تقاسم لقاح كوفيد 19: قياس الحصص بأوزان الدول

نجحت عدة شركات في وقت وجيز في اختراع لقاحات مضادة لكوفيد-19، لكن هناك تفاوت في نجاعتها، وتوزيعها على مناطق العالم، لمحدودية الكميات المنتجة، والقيود الاحتكارية لأسباب اقتصادية أو وطنية، والتباين في قدرة الدول المتنافسة على اقتسام اللقاحات.
توزيع غير متكافئ للقاح بين دول العالم (بلوم برغ)

تجاوز عدد من أصيبوا في العالم بكوفيد-19 في بدايات فبراير/شباط 105 ملايين، توفي منهم مليونان وثلاثمئة ألف مريض. وهذه، بالطبع، حصيلة الأرقام الرسمية المعلنة في دول العالم. الأرقام الحقيقية لابد أن تكون أعلى بهذه الدرجة أو تلك، نظرًا لأن بعض الدول لا يكشف عن عدد الوفيات بصورة دقيقة، إما لأن هذه الدول تخشى من وقع الجائحة على شعبها، وعلى صورتها أمام الشعب، أو لأن طريقة حسابها تُسقط نسبة ما من الوفيات، أو لأنها لا تقوم بعدد من فحوصات المرض يتناسب مع عدد السكان. فمصر، مثلًا، التي يتجاوز عدد سكانها المئة مليون نسمة، لا تُجري سوى عشرة آلاف فحص يوميًّا، بينما تقوم بريطانيا، التي لا يزيد سكانها عن 65 مليونًا، بإجراء 400 ألف فحص يوميًّا على الأقل. ولكن، وحتى في بريطانيا، ثمة تباين بين عدد الوفيات المعلن من قبل الحكومة، والذي تجاوز 100 ألف وفاة، والعدد الذي تعتمده وكالة الإحصاء الوطنية، بما لا يقل عن 10 آلاف وفاة، نظرًا لاختلاف طريقة الحساب لدى كلٍّ من الجهتين. 

كانت السلطات الصحية في كافة دول العالم، كما منظمة الصحة العالمية، توقعت تعرض العالم لموجة ثانية من الجائحة، سيما بعد أن تراجعت معدلات العدوى في أشهر الصيف وساد شعور خادع بالاطمئنان. ولكن لم يتوقع أحد أن تكون الموجة الثانية، التي بدأت منذ أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني، تنتشر من دولة إلى أخرى، بهذا الوقع. عندما أخذ الوباء في الانتشار بالولايات المتحدة الأميركية في الأشهر الأولى لعام 2020، أشار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، إلى أن الجائحة قد تقتل ما يقارب 200 ألف من الأميركيين. في مطلع فبراير/شباط 2021، أي بعد عام من الجائحة، كان عدد المصابين في الولايات المتحدة تجاوز 26 مليونًا، وعدد الوفيات 450 ألفًا. بيد أن شيئًا من التفاؤل أخذ يتخلل تصريحات المسؤولين الحكوميين حول مستقبل الجائحة، سيما في الدول الغربية، حيث وفرت برودة الطقس ظرفًا مواتيًا لانتشار فيروس كوفيد-19، والتي يُعتقد أنها أكثر تأثرًا بالجائحة من دول العالم الثالث في آسيا وإفريقيا. السبب خلف هذا التفاؤل يعود إلى السرعة غير المسبوقة في تطوير عدد من اللقاحات، التي تقول الدراسات الأولية إنها قادرة على بناء مناعة ضد الفيروس، وعلى الحماية من تفاقم أعراض المرض، على الأقل لستة أشهر من تاريخ التطعيم. 

