بلاغة الحرب في الخطاب الإعلامي: كوفيد-19 نموذجًا

تبحث الدراسة العلاقة التقليدية بين بلاغة الحرب وخطابات المرض في المجال العام، وتناقش إشكالية الاستخدام المكثف لاستعارات الحرب في الخطاب الإعلامي حول جائحة كوفيد-19، والآثار المحتملة لهذه الاستعارات على مستويات الخطاب والممارسة الاجتماعية.
استعارات كوفيد-19 الحربية تنظر إلى الحياة كصراع من أجل البقاء، والأوبئة والأمراض في شكل أعداء تحتاج إلى الاستعانة بكل مقدرات الدولة (غيتي)

برزت استعارة الحرب في وسائل الإعلام بسرعة ضاهت انتشار فيروس كوفيد-19. وعلى الرغم من أن استعارة الحرب تُعَدُّ استخدامًا تقليديًّا في تاريخ خطابات المرض، إلا أن استخدامها في إطار التعامل مع جائحة كوفيد-19 كان لافتًا وسريعًا ومكثفًا ومحتويًا على سيناريو حرب متكامل. فالمجازات في الإعلام كانت تُحوِّل الفيروس إلى "عدو مجهول وخطير"، والتعامل معه "حربًا طويلة"، والعاملين في المجال الصحي "جيشًا أبيض"، أما الأطباء المخالطون للمرضى فهم "جنود في الخطوط الأمامية للمواجهة"، واعتُبرت الكمامات الطبية "أسلحةً" والتعافي "انتصارًا للمريض وهزيمةً للمرض"، وتحوَّل المواطنون إلى "جنود"، وتعمل الدول القوية على "إخلائهم وإجلائهم" من مناطق "هجوم" المرض.

مع الاستخدام اليومي والمتكرر للاستعارات العنيفة للتعبير عن جائحة كوفيد-19، تحوَّل خطاب المرض المفاجئ إلى خطاب حياة يومي. ولذلك، ازدادت خطورة استخدام استعارات الحرب في الخطاب الإعلامي حول جائحة كوفيد-19؛ لأنها تعمل على تحويل الحرب من نطاق محاربة الجائحة إلى نطاق أوسع، هو نطاق الحياة العامة واليومية والشخصية. وتكمن خطورة استخدام تعابير العنف في خطابات المرض في أنها قد تكون مساوية للمرض في الخطورة والضرر، على المدى القصير والطويل.  

تركز هذه الدراسة على دور الخطاب الإعلامي في تأطير خطابات المرض في المجال العام، ليس لقدرتها التأثيرية في النقل والنشر فحسب، بل لدورها الكبير في تغيير وتوجيه الإدراك الاجتماعي عن طريق الاستخدام المكثف لاستعارات الحرب للتعبير عن التصورات والمواقف اللازمة حول جائحة كوفيد-19. فقد أكد الكثير من الدراسات على دور الاستعارات في المساهمة في تغيير أنماط وأساليب التفكير والتعامل مع المشكلات الاجتماعية(1). كما تؤكد دراسات أخرى على التأثيرات السلبية لاستخدام استعارات الحرب في المجال العام عمومًا والمجال الصحي خصوصًا(2). وتعتبر استعارة الحرب من الاستعارات التقليدية التي أصبحت تُستخدم بشكل روتيني في المجال الصحي للتعامل مع الأمراض والأوبئة والطوارئ الصحية.  

ولهذا، لا تتوقف الدراسة كثيرًا لإثبات وتحديد الاستخدام المكثف لاستعارات الحرب في وصف جائحة كوفيد-19 عن طريق منهجيات البحث الكمي. عوضًا عن ذلك، تستخدم منهجيات البحث الكيفي لتحديد أنماط استخدام استعارات الحرب في جائحة كوفيد-19 للوصول إلى خريطة عامة للمدونة اللغوية لاستعارة الحرب في خطابات الإعلام (السيناريو العام، والإطارات المجازية، والإدراكات الاجتماعية). وتحاول الدراسة عبر مقاربة التحليل النقدي للاستعارة أن ترصد الآثار الإدراكية والمعرفية والأيديولوجية التي يمكن أن تُحدثها المعالجة الإعلامية المكثفة لاستعارات الحرب. ولتأكيد الدور الإيجابي للتحليل النقدي، تهتم الدراسة بتقديم مقاربة مغايرة للإمكانات المجازية في معالجات المشاكل الصحية التي يفرضها التعامل مع جائحة كوفيد-19؛ ولتحقيق هذا الهدف تركز الدراسة على خطورة التماهي مع الاستخدام المفرط لاستعارة الحرب في المشاكل والقضايا غير العسكرية، وتقترح البدائل الممكنة لاستبدال إطارات إدراكية أخرى أكثر إيجابية بسيناريو الحرب، وأكثر تحقيقًا لتوسيع خطاب التضامن والمشاركة العالمية في تقديم الحلول للقضايا الإنسانية المشتركة.

1. الإطار المنهجي والنظري للدراسة 

أ- مشكلة الدراسة وتساؤلاتها

تتمثَّل المشكلة الأساسية لهذه الدراسة في الاستخدام المكثف لاستعارات الحرب في الخطاب الإعلامي حول جائحة كورونا-19، وطغيان هذه الاستعارات على مجمل المجال الدلالي والتداولي لهذا الخطاب. ويبرز البعد الإشكالي للظاهرة المدروسة في الانتشار السريع، والمؤثر لاستعارات الحرب وارتباطها بخطابات المرض. كما أن الاستعارات، وخصوصًا الاستعارات المفاهيمية -كاستعارات الحرب- لا تعتبر زخارف ومحسنات لغوية، بل لها دور وتأثير في تغيير أنماط التفكير والسلوك تجاه العالم والمواقف والمشكلات التي تحدث فيه. 

وفي هذا السياق، تتساءل الدراسة: ما الأنماط الأساسية لاستعارات الحرب المستخدمة في الخطاب الإعلامي حول جائحة كوفيد-19؟ وما الآثار الإدراكية الناتجة عن هذه الأنماط سواء على مستوى الخطاب أو مستوى الواقع؟ وما البديل المجازي الممكن لاستعارات الحرب في الخطاب الإعلامي حول جائحة كوفيد-19؟

ب- أهداف الدراسة

من خلال نماذج انتقائية لاستعارات الحرب المستخدمة في التغطية الإخبارية لوسائل إعلام أجنبية وعربية حول جائحة كوفيد-19، تهدف الدراسة إلى تحليل أنماط هذه الاستعارات، وأشكال استخدامها وطريقة توظيفها لسيناريو المعركة لأجل فهم واقع وتطورات الجائحة (السيناريو العام، والإطارات المجازية، والإدراكات الاجتماعية). وتهدف الدراسة أيضًا إلى معرفة الآثار الناجمة عن استخدام استعارات الحرب في الواقع، والتأثيرات المحتملة في الحياة الاجتماعية والسياسية. كما تسعى إلى الوصول لبدائل مقنعة ومؤثِّرة لاستخدامها في الخطابات الإعلامية والسياسية والصحية بدلًا عن استخدام استعارات الحرب.  

ج- مقاربة الدراسة ومنهجها

تنتمي الدراسة إلى نوع الدراسات الكيفية، وتستعين بمنهج التحليل النقدي للاستعارة (Critical Metaphor Analysis) الذي يقترحه جوناثان شارترز بلاك (Jonathan Charteris-Black). ويُمثِّل (المنهج) أحد الامتدادات المهمة لنظرية الاستعارة المفاهيمية كما نجدها لدى جورج لاكوف (George Lakoff) ومارك جونسون (Mark Johnson). ويستمد التحليل النقدي للاستعارة أصوله النظرية والمنهجية من الاستعارة المفاهيمية واللغويات النقدية وتقاليد التحليل النقدي للخطاب. ويُعرِّف شارترز بلاك التحليل النقدي للاستعارة بأنه منهج لتحليل الاستعارة؛ يهدف إلى الكشف عن النوايا الخفية (وربما غير الواعية) لمستخدمي اللغة، ويرى أن تحليل الاستعارة والوصول لدلالة الاستعارات في التحليل النقدي للاستعارة يتطلب تضمين ثلاثة أطر تحليلية: تحليل لغوي، وتحليل إدراكي، وتحليل تداولي(3).

وينتج عن التحليل النقدي للاستعارة عند شارترز بلاك ثلاث خلاصات مرتَّبة ترتيبًا هرميًّا: الأولى: مفاتيح مفاهيمية، والثانية: استعارات مفاهيمية، والثالثة: استعارات "سطحية"، ويرى أن تحديد ووصف هذه المستويات المفاهيمية يُعزِّز فهمنا لدورها في الأيديولوجية ويُسهِم في بناء النظرية؛ لأنه يوفر نقطة وصول إلى الأفكار التي تكمن وراء استخدام اللغة(4).

ويضع شارترز بلاك أيضًا ثلاث مراحل منهجية لتحليل الاستعارات: المرحلة الأولى تتمثَّل في تعيين و"تحديد الاستعارات"، وتشمل المرحلة الثانية "تفسير الاستعارات"، بينما تختص المرحلة الثالثة بـ"شرح الاستعارات"(5).  

- المرحلة الأولى (التحديد): تتطلب قراءة واسعة لِعيِّنة من النصوص بهدف تحديد الاستعارات المرشحة، ثم فحص هذه الاستعارات بناء على مطابقتها لمعايير التوتر الدلالي لمعرفة سياقها اللغوي والتداولي: هل يُمثِّل استخدامًا حرفيًّا أم مجازيًا؟ ففي أي استعارة يكون هناك توتر دلالي ينتج عن العلاقة التبادلية بين مجال مصدر الاستعارة ومجال هدفها. وفي العادة، يظهر التوتر الدلالي في سياق غير متوقع.

- في المرحلة الثانية (التفسير): يتم تفسير الاستعارات عن طريق إقامة علاقة بين الاستعارات والعوامل المعرفية والتداولية التي تحددها. عند تفسير الاستعارة يُشار دائمًا إلى المصادر الإدراكية والمعرفية بجانب السياق التداولي الذي يسمح بإنتاج المفاهيم الاستعارية على ضوء الاستخدام الفعلي للفاعلين الاجتماعيين. وفي هذه المرحلة، يتعمَّق المحلل في تفسير الطبيعة المفاهيمية للمجازات المستخدمة. ولهذا، فإن مرحلة التفسير تركِّز غالبًا على جزئية (مجال المصدر: الحرب) في الاستعارة المفاهيمية.

- في المرحلة الثالثة (الشرح): ينصبُّ التركيز أكثر على "مجال الهدف: جائحة كوفيد-19" في الاستعارات المفاهيمية، فهي مرحلة تبحث التأثير الناتج عن الإدراك الجديد الذي تُنْتِجُه الاستعارة في الواقع، ولهذا تُركِّز مرحلة الشرح على الآثار الإقناعية للاستعارة ودورها في تكوين ممارسة اجتماعية جديدة، أو إعادة إنتاج ممارسة قديمة، أي إن تحليل الأثر الأيديولوجي والتوظيف الإقناعي يكون حاضرًا في هذه المرحلة. ويتضمن شرح الاستعارات تحديد الفاعلين الاجتماعيين المشاركين في إنتاجها ودورهم الاجتماعي في الإقناع. ويرى شارترز بلاك أن الدليل على الدافع الأيديولوجي والبلاغي يأتي من المدونة اللغوية التي تحدث فيها الاستعارات بدلًا من حدس المحلِّل.

