بدأت الجولة الرابعة من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يوم الاثنين، 10 مايو/أيار 2021، قبل يومين فقط من نهاية شهر رمضان المبارك، واحتفال المسلمين بعيد الفطر. واستمرت الحرب طوال أيام عيد الفطر، ولم تتوقف إلا في نهاية يومها الحادي عشر. واندلعت هذه الجولة من الحرب على خلفية توتر متصاعد في شرق القدس، بدأ بضغط إسرائيلي استيطاني للاستيلاء على عدد من بيوت حي الشيخ جراح، وتصاعد في سلسلة من اعتداءات قوى الأمن الإسرائيلية على المصلِّين في المسجد الأقصى، والاستباحة غير المسبوقة للحرم القدسي. وقد رفضت الحكومة الإسرائيلية الاستجابة لتحذيرات قوى المقاومة الفلسطينية في غزة للإسرائيليين بالابتعاد عن الحرم، لكن تكررت استباحة الأمن الإسرائيلي والمستوطنين للحرم القدسي. وهذا ما دفع المقاومة لإطلاق عدد من الصواريخ على المدن الإسرائيلية، وصل بعضها إلى محيط القدس الغربية. وخلال ساعات، بدأت القوات الإسرائيلية هجمات منسقة غير مسبوقة على قطاع غزة.
ولكن هذا لا يعني أن المقاومة هي التي بدأت الحرب. ففي مناسبات سابقة، قامت فيها إحدى الفصائل في قطاع غزة بإطلاق عدد من الصواريخ على الجانب الآخر من الحدود، كان الرد الإسرائيلي يقتصر على توجيه ضربات جوية إلى مواقع انطلاق الصواريخ، باعتبارها وسيلة كافية لتوكيد معادلة الردع. في هذه المرة، وبمجرد إطلاق عدد من الصواريخ من القطاع سارع الإسرائيليون إلى إعلان الحرب. يعني ذلك أن الحكومة الإسرائيلية أرادت الحرب، التي خططت لها مسبقًا، وسارعت إلى استغلال حادثة إطلاق الصواريخ انتصارًا للقدس لبدء هجمة عسكرية شاملة، برًّا وبحرًا وجوًّا، على قطاع غزة. فلماذا أرادت إسرائيل هذه المواجهة وسعت إليها؟ وما ميزات الحرب التي خاضتها طوال أيام الجولة الرابعة مع قطاع غزة؟ وهل حققت حكومة نتنياهو أهدافها من حرب الأيام العشر؟ وإلى أين تشير نهاية هذه الجولة من المواجهة بين دولة إسرائيل والفلسطينيين؟
انحسار إسرائيلي
طالت الهجمات الإسرائيلية على القطاع مئات البيوت، بما في ذلك عدد من الأبراج السكنية التي تضم عشرات المنازل. وفي بعض الحالات، كان الجانب الإسرائيلي ينذر السكان بالإخلاء قبل تدمير بيوتهم، وفي حالات أخرى كان القصف يبدأ دون أي إنذار مسبق. وهذا ما أدى إلى خسائر فادحة في أرواح المدنيين الفلسطينيين. كما طالت الغارات الإسرائيلية مكاتب ومراكز لقوى المقاومة، ومقار دوائر رسمية تابعة للحكومة الفلسطينية في القطاع. ولم يسلم من القصف معظم مفارق الطرق، بما في ذلك الطرق المؤدية إلى المستشفيات ومراكز الدفاع المدني، والمدارس، وخطوط الكهرباء والماء، ومصانع صغيرة ومتوسطة مملوكة للقطاع الخاص، وأراض زراعية.
في حالات قليلة، سيما في الأيام الأولى من المواجهة، نجح الإسرائيليون في استهداف عدد قليل من القادة الميدانيين لقوات القسام وسرايا القدس، وعدد من خبراء القسام العسكريين. ولكن محاولة خداع المقاومين بادعاء انطلاق هجوم إسرائيلي بري، بهدف دفع المقاومين إلى الخنادق الحدودية، ومن ثم تصفيتهم، فشلت. وبالنظر إلى أن قوى المقاومة في القطاع تكشف عادة عن خسائرها بشفافية، وتشيِّع الشهداء إلى مثواهم الأخير بصورة علنية وشعبية، فالواضح أن خسائر المقاومين كانت محدودة إلى حدٍّ كبير، سيما إن قورنت بالجولات السابقة من الحرب في 2009، و2012، و2014.
