بدأت ملامح الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان تلوح في الأفق بداية من شهر أغسطس/آب 2019 مع ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية، ولأول مرة منذ عام 1993، من السعر الرسمي 1507.5 إلى 1530 في السوق السوداء، واستمر بالارتفاع بعد حراك 17 أكتوبر/تشرين الأول (2019) ليتخطى قبل نهاية عام 2020 حاجز 8000 ليرة.
وانعكس التدهور المالي على مستوى معيشة اللبنانيين؛ حيث ارتفعت أسعار السلع والخدمات، وتقلصت قدرة المواطنين الشرائية 80% وفقدت مداخيلهم الكثير من قوتها(1)، وحيل بينهم وبين ودائعهم المصرفية المودعة بالدولار كما أصبح الوصول لودائعهم بالليرة مقيدًا بسقف محدود(2).
وجاءت كورونا بالتوازي مع الأزمة الاقتصادية اللبنانية، فضلًا عن الأزمة السياسية المستفحلة لتزيد من معاناة الشعب اللبناني. ورغم الانفجار الهائل في مرفأ بيروت (4 أغسطس/آب 2020) والمبادرة الفرنسية التي تلته ومقترحاتها لحلِّ الأزمة الاقتصادية، إلا أن الخلاف السياسي الحاد بين القوى السياسية في الداخل اللبناني يقف عقبة أمام أي حلٍّ منشود وأوله تشكيل حكومة من أجل معالجة جدية للأزمة تتماهى مع مقاربات الخارج للحل.
واعتمد مصرف لبنان سياسة دعم المواد الأساسية(3) للحؤول دون انهيار البلد وتوفير حاجيات الناس، ولكن بالمقابل انخفض الاحتياطي فيه ليصل إلى مشارف عتبة الاحتياطي الإلزامي 17.5 مليار دولار(4) ما يهدِّد جميع القطاعات وخاصة الأساسية منها في توفير المواد الأساسية للمواطنين وأهمها الأدوية والمستلزمات الطبية، والمواد الغذائية والمحروقات بسبب احتمال توقف الدولة عن دعمها وعدم القدرة على استيرادها من الخارج.
الأزمة المالية في لبنان على نهاية عام وبداية عام جديد، العام 2021، هو ما تتناول الورقة، لاسيما أهم الاستحقاقات والتحديات الاقتصادية المقبلة وآخر المؤشرات المالية وتفرضه من تداعيات، كما تراجع المقاربات الاقتصادية المطروحة وما ستؤول إليه، فضلًا عن السيناريوهات والمسار الذي ستسلكه الأزمة الاقتصادية والمالية.
تحديات واستحقاقات
إن إعادة الثقة إلى القطاع المالي والمصرفي وعودة الانتظام إلى المالية العامة من أهم التحديات الاقتصادية في المرحلة القادمة؛ فقد جفَّت مصادر تمويل خزينة الدولة والقطاع المصرفي بالعملات الأجنبية. وبالمقابل، على الدولة اللبنانية التزامات عديدة تتطلب توافر الدولار لسدادها. ويأتي في أعلى سلَّم هذه التحديات توفير الدعم المالي اللازم لتأمين متطلبات الوضع الصحي لاسيما توفير لقاح كورونا والأدوية والمستلزمات الطبية، والاستمرار في تأمين حاجات الغذاء الأساسية من قمح وطحين ومنتجات غذائية بأسعار في متناول المواطنين، فضلًا عن المحروقات لحاجات الكهرباء والنقل وتشغيل المؤسسات والمصانع. وقد تم صرف حوالي 5.8 مليارات دولار منذ سنة لتأمين هذه المتطلبات(5).
ومع اقتراب نهاية العام الجاري (2020) ووصول الاحتياطي إلى عتبة الاحتياطي الإلزامي للمصارف، يزداد خوف اللبنانيين من عدم قدرة مصرف لبنان على الاستمرار في سياسة الدعم هذه، لأن مصرف لبنان، بحسب تصريحات المسؤولين اللبنانيين أنفسهم، لا يستطيع استخدام متطلبات احتياطي المصارف لتمويل التجارة بمجرد وصول الاحتياطي إلى هذه العتبة(6).
