انتخابات إثيوبيا: خطوة نحو تفكيك الأزمات أم بحث عن شرعية للحكم؟

يتناول المقال آفاق الانتخابات الإثيوبية في سياق الضغوط التي يتعرض لها رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، ومآلاتها؛ فهل ستؤول إلى حوار مع جبهة التيغراي التي خسرت الحرب أم أن آبي أحمد ونظامه سيدخلان الانتخابات التي تحددت نتائجها سلفًا، حسب محللين.
البرلمان الإثيوبي انتهت ولايته الدستورية منه سبتمبر 2020 دون إجراء انتخابات حتى الآن (الجزيرة نت)

في مايو/أيار 2020، كتبت مقالًا تفضل مركز الجزيرة للدراسات بنشره تحت عنوان "تفسيرات دستورية لتمديد ولاية الحكومة في إثيوبيا: تمهيد لأزمة سياسية أم حل لمعضلة في الحكم(1)؟"، واختتمت المقال بسؤال: هل تنجح إثيوبيا في تفادي أزمة سياسية تلوح في الأفق عبر تفسيرات دستورية، أم أن تلك التفسيرات ستكون شرارة أزمة تربك المشهد وتخلط الأوراق؟ بالنسبة لي، قد تكون بعض جوانب الإجابة على السؤال واضحة، لكني لم أجد من المفيد استباق الأحداث على أرض الواقع.

وفعلًا، تأجلت الانتخابات، وتصاعدت حدة الأزمة السياسية في البلاد، وبلغت ذروتها باغتيال الفنان هشالو هونديسا، واندلاع أعمال عنف وشغب، اعتُقل على إثرها قيادات المعارضة، ثم دخلت الحكومة في مواجهة عسكرية مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، أكبر المعارضين لتأجيل الانتخابات، ودخلت البلاد في معارك دبلوماسية على وقع الصراع في تيغراي، وتدخلات القوات الإريترية، وتداعياته الإنسانية والاقتصادية، وجاءت الموجة الثالثة من وباء كورونا، وازدادت حدة النزاعات الإثنية.

وإقليميًّا، تصاعدت حدة التوتر بين الخرطوم وأديس أبابا على خلفية النزاع الحدودي، وكادت أن تتحول لحرب شاملة، وبلغت أزمة سد النهضة ذروتها مع اتجاه إثيوبيا نحو التعبئة الثانية، وتلويح مصر بالخيار العسكري، والسودان بالمقاضاة الدولية.

ومع كل هذا، تقف البلاد اليوم على أعتاب انتخابات عامة، على مستوى المركز والولايات، في 5 يونيو/حزيران.

فما مدى أهمية إجراء انتخابات عامة في ظل ظروف داخلية معقدة، وأوضاع إقليمية متوترة، مع مقاطعة تيارات عريضة، وتشكيك قطاعات شعبية كبيرة في جدواها؟ أم أن إجراءها مطلب عاجل ومصلحة سياسية لأهل الحكم؟ وما المشهد السياسي عشية الانتخابات؟ وكيف يخطط آبي أحمد ليخرج منها منتصرًا ومعزَّزًا بشرعية دستورية، وقائدًا قاهرًا لكل الصعوبات؟! وما تحديات اليوم التالي للانتخابات؟

أزمة سياسية: تفكيك الأزمات بالأزمات

عشية إقرار تأجيل الانتخابات المقررة في أغسطس/آب 2020، حذَّر العديد من القوى السياسية المعارضة من دخول البلاد في أزمة سياسية خانقة تؤثر على شرعية الحكومة، وذهبت بعض تلك القوى أبعد من ذلك، وأعلنت عدم شرعية الحكومة بعد انتهاء فترتها الدستورية، في سبتمبر/أيلول 2020.

حصل التأجيل عبر تفسيرات دستورية، وشرعت الحكومة في التعامل مع المعارضة التي رفضت الاعتراف بشرعيتها. وفي مقدمة من قررت الحكومة التعامل معهم بصرامة الأحزاب والتيارات القومية في إقليم أوروميا، أكبر أقاليم إثيوبيا سكانًا ومساحة، والتيار الوطني المتشدد في العاصمة. إضافة لبعض الأحزاب الليبرالية التي عارضت التمديد.