في المقابل، ردَّت قوى المقاومة على الغارات الإسرائيلية بإطلاق رشقات من الصواريخ باتجاه مدن وبلدات الحزام الإسرائيلي حول قطاع غزة، وباتجاه مدن وبلدات أبعد نسبيًّا، مثل: أسدود وبئر السبع ومطار بن غوريون، المطار المدني الإسرائيلي الرئيس. وفي حالات قليلة، طالت الصواريخ الفلسطينية القدس الغربية، وتل أبيب، ومطار رامون في أقصى الجنوب الإسرائيلي، وحقل إنتاج الغاز الإسرائيلي شرق المتوسط. كما أطلق الفلسطينيون آلاف قذائف الهاون على مدن وبلدات ومواقع عسكرية إسرائيلية في الشريط الحدودي. ومعلوم أن نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي، المعروف باسم القبة الحديدية، والتي يُقدَّر نجاحها في اعتراض ما يقارب الخمسين بالمئة من الصواريخ الفلسطينية، لا يستطيع التعامل مع قذائف الهاون. ما لفت الانتباه في الأداء العسكري الفلسطيني، أن تنظيمات المقاومة أطلقت ما يزيد عن أربعة آلاف صاروخ خلال الأيام الأحد عشر من المواجهة، وهو ما يساوي عدد الصواريخ التي أُطلقت خلال 50 يومًا من جولة المواجهة الثالثة في 2014. كما لوحظ أن المقاومة الفلسطينية نجحت منذ 2014 في تطوير صواريخ أبعد مدى مما كانت تمتلكه من قبل، وأن هذه الصواريخ باتت أكثر دقة، ربما بفعل تزويدها بأنظمة توجيه.
في حرب 2014، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أهدافًا طموحًا للحرب، بما في ذلك تدمير منظومة أنفاق المقاومة، وتجريد المقاومة من السلاح، ووضع حدٍّ نهائي للتهديد الذي تمثله المقاومة في قطاع غزة للأمن الإسرائيلي. وفي النهاية، وبعد 51 يومًا من الحرب، وافق الإسرائيليون على وقف لإطلاق النار دون تحقيق أي من أهداف الحرب. أما في هذه الجولة، فقد أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية نفسه، بنيامين نتنياهو، هدفًا واحدًا ومتواضعًا للحرب: ضمان الأمن والسلم لإسرائيل لفترة طويلة. ما فهمه مراقبو الشأن الإسرائيلي من هدف نتنياهو أن رئيس الحكومة أراد من هذه الجولة إيقاع تدمير بالغ بالمقاومة الفلسطينية وأهالي قطاع غزة وبنيتها، شبيه بما أوقعه الإسرائيليون بلبنان في حرب 2006، بحيث يحرص الفلسطينيون على تجنب الحرب لعدة سنوات قادمة، تمامًا كما فعل اللبنانيون.
في الثانية من فجر الجمعة، 21 مايو/أيار، وافق الإسرائيليون على وقف إطلاق النار دون أن ينجحوا في تحقيق هدف الحرب المتواضع. صحيح أن الإسرائيليين أوقعوا دمارًا هائلًا بقطاع غزة وأهله، ولكن خسائر قوى المقاومة، سواء على صعيد المنشآت أو الأفراد أو المقدرات العسكرية، كانت محدودة. وإذا أخذنا بالاعتبار تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية، التي تقول: إن جناح حماس العسكري دخل المواجهة وهو يملك 12 ألف صاروخ، فلابد أن حماس لم تستهلك حتى ثلث مخزونها من الصواريخ طوال أيام المواجهة. ولأن تنظيمات المقاومة الفلسطينية ظلت قادرة على إطلاق ما بين 250 إلى 300 صاروخ يوميًّا حتى نهاية المواجهة، فذلك يعني أن الإسرائيليين لم ينجحوا في تدمير أي عدد ملموس من منصات إطلاق الصواريخ.