ومن تحديات العام القادم (2021) التفاوض مع الدائنين من أجل استحقاقات سندات الخزينة بالدولار (اليوروبوند) والذي أعلنت الحكومة اللبنانية، في 7 مارس/آذار الماضي (2020)، التوقف عن دفعها، وبالتالي إعلان حالة التعثر المالي، وهي شبيهة بحالة إفلاس الشركات والمؤسسات الخاصة. ونتج عن ذلك تخفيض التصنيف الائتماني للبنان إلى أدنى سلم التصنيف وهو فئة التعثر الانتقائي (SD)، وخسارة ثقة الأسواق المالية العالمية وتعذر الحصول على التمويل اللازم(7)؛ إذ استحق على الدولة اللبنانية في العام 2020 حوالي 5.2 مليارات دولار منها 2.5 مليار دولار قيمة سندات اليوروبوند، و2.7 مليار دولار كقيمة للفوائد على الدين العام(8). أما قيمة سندات اليوروبوند التي ستُستحق في العام 2021 فتبلغ 2.092 مليار دولار يُضاف إليها فائدة بقيمة 1.719 مليار دولار(9). ويمكننا أن نضيف تحديات أخرى مثل إعادة ودائع الدولارات للمواطنين، وتوفير الدولار الطلابي للطلاب الذين يتابعون دراستهم في الخارج.
مؤشرات وتداعيات
إن جوهر الأزمة الاقتصادية والمالية يكمن في غياب القدرة المالية بالدولار لكل من القطاع المصرفي وخزينة الدولة، وذلك بسبب النقص الهائل في الدولارات القادمة إلى لبنان وضخها في الماكينة الاقتصادية؛ الأمر الذي انعكس سلبًا على المؤشرات كافة. تشير التوقعات إلى انخفاض حجم الناتج المحلي الإجمالي من 52.5 مليار دولار في العام 2019 إلى 18.7 مليار دولار في العام 2020، أي بخسارة شهرية للناتج المحلي بمتوسط 2.8 مليار دولار، وتقلص الناتج المحلي الاسمي 25%(10). واحتل لبنان المرتبة الثانية عالميًّا في معدل التضخم المالي بنسبة 365% بعد فنزويلا ومتخطيًا زيمبابوي(11).
ومن المتوقع ارتفاع العجز المالي إلى الناتج المحلي من 10.5% عام 2019 إلى 16.5% في العام 2020، وهي من النسب المؤشرة على حالة العجز الكبير في مالية الدولة، في ظل انخفاض كبير في الإيرادات العامة بسبب الأزمة الاقتصادية والسياسية الحادة(12). فالسلطات المالية عاجزة عن تحصيل الضرائب والرسوم المتوجبة، وتقل قدرة الدولة على الإنفاق العام ومنها على شبكات الأمان الاجتماعي، أو في تنفيذ مشاريع إنتاجية لتصبح في حدودها الدنيا، وتزداد الحاجة إلى التمويل والدعم الخارجي. يُضاف إلى ذلك تخطي الدين العام الإجمالي إلى 94.8 مليار دولار في نهاية سبتمبر/أيلول 2020(13). وبهذا، قد يصبح لبنان مرهونًا بكل مقدراته وثرواته إلى الدائنين، قد تصل إلى الحجز على أصول وأملاك الدولة أو السيطرة على النفط والغاز المتوقع استخراجه، أو حتى خسارة احتياطي الذهب الموجود في الخارج.
ومن أخطر هذه المؤشرات تناقص احتياطي العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان بـ11.3 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من 2020، منه 2.2 مليار دولار سُجِّلت حصرًا بين 15 سبتمبر/أيلول و30 سبتمبر/أيلول 2020(14)، أما ما تبقى من الاحتياطي القابل للاستعمال فلا يتخطى ٨٠٠ مليون دولار(15). وحتى الآن، لم يتم طرح جدي للحل مع استبعاد وقف الدعم نهائيًّا والانتقال إلى ترشيد الدعم عبر تخفيض عدد السلع المدعومة أو احتساب السلع المدعومة على أساس سعر صرف المنصة أي حوالي 3900 ليرة (سعر السوق أكثر من 8000 آلاف)، أو عبر استعمال جزء من الاحتياطي الإلزامي، خاصة أنه من المستبعد الحصول على تمويل خارجي في ظل العقوبات الحالية.
