ضرب غزة: حيرة نتنياهو بين الاجتياح والتهدئة

تواجه القيادة الإسرائيلية خيارين في الهجوم على غزة: غزو بري عالي التكلفة عسكريا وسياسيا وغير مؤكد النتيجة، أو تهدئة تحد من حرية عمل قواتها مقارنة مع الماضي.
2012111965640986734_20.jpg

إن أحد أهم العوامل التي دفعت إسرائيل لتصعيد عملياتها ضد قطاع غزة تمثل في رفضها التسليم بقواعد المواجهة التي فرضتها
حركات المقاومة مؤخرًا، والتي على أساسها باتت المقاومة ترد على كل عمل عسكري إسرائيلي ضد القطاع (الجزيرة).

هناك الكثير من المؤشرات على أن الحملة العسكرية الصهيونية على قطاع غزة لن تنجح في تحقيق الأهداف التي أعلنت النخبة الإسرائيلية الحاكمة أنها شُنَّت من أجل تحقيقها، والمتمثلة في: استعادة الردع في مواجهة المقاومة الفلسطينية، منع حركة حماس من تغيير قواعد المواجهة التي كانت قائمة بينها وبين جيش الاحتلال، ووقف إطلاق الصواريخ. ليس هذا فحسب، بل إن مسار المواجهة في أيامها الأولى قلّص مستوى مصداقية الجيش الصهيوني أمام الرأي العام الإسرائيلي؛ فقد بدأت إسرائيل حملتها العسكرية باغتيال أحمد الجعبري، نائب القائد العام لـ "كتائب عز الدين القسام"، الجناح العسكري لحركة حماس، واستهداف ما زعمت أنه مخازن لصواريخ "بعيدة المدى" تملكها حركة حماس، ثم شرعت بعد ذلك في اغتيال نشطاء في "كتائب القسام"، وقصف ما اعتبرته "بِنى تحتية للمقاومة".

وبعد ساعات من اغتيال الجعبري تباهى كل من رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير حربه إيهود باراك في مؤتمر صحافي عقداه في مبنى وزارة الحرب في تل أبيب بأن تصفية الجعبري واستهداف مخزون الصواريخ يضمنان استعادة الردع وتقليص قدرة حماس على استهداف المدن الصهيونية. وسرعان ما تبين للإسرائيليين أن تقييم نتنياهو وباراك كان أبعد ما يكون عن التعبير عن واقع الأمور؛ فقد اعتقدت النخبة السياسية والأمنية في إسرائيل أن تصفية الجعبري، الذي يُعتبر عمليًا القائد الأبرز في "كتائب القسام"، سيولِّد ضغطًا نفسيًا كبيرًا على حركة حماس يؤدي إلى ضرب الروح المعنوية لقيادة الحركة ويجبرها على السعي لدى أطراف خارجية لطلب الوساطة من أجل التوافق على تهدئة بشروط جديدة، تضمن تحقيق الأهداف الإسرائيلية.

حسابات إسرائيل الخاطئة

ما حدث أن حركة حماس ليس فقط لم تتصرف حسب التوقعات الإسرائيلية؛ بل إنها فاجأت إسرائيل برد دلّل على أن الرضا الإسرائيلي الأولي عن اغتيال الجعبري كان مبالغًا فيه. فبعد أن كانت صواريخ حركة حماس قبل المواجهة الحالية تصيب المدن والمستوطنات الصهيونية على مسافة 45 كلم من قطاع غزة؛ إذا بصواريخ الحركة تصل مدينة تل أبيب، التي يقطنها مليون صهيوني؛ وهي المرة الأولى التي تتعرض فيها هذه المدينة لقصف عربي منذ أن سقطت عليها صواريخ العراق عام 1991. لكن مما لا شك فيه أن مفاجأة حماس الكبيرة تمثلت في قصف الجيوب الاستيطانية في القدس المحتلة، وهي المرة الأولى التي تتعرض فيه هذه المنطقة للقصف منذ العام 1967.

إن مسار المواجهة دلَّل على أن إسرائيل تعاني من "عمى استخباري" بكل ما يتعلق بقدرات المقاومة؛ فإسرائيل التي أعلنت في مطلع الحملة عن قضائها على جميع مخزون حماس من الصواريخ بعيدة المدى التي نجحت حماس في تهريبها؛ فوجئت بأن حماس نجحت في اخفاء قدراتها ومواصلة اطلاق الصواريخ على تل أبيب والقدس. لقد اعتقدت إسرائيل أن تنفيذ هجمات "جراحية" تهدف بشكل أساسي إلى تصفية قيادات ونشطاء الذراع المسلح لحركة حماس، في ظل سقوط أقل عدد من الإصابات في صفوف المدنيين الفلسطينيين؛ سيقلص من مستويات الردود الإقليمية والدولية على العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي ستنتهي في وقت قصير نسبيًا، وهذا ما لم يحدث.