الفارق في دوافع الحرب
ثمة فارق واسع بين دوافع كلا طرفي المواجهة لإشعال الحرب، وانعكاس هذه الدوافع على موقع ودور كل منهما. بإطلاق صواريخها باتجاه القدس، لم تسع المقاومة الفلسطينية بالتأكيد إلى إشعال الحرب، ولكنها أرادت التعبير عن الاحتجاج على السياسات الإسرائيلية في المدينة العربية وفي الحرم القدسي. في المقابل، كان الطرف الإسرائيلي يستعد لهذه الجولة منذ نهاية مواجهة 2014 التي فشل في تحقيق أهدافه منها، بالرغم من استمرارها لأكثر من خمسين يومًا. ويعرف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي كان هو ذاته رئيس الحكومة في 2014، هذه الحقيقة، كما يدرك حقيقة الفشل في تلك الجولة.
بيد أن وضع نتنياهو السياسي في 2021، يختلف بصورة كبيرة عن وضعه في 2014. فالدولة الإسرائيلية تمر بحالة من التأزم المستحكم منذ عامين، بعد أن أخفقت أربع جولات انتخابية في توطيد استقرار سياسي، وبات نتنياهو مطاردًا بقضايا فساد. وخلال الأيام القليلة التي سبقت اندلاع المواجهة، ونظرًا لفشل نتنياهو في تشكيل حكومة تتمتع بأغلبية برلمانية، كُلِّف زعيم المعارضة، يائير لابيد، بمهمة تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات الأخيرة. ولكن نتنياهو وجد في الحرب على غزة فرصة مناسبة لعرقلة مساعي منافسيه لبناء تحالف حكومي، وهو الأمر الذي لم يكن خافيًا عن عموم الرأي العام الإسرائيلي، سواء مؤيدو نتنياهو ومعارضوه. ربما ساعدت مواجهة الأحد عشر يومًا في تعطيل جهود المعارضين لإطاحة نتنياهو، ولكنها أظهرت في الوقت نفسه أن رئيس الحكومة لا يتردد في التضحية بحياة الإسرائيليين وأمنهم واقتصادهم لتحقيق طموحات شخصية بحتة. وهذا ما سيطرح أسئلة عديدة حول شرعية لجوء نتنياهو لهذه المواجهة، وما إن كان قد نجح بالفعل في تقويض مقدرات المقاومة الفلسطينية وتأمين إسرائيل وشعبها لعدة سنوات قادمة، كما كان هدفه المعلن من الحرب.
في المقابل، قدمت قوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، لاسيما حركة حماس، نفسها باعتبارها المدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني كله، وليس في القطاع وحسب. كما عززت حماس من شرعيتها كقوة وطنية، تتحدث باسم عموم الشعب، تشارك الشعب همومه، وتملك الوسائل الفعالة للدفاع عن حقوقه. والمؤكد أن هذا التطور في وضع معسكر المقاومة الفلسطيني لن يترك أثره على توازنات الساحة السياسية الفلسطينية وحسب، ولكن أيضًا على نمط تعامل القوى الإقليمية والدولية مع المقاومة.
مركز الجذب الإقليمي والدولي
بخلاف حسابات العامين الماضين، عربيًّا ودوليًّا، التي تصورت أن الرأي العام العربي والإسلامي لم يعد يكترث كثيرًا بالقضية الفلسطينية، شهدت أيام المواجهة الأحد عشر حراكًا شعبيًّا عربيًّا وإسلاميًّا هائلًا وواسع النطاق، امتد من المغرب إلى إندونيسيا. فالعراق، الذي كان منشغلًا بهمومه الداخلية منذ 2003، شهد حركة تظاهر ضخمة وتجمعًا شعبيًّا شارك فيه عشرات الألوف. وحتى في كشمير الهندية، التي تعيش مناخ احتلال، نُظِّمت مظاهرات دعم ومساندة لفلسطين وأهلها. ولكن أكثر التحركات الشعبية حدة والتصاقًا كانت تلك التي جرت في الأردن ولبنان.