ومن المرشح أن ترتفع نسبة البطالة لتبلغ 65% في حال استمر الوضع الحالي؛ حيث بلغ حجم المؤسسات التي أقفلت 15 ألف مؤسسة و80 ألف شخص فقدوا عملهم نتيجة إقفال هذه المؤسسات ومعنى ذلك ارتفاع في معدلات الفقر وارتفاع نسبة العاطلين عن العمل بشكل جنوني، وهذا الوضع انعكس زيادة في معدلات الهجرة، وعلى وضع الجرائم بحيث شهد البلد ارتفاعًا بجرائم سرقة السيارات والقتل(16).
جميع هذه العوامل تنذر بزيادة حدة الفقر والتفاوت الاجتماعي حيث من المتوقع أن يقفز معدل الفقر إلى 55%، مع زيادة في نسبة الفقر المدقع من 8% إلى 23%(17). وقد يكون أكثر من 50% من سكان لبنان عرضة لخطر عدم الوصول إلى الاحتياجات الغذائية الأساسية بحلول نهاية عام 2020(18).
ووفق هذه المعطيات، يتجه لبنان إلى الانهيار المتسارع نحو القاع وإلى تحلل في بنيته الاجتماعية وتفسخ في عقده الاجتماعي، نتيجة ترهل السلطة المركزية وفقدانها المقدرات المالية والقدرة على أداء واجباتها في تأمين أدنى المقومات المجتمعية المعيشية والحياتية.
المقاربات الاقتصادية المطروحة
اجتمع الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" بالمسؤولين اللبنانيين من مختلف الفرقاء والأطياف السياسية في قصر الصنوبر في بيروت، 1 سبتمبر/أيلول 2020، وذلك في زيارته الشهيرة لبيروت في أعقاب انفجار مرفأ بيروت، وعرض عليهم ورقة إصلاحية للخروج من الأزمة تحت عنوان "مشروع برنامج للحكومة الجديدة" سُميت اصطلاحًا: "المبادرة الفرنسية". تتضمن المبادرة بنودًا إصلاحية دعا إليها صندوق النقد الدولي وكل الخطط الإصلاحية، بحيث تتضمن 4 محاور، وهي: مكافحة جائحة كورونا عبر المساعدات الإنسانية، وإعادة إعمار مرفأ بيروت ومعالجة تبعات الانفجار، والإصلاحات الهيكلية، وأخيرًا إجراء انتخابات نيابية مبكرة في مهلة سنة كحدٍّ أقصى وفق قانون انتخابي إصلاحي. تتمحور الإصلاحات في الورقة حول 6 بنود:
- إصلاح قطاع الكهرباء.
- الرقابة المنظمة لتحويل الرساميل (الكابيتال كونترول)(19).
- الحوكمة والتنظيم القضائي.
- مكافحة الفساد والتهريب.
- إصلاح الشراء العام (المناقصات).
- وأخيرًا، المالية العامة(20).
أما أهم شروط "المبادرة الفرنسية"، فهو تشكيل حكومة أخصائيين (تكنوقراط)، تعتمد "المبادرة" في برنامجها وبيانها الوزاري، وتسعى فرنسا لأن يكون لها رأي في تسمية وزراء لبعض الوزارات الأساسية مثل وزارة الداخلية والبلديات ووزارة الطاقة والموارد المائية ووزارة الاتصالات. كما ربطت الإصلاحات المطلوبة بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي وبمؤتمر سيدر والأطراف المشاركة فيه. في حين أن مشاركة المنظمات الدولية كالبنك الدولي أو الاتحاد الاوروبي أو بعض المنظمات الأوروبية سيكون عبر تنفيذ مندرجات سيدر والإصلاحات المطلوب تحقيقها، وهي من ضمن آليات تنفيذ المبادرة الفرنسية.