فإلى أي حدٍّ يمكن الركون إلى وعود التطعيم ضد الجائحة؟ وهل يتعامل مصنِّعو اللقاحات مع دول العالم المختلفة بنفس الدرجة من الشفافية والعدالة؟ وهل بدأ العالم بالفعل مسيرة الخروج من كابوس كوفيد-19، الذي لم يواجه العالم وطأة بمثل ثقله منذ الحرب العالمية الثانية؟

عدد محدود من اللقاحات المتاحة

كانت شركة فايزر، عملاق صناعة الدواء الأميركية، بالشراكة من بيونتك الألمانية، التي يديرها زوجان من أصول تركية، أول من أعلن عن تطوير لقاح ضد كوفيد-19، في خريف العام الماضي، بعد اكتمال مراحل التجارب الثلاثة الضرورية لتقدير كفاءة اللقاح وفعاليته وأمنه. ولكن، وحتى قبل أن تقوم أية جهة رقابة غربية، أو منظمة الصحة العالمية، بالترخيص للقاح فايزر-بيونتك، أعلنت موسكو عن تطوير لقاح روسي، وأنها ستبدأ عملية تطعيم شاملة للمواطنين الروس، دون أن تنشر نتائج أبحاث التجارب على اللقاح. خلال أسابيع قليلة، أعلنت سينوفارم الصينية عن اكتمال تجاربها على لقاح كانت بدأت في تطويره منذ بداية الجائحة في يناير/كانون الثاني 2020. كما أكدت كل من مودرنا الأميركية وأسترازينيكا البريطانية-الإسكندنافية، بالشراكة مع جامعة أوكسفورد، عن نهاية المرحلة التجريبية لكل من اللقاحين اللذين كانتا تعملان على تصنيعه.

يعتمد لقاح فايزر-بيونتك، وذلك الذي طورته مودرنا، على تقنية جديدة، يعمل من خلالها على استخلاص أجزاء محددة من الشريط الوراثي للفيرس (RNA)، سيما تلك الخاصة ببناء قطاع من غلاف الفيروس البروتيني الخاص بالبروزات التاجية. ولكن مشكلة لقاح فايزر أنه يتطلب درجة حرارة تصل إلى 70 درجة تحت الصفر لحفظه ونقله، بينما استطاعت مودرنا التوصل لتقنية توفر إمكانية حفظه ونقله في درجة حرارة أقل نسبيًّا. كلتا الشركتين وضعتا سعرًا مرتفعًا لجرعة اللقاح، مع العلم بأن كفاءة اللقاح قُدِّرت بعد حقن جرعتين لكل إنسان، بفارق 3–4 أسابيع بينهما. أما لقاح أسترازينيكا-أوكسفورد، الذي طُوِّر بتقنية مختلفة، تقوم على حمل الجزء الوراثي لفيروس كوفيد-19 في فيروس آخر، غير ضار بالإنسان وغير قابل للتكاثر، يصيب الشمبانزي، فيمكن حفظه في درجة 4 مئوية، وقُدِّر سعره بما لا يزيد عن عشرة دولارات. وبالرغم من أن لقاح سينوفارم الصيني ولقاح سبوتنيك الروسي يعتمدان تقنية تقليدية من الفيروس المقتول، ويمكن نقل كلا اللقاحين بسهولة في درجة التبريد المعتادة، فقد وضعت الصين سعرًا مرتفعًا بصورة ملموسة للقاحها، بينما قدَّرت موسكو سعرًا أقل نسبيًّا.

كانت بريطانيا أول دولة تُصدر ترخيصًا طارئًا للقاح فايزر-بيونتك، وبدأت حملة تطعيم وطنية متسارعة منذ 8 ديسمبر/كانون الأول 2020. وقد ساعد على دفع حملة التطعيم البريطانية الترخيص التالي للقاح أسترازينيكا-أوكسفورد، الأسهل نقلًا وحفظًا. بعد أسابيع قليلة من الترخيص البريطاني، أصدرت الولايات المتحدة ترخيصًا طارئًا للقاحي فايزر-بيونتك ومودرنا، وسرعان ما لحق الاتحاد الأوروبي بهما. كما تم الترخيص للقاح مودرنا وأسترازينيكا-أوكسفورد في أوروبا، بينما لم تقرر الولايات المتحدة موقفها من هذا اللقاح بعد. وفي حين بدأت حملة التطعيم الأميركية منذ نهاية ديسمبر/كانون الأول، لم تطلق دول الاتحاد الأوروبي حملات التطعيم إلا في يناير/كانون الثاني.