على المستوى الرسمي، تفاوتت مقاربات الأزمة بين دول لعبت دورًا مباشرًا في الضغط على الحكومة الإسرائيلية وحليفاتها الغربيات، والسعي إلى وقف العدوان على قطاع غزة، مثل مواقف مصر والأردن وقطر وتركيا، وتلك التي اتسمت بالحرج والارتباك، مثل مواقف الإمارات والسودان والبحرين والمغرب، التي كانت قد عقدت اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل مؤخرًا. أما دوليًّا، فقد بدا في أيام المواجهة الأولى أن تصريحات المسؤولين الأوروبيين والأميركيين كانت أكثر ميلًا للجانب الإسرائيلي منها إلى الحياد والإقرار بالأسباب الحقيقية لاندلاع الحرب. ولكن، وفي ضوء حجم الاتصالات المباشرة التي أجراها المسؤولون الأميركيون، بمن في ذلك الرئيس جو بايدن، بنظرائهم الإسرائيليين طوال أيام المواجهة، لم يعد ثمة شك في أن الضغوط الأميركية هي في الحقيقة التي أفضت إلى وقف إطلاق النار. ذلك لا يعني بالتأكيد أن التزام إدارة بايدن تجاه أمن إسرائيل وتفوقها قد تغير، ولكن الواضح أن الحزب الديمقراطي وإدارة الرئيس بايدن، لم يعودا قلعتين خالصتين للنفوذ الإسرائيلي.
وقد انعكس هذا المتغير على الرأي العام الأميركي في المظاهرات الحاشدة، التي نُظِّمت للاحتجاج على العدوان الإسرائيلي على غزة، والتي شهدتها مدن عُرفت بتوجهها الديمقراطي، مثل نيويورك وديترويت، وضمَّت أميركيين من كافة الخلفيات. ولم تقلَّ الحشود الجماهيرية ضد الحرب على غزة في معظم المدن الأوروبية الرئيسة، بما في ذلك العاصمة البريطانية، لندن، عن تلك التي شهدتها نظيراتها الأميركية. وهذا ما دفع جوناثان فريدلاند، المعلق البارز في صحيفة الغارديان البريطانية (21 مايو/أيار)، والمعروف بدعمه لإسرائيل، إلى التحذير من أن سياسات الحكومة الإسرائيلية تدفع نحو ميل ملموس في الرأي العام الغربي لصالح الفلسطينيين.
عمومًا، وبالرغم من المتغيرات الملموسة في السياسات الرسمية وفي توجهات الرأي العام، عربيًّا وإسلاميًّا ودوليًّا، فليس ثمة شك في أن التحرك المصري كان بالفعل الأكثر لفتًا للأنظار، ليس فقط لأنه اختلف بصورة كبيرة عن موقف القاهرة من حرب 2014، ولكن أيضًا لأنه كشف عن انعطافة واضحة في السياسة الإقليمية المصرية. لم يشجع النظام المصري على الاحتجاجات، ولا سمح بتنظيم حراك شعبي مناصر للفلسطينيين، كما حدث في جولات المواجهة خلال عهدي مبارك ومرسي، ولكن القاهرة واكبت الأزمة منذ بدايتها، في سعي حثيث لإيقاف العدوان على غزة. وإلى جانب خروج الإعلام المصري المؤيد للنظام في حملة شجب للعدوان الإسرائيلي وتأييد الفلسطينيين، تحدث الناطقون الرسميون المصريون بلغة مختلفة في تعليقاتهم على الموقف الإسرائيلي. وقبل أيام قليلة من إعلان وقف إطلاق النار، قالت الرئاسة المصرية إنها ستخصص 500 مليون دولار لإعادة بناء قطاع غزة. وبعد ساعات من وقف إطلاق النار، أعلنت القاهرة عن الدعوة لمؤتمر دولي لإعادة إعمار القطاع، قال مسؤولون مصريون: إن هدفه ليس فقط ترميم الدمار الذي طال مدن القطاع، ولكن أيضًا ضمان ألا يحدث مثل هذا الدمار في كل مرة يقع فيها اشتباك بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية.