وإذا استثنينا مطلب إجراء انتخابات نيابية مبكرة، بسبب رفضه من قبل حزب الله، فإن توافقًا حصل من قبل كل القوى السياسية اللبنانية على كل المطالب الأخرى في المبادرة؛ ما يجب أن يعطيها بُعدًا وطنيًّا جامعًا وهو الأمر الذي لم يتحقق بعد. فالمبادرة تواجه جملة من التحديات والعقبات، منها ما يتعلق بالمعادلة السائدة بين القوى السياسية المحلية، القائمة على المحاصصة وتنازع النفوذ واستغلال المواقع العامة لغايات حزبية وشخصية؛ ما يعني أن على هذه القوى بموجب المبادرة أن تتخلى عن محمياتها في الإدارات العامة لتحقيق الإصلاحات المطلوبة، وهو صعب عليها. ومن ذلك أيضًا أن هذه القوى تتعمد تأخير تشكيل الحكومة لحين استلام الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، مقاليد السلطة في 20 يناير/كانون الأول 2021، وبالتالي اتضاح معالم المرحلة المقبلة.
والجدير بالذكر، أنه لم تُطرح قبل المبادرة الفرنسية أية مبادرة جدية للخروج من الأزمة المالية. صدرت بعض الدعوات للتوجه شرقًا، وبالدرجة الأولى نحو الصين آملين من شركاتها المجيء إلى لبنان للاستثمار فيه وإدخال دولارات طازجة، ولكن لم تلق هذه الدعوات أي تجاوب عملي معها من قِبل الصينيين. بل على العكس، أعلن المدير العام لإدارة غرب آسيا وشمال إفريقيا في دائرة العلاقات الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي "تشينغ جيان وي" أنه: "ليست لدينا النية أن نكون بديلًا عن أميركا في لبنان، وليست لدينا القدرة على ذلك، لأن الصين ما زالت دولة نامية. وحتى لو أنها شهدت تطورًا أكبر، لن نسعى إلى ملء الفراغ"(21).
كما كانت الحكومة قد قدمت قبل استقالتها خطة مالية للمعالجة الاقتصادية، إلا أنها بقيت في إطارها النظري، ولم تتحول إلى برامج تنفيذية ومشاريع عملية بسبب الخلاف السياسي الحاد، وبسبب طرح خطط مناقضة لها من قبل جمعية مصارف لبنان والمجلس النيابي. مع العلم بأن هذه الخطط ارتبطت بشروط صندوق النقد الدولي ودعمه، والتي بدأت المفاوضات معه في 13 مايو/أيار الماضي (2020)، ولم تصل إلى نتيجة إذ تم تعليق المفاوضات معه بعد خوض 18 جولة، لم يستطع خلالها الوفد اللبناني المكلف بإجراء المفاوضات كسب ثقة الصندوق؛ إذ إن تقديرات الخسائر المالية التي قدَّمتها الحكومة تتناقض مع تلك التي قدمها كل من المجلس النيابي وجمعية مصارف لبنان، بالإضافة إلى أن خطة الحكومة للتعافي المالي والاقتصادي التي قدمتها للخروج من الأزمة تُحمِّل المصارف اللبنانية عبء هذه الخسائر، وبالمقابل تنصلت جمعية المصارف من تحمل هذا العبء.
وبهذا، تبقى المبادرة الفرنسية الوحيدة المطروحة على طاولة الحل الجدي، وهي المدخل الوحيد حتى اللحظة ليحصل لبنان على مساعدات دولية يحتاجها وتقدر بمليارات الدولارات لإصلاح اقتصاده، والطريق إلى تطبيقها محفوف بعقبات كبيرة وقد لا ترى النور.
