولأن منصب رئيس الجمهورية قد تحول من ولاية واحدة لسبع سنوات، إلى فترتين مدة كل منهما أربع سنوات، ومن الاقتراع البرلماني إلى التصويت الشعبي المباشر، فمن حق غُل أن يترشح للرئاسة لمرة واحدة إضافية، إن رغب في ذلك. لينتقل أردوغان إلى رئاسة الجمهورية إذن، لابد أن يمتنع غل عن المنافسة على المنصب.
لم يعلن غل حتى الآن موقفه بوضوح. ولكن رئيس الجمهورية، الذي يرتبط وأردوغان بزمالة وصداقة عميقة الجذور، والذي يدرك أن أردوغان دعم ترشحه لرئاسة الجمهورية بالرغم من المخاطر التي أحاطت بترشيحه للمنصب آنذاك، سيصعب عليه خوض انتخابات رئاسية في منافسة مع أردوغان، أو حتى بمعارضة من حزب العدالة والتنمية، إن أحجم أردوغان عن ذلك.
يتضمن السيناريو الأكثر تداولاً في دوائر الحزب الحاكم تبادلاً للمواقع بين الرجلين، بحيث يخوض أردوغان انتخابات رئاسة الجمهورية بدعم من العدالة والتنمية، ويغادر غل منصب الرئاسة ليقود العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية المقبلة ويتولى رئاسة الحكومة. ليس ثمة ما يؤكد بعد أن أردوغان، الذي يحكم قبضته على الحزب، يؤيد مثل هذا السيناريو؛ ولكن من يروجون لمثل هذا السيناريو يقولون: إنه لا يمثل مجرد صفقة لإرضاء غل، بل وإنقاذًا لحزب العدالة والتنمية من الانقسام والانحدار بعد خروج أردوغان من البرلمان. فبالرغم من وجود أكثر من مرشح قوي لخلافة أردوغان، بما في ذلك وزير الخارجية الحالي د. أحمد داوود أوغلو، فإن عبد الله غل، يقول هؤلاء، وحده من يملك الشرعية والخبرة والتأثير الضروري لقيادة الحزب وتعويض الفراغ الذي سيتركه أردوغان خلفه.
بيد أن دائرة أنصار أردوغان المخلصين لا تبدو شديدة الاكتراث بهذا السيناريو أو بما يشابهه. ويقول هؤلاء: إن غل لا يستطيع الوقوف أمام إرادة العدالة والتنمية، إن قرر الحزب ترشيح أردوغان لرئاسة الجمهورية. ويعتقد هؤلاء أن بإمكان الحزب ليس فقط الإتيان بدستور جديد بنظام حكم مختلط، ولكن أيضًا العودة بتركيا إلى الوضع الذي كانت عليه قبل 1961، عندما لم يكن من الضروري لرئيس الجمهورية التخلي عن انتمائه الحزبي. بمعنى أن يصبح بإمكان أردوغان تولي رئاسة الجمهورية بدون أن يتخلى بالضرورة عن رئاسة حزب العدالة والتنمية، حتى بعد أن تنتهي عضويته البرلمانية. بهذا، يتصور هؤلاء، سيستمر أردوغان في قيادة العدالة والتنمية إلى أن تتعزز جذور الحزب في الحياة السياسية وفي وعي الأتراك السياسي، ويصبح قابلاً للاستمرار بدون قيادة تاريخية أو كارزمية بحجم رئيس الحكومة الحالي.
من جهة أخرى، يقول أنصار رئيس الجمهورية: إن عبد الله غل لن يقبل العودة إلى السياسة الحزبية ورئاسة الحكومة في حال تم إقرار دستور جديد يضعف أو يقلص صلاحيات رئيس الحكومة، حتى إن دعت أغلبية الحزب لعودته.
الصفقات القادمة
لم يحدث منذ انقلاب 1960 والإطاحة بحكم الحزب الديمقراطي، الذي استمر عشر سنوات متتالية، أن تمتع حزب بدعم شعبي وهيمنة على الساحة السياسية مثل حزب العدالة والتنمية. ولم يحدث منذ عدنان مندريس، زعيم الحزب الديمقراطي، أن تمتع رئيس حزب ورئيس حكومة بقوة ونفوذ رجب طيب أردوغان. ومن الطبيعي لأردوغان، الذي لم يصل إلى الستين من عمره بعد، أن يخطط لمواصلة حياته السياسية بعد تخليه عن رئاسة الحكومة. وليس غريبًا، على أية حال، في تقاليد الجمهورية التركية أن ينتهي رئيس الحكومة إلى رئاسة الجمهورية، تمامًا كما حدث مع عصمت إينونو، وسليمان ديميريل، وتورغوت أوزال. السياسة هي حياة أردوغان، وهي مهنته منذ عقود. وكسياسي، في بلد لم يعش نجاحات كبيرة في القرن الماضي، يمكنه القول بأنه حقق لتركيا الكثير خلال السنوات العشر الماضية.
ولكن يبدو أن أردوغان يطلب ما هو أكثر من رئاسة الجمهورية؛ يطلب رئاسة من نوع جديد، رئاسة ذات صلاحيات ملموسة، تحقق له طموح الاستمرار في صناعة قرار الجمهورية. هذا السياسي القوي لا يخطط للتقاعد بعد، ولا حتى للتقاعد في منصب رئاسة الجمهورية بسلطات رمزية.
من أجل أن يحقق أردوغان طموح الاستمرار طرفًا فاعلاً في إدارة شؤون البلاد لابد أن تتوفر مجموعة من التطورات المواتية، مثل اقناع رئيس الجمهورية الحالي عبد الله غل بعدم الترشح مرة أخرى لمنصب رئاسة الجمهورية، وإنجاز مسودة دستور يستجيب على الأقل للحد الأدنى من مطلب إعادة هيكلة النظام السياسي وتعزيز سلطات رئيس الجمهورية، ثم إقرار مسودة الدستور في البرلمان أو في استفتاء شعبي، وإيجاد مخرج مناسب لفراغ القيادة في حزب العدالة والتنمية الذي سيتسبب فيه انسحاب أردوغان، سواء بإبقاء أردوغان رئيسًا للحزب أو بتوافق قيادات الحزب على زعيم جديد يتمتع بالكفاءة والمقدرة الضرورية. هذا، إضافة إلى مواجهة المخاطر المحتملة لتراجع معدلات النمو الاقتصادي، وقيادة سفينة الاقتصاد التركي والمالية العامة للدولة في المرحلة الحرجة المقبلة.
أظهر أردوغان خلال سنوات توليه رئاسة الحكومة مهارة تكتيكية عالية، أهّلته لمواجهة سلسلة من المآزق والأزمات والمضي بحكومته وحزبه نحو مزيد من النفوذ. وليس من المستبعد هذه المرة حسب الأوراق التي بيده، والخبرة السياسية التي راكمها، أن يحقق انتقالاً سلسًا من موقع رئاسة الحكومة إلى رئاسة الجمهورية.