ولم يكن خافيًا يوم 14 مايو/أيار، عندما نقل التليفزيون المصري صلاة الجمعة من الجامع الأزهر، التي استُدعي لها أحد الأزهريين الكبار من تقاعده، ولم يتردد في شجب العدوان والتعبير عن مناصرة فلسطين وأهلها، أن النظام يقصد إعطاء انطباع بوجود انعطافة في السياسة المصرية. والأرجح أن هذه الانعطافة لم تحدث بفعل أسباب آنية وحسب، ولكن أيضًا لأن القاهرة باتت تسعى إلى ترميم نفوذها الإقليمي. أما على المستوى المباشر والآني، فقد فوجئت القاهرة في أيام المواجهة الأولى بتجاهل الجانب الإسرائيلي للوساطة المصرية ومقترح وقف إطلاق النار. والحقيقة أن النظام المصري كان يريد بالفعل وضع نهاية سريعة للحرب، خشية من أن تعمل مشاهد العدوان على قطاع غزة والأقصى على انفجار الشارع المصري. ولكن، وبالنظر إلى المتغيرات المتلاحقة في المقاربة المصرية للشأن الليبي، يبدو أن النظام المصري، بعد مرور ثماني سنوات على انقلاب 2013، بات يشعر بالاطمئنان لاستقرار وضعه الداخلي، ويبذل جهدًا أكبر، وبصورة أكثر تركيزًا وجدية، لاستعادة نفوذ مصر الإقليمي، الذي عانى من تراجع فادح في العقد الماضي، ليس في ليبيا والسودان، وحسب، ولكن أيضًا، وبصورة أساسية، في فلسطين.
بيد أن ثمار التوجه المصري الجديد قد لا تتحقق بصورة سريعة وسلسة في الساحة الفلسطينية دون مراجعة أوسع نطاقًا لسياسة مصر الخارجية. فمن ناحية، يصعب إعادة بناء الثقة بين عموم الفلسطينيين والنظام المصري طالما ظلت القاهرة على حرصها المبالغ فيه للحفاظ على العلاقات الوثيقة التي تربطها بحكومة نتنياهو. كما تحتاج القاهرة إلى إجراء مراجعة شاملة للكيفية التي تتعامل بها مع قطاع غزة وأهله، كون مصر باتت منفذ القطاع الوحيد على العالم. وبالرغم من أن علاقة النظام المصري بحركة حماس، صاحبة النفوذ المهيمن في قطاع غزة، لم تعد بمثل التوتر والعداء الذي كانت عليه عقب انقلاب 2013، لم يزل صعبًا وصف هذه العلاقة بالودية، أو حتى بالطبيعية. فالنظام يخوض داخل مصر حربًا شعواء ضد الإخوان المسلمين، ولا يخفى أن حماس وُلدت من جذور إخوانية. وما لم يبدأ النظام المصري بالتعامل مع حماس كتعامله مع أية قوة وطنية فلسطينية أخرى، ستبقى ظلال ثقيلة من الشك تخيم على محاولة مصر تعزيز نفوذها الفلسطيني.
تحولات السياسة الفلسطينية
قبل شهور قليلة من اندلاع الحرب، كان الفلسطينيون قد توصلوا إلى توافق وطني على إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في مناطق سلطة الحكم الذاتي بالضفة والقطاع، يتلوها العمل على إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة بناء مؤسساتها، استند إلى توافق ثنائي بين حركتي حماس وفتح. وبالرغم من أن حماس لم تعلن موقفًا رسميًّا، فالأرجح أن توافقها مع فتح تضمَّن عزمها الدعوة إلى دعم ترشح عباس لرئاسة سلطة الحكم الذاتي من جديد. وتشير القراءة السائدة لموافقة حماس على إجراء الانتخابات في الضفة والقطاع وتأييدها رئاسة عباس إلى سعي فلسطيني حثيث لاستعادة الوحدة الوطنية، والأمل في أن يعمل تجديد شرعية سلطة الحكم الذاتي ووحدة الفلسطينيين على تخفيف عبء الحصار عن قطاع غزة.