د- مجتمع الدراسة وعيِّنتُه 

تعتمد الدراسة عيِّنة قصدية من الأخبار التي وردت في تغطية وسائل إعلام عربية ودولية لجائحة كوفيد-19، وقد بلغ عددها أكثر من 70 خبرًا خلال الفترة الممتدة من مارس/آذار إلى سبتمبر/أيلول 2020، ويُمثِّل هذا الإطار الزمني بداية وذروة انطلاق استعارات الحرب لوصف جائحة كوفيد-19. ويشمل مجتمع الدراسة أكثر من 30 وسيلة إعلام مختلفة: قناة الحرة، وقناة النهار الجزائرية، وقناة العين الإخبارية، وقناة الغد، وقناة العربية الحدث، ويورونيوز، وسكاي نيوز عربية، وفرانس24، و"إن بي سي نيوز"، و"إيه بي إس نيوز"، وفوكس نيوز الأميركية، و"بي بي سي"، و"تي آر تي" الدولية، وناشيونال جيوغرافيك العربية، ورويترز، ودويتشه فيله، ووكالة دي إتش إيه التركية، وبلومبيرغ، ووكالة الأناضول التركية، ووكالة الصحافة الفرنسية، وديلي ميرور البريطانية، والغارديان، وديلي تلغراف، وفايننشال تايمز، ونيويورك تايمز، ولوس أنجلس تايم، وذا غلوب آند ميل الكندية، وذا أستراليان، و"سي أن أن" العربية، و"سي أن أن" التركية، والجزيرة نت، وإذاعة مونت كارلو الدولية، وصحيفة الشرق الأوسط، والبيان الإماراتية، ويني شفق التركية.    

أما اختيار مجتمع البحث، كما حدَّده الباحث أعلاه، فتم عن طريق استخدام مفاتيح البحث المتعلقة باستعارات الحرب الشائعة، مثلما يشير إليه الحقل الدلالي لهذه الكلمات ومرادفاتها: حرب، معركة، سلاح، العدو، الجيش النصر والهزيمة، جبهة القتال، الإجلاء، الحلفاء، وغيرها. وتشمل وحدات المجتمع البحثي وسائل إعلام أجنبية وعربية للتأكد من الاستخدام الشائع لاستعارات الحرب على النطاق العالمي.  

ه- إطار نظري: المجالات المفاهيمية للاستعارة 

أولًا: الاستعارة والتواصل

تأخذ الاستعارة كمفهوم لغوي وإدراكي مكانة مهمة في بحوث اللغويات والتواصل والإدراك الاجتماعي، وتُعَدُّ بشكل عام "الظاهرة التي نتكلم وربما نفكِّر من خلالها في شيء ما بمفردات شيء آخر"(6). وبالرجوع إلى مفهوم نورمان فيركلف (Norman Fairclough) فإن "الاستعارة وسيلة لتَمْثِيل جانب من جوانب الخبرة في صورة جانب آخر(7). ويرى شارترز بلاك أن الاستعارة تَمْثِيل لغوي ينتج عن التحوُّل في استخدام كلمة أو عبارة من السياق أو المجال الذي من المتوقع أن تحدث فيه إلى سياق أو مجال آخر حيث لا يُتوقع حدوثه؛ مما يتسبب في توتر دلالي تشترك في المساهمة فيه عوامل لغوية ومعرفية وتداولية(8). فعندما نكتشف وجود توتر دلالي أو تناقض بين مجال مصدر حرفي، كمجال الحرب، ومجال هدف مجازي، كجائحة كوفيد-19، نكون في هذه الحالة قد توصلنا إلى الاستعارة المفاهيمية. لذلك، يتم الوصول إلى الاستعارة في النصوص عن طريق الوصول إلى التوترات الدلالية. ويكشف لنا التوتر الدلالي عن السياق غير المتوقع لاستخدام الكلمات والتعابير. في هذه الحالة فإن استخدام الكلمات لا يكون حقيقيًّا ولكن يكون مجازيًّا.

وتعتبر أعمال جورج لاكوف ومارك جونسون إسهامًا مهمًّا في تطوير النظر إلى الاستعارة كإطار شامل للوساطة بين التصورات والوقائع والثقافة. ويتمثَّل الإسهام الأساسي للاستعارة المفاهيمية التي اقترحها لاكوف وجونسون في تجاوز المفهوم البلاغي القديم حول الاستعارة، بوصفها مجرد أداة لغوية، إلى اعتبارها أداة إدراكية لفهم التصورات والمفاهيم والواقع؛ حيث تُعَدُّ الاستعارة المفاهيمية عند لاكوف ظاهرة إدراكية في المقام الأول وليست فقط ظاهرة لغوية، وتنتج الاستعارة بالربط بين مجالين، الأول مُجَسَّد؛ وهو مجال المصدر، والثاني مُجَرَّد؛ وهو مجال الهدف(9).

وتُعرَّف الاستعارة المفاهيمية بأنها سلسلة نسقية من التناظرات أو الروابط عبر مجالات مفاهيمية يتم بواسطتها تأسيس مجال هدف (مثل معارفنا المتعلقة بالجدال) على نحو جزئي بمفردات مجال مصدر مختلف (مثل معارفنا المتعلقة بالحرب)(10)، أي إن الاستعارة المفاهيمية تقوم في الأساس على التناسب بين مجال المصدر ومجال الهدف. ويكمن غرض الاستعارة المفاهيمية الأساسي في محاولة إدراك مفهوم جديد وغير مألوف بواسطة مفهوم آخر قديم ومألوف للوصول إلى فهم أسهل وأسرع للمفاهيم وللواقع.

وتعتبر الاستعارة أداة إدراكية ولغوية مهمة لتَمْثِيل المفاهيم والمشاكل. فإذا اتبعنا منهجية التحليل الاجتماعي الإدراكي لفان دايك (Van Dijk)(11)، يمكن القول: إن الاستعارات تقوم بدور مهم في تشكيل بنية الخطاب والمجتمع على حدٍّ سواء؛ حيث تعمل على تكوين مزاج عام وتصورات مشتركة عندما تصبح جزءًا من مكونات الذاكرة الكبيرة طويلة المدى، وبهذا تصبح نموذجًا إدراكيًّا جاهزًا يتم استدعاؤه واستخدامه عند كل استخدام جديد في الواقع يتطابق مع النموذج المتصوَّر في الذاكرة.

وتعمل الاستعارات دائمًا على خلق سيناريوهات في الذهن؛ حيث تُنشِئ فراغات في ذهن المخاطب يملؤها بالاستعانة بمعارفه وإدراكاته الشخصية(12). وتكون الاستعارات فعَّالة عندما يستدعي مجال المصدر إلى الذهن شعورًا ما أو بنية معرفية بارزة، وأيضًا عندما تكون هذه المعرفة معروفة جيدًا للمتحدثين في المجتمع اللغوي المحدد الذي يُنْتِج ويستهلك الاستعارة، وكذلك تكون المقارنة بين مجال الهدف ومجال المصدر ملائمة في الثقافة التي تُنْتِج وتستقبل الاستعارة المعينة(13).

وتعمل الاستعارات في كثير من الأحيان بطريقة السيناريو المتكامل لتحقيق أغراض الإقناع. ويعتبر السيناريو الاستعاري تَمْثِيلات ذهنية لمواقف وأماكن وكيانات وأغراض وأفعال محددة ترتبط بها، وترى إلينا سيمينو (Elena Semino) أن التواتر ظاهرة استعارية تتضمن استخدام تعبيرات مختلفة فيما يتصل بنفس مجال المصدر الواسع في أجزاء مختلفة لنص ما(14). وتعتقد سيمينو أن تكرار نمط معين من الاستعارات يُسهِم في تماسك النص الداخلي كما يؤدي المزج بين التكرار والتواتر إلى تشكيل سلاسل تعبيرات استعارية مترابطة في النصوص(15). ولأننا نعيش بالاستعارة، كما يقول لاكوف وجانسون، أصبحت قدرة الاستعارة التأثيرية تُوَظَّف بشكل كبير في مجالات التواصل والإعلام. والاستعارة ليست وسيلة للتعبير عن المعتقدات والقيم والمواقف فقط، بل تُعَدُّ ضرورية أيضًا للتواصل البشري ولها أهمية اجتماعية وأخلاقية وسياسية عالية. فالاستعارات قد تخلق لنا حقائق وقد تصبح بالتالي دليلًا للعمل المستقبلي(16).

ويؤكد بول هنري ثيبودو (Paul Henry Thibodeau) وليرا بوروديتسكي (Lera Boroditsky) أن تعبيرًا استعاريًّا واحدًا يمكن أن يكون له تأثير قوي على كيفية محاولة الناس حل المشكلات الاجتماعية، مثل: الجريمة وكيفية جمعهم للمعلومات لاتخاذ قرارات صحيحة، حتى إن الناس في العادة لا يدركون التأثيرات الخفية للاستعارات التي يستخدمونها وتؤثر في حياتهم. ويؤكد الباحثان أن الطريقة التي نتحدث بها عن الأفكار المعقدة والمجردة مليئة بالمجاز، وقاما بإجراء خمس تجارب طلبا فيها من الناس المساعدة في حل مشكلة الجريمة في المدينة، والتي تم وصفها إما بأنها "فيروس يصيب المدينة" أو "وحش بري يفترس المدينة". كان الأشخاص الذين حصلوا على إطار "الفيروس" أكثر عرضة لاقتراح حلول تتضمن إصلاحًا اجتماعيًّا لمعالجة الأسباب الجذرية مثل الفقر ونقص التعليم، في حين كان أولئك الذين يتلقون إطار "الوحش" أكثر عرضة لاقتراح حلول تتضمن القبض على المجرمين وإنفاذ القوانين أكثر بشكل صارم، ولم يحدد أي من الأشخاص تقريبًا الإطار الاستعاري على أنه مهم في عملية صنع القرار(17).

لقد أصبحت الاستعارة أداة مهمة في إعادة صياغة المعرفة المتخصصة في التعميمات المنتقلة عبر وسائل الإعلام. وتستخدم الاستعارات لأداء ثلاث وظائف رئيسة: أولًا: جذب القارئ، وثانيًا: هيكلة وتفسير المفاهيم، وثالثًا: تنظيم النص في السرد(18). وتقوم القوى الاجتماعية باستخدام الاستعارات التي تُعزِّز من مواقعها الاجتماعية، وتضمن لها المزيد من التأثير على الناس(19). ولهذا، فإن للاستعارات المختلفة روابط أيديولوجية مختلفة أيضًا(20).

وتكشف الاستعارة عن المواقف الفكرية لمستخدميها كما أنها في ذات الوقت تحض على اتخاذ موقف أو رأي من القضايا الاجتماعية والسياسية التي تُمثِّلها؛ لأنها بالأساس تعبير عن الإدراك الشخصي والاجتماعي للواقع والمفاهيم التي تتصورها. وتوفر الاستعارات إطارات معرفية وإدراكية للتفكير والتواصل فيما يخص الظواهر المعقدة والمجردة. وفي نظر بعض الباحثين تُعَدُّ "الاستعارات مفيدة؛ لأنها تسمح لنا بالتحدث والتفكير في المعلومات المعقدة أو المجردة من حيث المعلومات البسيطة نسبيًّا والأكثر واقعية"(21).