اللقاح الصيني كان أوفر حظًّا من نظيره الروسي، بالرغم من فارق السعر، وفارق الكفاءة، اللذين يصبَّان لصالح اللقاح الروسي، طبقًا لدراسات علمية متأخرة. وكانت سينوفارما المصنِّعة للقاح الصيني قد عملت على تجربته في عدة دول أخرى، بعد أن تراجعت الجائحة في الصين بصورة كبيرة منذ نهاية الربيع وبداية الصيف، بما في ذلك البرازيل، وتركيا، والإمارات، مما وفَّر مصداقية أعلى للقاح الصيني بصورة مبكرة. كما أن قدرات الصين التصنيعية تفوق نظيرتها الروسية؛ حيث لم يزل المصنِّع الروسي يجد صعوبة في إنتاج كميات كافية من جرعات سبوتنيك. ومع نهاية يناير/كانون الثاني، أعلنت كل من فايزر-بيونتك وأسترازينيكا-أكسفورد أنهما لن يستطيعا الإيفاء بوعودهما المسبوقة لإمداد أوروبا باللقاح، نظرًا لرغبة الأولى في تحديث آليات الإنتاج ووجود صعوبات لدى الثانية في إنتاج الكميات المقدَّرة في البداية وعزمها إعطاء الأولوية لبريطانيا. وهذا ما فجَّر خلافات حادة بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا كادت أن تمس باتفاق الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، عندما قرر الأخير منع تصدير أية لقاحات تُصنَّع في دول الاتحاد إلى خارجه. وبالرغم من أن الخلافات تم تجاوزها، إلا أن الواضح أن إمدادات اللقاح لدول الاتحاد الأوروبي ظلت أقل من المتوقع، ولا يُتوقع لها الوصول إلى مستوى مرض حتى بداية الربيع.

في الولايات المتحدة، حيث تحتفظ الشركات الغربية المصنِّعة للقاحات الثلاث الرئيسة المتاحة بمعامل إنتاج منفصلة عن معاملها الأوروبية، أقرَّ الرئيس الجديد، جوزيف بايدن، خطة لإعطاء 100 مليون جرعة من اللقاح في المئة يوم الأولى من ولايته، بعد أن اتضح أن إدارة ترامب لم تقر خطة فعَّالة للتطعيم. ولكن، وبينما يدور تنافس حاد بين الدول الغربية على جانبي الأطلسي لتطعيم أكبر عدد ممكن من المواطنين، سيما أولئك الأكثر عرضة للمرض وكبار السن، تبدو دول العالم في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، أو أغلبها، وكأنها خارج السباق كلية.

توزيع غير عادل للقاحات

طبقًا لأرقام نهاية الأسبوع الأول من فبراير/شباط، وصل معدل التطعيم في دولة إسرائيل إلى 62 من كل مئة فرد، وفي الإمارات 40 من كل مئة، وبريطانيا 17 من كل مئة، والولايات المتحدة 11 من كل مئة، وكافة دول الاتحاد الأوروبي 3–4 من كل مئة، في السعودية 1.3 من كل مئة، وفي تركيا 3 من كل مئة. معظم دول العالم الأخرى، لم تنجح بعد في تطعيم 1 من كل مئة فرد، أو لم تقم بتوفير أية لقاحات على الإطلاق. وقد أكد مدير منظمة الصحة العالمية، في 5 فبراير/شباط، أن 130 دولة في العالم، تضم 2.5 مليار نسمة، لم تستطع تطعيم شخص واحد من مواطنيها بعد، بينما وُزِّع ثلاثة أرباع اللقاحات المتاحة حتى الآن في عشر دول غنية.

الواضح، أنه بخلاف الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، نجحت إسرائيل في الحصول على عدد جرعات كاف من فايزر-بيونتك نظرًا لأنها وقَّعت عقدًا مبكرًا، ووافقت على تبادل المعلومات حول نجاعة اللقاح مع الشركة. ولعدد سكانها الصغير نسبيًّا وصغر حجمها وكفاءة جهازها الصحي، تُعتبر إسرائيل الدولة الأعلى من حيث معدل التطعيم. ولكن دولة إسرائيل، وبالرغم من أنها دولة احتلال، ترفض توفير اللقاحات للسلطة الفلسطينية ولفلسطينيي الضفة والقطاع. كما أعلنت في البداية، رفضها توفير اللقاح للسجناء الفلسطينيين، ولم تتراجع عن قرارها إلا بعد ضغوط من منظمات حقوقية عالمية.