ولفصل المسار السياسي الذي يواجه عقبات أمام المبادرة الفرنسية، فإنها تضمنت مسارًا آخر يركز على المساعدات الإنسانية غير المشروطة على أن تُقدَّم إلى اللبنانيين مباشرة وليس عبر الحكومة اللبنانية. فعقدت فرنسا مؤتمرين "عن بُعد" لهذا الغرض: الأول في 9 أغسطس/آب 2020، قدَّم مساعدات عاجلة للبنان تقارب 300 مليون دولار كي يتجاوز تداعيات انفجار مرفأ بيروت، على أن تمر عبر الأمم المتحدة. كما أنه ربط أي دعم مالي في المستقبل (عبر الحكومة) بالإصلاحات التي يطالب بها اللبنانيون(22). أما "المؤتمر الدولي الثاني لدعم بيروت والشعب اللبناني"، فعُقد في 2 ديسمبر/كانون الأول، وأكد على ضرورة تشكيل حكومة جديدة لتنفيذ الإصلاحات وإلا لن يحصل لبنان على مساعدات دولية، وأن هذا الدعم لا يمكنه أن يصبح بديلًا عن تشكيل حكومة. وبحسب الرئيس الفرنسي، من المقرر تأسيس صندوق يديره البنك الدولي للمساعدة على تقديم المساعدات الإنسانية للبنان(23).
سيناريوهات وتوقعات مسار الأزمة
إن الأزمة الاقتصادية والمالية هي نتاج أزمة النظام السياسي اللبناني الذي افتقد الاستقرار السياسي ومقومات الدولة، واستمر بفعل التسويات المحلية تحت المظلة الدولية. لذلك، فإن المحددات الأساسية لمسار هذه الأزمة هي سياسية بالدرجة الأولى. ولكي يخرج لبنان من أزمته يحتاج إلى تشكيل حكومة تعيد بناء الثقة داخليًّا ومع الخارج بحيث تكون مرتكزًا لانتشال لبنان من أزمته عبر استقطاب موارد مالية جديدة. هذه الثقة تتطلب توافر مقومات لها: داخلية من خلال السير بالإصلاحات، وأهمها: القضاء المستقل ومحاسبة الفاسدين، وخارجية عبر فكِّ العقوبات عن لبنان واتخاذ القرار بالدعم المالي.
والسيناريوهات التي لبنان بصددها: الأول: وهو تشكيل حكومة في وقت قريب، دون أن تنال الثقة المطلوبة داخليًّا وخارجيًّا، أولًا: بسبب تأليفها من نفس الطبقة السياسية بحيث لن تقوم بالإصلاحات المطلوبة من تدقيق جنائي إلى الكابيتال كونترول وغيره، خشية من أن يطولها ويهدد ائتلافها ومحمياتها. وثانيًا: بسبب غياب الرضا الأميركي والخليجي عن طريقة تشكيلها.
السيناريو الثاني وهو الأقرب إلى التحقق، وهو التأخر في تشكيل الحكومة، ويبقى توفير الدعم للمواد الأساسية من أهم التحديات، وبذلك سنشهد، خلال شهرين، مزيدًا من التدهور والانهيار ولكن دون الوصول إلى قاع الانهيار؛ إذ يبدو أنه لا قرار دوليًّا بالانهيار الكبير والكامل؛ حيث يتم ضخ جرعات مالية في الداخل اللبناني من خلال تدفقات مالية كل فترة معينة، تارة تحت عنوان المساعدات الإنسانية وطورًا ضمن حسابات وتحويلات شخصية. ويأتي إعلان حاكم مصرف لبنان عن الاحتياطي وأنه يكفي لمدة شهرين ضمن هذا الإطار وهي تلتقي مع المدة الزمنية لاستلام الرئيس الأميركي المنتخب.
أما السيناريو الثالث، وهو تشكيل حكومة برضا وشروط واشنطن، وهو سيوفر بالتأكيد الدعم المالي المطلوب للخروج من الأزمة، ولكن ظروفه وحيثياته لم تنضج بعد، بانتظار استلام الإدارة الجديدة ومآل مسار الاتفاق النووي الأميركي- الإيراني مع تعديلاته الجديدة المتوقعة، والتسويات حول دور حزب الله الإقليمي وسلاحه، فضلًا عن مفاوضات ترسيم الحدود وخاصة البحرية مع إسرائيل.