ثانيًا: استعارة الحرب في خطابات المرض

تعتبر استعارات الحرب في الإعلام إطارًا إدراكيًّا تقليديًّا وشائعًا لتَمْثِيل المفاهيم والقضايا الجديدة التي يركز عليها. وجدت إحدى الدراسات، على سبيل المثال، أن 17% من مجموع المقالات المنشورة في مجلة "تايم" و15% من مجموع المقالات المنشورة في "نيوزويك"، بين عامي 1981 و2000، استخدمت استعارة حرب واحدة على الأقل(22). ونظرًا لأن تجربتنا العاطفية تقوم بدور مهم في تجربتنا المجسدة للعالم، فإن نظرية الاستعارة المفاهيمية مناسبة بشكل طبيعي لشرح كيف يصبح التأثير العاطفي للصراع المسلح جزءًا رئيسًا من تصوراتنا المفاهيمية للحروب المجازية(23).

ولا تقتصر الاستعارات المستندة إلى الحرب على مواضيع أزمة الطاقة أو الدبلوماسية أو الإرهاب، لكنها تظهر في معظم مجالات النقاش السياسي العام، وكذلك في البحوث الطبية والعلاج وسياسة الصحة العامة. لذلك نجدها، على سبيل المثال، في خطابات الصحة والمرض، كالحرب ضد الأمراض، مثل: السرطان والإيدز والإيبولا والسمنة، والحرب ضد المخدرات، ونجدها في الأخبار الرياضية، وفي الخطاب المتعلق بالأعمال(24).

وتتعدد أسباب اختيار استعارات الحرب بشكل متكرر في الإعلام، إلا أن أهم هذه الأسباب يكمن في أن مجالات الصراع تظل دائمًا موضوعات وإطارات جاذبة للنشر الإعلامي. بجانب ذلك، فإن استعارة الحرب مؤثرة ومقنعة وتميل إلى الوضوح في تحديد الأطراف والقضايا والحلول، خصوصًا أنها ترتكز على خبرة إنسانية شائعة وممتدة جربت الحرب أو سمعت بها أو بآثارها. بالإضافة إلى كل ذلك، فإن التصور الذهني عن الحرب يؤثر على المشاعر؛ لأنه ينقل بسهولة إحساس المخاطرة والتحفز والخوف والتضحية والانخراط في الممارسة الاجتماعية. ولهذا، تحقِّق مجازات الحرب الربط التصوري والذهني اللازم بين مجال الحرب كمصدر خبرة معروف لدى كافة الناس وبين مجال الهدف الذي تُمثِّله القضية الجديدة التي تريد وسائل الإعلام تأطيرها وتَمْثِيلَها وتقديمها للناس.

ونجد استعارات الحرب مبثوثة على نطاق واسع في الخطابات العامة واليومية؛ لأنها تعتمد على معرفة مشتركة مبنية على نطاق واسع لتفعيل قدرتنا على التفكير والتواصل حول العديد من المواقف، ولأنها تُعبِّر بشكل واضح عن نغمة عاطفية عاجلة ذات قيمة سلبية تجذب الانتباه وتحفز على العمل(25). وتتجاوز استعارةُ الحرب الوصفَ لاستحضار صورة قوية من التضحية والالتزام في مواجهة عدو شرير، وإذا تم استخدام الاستعارة لوصف صراع أيديولوجي، فإن اللغة الشبيهة بالحرب تتغلغل في المجتمع(26).

ويشير عدد من الباحثين إلى إيجابيات الاستعارة في المجال الصحي وفائدتها بالنسبة للمرض والمعالجين على حدٍّ سواء؛ إذ إن "الاستعارة تُمكِّن من يعانون المرض من التعبير عن خبراتهم أو مشاركتهم فيها، وتُمكِّن المهنيين من توضيح أبعاد متنوعة للمرض والعلاج"(27)، إلا أن الاستخدام الواسع والمستمر في المجال العام لمجازات الصراع والحرب في المجال الطبي خلقت نقاشًا علميًّا مستمرًّا حول أفضلية استخدام استعارات الحرب أو خطورتها.

ويُستخدَم المرض استعاريًّا في وسائل الإعلام بشكل تقليدي كمجال هدف، ويجري في العادة ربطه بمجال الحرب خصوصًا أمراض الأيدز والسرطان والأمراض الوبائية(28). وتضرب إلينا سيمينو مثالًا باستخدام الاستعارة لتوصيف مجالات مرض السرطان، فتشير إلى أنه من السهل والطبيعي رؤية السرطان بوصفه عدوًّا خطيرًا، ومهنيي الصحة بوصفهم جيشًا، والأطباء بوصفهم قادة عسكريين، والمرضى بوصفهم جنودًا، والأدوية بوصفها أسلحة(29). وتتعدد المواضيع/الإطارات المجازية لاستعارة الحرب في خطاب المرض، وتظهر بشكل يجعلها أقرب إلى سيناريو شامل للحرب نجد فيه الإشارة إلى مفاهيم: الهجوم، والانتصار، والهزيمة، والعدو، والحلفاء، والقتال، والتحصُّن، والإجلاء، والمعركة، والموت، والجبهة والخطوط الأمامية، والجنود، والجيش، والأسلحة، وغيرها من المفاهيم المرتبطة بمجال الحرب.

وتعتبر جائحة (سارس) أحد أقرب النماذج الوبائية التي سبق أن استُخدِمت فيها استعارات الحرب بشكل ملحوظ. وتنتمي جائحة كوفيد-19 لنفس عائلة الفيروسات التاجية التي ينتمي إليها (سارس). ولهذا يمكن أن يكون من أحد الأسباب القوية لتكرار استخدام استعارات الحرب مع جائحة كوفيد-19 هو أن ذات الاستعارات قد سبق استخدامها مع جائحة (سارس)؛ ما يعني أن الذاكرة والإدراك الجماعي باتا مشبعين بخبرة تاريخية قادرة على إجراء الربط الذهني اللازم بين ارتباط مجازات الحرب بجائحة (سارس) وبين ارتباط نفس المجازات القديمة مع مجال هدف جديد هو جائحة كوفيد-19؛ لأن الخبرة والإدراك المشترك يُسهِّلان نجاح الاستعارة المفاهيمية في تَمْثِيل مستجدات الواقع.

عند ظهور جائحة (سارس) برزت استعارات "الحرب ضد سارس"، و"حرب السارس" واستُخدِمت مصطلحات أكثر محدودية بكثير، مثل: "معركة" أو "قتال" لوصف المرض، و"معارك احتواء السارس"، ومع تزايد المخاوف من تحوُّل السارس إلى جائحة في الجزء الأخير من أبريل/نيسان 2020، أصبحت استعارات الحرب أكثر شيوعًا. وكانت الصين، على وجه الخصوص، قد أطَّرت بشكل متزايد جهودها ضد (سارس) عن طريق استخدام استعارات الحرب(30).

وعلى الرغم من أن استعارات الحرب مفضَّلة إعلاميًّا لسهولتها وفاعليتها في التواصل والإقناع، إلا أن استخدامها بشكل روتيني ومكثف قد يؤدي إلى نتائج سلبية على المدى القصير والبعيد؛ لأن للاستعارات قدرة كبيرة على التأثير في التفكير الجمعي والإدراك الاجتماعي. ويرى ستيفان فلوسبيرغ (Stephen Flusberg)، وزملاؤه الباحثون، أن دلالات وعواقب استعارات الحرب ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياق الذي تُستخدَم فيه، والذي قد يؤدي إلى نتائج إيجابية أو سلبية، اعتمادًا على الحالة(31). وتلاحظ سيمينو أن الاستعارات بشكل عام لا تكون ضارة أو نافعة بطبيعتها، خاصة على مستوى الأفراد؛ لأن ما يهم هو كيف تُستخدَم الاستعارة وإلى أي مدى يكون الأفراد أحرارًا وقادرين على اختيار الاستعارات التي تعمل لصالحهم(32).

ولا يمكن إنكار خطورة الحرب كمجاز على العموم، فإعلان الحرب على شخص ما، أو شيء ما، أو فكرة ما، يسمح بأجندة سياسية مبسطة، وتبرير إعادة تخصيص الأموال، وكبح الخطاب النقدي في كثير من الأحيان حول القضايا؛ لأن مناهضة الحرب يُنظر إليها باعتبارها موقفًا غير وطني، أو تشير لنوع من الخيانة(33). وقد حاولت دراسة كندية تطبيق الدلالات الثمانية للمرض عند المرضى في العالم الغربي التي حدَّدها زبينيو ليبوفسكي (Zbigniew Lipowski) ، في دراسته التي تناولت الأمراض الجسدية وعمليات التأقلم، وهي: التحدي، والعدو، والعقاب، والضعف، والإغاثة، والاستراتيجية، والخسارة التي لا يمكن إصلاحها، والقيمة، لاستخلاص معنى محدد لسرطان الثدي. وقد وجدت الدراسة التي أُجريت على مريضات السرطان أن النساء اللواتي فضَّلن استخدام معنى سلبي للمرض عبر خيارات، مثل: "العدو" أو "الخسارة" أو "العقاب"، تعرضن فيما بعد لمستويات أعلى من الاكتئاب والقلق وتدني نوعية الحياة بالمقارنة مع النساء اللواتي أشرن إلى المرض بتعبيرات أكثر إيجابية كوصفه بالتحدي أو القيمة(34). وتُعتبر سوزان سونتاغ  (Susan Sontag)من أوائل الباحثين الذين لفتوا الانتباه إلى خطورة استخدام استعارات الحرب لوصف الأمراض خصوصًا فيما يتعلق بمرض السرطان والإيدز(35).

وينتقد غاري رايزفيلد (Gary Reisfield) الجوانب السيئة من استعارة الحرب في المجال الطبي؛ حيث يرى أن السمات التي قد تسمح للمرضى بفهم جوانب معينة من تجربة السرطان من منظور الحرب تُقلِّل بالضرورة أو تخفي جوانب أخرى، مثل أن في استعارة الحرب تحاملًا ذكوريًّا، وميلًا للعنف، واعتبار الجسد كساحة معركة، وإمكانية الخسارة والهزيمة. وتبعًا لذلك، يشير رايزفيلد إلى أن نتائج استعارة الحرب قد تكون مدمِّرة للمرضى الذين لا يستجيبون للعلاج كشعورهم بالضعف والذنب وعدم الكفاءة. لذلك، فإن استعارة الحرب تخلق حالات لا مفرَّ منها من الفشل والخسارة(36).

ولهذه الأسباب والتداعيات المحتملة، يدعو كثير من الباحثين(37) بشكل واضح إلى تقليص اعتمادنا على استعارات الحرب التي غزت تقريبًا جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية؛ حيث يشير كثير من هؤلاء الباحثين إلى أن "استعارات الحرب مُضَلِّلة في أحسن الأحوال، وهي ضارة في أسوأ الأحوال؛ مما يؤدي ليس فقط إلى زيادة الاستقطاب السياسي والثقافي، ولكن أيضًا إلى مخاطر على الرفاهية الشخصية والاجتماعية أيضًا"(38).