بينما تم تأجيل المواجهة العسكرية مع جبهة تحرير تيغراي الحاكمة لإقليم تيغراي شمال البلاد.

اغتيال الفنان القومي الأورومي، هشالو هونديسا، في 30 يوليو/تموز 2020، (وهو اغتيال سياسي بامتياز)، وما تلا ذلك من أحداث عنف وشغب في إقليم أوروميا والعاصمة، أديس أبابا، أعطى الحكومة مبررًا لضرب المعارضة القومية الأورومية بيد من حديد، فتم اعتقال قياداتها، وفي مقدمتهم جوهر محمد ورفاقه، والآلاف من المؤيدين والكوادر الشبابية.

وبالتزامن مع تحييد قيادات التيار القومي، عمدت الحكومة أيضًا لترويض التيار الوطني المتشدد، الذي يقف على النقيض من التيار القومي، واعتقال زعيمه، إسكندر نيغا، في العاصمة، أديس أبابا. كما تم اعتقال ليدتو أيالا(2)، رئيس الحزب الإثيوبي الديمقراطي.

وخلال تغييب قيادات المعارضة عن الساحة، كان المجلس الانتخابي يسير نحو ترتيب أرضية الانتخابات المؤجلة. وفي نهاية المطاف، وعند إقرار موعد جديد للانتخابات، تم تحييد بعض الأحزاب إجرائيًّا، نظرًا لعدم تمكن قياداتها من استيفاء المتطلبات التنظيمية، والبعض الآخر اختار المقاطعة وعدم الذهاب للانتخابات بينما قياداته قيد الاعتقال والمحاكم السياسية، حسب رأيهم. وبهذا أصبحت الساحة السياسية خالية من المعارضة الشرسة، ذات التوجهات القومية أو الوطنية.

جبهة تحرير تيغراي: يمكن أن تقتلع ضرسك المؤلم لكنك قد لا تتمكن من إيقاف نزيفه

بعد ترويض المعارضة القومية وخاصة الأورومو، والتيار الوطني المتشدد في وسط البلاد عبر آليات أمنية وقضائية، بقيت لدى حكومة آبي أحمد معضلة أساسية شمالي البلاد؛ حيث لجأت جبهة تحرير تيغراي إلى إقليمها، بعد ما فقدت السلطة المركزية، وأصبحت رأس الحربة في معارضة النظام السياسي الجديد في أديس أبابا.

أعلنت الجبهة عدم الاعتراف بتأجيل الانتخابات بناء على التفسيرات الدستورية، وتمسكت بحرفية الدستور الذي لم يتطرق للتأجيل. ورفضت الاعتراف بشرعية الحكومة وذهبت أبعد وعقدت انتخابات خاصة بالإقليم، وجددت شرعيتها، ودخلت في خطوات عملية لعصيان القرارات الإدارية من الحكومة المركزية، كان أبرزها رفض تغيير قيادة لواء الشمال المتمركز في الإقليم.

الحكومة الفيدرالية أيضًا بادلتها بموقف مماثل؛ حيث استصدرت قرارات من المجلس الفيدرالي (مجلس الشيوخ) تنهي كل التعاملات المالية مع الجبهة باعتبارها جهة خارجة عن القانون.

ومع الرفض المتبادل للشرعية بين الطرفين، وعدم الإصغاء للتحذيرات الدولية(3)، أصبح الميدان جاهزًا للمواجهات العسكرية، التي انطلقت في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

في غضون ثلاثة أسابيع، وبدعم من إريتريا المجاورة، وبدعم القوات الخاصة التابعة لإقليم أمهرا المجاور لتيغراي كذلك والبالغة ستمائة عنصر، والمنافس التقليدي لحكم الحبشة التاريخية، وتكوين إثيوبيا الحديثة، تمكن الجيش الإثيوبي من السيطرة على المدن الرئيسية في تيغراي بما في ذلك مدينة مقلي، عاصمة الإقليم.

وفي 29 نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن آبي أحمد انتهاء الأعمال العسكرية، واستعادة زمام المبادرة في الإقليم. لكن هذا النصر السريع في الحرب النظامية لم يكن بلا ثمن؛ وهو ما أكده آبي أحمد في إحدى مقالاته؛ حيث قال: "النصر السريع الذي حققته حكومتي على الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي جاء مقابل ثمن باهظ، إنسانيًّا، لكنه ثمن ضروري لتتمتع إثيوبيا بالأمن، ولتتمكن من لعب دور بنَّاء إقليميًّا وفيما وراء الإقليم"(4).