دول الخليج العربية، ذات عدد السكان الصغير، والتي تتمتع بإمكانات مالية كبيرة، نجحت هي الأخرى في الحصول على كميات كافية من اللقاح، وفي تعهد حملات تطعيم سريعة لسكانها. الهند من جهتها، والتي تُعتبر الدولة الثانية من حيث عدد السكان في العالم، ولها قاعدة صناعات دوائية هائلة، وقَّعت عقدًا مع أسترازينيكا-أوكسفورد لتصنيع اللقاح محليًّا. والأرجح أن قيمة جرعة اللقاح المنتج في الهند ستقل عن نصف سعر المنتج في أوروبا الغربية. أما تركيا، التي توشك أن تبدأ تجارب المرحلة الثالثة على لقاح طُوِّر داخل البلاد، فقد كانت بين الدول التي أُجريت فيها تجارب اللقاح الصيني. ولأن تركيا وقَّعت عقدًا مبكرًا مع الصين، التي تربطها بها علاقات تعاون اقتصادي متعددة المستويات، فقد حصلت على كميات كافية حتى الآن من اللقاح. كما ساعدت البنية الصحية القوية في تركيا، التي بدأت حملة التطعيم متأخرة نسبيًّا، على تطعيم نسبة عالية من مواطنيها.

بخلاف هذه الدول، فإن معدلات التطعيم حول العالم لا تبعث على الاطمئنان. فعدد كبير من دول العالم الثالث لا تستطيع دفع ثمن اللقاحات المتوافرة حتى الآن، وبعضها الآخر يفتقد البنية التقنية والصحية الضرورية لتعهد حملات التطعيم. وحتى إن استطاعت منظمة الصحة العالمية توفير الدعم المالي لمساعدة الدول الفقيرة للحصول على اللقاح، فإن المتاح من اللقاحات لا يمكن أن يغطي سكان الأرض، لا في ما تبقى من هذا العام ولا العام القادم. وفي حالات أخرى، تلعب اتفاقيات الملكية الفكرية دورًا مباشرًا في منع نقل تقنية صناعة اللقاحات من الدول والشركات المنتجة إلى دول أخرى، بالرغم من وجود عدد من الدول، مثل الهند، التي تمتلك بنية علمية مناسبة، وإن افتقدت الإمكانات المالية الكافية لتوقيع عقود إنتاج ثانوية مع المنتجين الكبار. وهذه مشكلة لا تتعلق بلقاحات كوفيد – 19 وحسب، بل وتلقي بثقلها على الضمير الإنساني مع كافة أصناف الدواء المطوَّرة حديثًا، والتي تُعتبر حاجة حيوية للتعامل مع أمراض مستعصية أو منتشرة عبر العالم. 

ما يواجهه العالم في التعامل مع الجائحة، بعبارة أخرى، معضلة متداخلة من المنظومة الدوائية الاحتكارية، من جهة، وتمركز قومي حصري في دول بالغة الثراء والرفاه، من جهة أخرى. لذلك، فإن كانت الجائحة لم تفرق كثيرًا بين البشر، فإن الواضح أن سياسات اللقاح لا تنظر إلى البشر باعتبارهم متساوين.

تعايش أطول من المتوقع مع الجائحة

ليس ثمة شك أن اللقاح بات أمل البشرية الأخير للتغلب على الجائحة وأعبائها. فبالرغم من مستوى التعلم الذي راكمته الأطقم الصحية خلال عام من الجائحة، والتعرف على عدد من الأدوية التي قد تساعد على تقليل حدة الإصابة بالمرض أو كبح جماح الفيروس، لم تزل أعداد الوفيات اليومية في العالم عالية بصورة لم تكن في الحسبان. كما أن هناك ضغوطًا هائلة، تفرضها الجائحة على المؤسسات الصحية، كما على الاقتصاد والاجتماع الإنساني.  بيد أن التوافر المحدود للقاحات، والنزعة القومية التي تقيد نشرها بصورة واسعة وعادلة حول العالم، يعنيان في النهاية، أن ثمة عددًا قليلًا من الدول التي قد تنجح في التحكم في الوباء هذا العام. وعلى معظم دول العالم الأخرى أن تنتظر. وإن كان تعريف الجائحة الأوَّلي أنها وباء عالمي الانتشار، فإن هدف التحكم في الجائحة لم يزل بعيد المنال.