2. أطر الخطاب الاستعاري حول جائحة كوفيد-19

بعد تحليل عينة الدراسة وتفكيك نصوص الأخبار، اختبر الباحث معايير التوتر الدلالي الذي أشار إليه شارترز بلاك للفصل بين التعابير المجازية والتعابير الحرفية في النصوص، وتوصل في هذه المرحلة إلى عدد كبير من الاستعارات يمكن تلخيصها في إطارات مفاهيمية رئيسة، هي: حالة الحرب، والمعركة، والأعداء، والأسلحة، والجيش، وعمليات الإجلاء، والحلفاء، والخسائر، والقتال، وخطوط المواجهة الأمامية، والنصر والهزيمة. وتُمثِّل هذه الإطارات المفاهيمية في مجملها سيناريوهات "معركة" متكاملة وشاملة تحتوي بداخلها على مخططات تفصيلية لتحقيق هدف الاستعارة.

الجدول رقم (1): مجالات المصدر والهدف في استعارات الحرب

مجالات المصدر: الحرب

مجالات الهدف: جائحة كوفيد-19

- حالة الحرب، والمعركة، والأعداء، والأسلحة.

- الجيش والجنود، وعمليات الإجلاء.

- الحلفاء، والقتال، وخطوط المواجهة الأمامية.

- النصر والهزيمة، والخسائر.

- الفيروس، والتعافي، والعلاج، والفحص، والكمامة، والتباعد وغسل اليدين، والأطباء والممرضات والمواطنون.

- كيفية عمل الفيروس، وطبيعة الفيروس الاقتصادية، وإرجاع المواطنين من مناطق انتشار الجائحة، وغرف العناية المكثفة، والسياسات الصحية، والأغراض اليومية.

- منتقدو ارتداء الكمامات، والعقارات، وأجهزة التنفس الصناعي، والمطهرات والمعقمات.

ولتفسير هذه الإطارات العامة عبر ربط الاستعارات بعواملها المعرفية والتداولية، نلاحظ في الجدول رقم (1) تناظر مجالات المصدر (الحرب) مع مجالات الهدف (جائحة كوفيد-19). وتنتج عن هذا التناظر الاستعارات المفاهيمية، أما الآثار الإدراكية للاستعارة المفاهيمية فنتوصل إليها عن طريق عدة أدوات معرفية وتداولية تستفيد من عملية الربط الذهني التي تحدث في مجال المصدر والهدف. ويحقق المزج بين المجالين دلالات الاستعارة، بينما يحدد المجال التداولي معناها المرتبط بالواقع. لذلك فإن معرفة التناظر بين مجالات الحرب المألوفة لدى قُرَّاء الأخبار، وبين الأبعاد المجهولة لجائحة كوفيد-19، تساعد على معرفة وتفسير الاستعارات الناتجة من هذا المزج التصوري بين المجالات المختلفة.

وفيما يلي نقوم بعرض ومناقشة طريقة الوصول إلى الاستعارات وآثارها الإقناعية وفقًا للإطارات المفاهيمية التي بينَّاها سابقًا، ونوضح الاستعارات التي تتضمنها نصوص الأخبار عن طريق بيان علاقة مجال المصدر بمجال الهدف، فضلًا عن توضيح جوانب النتيجة الإدراكية والآثار الأيديولوجية المحتملة التي نقصد بها الاقتضاءات التي تستلزمها دلالات الاستعارات نصيًّا وسياقيًّا. ونشير هنا إلى أن الأثر الأيديولوجي المحتمل هو عبارة عن الرؤية أو الموقف الذي يقتضيه السياق الإقناعي للاستعارة المفاهيمية عن طريق العوامل المعرفية والدلالية والتداولية. وفي هذه الجزئية، يقوم الباحث بتحليل الخطاب الاستعاري وفقًا لمنهج شارترز بلاك، والذي يتطابق مع منهج التحليل النقدي للخطاب كما نجده لدى نورمان فيركلف؛ حيث ينبني تحليل الخطاب وفقًا لمراحل ثلاثة: الوصف، والتفسير، والشرح(39). وسيعمد الباحث، من خلال سلسلة الجداول (2-12)، إلى دمج مراحل التحليل الثلاثة عبر تحديد الاستعارات، وتفسير سياقها النصي والتداولي للاستعارات، وشرح آثارها الإدراكية والأيديولوجية وفقًا لمقتضياتها الدلالية والتداولية.

الجدول رقم (2): الاستعارات وآثارها الناتجة عن إطار "حالة الحرب"

الخبر

الاستعارة

مجال المصدر

مجال الهدف

الأثر المحتمل

- "العالم في حالة حرب مع كورونا وخسائر الأرواح تتصاعد في إيطاليا وفرنسا".

رويترز: 19 مارس/آذار 2020

- "نحن في حالة حرب مع كوفيد-19...  نحن بحاجة إلى خوضها مثل الحرب".

ذا غلوب آند ميل: 5 أبريل/نيسان 2020

 

الطوارئ الصحية حالة حرب

 

حالة الحرب

الطوارئ الصحية

التعبئة العامة

الحذر

التضحية

الانضباط

الطاعة

في إطار "حالة الحرب" التي يوضحها الجدول رقم (2) تتحوَّل الطوارئ الصحية المعلنة لاحتواء جائحة كوفيد-19 إلى "حالة حرب" عن طريق الاستعارة المفاهيمية التي تمزج بين مجالي "الطوارئ الصحية" و"الطوارئ الحربية". ويستدعي الربط الذهني بين المجالين حضور كافة المتعلِّقات الإجرائية المرتبطة بالطوارئ، مثل: إعلان التعبئة العامة، وإيقاف كل الأنشطة لمواجهة هدف واحد، وتعطيل القوانين السارية وفرض قوانين جديدة يقتضيها الظرف الطارئ. إن استعارة "حالة الحرب" لوصف الظرف الصحي الطارئ الذي اقتضته خطورة جائحة كوفيد-19 يفرز العديد من الآثار التي تقتضيها حالة الدخول في حرب، ومنها: الحذر، والتوتر والتحفز، والاستعداد، والتضحية، والانضباط، والطاعة، وغيرها. 

الجدول رقم (3): الاستعارات وآثارها الناتجة عن إطار "المعركة"

الخبر

الاستعارة

مجال المصدر

مجال الهدف

الأثر المحتمل

- "الفحص هو مجرد البداية في المعركة ضد كوفيد-19".

نيويورك تايمز، 3 مارس/آذار 2020

الفحص استطلاع للمعركة

الاستطلاعات الحربية

الفحص

عَسْكَرَة المجال الطبي، وزيادة مخاطر الحياة،

والتحفز، والتوتر، والعطاء وبذل القوة، والحرص على الحياة.

- "فرنسية تعافت من فيروس كورونا تروي معركة علاجها من المرض... "26 يومًا بدون أن أضم ابنتي وزوجي".

فرانس24 العربية: 18 مارس/آذار 2020

العلاج معركة

المعركة

العلاج

بجانب حالة الحرب العامة، هناك إطار "المعركة" الذي يفترض حربًا مباشرة مع جائحة كوفيد-19. وبالنظر في الحقل المعجمي لمتن الأخبار الواردة في الجدول رقم (2)، تشير الاستعارة إلى مجال الاستطلاعات الحربية، وتفترض أن الفحص استطلاع حربي قبل البدء في المعركة مع الجائحة. أما المعركة نفسها فتُحدِّدها استعارة "العلاج معركة" في خبر: "تروي معركة علاجها من المرض". إن الاستلزام النصي والسياقي لإطار المعركة يفترض عَسْكَرَة المجال الطبي؛ فالفحص استطلاع حربي، والعلاج معركة تقتضي النصر أو الهزيمة. أما الاستلزامات الأخرى يمكن تلخيصها في زيادة مخاطر الحياة، والتحفز والتوتر، بجانب العطاء وبذل القوة والحرص على الحياة.

إن استخدام الاستعارات في إطارَيْ "الحرب" و"المعركة"، كما في الجدول رقم (2) و(3)، يُنتج العديد من الآثار الإدراكية الإيجابية التي يمكن أن تساعد في احتواء خطورة الجائحة، مثل: زيادة الحذر، والتوعية، والتحفز، والاستعداد، والانضباط، والعطاء، وبذل القوة، والحرص على الحياة، لكن هذه الاستعارات لها أيضًا آثار أيديولوجية سالبة؛ فالمقتضيات الدلالية قد تعمل على إضعاف الاستعداد التلقائي لمواجهة المخاطر عند الإنسان بزيادة الهلع من الأمراض الطبيعية. وعلى الرغم من فائدة هذه الأطر العسكرية في دعم المجهود الطبي، فإنها قد تزيد من الإحساس بالمخاطرة عند العاملين في الصحة تجاه مهنة الطب، وخصوصًا طلاب الطب والأطباء الجدد؛ فالعمل في مجال يوصف بالخطورة التي تصل إلى مرحلة الحرب ليس كمجال يوصف بالتضحية الإنسانية المعتادة. وتخلق هذه الاستعارات تحولًا في الممارسة المهنية من خلال تحويل العاملين في مجال الرعاية الصحية إلى جنود، فتتحوَّل عمليات العلاج والمساعدة والدعم الصحية إلى مهن عسكرية، و"يضر هذا التحوُّل بالروح المهنية لهذه المهن وينقلها من خدمة السكان المدنيين إلى كونها جزءًا من آلة حرب أكبر"(40)

وفي بعض الأحيان تكمن خطورة استخدام إطارات "الحرب" و"المعركة" في المجال الصحي في المخاطرة بتحويل إجراءات الصحة العامة الوقائية إلى أدوات للرقابة الاجتماعية، وقد يؤدي هذا الأمر إلى إطالة أمد الفترات الطارئة وتعطيل القوانين السارية. كل هذا قد يقود إلى توسيع احتمالية سوء استخدام السلطة الصحية في الحد من الحريات الاجتماعية لصالح أهداف سياسية، بجانب تنصل الحكومات من مسؤولياتها وواجباتها تجاه المواطنين بحجة التعبئة العامة للحرب ضد الفيروس. وعلى الرغم من أن استعارات الحرب والمعركة ضد الجائحة مجازية، إلا أن استخدامها المفرط قد يوفر المبررات لتحويلها إلى ظروف حرب حقيقية يعلو فيها الطارئ على السائد.

الجدول رقم (4): الاستعارات وآثارها الناتجة عن إطار "العدو"

الخبر

الاستعارة

مجال المصدر

مجال الهدف

الأثر المحتمل

- "أثار انتشار جائحة كوفيد-19، "عدو البشرية" بحسب تعبير منظمة الصحة العالمية، تعبئة عامة في العالم وخطابًا عدوانيًّا حيال فيروس "نحن في حرب" معه على حدِّ قول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون".

مونت كارلو، (أ.ف.ب): 24 مارس/آذار 2020

جائحة كوفيد-19 عدو البشرية

العدو

الفيروس

- كل البشرية هدف موحد للفيروس.

- للبشرية عدو مشترك.

- الفيروس عدواني، مرعب.

- الحذر والتيقظ.

 

- "عدو غير مرئي: ترامب يقول إنه رئيس زمن الحرب في معركة فيروس كورونا".