جبهة تيغراي، وكما هو متوقع من تنظيم ماركسي ثوري، تحولت إلى حرب عصابات، مستفيدة من خبراتها المتراكمة عبر عقود، ومن الموارد المالية التي أتيحت لها خلال حكمها لإثيوبيا الذي دام 27 عامًا، ومن والموارد البشرية الشابة التي اندفعت إليها بفعل خطابها القومي، وبفعل حملات الإعلام المحلي التي تعدت شيطنة الجبهة، كعدو سياسي، إلى التحريض العرقي ضد التغاروة عمومًا.

وتأكيدًا على صعوبة الوضع العسكري في تيغراي، قال آبي أحمد: "عمليات التخلص من زمرة تيغراي استغرقت ثلاثة أسابيع فقط، لأن مواقعهم محددة، وتقاتل في حرب نظامية، لكن بعد تحولهم لحرب عصابات، والاختباء داخل المجتمعات لم نتمكن من القضاء عليهم في ثلاثة أشهر"(5).

وبهذا، تحول إقليم تيغراي إلي ميدان كرٍّ وفرٍّ عسكريًّا، وإلى أزمة إنسانية ودبلوماسية تستنزف الموارد المادية والمعنوية للدولة.

المشهد السياسي: صراع سياسي بصبغة إثنية

ومع بقاء الوضع في تيغراي على حاله، تزداد التحديات الأمنية والنزاعات العرقية تعقيدًا على كل الجبهات الثمانية التي أشار إليها آبي أحمد في إحدى خطاباته(6)؛ حيث توجد بؤر واسعة من الصراعات العرقية في محافظة متكل في إقليم بني شنقول-غُمز غربي البلاد، بالقرب من سد النهضة.

كما تعزَّز نشاط الجناح العسكري المنشق عن جبهة تحرير الأورومو في محافظة وللغا غربي البلاد. وفي وسط البلاد، يتنازع الأمهرا والأورمو في شمال شوا.

وتوجد خلافات بين ولايتي الصومال وعفر شرقي البلاد وصلت لحد تعطيل فتح المراكز الانتخابية لتسجيل الناخبين.

ونتج عن هذه الصراعات استهداف للمدنيين على الهوية العرقية تعدَّت حدود القتل إلى ارتكاب فظائع مروعة(7).

على أن كل هذه النزاعات في ظاهرها ذات صبغة إثنية، لكنها في الأساس صراع سياسي عميق، بين النخب السياسية والفكرية حول شكل الدولة وهويتها، وعلى توزيع السلطة والثروة.

وصراع الطبقات السياسية والنخبوية في إثيوبيا، متجذر، ليصل إلى الرواية التاريخية لتكوين الدولة.

يرى القوميون أن إثيوبيا الحديثة التي أسسها الإمبراطور، منيليك الثاني، نهاية القرن التاسع عشر، كيان أقل ما يوصف به أنه "دولة ظالمة"، قامت بقوة السلاح، وطحن حقوق القوميات والمكونات الإثنية والدينية. ولذا، والرأي للقوميين، يجب توسيع المكتسبات التي تحققت خلال ثلاثين عامًا مضت من عمر النظام الفيدرالية الإثنية.

بينما يسعى التيار الوطني المتشدد، وأجزاء من التيار الليبرالي لإلغاء تلك المكتسبات التي حققتها المكونات العرقية والدينية، باعتبار أن تعزيز التنوع اللغوي والثقافي يفتُّ في عضد الوحدة الوطنية التي أسسها الآباء. لذا، والرأي للتيار الوطني، اليميني والليبرالي، يجب تعزيز رؤية الدولة المركزية الموحدة، دينًا وثقافة، والرأسمالية اقتصاديًّا، ولا بأس بشيء من التعددية الثقافية وعدم المركزية الإدارية تماشيًا، تكتيكيًّا وليس مبدئيًّا، مع ضرورات الزمان.