إن أحد أهم العوامل التي دفعت إسرائيل لتصعيد عملياتها ضد قطاع غزة تمثل في رفضها التسليم بقواعد المواجهة التي فرضتها حركات المقاومة مؤخرًا، والتي على أساسها باتت المقاومة ترد على كل عمل عسكري إسرائيلي ضد القطاع. لقد تمتعت إسرائيل منذ انتهاء الحرب على قطاع غزة أواخر عام 2008 بهامش حرية كبيرة في كل ما يتعلق بالعمل ضد المقاومة في قطاع غزة؛ بحيث إنه في معظم الأحيان لا تقوم المقاومة بالرد على التصعيد الإسرائيلي؛ وإن تم الرد على هذه العمليات؛ فإن الذي يتولى الرد الفصيل الذي تم استهدافه؛ في حين تلتزم بقية الفصائل الصمت، وعلى رأس هذه الفصائل حركة حماس، التي تعتبر أكبر وأقوى هذه الفصائل.

ليس هذا فحسب؛ بل إن إسرائيل تمكنت بعد حرب 2008 من إملاء تفسيرها لاتفاقات التهدئة غير المباشرة التي تم التوصل إليها بينها وبين فصائل المقاومة بوساطة مصرية. فعلى الرغم من أن اتفاقات التهدئة نصت على وقف إطلاق النار من قبل الطرفين؛ إلا أن إسرائيل ظلت تؤكد أن التهدئة لا تعني تخليها عن حقها في إحباط ما تعتبره -عمليات عسكرية تخطط لها المقاومة ضد الأهداف الإسرائيلية- وتصرفت على هذا النحو. وكانت الحجة الإسرائيلية تقول: إنه في حال حصلت الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية على معلومات حول عملية مسلحة تخطط مجموعة فلسطينية ما لتنفيذها ضد أهداف إسرائيلية؛ فإن من حقها أن تقوم بإحباط هذه المخططات عبر اغتيال أفراد هذه المجموعة؛ دون أن يكون من حق المقاومة الرد على عملية الاغتيال. ولقد تفجرت جميع اتفاقات التهدئة السابقة بعد أن تعاملت إسرائيل وفق هذا التفسير؛ مع العلم إن إسرائيل توظف عمليات الاغتيال المستندة إلى المعلومات الاستخبارية المزعومة لكي تجر المقاومة لحملة تصعيد وفق شروطها وظروفها.

لقد اعتقد جيش الاحتلال أن حرب 2008 منحته القدرة على  مراكمة الردع في مواجهة حركات المقاومة؛ بحيث إن هذه الحركات باتت تتجنب الرد على عمليات التصعيد الإسرائيلية. وقد فسرت إسرائيل، عدم مشاركة حركة حماس على وجه الخصوص بالرد على العمليات العسكرية الإسرائيلية على أنه يمثل حرصًا من الحركة على عدم التورط في مواجهة مع إسرائيل تهدد بقاء حكمها في قطاع غزة. وقد أغرى هذا الواقع إسرائيل بأن تحاول فرض قواعد مواجهة أكثر تطرفًا؛ حيث إنها سمحت لجيشها بأن يقوم بعمليات تمشيط في قلب قطاع غزة، وفي عمق 300 متر على طول الخط الحدودي بين قطاع غزة وإسرائيل؛ وهذا ما يجسد في الواقع حزامًا أمنيًا لإسرائيل يعمل فيه جيش الاحتلال بحرية؛ دون أن يتوقع ردودًا قوية من المقاومة؛ علاوة على ما ينطوي عليه ذلك من استهداف للتجمعات المدنية الفلسطينية، في المناطق التي تعرف بـ "مناطق التماس". لقد سعت إسرائيل من خلال الحملة العسكرية الحالية إلى محاولة إقناع حركات المقاومة بالعودة لقواعد المواجهة القديمة التي تتيح لها هامش مناورة كبيرًا في تنفيذ العمليات العسكرية.