رويترز، الغارديان: 23 مارس/آذار 2020

الفيروس عدو غير مرئي

العدو

الفيروس

- "فيما يلي جولة على "الأعداء الداخليين"، من زرِّ المصعد إلى المرحاض، وجميع الأغراض التي قد تكون موضع شبهات هي في الواقع بريئة منها".

مونت كارلو: 24 مارس/آذار 2020

زر المصعد والمرحاض أعداء داخليون

العدو

زر المصعد، المرحاض

- الحياة أصبحت غير آمنة، خوف.

- تهديد من الوسط القريب.

إذا كانت إطارات "الحرب" و"المعركة" تعبِّر عن هوية الصراع في المجال الصحي حول كوفيد-19، فإن إطار "العدو" يعبِّر عن هوية طرفي النزاع: الإنسان كهدف والفيروس كعدو. ويكشف إطار "العدو" الذي يوضحه الجدول رقم (4) عن أعداء الإنسان في إطار حربه مع جائحة كوفيد-19، ويأتي الفيروس على رأس قائمة هؤلاء الأعداء بجانب أغراض نستخدمها في حياتنا اليومية كالمراحيض وأزرار المصاعد. إن استعارات، مثل: "الفيروس عدو البشرية"، و"الفيروس عدو غير مرئي"، و"زِرُّ المصعد والمرحاض أعداء داخليون"، تنقل خبرة الحرب التي تقتضي العداوة والمواجهة بين خصمين إلى ساحة جديدة هي المجال الصحي. ويؤدي نقل الخبرة المعرفية بالحرب إلى معاملة الفيروس وما يرتبط به معاملة العدو المحارب. وقد يفيد هذا الإدراك الجديد في خدمة صحة الإنسان بإبقائه دائمًا على مستوى الحذر والتيقظ المطلوب لمدافعة العدو. وتقدم استعارة" الجائحة عدو البشرية" أثرًا أيديولوجيًّا يفترض عدوًّا واحدًا مشتركًا للبشرية، وهو افتراض قد يساعد في تنمية المشاركة العامة وتوحيد الجهود العالمية لاحتواء الجائحة. لكن من جانب آخر يترك إطار "العدو" آثارًا سلبية ترتبط بحياة الإنسان اليومية، كالشعور المستمر بالخوف من عدو "غير مرئي"، وأن الحياة أصبحت غير آمنة بسبب التهديد المحتمل من الوسط القريب والأغراض الشخصية واليومية.

الجدول رقم (5): الاستعارات وآثارها الناتجة عن إطار "الحلفاء"

الخبر

الاستعارة

مجال المصدر

 مجال الهدف

الأثر المحتمل

- "فيروس كورونا: عدو له حلفاء كثيرون في حياتنا اليومية. ينتشر الفيروس بشكل أساسي عن طريق التنفس، والتواصل الجسدي، ما يعني أن خط الجبهة غالبًا ما يكون في أغراض حياتنا اليومية". مونت كارلو، (أ.ف.ب)، 24 مارس/آذار 2020

الأغراض اليومية حلفاء كورونا

الحلفاء

الأغراض اليومية

- الهلع

- الوسوسة

- عدم الأمان

- زيادة التحوط

- "حركة مناهضة الأقنعة.. ألمانيا تخشى "حلفاء كورونا"". العين الإخبارية: 31 أغسطس/آب 2020

المعترضون على ارتداء الكمامات حلفاء كورونا

الحلفاء

المعترضون على ارتداء الكمامات

- الخيانة

- التعاون مع العدو

- "السلطات السويدية لم تنتهج سياسة الإغلاق بل أبقت البلد مفتوحًا مع اتخاذ تدابير تقييدية خفيفة، مع الاعتماد أساسًا على الثقة في مسؤولية المواطنين باعتبارهم حلفاء في مكافحة الفيروس". الجزيرة نت نقلًا عن صحيفة إلباييس: 22 مايو/أيار 2020

المواطنون حلفاء مكافحة الفيروس

الحلفاء

المواطنون

- المشاركة

- الدعم

- الثقة

في المقابل المتناظر لإطار "العدو" نتعامل مع إطار "الحلفاء". إن ميزة استعارات الحرب أنها تخلق سيناريو شاملًا لمعركة متكاملة الأركان. ففي الجدول رقم (5)، نتعرَّف على الحلفاء في معركة القضاء على الجائحة، لكن لا نعثر على حلفاء ضد العدو بقدر عثورنا على حلفاء للعدو (الجائحة)؛ فالأغراض اليومية، والمعترضون على ارتداء الكمامات، يُمثِّلون حلفاء الجائحة ضد الإنسان، بينما لا نجد استخدامًا واسعًا لاستعارة "المواطنون حلفاء ضد الفيروس". ومن الآثار الإيجابية التي يقترحها إطار "الحلفاء"، في سياق احتواء كوفيد-19، زيادة التحوُّط، وبث الثقة في المواطنين، وتبادل الدعم والمشاركة. أما الآثار السلبية التي يمكن أن تستقر في الإدراك الشخصي والاجتماعي فتتمثَّل في تحويل البيئة المحيطة بالإنسان إلى "خطر قريب" و"مصدر هجوم محتمل" مثلما كانت محفزًا للحذر والتيقظ؛ إلا أن الأخطر من ذلك، تحويل موقع الإنسان من وصفه حليفًا لبني جنسه على الفيروس إلى وصفه حليفًا للعدو.

ومن شأن الدلالات المباشرة لإطارات "الحرب، والمعركة، والعدو، والحلفاء" أن تكون مصدرًا محتملًا لتوسيع دائرة العداء بين المواطنين؛ لأن سيناريو المعركة يفترض أن غير الملتزمين بالإجراءات الصحية أعداء، وجنود متخاذلون في مواجهة الفيروس؛ الأمر الذي يمكن أن يكون بيئة مناسبة لتوليد خطاب كراهية تجاه الآخرين بدل أن يكون خطاب تعاون. وقد رأينا على سبيل المثال أثر هذه النتيجة في زيادة التوتر السياسي بين الدول والمنظمات الدولية سواء بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، أو بين الولايات المتحدة ومنظمة الصحة العالمية. وفي هذا السياق، فإن إصرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على وصف فيروس كوفيد-19 بـ"الفيروس الصيني"(41) هو أثر واضح لخطاب الكراهية الذي يمكن أن تولِّده سيناريوهات استعارة الحرب. كما أن مصطلح "التباعد الاجتماعي" قد يكون نتيجة إدراكية متوقعة لاستعارة الحرب؛ فالحرب تقتضي التباعد النفسي والعملي، ولا يعني التقارب بين الجيشين إلا الالتحام والقتال والموت، في حين أن الأنسب لمصطلحات "التباعد الاجتماعي" و"المسافة الاجتماعية" مصطلحات أخرى كـ"التباعد الفيزيائي"، و"التباعد الجسدي"، و"المسافة المناسبة"، وغيرها.

الجدول رقم (6): الاستعارات وآثارها الناتجة عن إطار "الجيش"

الخبر

الاستعارة

مجال المصدر

مجال الهدف

الأثر المحتمل

- "كوبا ترسل جيشًا من الأطباء ذوي المعطف الأبيض لمحاربة فيروس كورونا في بلدان مختلفة".

إن بي سي نيوز: 14 سبتمبر/أيلول 2020

الأطباء جيش أبيض

الجيش

الأطباء

- عَسْكَرَة المجال الصحي

- تغيير قواعد الممارسة المهنية

- "أوروبا تحشد الأبحاث في المعركة ضد كوفيد-19".

يورونيوز: 11 مايو/أيار 2020  

الأبحاث جيش

الجيش

الأبحاث

زيادة الأهمية والفاعلية

لا يكتمل سيناريو المعركة ضد جائحة كوفيد-19 دون تحديد الجيش. ولهذا، فإن إطار "الجيش" يعتبر من الإطارات واسعة الاستخدام في الخطاب الإعلامي لوصف العاملين في القطاع الصحي، خصوصًا الأطباء والممرضين. وحتى تكون استعارة "الجيش" في المجال الطبي فعَّالة ومؤثِّرة يجري في العادة استخدام استعارة بصرية شائعة في الخطاب الطبي ذات رمزية مباشرة للدلالة على مهنة الطب وصفاتها الأخلاقية هي رمزية "المعطف الأبيض". وهكذا، نجد في الجدول رقم (6) أن الاستعارة تؤكد أن "الأطباء جيش أبيض"، وهو إطار إدراكي فعَّال في نقل الصورة الذهنية المثالية للعاملين في المجال الطبي وتركيبها في سيناريو المعركة، إلا أن التوتر/التناقض الدلالي بين مجال الطب والحرب في الاستعارة يعمل أيضًا على عَسْكَرَة المجال الطبي وتغيير قواعد الممارسة المهنية ليتحوَّل الأطباء من سياق الخدمة الإنسانية إلى سياق العمليات العسكرية.

ويشير الجدول رقم (6) أيضًا إلى الأبحاث المتعلقة بجائحة كوفيد-19 بوصفها جيشًا يُحشَد لمعركة فاصلة مع الجائحة. وتُنْتِج استعارة "الأبحاث جيش" دلالات إيجابية تؤكد أهمية وفعالية البحث العلمي في إيقاف الجائحة.

الجدول رقم (7): الاستعارات وآثارها الناتجة عن إطار "الأسلحة"

الخبر

الاستعارة

مجال المصدر

مجال الهدف

الأثر المحتمل

- "الكمامة.. سلاح الناس حول العالم للوقاية من كورونا".

دويتشه فيله: 1 أبريل/نيسان 2020

الكمامة سلاح

السلاح

الكمامة

- زيادة التحفز

- التوتر

- "من بين جميع الأسلحة التي نملكها لمواجهة فيروس كورونا - من أقنعة وعزل ذاتي وتباعد اجتماعي- هناك سلاح لم نكن نعرف أهميته جيدًا، وهو غسل اليدين".

بي بي سي: 27 أغسطس/آب 2020

غسل اليدين سلاح

السلاح

غسل اليدين

- زيادة النظافة

- الوسوسة

- "التباعد الاجتماعي هو السلاح الأكبر في المعركة ضد كوفيد-19".

ديلي تلغراف: 25 سبتمبر/أيلول 2020

التباعد سلاح

السلاح

التباعد

زيادة العزلة

- "رحلة البحث عن الكولونيا.. سلاح الأتراك في مواجهة كورونا".

الجزيرة نت: 15 مارس/آذار 2020

المطهرات سلاح

السلاح

المطهرات

زيادة الأهمية والفاعلية

- أجهزة التنفس الصناعي... سلاح نادر في مواجهة الفيروس".

الشرق الأوسط: 3 مارس/آذار 2020

أجهزة التنفس الصناعي سلاح

السلاح

أجهزة التنفس

تأكيد الأهمية والحاجة

- "ديكساميثازون".. "السلاح الجديد" في المعركة ضد فيروس كورونا".