وعلى طرفي النقيض، تقف الشريحة الحاكمة اليوم، والمتمثلة في حزب الازدهار بقيادة آبي أحمد، كعازل سياسي بين القومي والوطني، وتمثل قطاعات عريضة من التيارات المعتدلة على الساحة السياسية والاجتماعية في إثيوبيا.

في واقع الأمر، فإن حزب الازدهار نسخة معدلة من تحالف "الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا" الذي وضع الدستور الحالي، وحكم به البلاد بقيادة جبهة تيغراي، ولا يوجد تغيير كبير في الطرح الفكري، وقياداته اليوم كانت قيادات الصف الثاني والثالث في تحالف الجبهة، التي تم تفكيكها وتحويلها إلى حزب رأسي التنظيم، وأحادي القيادة.

وغالب إصلاحات حزب الازدهار هيكلية الشكل، وبراغماتية المنحى، ويدعو إلى الوسطية سياسيًّا وفكريًّا، ولتعميق مفاهيم التعددية الثقافية والدينية، مع العمل على تعزيز عوامل الوحدة والتخفيف من عوامل الفرقة والاختلاف، على عكس التحالف المتهم بتحويل التعددية إلى أداة للتفرقة، للتمكين لحكم الأقليات.

واقتصاديًّا، يسعى الازدهار لتحقيق نمو اقتصادي سريع بالاستفادة من آليات الاقتصاد الرأسمالي، مع تهجينها بأدوات محلية لتحقيق التوزيع العادل للثروة والسلطة.

توتر إقليمي وأزمة علاقات دولية

أفرزت الحرب في تيغراي تحديات داخلية وإقليمية، أبرزها أزمة وجود القوات الإريترية في الإقليم. فبعد نفي دام لعدة أشهر، أقرَّت إريتريا بوجود قواتها في تيغراي(8)، كما أكد ذلك آبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي(9).

وتتهم تقارير دولية ومحلية القوات الإريترية بارتكاب مجازر واعتداءات جنسية ضد المدنيين. وتعرضت إثيوبيا بسبب ذلك لانتقادات كبيرة، وتأثرت علاقاتها الدولية والدبلوماسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وفي نظري، فإن أكبر ثمن دفعته إثيوبيا في سبيل استعادة زمام المبادرة في إقليم الشمال، هو السماح بتدخل القوات الإريترية التي لديها كل الدوافع للقيام بعمليات انتقامية في تيغراي على خلفية الصراع الإثيوبي-الإريتري الذي دام عشرين عامًا.

واليوم، أصبحت القوات الإريترية متهمة دوليًّا بارتكاب انتهاكات فظيعة في الإقليم، ومعها أصبحت إثيوبيا تحت ضغط دولي أفقدها الكثير من عوامل المناعة في ملفات أخرى.

وبغضِّ النظر عن الأسباب التي دعت إريتريا للدخول إلى إثيوبيا وموافقة حكومة آبي على ذلك، فإن المؤكد أن تداعيات المسألة تعدت الحدود الإقليمية، وتحولت إلى سيف دولي مُصْلَت على حكومة آبي أحمد وعموم إثيوبيا.

وعليه، أصبح لزامًا على إثيوبيا معالجة ملف القوات الإريترية في تيغراي، معالجة حقيقة، تقنع العدو قبل الصديق، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

على أن هذه المعالجة لن تكون بدون ثمن على مستوى العلاقات الإثيوبية-الإريترية، والوضع الداخلي في البلدين، بعد أن أصبحت العلاقة بين القيادتين شبه مصيرية.

النزاع الحدودي مع السودان، ورغم كونه نزاعًا مزمنًا مضى عليه أكثر من قرن إلا أنه ورقة سياسية بين البلدين، ويعبِّر في كثير من تجلياته عن واقع العلاقات بين أديس أبابا والخرطوم(10).

تحرُّك السودان للسيطرة عسكريًّا على المناطق المتنازع عليها جاء عند انشغال إثيوبيا بالحرب في إقليم تيغراي المجاور للسودان؛ مما ألقى بظلال من الشك حول نوايا السودان، سيما أن تحرك الخرطوم جاء مخالفًا لتفاهمات البلدين خلال وجود جبهة تيغراي في الحكم.