هناك، بالطبع، أسباب أخرى لضرورة استعداد العالم للتعايش مع هذه الجائحة لفترة أطول من الزمن. السبب الأول: أننا لا نعرف على وجه اليقين المدى الزمني للمناعة التي يوفرها لقاح كوفيد-19، نظرًا لأن هذه جائحة مستجدة، يسبِّبها فيروس جديد كلية. أما السبب الثاني فيعود إلى عدد المتغيرات الوراثية المتلاحقة في فيروس كوفيد-19، الذي تم التعرف عليه في نهاية 2019 وبداية 2020، وصُنِّعت اللقاحات المتوافرة حاليًّا على أساسه. المعروف، أن الفيروسات أحادية الشريط الوراثي (RNA)، كما فيروسات كورونا وفيروسات الإنفلونزا، سريعة التحور، وأن تحوراتها تتكاثر كلما استمرت في الانتشار. 

في حالة كوفيد-19، ثمة آلاف من التحورات التي سُجِّلت حتى الآن، أغلبها لم يُحدث تغييرًا جوهريًّا في بنية الفيروس. ولكن ثلاث سلالات منها تُعتبر مدعاة للقلق: السلالة البريطانية والسلالة البرازيلية والسلالة الجنوب-إفريقية. طبقًا لأغلب مصنِّعي اللقاحات، تستطيع اللقاحات المتوافرة حاليًّا التعامل مع السلالتين البريطانية والبرازيلية بكفاءة أقل قليلًا من تعاملها مع فيروس كورونا الذي انتشر في بداية الجائحة. ولكن ليس هناك دراسات علمية كافية نُشرت حتى الآن وكشفت عن كفاءة هذه اللقاحات في التعامل مع السلالة الجنوب-إفريقية. ما يعنيه استمرار تعرض الفيروس للتحورات، سيما إذا انتشرت الفيروسات المتحورة بصورة ملموسة في مناطق واسعة من العالم، أن تغييرات لابد أن تُجرى على بنية اللقاح كذلك. وهذا ما قد يفضي، في النهاية، إلى حاجة العالم لحملات تطعيم سنوية ضد كوفيد-19، مشابهة لحملات التطعيم السنوية ضد الإنفلونزا.

لم يتوقع المؤرخون والعلماء الذين درسوا جائحة الإنفلونزا الأسبانية أن يشهد العالم جائحة مشابهة بعد مرور مئة عام. فقد ولَّد التقدم العلمي المتسارع خلال القرن الماضي شعورًا بالثقة لدى البشرية، وبقدرة المجتمع الإنساني على مواجهة الميكروبات. ولكن، وكما عصفت الإنفلونزا الأسبانية بالعالم في سلسلة من الموجات، كذلك يقف العالم اليوم في مواجهة جائحة كوفيد-19.

وإن كان ثمة درس لهذه الجائحة، فعلى الإنسان أن يعترف بموقعه الهش والمتواضع في هذا الكون. لا يستدعي هذا الاعتراف التوقف عن البحث العلمي ومحاولة التغلب على المرض والميكروب. ما يستدعيه هو إعادة النظر في الهوس الذي ولَّدته الرأسمالية والثورة الصناعية بمعدلات النمو الاقتصادي، والارتباط غير العقلاني بين الناتج القومي والرفاه والرضا. فقد عاشت البشرية قرونًا من الرفاه والرضا قبل ولادة النظام الرأسمالي، وحتى قبل أن تكتشف إحصاءات الناتج القومي. ولذا، فإن لم يدفع التعايش مع جائحة كوفيد-19 إلى البحث عن أنماط جديدة للحياة والبقاء، فربما ستخرج البشرية من وطأة الجائحة بدون أن تتعلم الكثير.