سكاي نيوز عربية: 17 يونيو/حزيران 2020

العقار سلاح

السلاح

العقار

تأكيد الأهمية والفائدة

يناقش الجدول رقم (7) إطار "الأسلحة" في سيناريو المعركة ضد الجائحة، ويتميز بتنوع وتعدد ملحوظ يدل على فعاليته وتأثيره. وتشتمل الأسلحة في المعركة ضد الجائحة على أسلحة تقليدية "الأدوية أسلحة"، كما تحتوي على أسلحة غير تقليدية تتمثَّل في ممارسات اجتماعية، مثل: "التباعد الاجتماعي سلاح" و"غسل اليدين سلاح". وتشتمل أيضًا على أدوات طبية تقليدية يجري استخدامها بشكل غير تقليدي كاستعارات "الكمامة سلاح"، و"المطهرات سلاح"، و"أجهزة التنفس الصناعي سلاح". ويؤدي هذا الاستخدام المجازي الجديد للأدوات الطبية -وفقًا للسياق التداولي- إلى زيادة الاهتمام بها لشدة الحاجة إليها.

وقد تُوَلِّد بعض استعارات الأسلحة في ذهن المخاطب دلالات إيجابية وسلبية متزامنة، كاحتمالية الحرص على النظافة وتطورها إلى وسوسة في استعارة "غسل اليدين سلاح". أما استعارة" الكمامة سلاح" على سبيل المثال فقد تزيد من الحرص الفردي والجماعي على ارتدائها لمواجهة احتمالية انتقال الفيروس، لكنها قد تؤدي أيضًا إلى توسيع مساحات العداء والصراع المحتمل بين من يرتدونها بالتزام ومن يرتدونها بتساهل. كما أن روح الصراع قد ترتد إلى الفرد نفسه عن طريق التوتر النفسي؛ فالشعور بارتداء سلاح في الوجه، ليس كالشعور بحمل سلاح في اليد.

ولهذا، فإن الأثر الإدراكي لاعتبار الكمامة سلاحًا، لن يكون على سبيل المثال كأثر اعتبار الكمامة مسؤولية اجتماعية والتزامًا أخلاقيًّا تجاه الآخرين، فالأولى تحفِّز الصراع، والثانية تستثير التعاون. وينطبق الأثر ذاته على استعارة "التباعد الاجتماعي سلاح"؛ حيث يمكن أن يُولِّد دلالات تزيد من "العزلة الاجتماعية" التي يفصلها فارق معتبر عن "الحجر الذاتي"، فتسليح المواطنين بالتباعد الاجتماعي لن يقتصر على الجائحة كعدو، لكنه يُدخِل أطرافًا بشرية أخرى في الصراع؛ فتظهر خطابات التخوين والكراهية؛ الأمر الذي ينقل خطورة السلاح من نيران العدو إلى من يُفتَرض أنهم حلفاء في المعركة.

الجدول رقم (8): الاستعارات وآثارها الناتجة عن إطار "الإجلاء"

الخبر

الاستعارة

مجال المصدر

مجال الهدف

الأثر المحتمل

- "عمليات الإجلاء السريعة لتركيا وسط جائحة كوفيد-19".

تي آر تي التركية: 16 أبريل/نيسان 2020

إرجاع المواطنين من مناطق انتشار الجائحة إجلاء

الإجلاء

إرجاع المواطنين من مناطق انتشار الجائحة خارج البلاد

- اهتمام الدولة بحياة مواطنيها وكرامتهم

- خطورة العيش في المناطق الموبوءة خارج البلاد

من الآثار الإدراكية الإيجابية لسيناريو المعركة التي نجدها في الجدول رقم (8) إطار "الإجلاء"، وهو إطار يستعير عمليات إجلاء الجنود من أرض المعركة ليعبِّر بها عن عمليات إرجاع المواطنين في مناطق الجائحة إلى بلادهم؛ حيث يقتضي الأثر الأيديولوجي لهذه الاستعارة افتراض اهتمام الدول بحياة مواطنيها وكرامتهم، والإشارة لصورة "الوطن الآمن" بالإحالة على خطورة العيش في المناطق الموبوءة خارج البلاد.

الجدول رقم (9): الاستعارات وآثارها الناتجة عن إطار "القتال"

الخبر

الاستعارة

مجال المصدر

مجال الهدف

الأثر المحتمل

- "تفاصيل مرعبة عن الفيروس الذكي.. كيف يقتل كورونا الإنسان؟".

قناة الحرة: 13 أبريل/نيسان 2020

فيروس كورونا قاتل ذكي

القتال

 

طريقة عمل فيروس كورونا

 

 

 

- تأكيد الخطورة والقدرة على الإضرار

- الرعب، قلة الحيلة

- "كورونا يقاتل العالم بـ"أشواكه" ويصيب الصحة والاقتصاد".

قناة العربية الحدث: 22 أبريل/نيسان 2020

كورونا يقاتل

القتال

 

طريقة عمل فيروس كورونا

 

- "الدمار الاقتصادي الناجم عن فيروس كورونا قد يقتل في نهاية المطاف أكثر من الفيروس".

فوكس نيوز: 11 مايو/أيار 2020

فيروس كورونا يقتل الاقتصاد أكثر من قتل البشر

القتال

 

طبيعة الجائحة الاقتصادية

- "كيف يقاتل فنانو المملكة المتحدة فيروس كورونا؟".

سي أن أن العربية: 6 أبريل/نيسان 2020

الفنانون يقاتلون الفيروس

القتال

طريقة مواجهة الفيروس

الإيجابية، تنوع طرق المواجهة

يعتبر "القتال" مصدرًا تقليديًّا ومتبادلًا في خطابات المرض للتعبير عن المرض والمريض؛ حيث يجري وصف الفيروسات بأنها تقاتل وتحارب جسم الإنسان، كما أن المريض يقاتل ويحارب المرض. وفي الجدول رقم (9) نلاحظ أن إطار "القتال" لا يخرج كثيرًا عن الاستخدام التقليدي. وحسب الاستعارات فالقتال متبادل بين الفيروس والبشر. وتضفي بعض الاستعارات، مثل: "الفيروس قاتل ذكي"، صفة الذكاء على قتال الفيروس، وتضيف له استعارات أخرى القدرة على "قتال الاقتصاد" أيضًا بجانب "قتال الصحة". وتؤكد هذه الدلالات على خطورة الفيروس وشدة تأثيره على مجريات الحياة اليومية، وقد تستثير الخوف وقلة الحيلة في مواجهة "قاتل ذكي، شامل ومدمِّر"، كما أنها قد تؤكد على دلالات إيجابية تحشد جميع الجهود لوضع حدٍّ للجائحة.

الجدول رقم (10): الاستعارات وآثارها الناتجة عن إطار "خطوط المواجهة الأمامية"

الخبر

الاستعارة

مجال المصدر

مجال الهدف

الأثر المحتمل

- "ممرضات تركيا.. على الخطوط الأمامية في المعركة ضد كورونا".

وكالة الأناضول: 11 مايو/أيار 2020

غرف العناية المكثفة جبهة قتال أمامية في المعركة

جبهة القتال الأمامية

- الممرضات

- غرف العناية المكثفة

- ارتفاع نسبة احتمالية الموت أو الإصابة

- تضحية وبطولة

"في زمن كورونا.. عمال النظافة في الجبهة الأمامية لمواجهة الوباء في عيدهم العالمي".

قناة النهار الجزائرية: 1 مايو/أيار 2020

عمال النظافة جنود في جبهة القتال الأمامية للمعركة

جبهة القتال الأمامية

- عمال النظافة

- الأماكن العامة

وتقتضي استعارات الحرب دائمًا وجود ساحة للمعركة، وفي سياق الجهود التي تبذلها الدول لاحتواء جائحة كوفيد-19 كان تعبير "الجبهة الأمامية"، أو "خطوط المواجهة الأمامية"، تعبيرًا شائعًا في الخطاب الإعلامي لتأطير جهود العاملين في مواجهة الجائحة في مجالات الصحة والنظافة. ويكشف إطار "خطوط المواجهة الأمامية"، كما يبدو في الجدول رقم (1)، عن المستشفيات والأماكن العامة كساحتين تدور فيهما المعركة المباشرة ضد الفيروس، وعن العاملين في المجال الطبي ومجال النظافة كمواجِهِين مباشِرين للمعركة مع الفيروس.  

إن استعارات "غرف العناية المكثفة والأماكن العامة جبهة قتال أمامية" واستعارات "الممرضات وعمال النظافة جنود في جبهة القتال الأمامية" لا تنقل الخبرة البشرية في المعارك فحسب، لكن تنقل معها أيضًا -إدراكيًّا- ارتفاع نسبة احتمالية الموت أو الإصابة بالفيروس بين الأفراد الذين يوجدون في هذه الأماكن. وهو أثر إدراكي يُوَلِّد أثرًا آخر يشير إلى تضحية وبطولة عمال النظافة والعمال في المجال الطبي وهم يعملون في بيئة تهدِّد بالموت، تمامًا كوجود الجنود أمام عدو في جبهة قتال مباشر.

الجدول رقم (11): الاستعارات وآثارها الناتجة عن إطار "النصر والهزيمة"

الخبر الاستعارة مجال المصدر مجال الهدف الأثر المحتمل

- " فيروس كورونا: هل يكسب العالم معركة الجائحة؟".

بي بي سي: 1 أغسطس/آب 2020

انتهاء خطر الجائحة انتصار للعالم ضد فيروس كورونا النصر انتهاء خطر الجائحة إمكانية النصر، نجاح، سعادة

- "إليك كيفية منع الفيروس من الانتصار".

ناشيونال جيوغرافيك: 26 يونيو/حزيران 2020

التعافي هزيمة للفيروس النصر التعافي من الفيروس

- "المستشفيات تخسر معركة فيروس كورونا: يهدد الفشل في حماية العاملين في المجال الطبي قدرة بريطانيا على مكافحة كوفيد-19 ويقوض واحدة من أكثر المؤسسات احترامًا في البلاد".

بلومبيرغ: 3 أبريل/نيسان 2020

الفشل في حماية العاملين في المجال الصحي هزيمة في المعركة ضد الفيروس الهزيمة الفشل في حماية العاملين في المجال الصحي إمكانية الهزيمة، فشل، إحباط

ينتهي سيناريو المعركة بالنصر أو الهزيمة، المكاسب أو الخسائر، ويُستَخدَم إطار "النصر والهزيمة" في استعارات الحرب ضد جائحة كوفيد-19، كما يشير الجدول رقم (11)، لتوضيح المراحل النهائية للفيروس مع المصابين به، والمواجهين له. فإذا كان سيناريو المعركة يُحتِّم نصرًا أو هزيمة، فإن خطورة استعارة الحرب تتمثَّل في الآثار التي تترتب على هذين الخيارين، خصوصًا من الناحية العاطفية التي تتعلق بالأشخاص أكثر من المؤسسات، فنتيجة المعركة إما نصر فإحساس بالفوز أو هزيمة فشعور بالخسارة.

الجدول رقم (12): الاستعارات وآثارها الناتجة عن إطار "خسائر المعركة"

الخبر

الاستعارة

مجال المصدر

مجال الهدف

الأثر المحتمل

- "بريطانيا تقترب لواحدة من أسوأ الخسائر البشرية على مستوى أوروبا بسبب كورونا".

قناة الغد: 29 أبريل/نيسان 2020

ضحايا الجائحة خسائر بشرية

خسائر المعركة

المرضى الذين قضوا بسبب الجائحة

- تعزيز قيمة الحياة الإنسانية

- الدعم والمساندة

- "العالم "في حالة حرب" مع كورونا وخسائر الأرواح تتصاعد في إيطاليا وفرنسا".