على أن التحدي الأكبر هو أزمة العلاقات الدولية التي دخلت فيها إثيوبيا على وقع تداعيات الصراع في إقليم تيغراي، وأصبحت أولويات المجتمع الدولي ممثلًا في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هي إنهاء الصراع في تيغراي.

وتطالب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي آبي أحمد بالجلوس على طاولة المفاوضات مع جبهة تيغراي لإنهاء الصراع، وتحقيق توافق وطني قبل الذهاب للانتخابات.

ففي أول تصريح له، حذَّر المبعوث الأميركي للقرن الإفريقي، جيفري فليتمان، من انزلاق إثيوبيا نحو الفوضى. وفي مقارنة الوضع مع سوريا، قال: "إذا لم يتم احتواء أزمة تيغراي، وتحولت إلى صراع أهلي، فإننا أمام كارثة ستجعل من أزمة سوريا لعبة أطفال"(11).

هذه التحديات الإقليمية والدولية تلقي بظلالها على سدِّ النهضة، وتوفر أوراق ضغط كبيرة لكل من مصر والسودان بخصوص مفاوضات السد.

ومع عزم إثيوبيا على المضي قدمًا نحو التعبئة الثانية، واستماتة مصر لتوظيف التحديات الداخلية والضغوط الدولية على إثيوبيا بسبب أزمة تيغراي فهناك مخاوف من أن تكون "التعبئة الثانية" لسد النهضة هي القشة الذي تقصم ظهر البعير.

اهتزاز الثقة الشعبية في مجمل العملية السياسية

من يستحضر مستوى الآمال التي اجتاحت الشارع الإثيوبي عند مشاهدة انتقال السلطة بين رئيس الوزراء الإثيوبي السابق، هيلاماريام ديسالين، وآبي أحمد، في 2 أبريل/نيسان 2018، وما تلا ذلك من انفتاح سياسي وإعلامي، وتبشير الأخير ببزوغ عهد جديد، لا مكان فيه للانتقام والإقصاء، لا يكاد يصدق اليوم مآلات الأحداث وتطوراتها، ووصولها لصراع عسكري، حطَّم الصورة الإيجابية للدولة، ومعه تحطمت آمال قطاعات عريضة من المواطنين. وغادروا اليوم منطق الآمال الخادعة، وأصبحوا يعيشون حقيقة الواقع المر.

اليوم، تلك الجموع التي استبشرت بانتقال سلس للسلطة فقدت الثقة في مجمل العملية السياسية والسياسيين، وتتوجس من الانتخابات، حتى لا تكون خطوة تعقِّد الأزمات السياسية والتحديات الأمنية والاقتصادية.

كما تعارض معظم القيادات السياسية والنخب الفكرية الذهاب إلى الانتخابات في ظل هذه التحديات الكبيرة، وتعتبرها ترفًا لا تتحمله الدولة والمواطنون، وسعيًا من الحزب الحاكم لتعزيز شرعيته ليس إلا. بل قررت بعض الأحزاب إيقاف حملاتها الانتخابية لتفادي المسؤولية التاريخية، حسب رأيها.

ويرى السياسي البارز، إنادارغاشو سيغا، أن عدم تحمس الناس للانتخابات لم يأت من فراغ، فهو يعود إلى عدم الاستقرار الذي تعاني منه البلاد مما يثير سؤالًا لدى الجمهور حول جدوى الذهاب للانتخابات في مثل هذا الظرف، حسب قوله.

وترى النخب أن الأولى العمل على بناء توافق وطني، نظرًا للانقسام الحاد الذي تعاني منه البلاد، رأسيًّا وأفقيًّا، بسبب تراكمات الماضي، والأحداث المؤلمة التي رافقت تغيير النظام، والحرب الضروس في تيغراي، وما تلاها من وضع إنساني واقتصادي وأمني معقد.

وتعتقد تلك النخب أن المشكل الأساس في أزمات إثيوبيا هي الخلافات الداخلية أكثر من الأزمات أو العلاقات الإقليمية.

بناء توافق وطني يحتاج إلى توافر العديد من العوامل أهمها عامل الوقت لبناء الثقة بين النخب والمجتمعات، والتنازلات المؤلمة من أطراف الصراع السياسي لتحقيق أقل قدر ممكن من التوافق الوطني حول القضايا الأساسية والمصيرية، وهو أمر لم تعهده الثقافة السياسية في إثيوبيا التي درجت عبر التاريخ على سياسة المناكفات والمؤامرات وقلْب المِجَنِّ.