ويبقى هناك متغير خارجي قد يقلب كل الموازين والسيناريوهات المتوقعة وهو نشوب حرب في المنطقة أو بين إسرائيل وحزب الله.
ليس هناك من ضمانات جدية حتى الآن لخروج لبنان من أزمته، ولحين حصول التسويات والتي قد تطول الصيغة اللبنانية والنظام السياسي، سيدخل لبنان العام 2021 في مرحلة حرجة من الانكشاف المالي والفوضى الاجتماعية، يغذيها تراجع السلطة المركزية وفقدان المقومات الأساسية والقدرة على الاستجابة لتأمين حاجات الناس المعيشية مما سيُسهم في خلق بيئة لتنامي فرص التفلت الاجتماعي، مع زيادة حدة الاشتباك السياسي للقوى المحلية، وهذا ما قد يُدخل البلاد في توترات أمنية.
خاتمة
يعاني لبنان من أسوأ أزمة تعصف به خلال تاريخه المعاصر وسيدخل العام 2021 باضطراب الوضع الاقتصادي المنهار واختلال في ماليته العامة، وتدهور الحالة الاجتماعية والمعيشية. إن المؤشرات المالية والاقتصادية وحجم احتياطي مصرف لبنان يعكس الحالة الكارثية للأزمة؛ مما يتطلب استقطاب رؤوس أموال من الخارج. ويبقى توفير الدعم للمواد الأساسية، وعودة الاستقرار النقدي بما يعكس السعر الحقيقي لصرف الدولار، ولجم ارتفاع الأسعار وتحسين القدرة الشرائية للمواطنين من أولويات أية حكومة ستتشكل. وإذا كانت المبادرة الفرنسية هي المبادرة الوحيدة الجدية إلا أنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ بسبب معوقات عديدة، في مقدمها: تشكيل حكومة باعتبارها القاطرة للمبادرة. وإن تشكلت حكومة وفق نفس الآليات السابقة القائمة على المحاصصة، ومع نفس الطبقة السياسية، فإن ذلك لن يغير من الوضع المالي والاقتصادي.
إن عمق الأزمة الاقتصادية والمالية بكل تداعياتها الاجتماعية والمعيشية هي أكبر من قدرة لبنان على التحمل والصمود، بسبب ضعف المناعة الذاتية للنظام اللبناني ولغياب الإمكانات المحلية المتاحة، ومن هنا تنشأ الحاجة وتزداد إلى التمويل الخارجي. ولا شك أن الدعم الحقيقي لانتشال الاقتصاد اللبناني من انهياره أكبر من قدرة فرنسا ولا تستطيع وحدها توفيره، فهي تحتاج إلى المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وبمشاركة دول الخليج، وهذه الحيثية غير متوافرة حاليًّا بسبب الصراع الأميركي-الإيراني وغياب الداعم الخليجي وخاصة السعودي عن المشهد اللبناني. وإلى الآن، لم تنضج الظروف السياسية الخارجية لمعالجة الأزمة وتوفير الدعم المالي، ويبدو أن تشكيل الحكومة أحد مؤشراتها، وقد يتأجل بانتظار تسلُّم الإدارة الأميركية الجديدة.
1- الموظف الذي يقبض راتبًا بقيمة 3 ملايين ليرة لبنانية، كان يساوي 2000 دولار أميركي، أصبح بعد الأزمة المالية يساوي حوالي 375 وفق سعر صرف السوق 8000.
2- سُمح للمودعين بسحب ودائعهم التي بالدولار ولكن بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف المنصة 3900، ومن ثم بسبب تخطي السيولة (بالليرة) 22 تريليون ليرة، تم تحديد سقف سحب الودائع بالليرة من أجل لجم تضخم الأسعار.
3- بسبب النقص في الدولار ولحاجات الاستيراد من أجل تأمين المواد الأساسية، قام مصرف لبنان بتوفير الدولار للمستوردين من الاحتياطي المتوافر لديه.
4- عبارة عن نسبة مئوية من الودائع يُلزم المصرف المركزي المصارف بإيداعها لديه تحسبًا لأي مخاطر قد تواجهها، واستخدامها يعني إنفاق ما تبقى من أموال المودعين.