رويترز: 19 مارس/آب 2020

ضحايا الجائحة خسائر في الأرواح

خسائر المعركة

المرضى الذين قضوا في الجائحة

يرتبط إطار "خسائر المعركة" بعلاقة وطيدة بإطار "النصر والهزيمة" باعتبار أن الخسائر تمثِّل إحدى النتائج المؤكدة في أي معركة لم تُكلَّل بالنصر. لذلك، نجد أن استعارة "ضحايا الجائحة خسائر بشرية"، واستعارة "ضحايا الجائحة خسائر في الأرواح"، كما في الجدول رقم (12)، تعبِّر عن حالة "هزيمة في معركة"، لكنها في ذات الوقت تُعلي من قيمة الحياة الإنسانية بالإشارة إلى مفهوم الفقدان والخسارة في الأرواح.

3. الآثار الإقناعية والإدراكية للاستعارات الحربية

وفي ضوء منهج التحليل النقدي للاستعارة الذي اعتمدته الدراسة، يُفرِز التحليل ثلاث خلاصات مرتَّبة ترتيبًا هرميًّا، أولًا: مفاتيح مفاهيمية، ثانيًا: استعارات مفاهيمية، ثالثًا: استعارات تقليدية. وهناك في العادة مفاتيح مفاهيمية تكمن وراء اختيار استعارات الصراع، منها أن الحياة تُعَدُّ صراعًا من أجل البقاء، وأن المجتمع هو شخص(42). ولذلك، يمكن أن نذكر من أهم المفاتيح المفاهيمية التي تؤطِّر استعارات الحرب في جائحة كوفيد-19 الآتي: الحياة عبارة عن صراع من أجل البقاء، والمجتمع عبارة عن شخص، والأوبئة والأمراض عبارة عن أعداء.

بالنسبة للاستعارات المفاهيمية، فقد توصل الباحث عن طريق إطارات الحرب إلى عدد من الاستعارات الحربية يمكن تلخيصها في الاستعارات الآتية: الطوارئ الصحية حالة حرب، والفحص استطلاع للمعركة، والعلاج معركة، وجائحة كوفيد-19 عدو البشرية، والفيروس عدو غير مرئي، وزر المصعد والمرحاض أعداء داخليون، والأغراض اليومية حلفاء كورونا، والمعترضون على ارتداء الكمامات حلفاء كورونا، والمواطنون حلفاء مكافحة الفيروس، والأطباء جيش أبيض، والأبحاث جيش، والكمامة سلاح، وغسل اليدين سلاح، والتباعد سلاح، والمطهرات سلاح، وأجهزة التنفس الصناعي سلاح، والعقار سلاح، وإرجاع المواطنين من مناطق انتشار الجائحة إجلاء، وفيروس كورونا قاتل ذكي، وفيروس كورونا يقاتل، وفيروس كورونا يقتل الاقتصاد أكثر من قتل البشر، والفنانون يقاتلون الفيروس، وغرف العناية المكثفة جبهة قتال أمامية في المعركة، وعمال النظافة جنود في جبهة القتال الأمامية للمعركة، وانتهاء خطر الجائحة انتصار للعالم ضد فيروس كورونا، والتعافي هزيمة للفيروس، والفشل في حماية العاملين في المجال الصحي هزيمة في المعركة ضد الفيروس.

وبجانب الاستعارات المفاهيمية هناك استعارات سطحية تقليدية يجري استخدامها مع الاستعارات المفاهيمية، من هذه الاستعارات: مواجهة الفيروس، ومحاربة المرض، والعلاج يقتل المرض، والفيروس يقتل ويدمر ويهاجم، وخسائر الأرواح، وسلاح الدواء ضد المرض...إلخ.

إن استخدام استعارات الحرب في الخطاب الإعلامي حول جائحة كوفيد-19، بحسب نتائج التحليل، ينشِّط العديد من الآثار الإدراكية والأيديولوجية، منها ما يُعَدُّ إيجابيًّا ومنها ما يُعَدُّ سلبيًّا. ومن الآثار الإيجابية: الحث على العطاء، والحرص على الحياة، وتوحيد البشرية لمواجهة عدو مشترك، والمشاركة والدعم والثقة، وزيادة التحفز، وزيادة النظافة، وزيادة الأهمية والفاعلية والحاجة، واهتمام الدولة بحياة مواطنيها وكرامتهم، وخطورة العيش في المناطق الموبوءة بالمرض، وزيادة التحوط، والتحذير من خطورة الفيروس وقدرته على الإضرار بصحة الإنسان، والتضحية والبطولة، وإمكانية النجاح، والشعور بالنصر والسعادة، والإيجابية، وتنوع طرق المواجهة، وتعزيز قيمة الحياة الإنسانية.

ومن الآثار السلبية: عَسْكَرَة المجال الطبي، وزيادة مخاطر الحياة، وزيادة التوتر، والإفراط في وصف عدوانية الفيروس، ونشر الخوف والهلع، وإثارة الفزع والتهديد من الوسط القريب، والوسوسة، وزيادة العزلة الفردية والاجتماعية، وقلَّة الحيلة، وارتفاع نسبة احتمالية الموت أو الإصابة، وتغيير قواعد الممارسة المهنية، والشعور بعدم الأمان، والاتهام بالخيانة، والاتهام بالتعاون مع العدو، وإمكانية الهزيمة، والشعور بالفشل والإحباط. وتوضح النتائج أن استعارات الحرب لا تخلو من نتائج إدراكية سلبية، وقد تزداد هذه الآثار سوءًا مع ارتفاع احتمالية التوظيف السياسي لهذه النتائج الإدراكية.

وبجانب التوصل لأنماط الاستعارات واستخداماتها حسب إطاراتها المفاهيمية، نجد أن النتائج الإدراكية لاستعارات الحرب حول كوفيد-19 تؤكد ما توصل إليه بعض الدراسات الحديثة حول آثار استعارات الحرب التي قد تترك أثرًا إيجابيًّا ومُعَزِّزًا لصحة وكرامة الإنسان، إلا أن الإفراط في الكثير منها يمكن أن يتسبب في نتائج أسوأ. ونتيجة لذلك فمن الأفضل عدم الإفراط في استعارات الحرب، واستخدامها بوعي وحساسية أعلى منعًا لاحتمالية إضرارها بالآخرين.

ونلاحظ أن الآثار الإقناعية لاستعارات كوفيد-19 الحربية تعمل على إعادة إنتاج ممارسة لغوية واجتماعية قديمة تحتفي بالبلاغة الحربية وتستخدمها لفهم ومعالجة الواقع. وبناء على الآثار الإقناعية والإدراكية للاستعارات الحربية قد يستفيد عدد من الفاعلين الاجتماعيين كالسياسيين وواضعي السياسات الصحية والحكومات من آثار الاستعارات الإقناعية في دعم سياساتهم وقراراتهم حول التعامل مع الجائحة.

خلاصات ومقترحات

خلافًا لجائحة (سارس)، جرى استخدام استعارات الحرب مُبَكِّرًا لوصف جائحة كوفيد-19 على نطاق واسع في خطابات الإعلام والسياسة. ولم تكن استعارات الحرب خاصة بوصف الفيروس أو الجائحة فقط، ولكنها كانت تعبر عن نظرة مفاهيمية شاملة للحرب تحتوي على سيناريو متكامل للمعركة مع عدو غير بشري وغير واضح. وقد طالت هذه الاستعارات جميع مجالات الحرب واحتوت على وصف للمعركة، والجنود، والأسلحة، وأرض المعركة وخطوطها الأمامية، والأعداء، والحلفاء، وحتى نتائج الحرب من نصر أو هزيمة. وتؤطر استعارات كوفيد-19 الحربية مفاتيح مفاهيمية رئيسية تنظر إلى الحياة كصراع من أجل البقاء، وتجسِّد المجتمع في هيئة شخص، والأوبئة والأمراض في شكل أعداء.

ويؤثر البناء المفاهيمي لاستعارات كوفيد-19 الحربية على مستويات الخطاب وينقل اللغة من مستوى التواصل المجرد إلى مستوى تغيير الممارسة الاجتماعية. ونلاحظ هذا التغيُّر في شكل الممارسة اللغوية والممارسة الاجتماعية على حدٍّ سواء؛ ويتجسد ذلك على المستوى اللغوي في الفرق بين بلاغة الحرب المجازية وبين حقائق الجائحة الواقعية، وعلى المستوى الاجتماعي في الآثار الإدراكية والأيديولوجية التي تستلزمها الاستعارات الحربية، مثل: عَسْكَرَة المجال الطبي وتغيير قواعد الممارسة المهنية، وتوسيع دائرة العداء بين البشر، وتوليد خطابات الكراهية والتخوين والعنصرية، وتحويل إجراءات الصحة العامة الوقائية إلى أدوات للرقابة الاجتماعية، وغيرها من الآثار والتحولات.

وتؤكد نتائج البحث ما توصل إليه بعض الدراسات السابقة بخصوص سهولة وفعالية استخدام استعارات الحرب في بعض المجالات والأحيان. وفي هذا الإطار، وجد الباحث أن استعارات كوفيد-19 الحربية تساعد في زيادة الحذر والتحوط، وتشجع البشرية على التوحد ولو لمواجهة عدو مشترك، وتُعْلي من قيم التضحية والبطولة، وتوضح اهتمام بعض الدول بحياة وكرامة مواطنيها. لكن من جانب آخر، تؤكد نتائج الدراسة أيضًا أن استعارات كوفيد-19 الحربية لها آثار سلبية قد تؤثر على مستوى الخطاب والممارسة، على المدى القصير والبعيد، ولربما كانت "البيئة الخطابية" التي نشَّطت الذاكرة الإدراكية لاستخدام موارد واستعارات الحرب في جائحة سارس هي ذات البيئة الخطابية التي جعلت استخدام استعارات الحرب ممكنًا وفعالًا مع جائحة كوفيد-19. وهكذا يمكن أن توفر استعارات كوفيد-19 الحربية موارد إدراكية إضافية للاستخدام المستقبلي عند ظهور أي أمراض وبائية أخرى جديدة. وبهذه الطريقة سنجد أن أجواء الحرب والتوتر ستكون مستمرة في السيطرة على بيئتنا الخطابية وممارستنا الاجتماعية للغة.

ولحل مشكلة الآثار السالبة للاستخدام المفرط لاستعارات الحرب في المجال الصحي عمومًا واستخدامها في خطابات كوفيد-19 خصوصًا، تقترح الدراسة مسارين قد يسهمان في حل هذه المشكلة، الأول: عدم الإفراط في استعارات الحرب واستخدامها بوعي وحساسية أعلى عند اقتضاء الضرورة. والمسار الثاني: اقتراح مجالات مصدر بديلة لمصدر الحرب لتكون أكثر فعالية وأكثر مواءمة لقيم الكرامة والعدالة الإنسانية. إن التحليل النقدي للاستعارة لا ينبغي أن يهدف فقط إلى الوصول إلى الهياكل المفاهيمية وكشف انحيازاتها وتلاعبها بالإدراك الاجتماعي؛ إذ يُنتَظر منه تقديم بدائل وحلول للتغيير أيضًا.