فهْم المواطن الإثيوبي لكل هذه التعقيدات دفعه إلى العزوف عن التسجيل للانتخابات. فمع انتهاء المدة المقررة لتسجيل الناخبين، في 23 أبريل/نيسان 2021، تم تسجيل 18 مليون ناخب فقط، من أصل 50 مليونًا يحق لهم التصويت، مما دفع الحكومة ومجلس الانتخابات إلى تمديد فترة التسجيل 24 يومًا إضافيًّا، حتى 7 مايو/أيار.

المصلحة السياسية للحزب الحاكم تقتضي عقد الانتخابات، والحصول على شرعية انتخابية كيفما كان، والانتقال لمرحلة الحكم حسب أجندته السياسية، ثم العمل على بناء توافق وطني ضمن الحدود والمساحات التي تخدم مشروعه ورؤيته، وليس كما ترجوه التيارات السياسية، وتتمناه القواعد المجتمعية الحالمة.

ورغم أن مقاطعة أقطاب المعارضة للانتخابات حرمت حزب الازدهار من عرس انتخابي يزيد من درامية تحقيق "نصر صعب" فإنه قرر الذهاب للانتخابات "بمن حضر"، والحصول على شرعية للحكم وإن كانت "باهتة".

الطريق إلى الأمام

أدركت الأحزاب والتيارات القومية المعارضة أن الحزب الحاكم حسم نتيجة المعركة السياسية، بعدما تمكن من تحييد المعارضة عبر أدوات أمنية وعسكرية، فقررت "المقاطعة" حفاظًا على الأرواح وادخارًا للجهود. وتقول مصادر مطلعة: إن حزب المؤتمر الأورومي الفيدرالي، الذي ينتمي إليه جوهر محمد، قرر عدم الزج بكوادره وقواعده في مواجهة محتومة مع الآليات الأمنية والقضائية للحزب الحاكم، فقرر المقاطعة.

أما التيارات الوطنية والوحدوية بشقيها اليميني والليبرالي، فتحاول سحب البساط من تحت أقدام الحزب الحاكم في إقليم أمهرا وفي العاصمة، أديس أبابا، والمدن الرئيسية، ولكن يبدو أن عزوف شرائح كبيرة عن التصويت سيعمل ضدها، وقد تخرج بخفي حنين، إلا إذا قرر الحزب الحاكم تخفيف المنافسة في بعض التجمعات الحضرية، لتوفير مساحات لبعض الأحزاب والتيارات الليبرالية والمستقلين.

حسب معطيات الوضع الحالي، سيخرج الحزب الحاكم وبالتحديد آبي أحمد منتصرًا، ويتربع على عرش إثيوبيا بشرعية انتخابية طالما ظلت سيفًا مصلتًا عليه من أعدائه ومنافسيه السياسيين، كونه استلم السلطة من تحالف حاكم، على وقع احتجاجات شعبية، لتحقيق انتقال ديمقراطي سلس، لكنه قلب المجن على الجميع، حسب المنتقدين(12).

خروج آبي منتصرًا سيعزز مكانته محليًّا، ومعه تتعزز مواقف إثيوبيا من القضايا والتحديات الإقليمية الخاصة بسد النهضة أو بالنزاع الحدودي. ذلك، لأن ثبات آبي أحمد على الموقف هو جزء من ورقة القوة التي يستند إليها داخليًّا أمام أعدائه السياسيين، ولا أتوقع أي تغيير في ذلك.

على مستوى القضايا الداخلية، تمثل مسألة إعادة هيكلة النظام السياسي وما يستتبع ذلك من تعديلات دستورية، قنبلة سياسية، قد لا تتحملها إثيوبيا.

التيارات الوطنية تطالب بتعديلات دستورية تلغي البنية الإثنية للدولة التي تؤسس دولة تعددية، بينما ترى التيارات القومية والعرقيات ذلك مكتسبًا يجب المحافظة عليه.