حملة برية أو تهدئة

إزاء فشل الرهان الإسرائيلي على أن تنجح الحملة العسكرية في شكلها الحالي في تحقيق أهدافها؛ فقد باتت النخب الحاكمة في تل أبيب أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تشرع في شن حملة برية على قطاع غزة، على غرار الحملة التي شنتها عام 2008؛ أو تجنح للتوصل لاتفاق تهدئة تسلّم فيه باستحالة تحقيق أهدافها المعلنة على الحملة الحالية. يعي نتنياهو التعقيدات الكبيرة الناجمة عن شن حملة برية واسعة على غرار الحرب التي شنتها إسرائيل عام 2008، والتي أسفرت في حينها عن مقتل أكثر من 1500 فلسطيني وجرح الآلاف؛ علاوة على تدمير آلاف المنازل والمؤسسات. في إسرائيل يعتقدون أن شن مثل هذه الحملة يحمل مخاطر كبيرة على صعيدين: فمن ناحية في ظل الكشف عن قدرات المقاومة التي فوجئت بها المخابرات الإسرائيلية، فإن المؤسسة الأمنية الصهيونية تعتقد أن لدى المقاومة الفلسطينية ما يمكن أن يفاجئ إسرائيل كثيرًا لدى قيامها بحملة برية؛ حيث إن هذا السيناريو يؤدي إلى مواجهة وجهًا لوجه مع المقاومة؛ التي تؤكد التقديرات الأمنية الصهيونية أن لديها قدرات دفاعية قادرة على إلحاق خسائر كبيرة بالقوات البرية؛ بشكل يفوق كثيرًا الخسائر التي لحقت بالجيش الإسرائيلي خلال حرب لبنان الثانية 2006. في الوقت ذاته، فإن شن حملة برية واسعة سيؤدي حتمًا إلى سقوط أعداد كبيرة جدًا من القتلى في صفوف المدنيين الفلسطينيين. إن هذا يعتبر سيناريو بالغ الخطورة في ظل الظروف الإقليمية السائدة، سيما بعد ثورات الربيع العربي.

لقد تأكدت إسرائيل من أن المحاذير والمخاوف التي سجلتها مع اندلاع ثورات التحول الديمقراطي كانت في مكانها؛ فقد حظى الموقف القوي الذي عبّر عنه الرئيس المصري محمد مرسي، والذي حذر فيه إسرائيل من تداعيات مواصلة هجومها على غزة، باهتمام بالغ من قبل النخب الإسرائيلية. إن أكثر ما يثير مخاوف إسرائيل من تطور الحملة الحالية إلى حملة برية هو الخوف من تدهور العلاقات مع مصر بشكل يؤدي إلى تهديد معاهدة "كامب ديفيد"؛ وهي المعاهدة التي يُنظر إليها في إسرائيل على أنها أحد ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. وتسود قناعة لدى دوائر صنع القرار في تل أبيب بأن الرأي العام العربي بات يتمتع بتأثير كبير في مرحلة ثورات التحول الديمقراطي؛ مما يعني أن الجماهير المصرية يمكن أن تمارس ضغوطًا على القيادة السياسية المصرية الجديدة لكي تقدم على خطوات سياسية ودبلوماسية تقلص هامش المناورة أمام إسرائيل؛ وصولاً إلى حد وضع معاهدة كامب ديفيد في بؤرة الجدل الداخلي المصري من جديد. في إسرائيل يعون تمامًا أن ردة الفعل المصرية يمكن أن تسبب أذىً كبيرًا للكيان الصهيوني حتى بدون فتح مواجهة مسلحة. فعلى سبيل المثال، عبّر جهاز الموساد لدوائر صنع القرار السياسي في تل أبيب عن مخاوفه من أن هناك احتمالاً أن تبادر الجماهير المصرية إلى إغلاق قناة السويس أمام حركة الملاحة البحرية الإسرائيلية، دون أن تتدخل الحكومة المصرية، مع العلم بأن أكثر من ثلث التجارة الإسرائيلية يمر عبر البحر الأحمر.

وتخشى إسرائيل أيضًا من أن تؤدي عملية طويلة ضد قطاع غزة إلى توفير الظروف لإشعال ساحات أخرى، مثل انطلاق جماعات السلفية الجهادية من سيناء لتنفيذ عمليات ضد المستوطنات اليهودية في جنوب فلسطين المحتلة؛ سيما إيلات، أو حتى إطلاق الصواريخ من سيناء باتجاه المستوطنات والقواعد العسكرية في صحراء النقب.