5- وهي على الشكل التالي: 4 مليارات للمحروقات، 1.3 مليار للأدوية والمستلزمات الطبية، و0.5 مليار للسلَّة الغذائية. وتبلغ الكلفة الإجمالية للقاج كورونا 300 مليون دولار؛ حيث حجزت وزارة الصحة دفعة أولى من الجرعات ثمنها نحو 28 مليون دولار من موازنة الوزارة، على أن يتم تسديد المبلغ المتبقي لهذه الدفعة والبالغ 24 مليون دولار عبر قرض البنك الدولي المخصص للوزارة، أما باقي المبلغ فلم يتم توفيره حتى الآن.
6- رويترز، مصدر: مصرف لبنان يمكنه مواصلة دعم السلع الأساسية 3 أشهر فقط، 20 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/3fbZgUG.
7- الحرة، تخفيض تصنيف لبنان إلى فئة التعثر، 22 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://arbne.ws/35LNEo8
8- علي نور، استحقاق اليوروبوند المرعب: إنقاذ المصارف وسحق اللبنانيين، جريدة المدن، 3 فبراير/شباط 2020، (تاريخ الدخول: 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/3fK9z2y
9- الدولية للمعلومات، سندات اليوروبوند: قصة لم تكتمل، 28 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/37fiW6F.
10- صندوق النقد الدولي، تقرير آفاق الاقتصاد العالمي: مسار الصعود الطويل، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2020، (تاريخ الدخول: 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/3lQ1POW
11- ستيف هانكي، تغريدة له على حسابه على تويتر، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/3fzx52b
12- صندوق النقد الدولي، تقرير آفاق الاقتصاد العالمي: مسار الصعود الطويل، المرجع السابق.
13- جمعية مصارف لبنان، الموجز الاقتصادي الشهري، سبتمبر/أيلول 2020، (تاريخ الدخول: 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/3o13Uba
14- ليا القزي، انخفاض دراماتيكي لاحتياطي مصرف لبنان، جريدة الأخبار، 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، (تاريخ الدخول: 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/3mmR6eX
15- جريدة الأخبار، رفع الدعم: لا أحد يريد تحمل المسؤولية، 3 ديسمبر/كانون الأول 2020، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2020): https://bit.ly/2Jnnn7D
16- سبوتنيك نيوز عربي، ارتفاع نسبة الفقر والبطالة يرفع من طلبات الهجرة إلى الخارج، 10 يوليو/تموز 2020، (تاريخ الدخول: 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/2UXCjLI
17- الأسكوا الأمم المتحدة، الفقر في لبنان، 19 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/3pPrf1B
18- الأسكوا الأمم المتحدة، هل من خطر على الأمن الغذائي في لبنان؟، 30 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 19 أكتوبر/تشرين الأول 2020): https://bit.ly/32Y9TWc.
19- تعني وضع قيود وضوابط على حركة السحوبات النقدية من المصارف، إضافة إلى القيود على حركة التحويلات من المصارف إلى حسابات أخرى سواء كانت في لبنان أو الخارج وهدفها منع هروب الرساميل.
20- معهد باسل فليحان المالي، نص الورقة الفرنسية: مشروع برنامج للحكومة الجديدة، 3 سبتمبر/أيلول 2020، (تاريخ الدخول: 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/2KnDthy
21- فاطمة معطي، بعد حديث نصر الله عن استعداد بكين لإنقاذ لبنان.. مسؤول صيني: لن نفعل، موقع لبنان 24، 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/3fNmW2b
22- الجزيرة، مؤتمر المانحين يتعهد بتقديم 300 مليون دولار مساعدات عاجلة للشعب اللبناني عبر الامم المتحدة، 9 أغسطس/آب 2020 (تاريخ الدخول: 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2020): https://bit.ly/3nU4rff
23- لبنان 24، ماكرون خلال مؤتمر دعم لبنان: لتنفيذ الإصلاحات وإلا لن يحصل لبنان على مساعدات دولية، 2 ديسمبر/كانون الأول 2020، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2020): https://bit.ly/3qj0SBn