الصراع في تيغراي، وبغضِّ النظر عمن أطلق شرارته الأولى، أدخل إثيوبيا في مأزق قد لا يتمكن الجيل الحالي من تقييم واستيعاب تداعياته المتعددة الأبعاد. كما أن غياب التوافق الوطني أفقد إثيوبيا كثيرًا من مكامن قوتها.

وعليه، فإن أولى أولويات إثيوبيا ما بعد الانتخابات يجب أن تنصب على حل مسألة تيغراي، وتحقيق توافق وطني.

خاتمة

هل يذعن آبي أحمد، للضغوطات الدولية والتحديات المحلية، ويقرر الجلوس على طاولة المفاوضات مع جبهة خسرت المعركة، وأصبحت أثرًا بعد عين، على حدِّ وصفه، بل وصُنِّفت ارهابية، لكنها، حسب مراقبين، ربحت حرب العصابات والمعركة الدبلوماسية والإعلامية؟!

أم أن النصر المؤكد في انتخابات، تحددت نتائجها سلفًا، حسب محللين، سيدفعه إلى مواجهة الجميع، وبالتالي تكون انتخابات إثيوبيا السادسة مقدمة لفصل جديد لأزمة سياسية ممتدة منذ ما أكثر من خمس سنوات.

نبذة عن الكاتب

مراجع

(1) نور الدين عبدا، تفسيرات دستورية لتمديد ولاية الحكومة في إثيوبيا: تمهيد لأزمة سياسية أم حل لمعضلة في الحكم؟ مركز الجزيرة للدراسات، 14 مايو/أيار 2020، (تاريخ الدخول: 1 مايو/أيار 2021): https://bit.ly/3ubiUad
(2) المصدر السابق.
(3)- Steering Ethiopia’s Tigray Crisis Away from Conflict, Crisis Group, 30 October 2020 (accessed 30 April 2021): https://bit.ly/3eaBHNf
(4) رؤية السلام والتنمية في القرن الإفريقي: قراءة تحليلية في مقال لرئيس الوزراء آبي أحمد، موقع نيلوتيك بوست، 8 فبراير/شباط 2021، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2021): https://bit.ly/3vvnxMg
(5) انظر تقنية المطر السحابي وعلاقتها بدعم الزراعة في موقع اليوتيوب، 3 أبريل/نيسان 2021، (تاريخ الدخول: 1 مايو/أيار 2021):  https://bit.ly/3e826Ls
(6) تعرف على أسباب العنف في غرب إثيوبيا،، موقع نيلوتيك بوست، 18 مارس/آذار 2021، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2021):  https://bit.ly/3tdF0HH
(7) رئيس مفوضية حقوق الإنسان الإثيوبية: يجلس على صفيح ساخن… ويسير وسط حقل من الألغام، موقع نيلوتيك بوست، 27 أبريل/نيسان 2021، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2021):
https://bit.ly/2QQ8XAv
(8) إريتريا تُقِرُّ ولأول مرة بوجود قواتها في تيغراي… والأمم المتحدة تقول: لا دليل على انسحاب قوات أسمرا من الإقليم الإثيوبي، موقع نيلوتيك بوست، 17 أبريل/نيسان 2021، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2021):
https://bit.ly/2SjLU1o
(9) آبي أحمد: الوجود الإريتري على الحدود جاء لضرورات أمنية… وأسمرا وعدتنا بمحاسبة المتورطين في الانتهاكات الانسانية، موقع نيلوتيك بوست، 23 مارس/آذار 2021، (تاريخ الدخول: 3 مايو/أيار 2021):
https://bit.ly/3e9q3C1
(10) حدود ملتهبة: السودان وإثيوبيا على مسار تصادمي، مركز الجزيرة للدراسات، 18 فبراير/شباط 2021، (تاريخ الدخول: 1 مايو 2021):  https://bit.ly/3352HaD

(11)- Robbie Gramer: U.S. Africa Envoy: Ethiopia Crisis Could Make Syria Look Like ‘Child’s Play’, Foreign Policy, April 26. 2021 (accessed 30 April 2021):
https://bit.ly/3eOAsSN

(12) انظر مقال لجوهر محمد من معتقله:
In-depth: How Ethiopia’s transition to democracy derailed: Reflections by Jawar Mohammed, Addis Standard / October 28, 2020 (accessed 30 April 2021):
https://bit.ly/3aRCqRi