ومما تخشاه إسرائيل أن تؤدي عملية طويلة في قطاع غزة إلى مد قوى المعارضة في الأردن بمزيد من المشروعية لمطالبة النظام الأردني بتغيير سياساته تجاه إسرائيل. وقد حذّر الجنرال رون تيرا، نائب رئيس "مركز أبحاث الأمن القومي" الإسرائيلي من التداعيات الخطيرة لأية عملية كبيرة على قطاع غزة على النظام الأردني؛ الذي يرى أن بقاءه قويًا مصلحة استراتيجية لإسرائيل. إلى جانب ذلك، فإن نتنياهو يأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن أي عمل عسكري واسع ضد قطاع غزة سيؤثر سلبًا على الاهتمام العالمي ببرنامج إيران النووي، وهذا يتناقض مع مصالح إسرائيل الاستراتيجية. علاوة على أن هذا يقلص من قدرة إسرائيل على إقناع المزيد من الدول بفرض عقوبات على الجمهورية الإسلامية. وفي الوقت ذاته، يخشى نتنياهو أن تؤدي عملية واسعة ضد قطاع غزة يسقط فيها مدنيون فلسطينيون إلى المس بمكانة إسرائيل الدولية؛ مع العلم بأن إسرائيل ما زالت حتى الآن تعاني من تبعات الحرب على قطاع غزة.

كل العوامل التي تمت الإشارة إليها تدلل على أن نتنياهو لا يُبدي حماسًا في الواقع لتوسيع الحملة الحالية لتصبح عملية برية؛ على الرغم من أنه أمر بتجنيد 75 ألف جندي من قوات الاحتلال ودفع بهم إلى محيط القطاع، لشن هذه العملية.

الخيار الثاني المتاح أمام نتنياهو هو القبول باتفاق تهدئة؛ وهناك مؤشرات على أن إسرائيل كانت بالذات هي التي طلبت تدخل الولايات المتحدة وأوروبا لدى مصر لكي تضغط على حركة حماس للقبول باتفاق تهدئة يحفظ ماء وجه نتنياهو. لكن حركة حماس لم تجعل الأمور سهلة بالنسبة لنتنياهو؛ حيث إنها وضعت ثلاثة شروط للتهدئة، وهي: التزام إسرائيل بوقف عمليات الاغتيال؛ تراجع إسرائيل عن فرض منطقة حزام أمني على طول الحدود بين غزة والكيان الصهيوني؛ ورفع الحصار المفروض عن القطاع.

من الواضح أن نتنياهو يواجه مشكلة في قبول هذه الشروط؛ لأن خصومه السياسيين سيهاجمونه وسيتساءلون: إذن ما الهدف من شن الحملة؛ إن كانت حماس ستفرض في النهاية إملاءاتها؟ ومما لا شك فيه أن نتنياهو يبدي حساسية كبيرة إزاء موقف الرأي العام الإسرائيلي؛ سيما عشية الانتخابات العامة التي من المقرر أن تجرى في يناير/كانون الثاني القادم ( 2013)؛ ولنتنياهو مصلحة كبيرة في أن يظهر كقائد حازم على الصعيد الأمني. من هنا، فإن الحل الذي يمكن أن يمنع تحول الحملة الحالية إلى حملة برية، وهي الحملة التي لا يرغب في شنها نتنياهو، هو الوصول لحل وسط بشأن اتفاق التهدئة. من الصيغ التي طُرحت لمثل هذا الاتفاق، أن تتفق حماس وإسرائيل على وقف متبادل لإطلاق النار، على أن تلتزم مصر والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالعمل من أجل التوصل لاتفاق بشأن ظروف التهدئة الأخرى. وبغض النظر عن فرص تحقق هذا السيناريو، فإنه من الواضح أن عدم التوصل لاتفاق تهدئة، يعني بالضرورة رجحان عوامل شن إسرائيل حملة برية رغم كل المحاذير التي تمت الإشارة إليها، وهو ما سيعقّد الأمور بشكل كبير.

على أن الموازنة بين العوامل الخارجية التي تُرجِّح كفة كبح اجتياح اسرائيلي بري واسع لغزة والعوامل التي تُرجِّح حدوثه، يجعل كفة كبح الاجتياح البري راجحة، لأن كلا من الولايات المتحدة ومصر وأغلب الدول العربية وحتى اسرائيل ستصاب بأضرار أكبر من المكاسب التي ستتحقق، وستعمل كل هذه القوى على التوصل إلى تهدئة تحد بشكل ما من هامش التحرك الاسرائيلي مستقبلا.

والخلاصة، أن مسار المواجهة الحالية يبين أن إسرائيل فشلت فشلاً ذريعًا في استراتيجية "لسع الوعي"، التي بلورتها هيئة أركان الجيش الإسرائيلي لإرغام المقاومة الفلسطينية على العودة لشروط المواجهة السابقة، وهذا بحد ذاته إنجاز استراتيجي للمقاومة.