إذن، بدل المفاتيح المفاهيمية لاستعارة الحرب التي تركز على الصراعات والعداء، يمكن اقتراح مفاتيح مفاهيمية أخرى تعتمد على التحدي، والتضامن، والتعاون، والمساعدة، والرحمة، والمشاركة والعدالة. وفي هذا السياق، يمكن الاستفادة من استعارات الرحلة والاستعارات التشخيصية بديلًا عن استعارات الحرب. وتعتمد استعارات الرحلة في الغالب على الخبرة البشرية في التحرك والسفر، وما يتبع ذلك من مقتضيات كالطريق والخطوات والمحطات والمرور والتقدم والوقوف والوصول وغيرها من الصور الذهنية المرتبطة بالرحلات. وفي استعارة الرحلات تُبنى الأهداف بشكل تقليدي كمحطات لابد من الوصول إليها، لذلك تميل الحركة للأمام إلى أن تتناظر مع التغير الإيجابي والتنمية والنجاح(43). ولهذا، تبدو استعارات الرحلة مناسبة للاستخدام في المجال الصحي أكثر من استعارات الحرب، خصوصًا مع جائحة كوفيد-19، فالأوبئة تأخذ فترة أطول قبل أن تكون تحت السيطرة، ولهذا فإن استعارات الرحلة تتناسب مع طول فترة الجائحة ولا يشعر فيها الناس بالهزيمة مثل شعورهم بطول فترة الحرب. وفي إطار مجال مصدر الرحلة، فإن المريض هو مسافر، والطبيب مرشد أو دليل، والطرق والاتجاهات المختلفة يمكن دومًا اختيارها. وبشكل حاسم، فإنه لا توجد أشياء من قبيل الهزيمة، وتستمر الرحلة خلال العلاج من المرض وفيما بعدها(44). وينطبق الأمر نفسه على التشخيص الذي يعتبر من أنماط الاستعارة المهمة والمنتشرة؛ لأنه يتضمن استخدام خبراتنا ومعرفتنا بالكائنات الإنسانية كمجال مصدر(45).

ويمكن على سبيل المثال، اقتراح الاستعارات التالية بديلًا لاستعارات الحرب: "الكمامات وغسل اليدين والتباعد الجسدي وسائل عبور نحو بر الأمان من كوفيد-19" عوضًا عن "الكمامات وغسل اليدين والتباعد الجسدي أسلحة في المعركة ضد كوفيد-19"، و"الطوارئ الصحية تمثِّل تحديًا عالميًّا" بديلًا عن "الطوارئ الصحية حالة حرب"، و"الفحص مرحلة مهمة" بديلًا عن "الفحص بداية معركة"، و"جائحة كوفيد-19 تحدي البشرية الجديد" بديلًا عن "جائحة كوفيد-19 عدو البشرية"، و"الطبيب مرشد في رحلة" بديلًا عن "الطبيب جندي في معركة"، و"المعترضون على ارتداء الكمامات سائرون في الطريق المعاكس" بديلًا عن "المعترضون على ارتداء الكمامات حلفاء كورونا في معركته ضد البشرية"، و"التعافي من كورونا نهاية رحلة" بديلًا عن "التعافي من كورونا انتصار"...إلخ.

وبجانب استعارات الرحلة، يمكن اللجوء أيضًا لاستعارات التشخيص عن طريق تجسيد الجائحة كإنسان أو كظاهرة طبيعية. وبواسطة البدائل الممكنة في هذا الإطار يمكن أن نستخدم استعارات "الجائحة مخادِع"، و"الكمامة طوق نجاة"، و"زيادة الفحوصات أو الغرق"، و"الجائحة كارثة"، و"تسونامي الإصابات"، و"جائحة كوفيد-19 تجتاح البلد"، و"زلزال كوفيد-19 يخلِّف آلاف الضحايا"...إلخ.

إن استعارات الرحلة والتشخيص بالإنسان والكوارث الطبيعية تجنِّب إلى حدٍّ كبير من مزالق الوقوع في الآثار السلبية لاستعارات الحرب، كما تعمل على خلق حالة من التعاطف والنجدة والتواصل والمشاركة العامة في أوقات الأزمات بدل العداء والكراهية والتحارب. ويمكن لبلاغة الحرب أن تعبِّر بشكل جيد عن أهداف الخطاب الإعلامي وموضوعاته، كما يمكن أن تكون إطارًا معزِّزًا للسلامة الصحية في أوقات الطوارئ والجوائح، بشرط الإحاطة الواعية بآثارها الإدراكية الإيجابية والسلبية.

نشرت هذه الدراسة في العدد التاسع من مجلة لباب، للاطلاع على العدد كاملًا (اضغط هنا).

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) للتوسع بشأن دور الاستعارات في تغيير أنماط وأساليب التفكير والتعامل مع المشكلات الاجتماعية، يمكن الرجوع إلى:

George Lakoff and Mark Johnson, Metaphors We Live By (Chicago: University of Chicago Press, 198), 1. Stephen J. Flusberg et al., “War Metaphors in Public Discourse,” Metaphor and Symbol, 33(1), (218): 4, Jonathan Charteris-Black, Corpus Approaches to Critical Metaphor Analysis, (Macmillan-Palgrave, 24).

(2) في هذا الموضوع، يشار إلى الدراسات الآتية:

Brendon MH Larson, The war of the roses: Demilitarizing Invasion Biology. Frontiers in Ecology and the Environment, 3(9), 25. Elena Semino, Metaphor in discourse (Cambridge: Cambridge University Press, 28). Gary M. Reisfield, and George R. Wilson, “Use of Metaphor in the Discourse on Cancer”, Journal of Clinical Oncology, 22(19), (24). Susan Sontag, Illness as Metaphor, (New York: Farrar, Straus and Giroux, 1978). Susan Sontag, AIDS and Its Metaphors,  (NewYork: Farrar, Straus and Giroux, 1989). Frank V. Cespedes, “Stop Using Battle Metaphors in Your Company Strategy”, Harvard Business Review, December 19, 214, "accessed February 12, 22". https://2u.pw/kFFlB

(3) Charteris-Black, Corpus Approaches to Critical Metaphor Analysis, 255.

(4) Ibid, 244.

(5) Ibid, 244

(6) إيلينا سيمينو، الاستعارة في الخطاب، ترجمة عماد عبد اللطيف وخالد توفيق، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2013)، ص 21.

(7) نورمان فيركلف، اللغة والسلطة، ترجمة محمد عناني، (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2016)، ص 164.

(8) Charteris-Black, Corpus Approaches to Critical Metaphor Analysis, 21.

(9) George Lakoff and Mark Johnson, Metaphors We Live By, (Chicago: University of Chicago Press, 198).

(10) سيمينو، الاستعارة في الخطاب، مرجع سابق، ص 29.

(11) Teun A. van Dijk, Racism and the press (London: Routledge, 1991). Teun A. van Dijk, Discourse and Power (New York: Palgrave Macmillan, 28).

 (12)محمد خطابي، لسانيات النص: مدخل إلى انسجام الخطاب، ط 1 (الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، 1991)، ص327.

(13) Flusberg et al, “War Metaphors in Public Discourse,”: 4

 (14)سيمينو، الاستعارة في الخطاب، مرجع سابق، ص 38.

(15) المرجع السابق، ص 62-64.

(16) Andreas Musolff, Political Metaphor Analysis Discourse and Scenarios (London, Bloomsbury Academic, 216), 3.

(17) Paul H. Thibodeau and Lera Boroditsky, “Metaphors We Think With: The Role of Metaphor in Reasoning,” Plos one 6(2), (211): 5-1.

(18) Julia T. Williams Camus, “Metaphors of Cancer in Scientific Popularization Articles in the British Press,” Discourse Studies, 11(4), (29), 465.

(19) عبد الله الخراصي، دراسات في الاستعارة المفهومية، ط 1 (مسقط، مؤسسة عمان للصحافة والأنباء والنشر والإعلان، 2002)، ص 12.

(20) فيركلف، اللغة والسلطة، مرجع سابق، ص 164.

(21) Flusberg et al, “War Metaphors in Public Discourse,”: 3.

(22) Michael  Karlberg and Leslie  Buell, “Deconstructing the "War of all Against all": The Prevalance and Implications of War Metaphors and Other Adversarial News Schema in Time, Newsweek, and MacLean's,” Peace and Conflict Studies, 12(1), (25): 22–39.

(23) Flusberg et al, “War Metaphors in Public Discourse,”: 12.

(24) Musolff, Political Metaphor Analysis Discourse and Scenarios, 11.

(25) Flusberg et al, “War Metaphors in Public Discourse,”: 2.

(26) Lori Hartmann-Mahmud, “War as Metaphor,” Peace Review, 14(4), (22): 427.

(27) سيمينو، الاستعارة في الخطاب، مرجع سابق، ص 38.

(28) Sontag, Illness as Metaphor. Brigitte Nerlich, Christopher Halliday, “Avian Flu: the Creation of Expectations in the Interplay between Science and the Media,” Sociology of Health and Illness, 29(1), )27).

(29) سيمينو، الاستعارة في الخطاب، مرجع سابق، ص 382.

(30) Brendon M. H. Larson et al, “Metaphors and Biorisks: The War on Infectious Diseases and Invasive Species,” Science Communication, 26(3), (25), 26.

(31) Flusberg et al, “War Metaphors in Public Discourse,”: 1

(32) سيمينو، الاستعارة في الخطاب، مرجع سابق، ص 382.

(33) Hartmann-Mahmud, “War as Metaphor,”: 427.

(34) Lesley F. Degner et al, “A New Approach to Eliciting Meaning in the Context of Breast Cancer”, Cancer Nursing, 26(3), (23): 169.

(35) Sontag, Illness as Metaphor. Susan Sontag, AIDS and Its Metaphors, (NewYork: Farrar, Straus and Giroux, 1989).

(36) Reisfield and Wilson, “Use of Metaphor in the Discourse on Cancer,”: 426.

(37) Natasha M. Wiggins, Stop Using Military Metaphors for Disease, BMJ, 345:e476, (212). Frank V. Cespedes, “Stop Using Battle Metaphors in Your Company Strategy,” Harvard Business Review, December 19, 214, “accessed February 12, 22”. https://2u.pw/kFFlB. Reisfield and Wilson, “Use of Metaphor in the Discourse on Cancer”. Hartmann-Mahmud, “War as Metaphor”.

(38) Flusberg et al, “War Metaphors in Public Discourse,”: 2.

(39)  Charteris-Black, Corpus Approaches to Critical Metaphor Analysis, 35.

(40) Benjamin R. Bates, The (In)Appropriateness of the WAR Metaphor in Response to SARS-CoV-2: A Rapid Analysis of Donald J. Trump's Rhetoric, Front. Commun, 5(5), (22(: 11.

(41) The White House, “Remarks by President Trump, Vice President Pence, and Members of the Coronavirus Task Force in Press Briefing, Remarks (March 18, 22), “accessed March 18, 22”. shorturl.at/esHT8.

(42) Charteris-Black, Corpus Approaches to Critical Metaphor Analysis, 7.

(43) سيمينو، الاستعارة في الخطاب، مرجع سابق، ص 19.

(44) Reisfield and Wilson,  “Use of Metaphor in the Discourse on Cancer”: 426.

(45) George Lakoff and Mark Turner, More than Cool Reason: A Field Guide to Poetic Metaphor, (Chicago: University of Chicago Press, 1989). Lakoff and Johnson, Metaphors We Live By