بيد أن الانتخابات لم تجر في موعدها، لا التشريعية ولا الرئاسية، بعد أن أصدر الرئيس الفلسطيني مرسومًا بتأجيلها، دون أن يحدد موعدًا جديدًا لهذا التأجيل. المبرر خلف التأجيل، طبقًا للرئيس عباس، أن إسرائيل لم تستجب لمطلب إجراء الانتخابات في القدس الشرقية، التي تؤكد السلطة أنها لن تقبل بعقد انتخابات من دونها. الحقيقة، على الأرجح، أن عباس قام بتأجيل الانتخابات بعد أن شهد انهيار وحدة حركة فتح، وقيام ناصر القدوة، القيادي الكبير في الحركة، بتشكيل قائمة منفصلة عن قائمة فتح الانتخابية، وظهور مؤشرات على أن مجموعة القدوة استقرت على ترشيح القيادي الأسير، مروان البرغوثي، منافسًا لعباس على الرئاسة. إضافة إلى أن القيادي الفتحاوي المفصول، محمد دحلان، المدعوم من الإمارات، قرر هو الآخر خوض الانتخابات التشريعية بقائمة مستقلة عن فتح. فالانهيار في وحدة فتح السياسية، وظهور منافسين أقوياء لعباس، حملا مؤشرات على احتمال أن تفضي الانتخابات البرلمانية إلى عودة حماس إلى المجلس التشريعي بكتلة أكبر، وخسارة عباس موقعه الرئاسي. وهذا على الأرجح ما دفع الرئيس الفلسطيني إلى تأجيل الانتخابات إلى أجل غير محدد، وليس مسألة مشاركة المقدسيين، التي كان يمكن أن تحل بطرق أخرى.
الآن، بعد نهاية الجولة الرابعة من الحرب، التي اندلعت من انفجار الوضع في القدس والأقصى، أصبح من المؤكد أن حماس حسمت التدافع السياسي الفلسطيني الداخلي. فقد كشف تصاعد التوتر في القدس، كما كشفت مجريات الحرب، أن رئاسة عباس لم تخدم النضال الفلسطيني من أجل الحرية، وأن النهج الذي مثَّله وصل نهاية الطريق، دون أن يُظهر الرئيس أية مؤشرات على إدراكه لهذه الحقيقة. الخروج الشعبي الفلسطيني واسع النطاق، في مدن الضفة والقدس وحتى في المدن العربية داخل الخط الأخضر، تأييدًا لحماس وقرار كتائب القسام الانتصار للقدس، لا يمكن تفسيرهما إلا بصعود حاسم في نفوذ حماس السياسي، شبيه بما حققته فتح في الشهور التالية لمعركة الكرامة في ربيع 1968، حيث أعقبت المعركة ضغوط علنية، أوروبية ومصرية، على الأقل، ولأسباب مختلفة، لعقد الانتخابات الفلسطينية في أقرب فرصة ممكنة. والمؤكد، إن لم يبادر الرئيس الفلسطيني إلى الاستقالة من منصبه، وعُقدت الانتخابات قريبًا، أن حماس ستفوز في الانتخابات البرلمانية، وأن المرشح الذي ستدعمه سيحقق الفوز في الرئاسية. ولكن من غير الواضح ما إن كانت حماس ستدفع باتجاه هذا الانقلاب في الوضع الفلسطيني السياسي، وما إن كان "انتقال الراية" في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية سيبدأ في مؤسسات سلطة الحكم الذاتي، أو في أطر منظمة التحرير الفلسطينية.
تداعيات الجولة الرابعة
أظهرت هذه الجولة من المواجهة أن الفلسطينيين، مقاومين وشعبًا، أصبحوا ندًّا حقيقيًّا للدولة الإسرائيلية، ليس بالضرورة بفعل تكافؤ المقدرات العسكرية للطرفين، ولكن بالتأكيد لأن الفلسطينيين نجحوا، وبإمكانات محدودة، في إفشال القوة الإسرائيلية الهائلة ومنعها من تحقيق أهدافها، بالرغم من تواضع تلك الأهداف. وليس هذا وحسب، فبعد عامين أو ثلاثة من التجاهل الغربي الفادح للبُعد الفلسطيني، الذي هو أصل الصراع في الشرق الأوسط، وتهميش الفلسطينيين كلية، ومحاولة تقديم المشكلة باعتبارها مشكلة علاقات سلم بين دولة إسرائيل والدول العربية، أعادت هذه الحرب القضية الفلسطينية إلى موقعها الطبيعي. فلم يعد ممكنًا الآن، لا في المجال العربي والإسلامي، ولا في الساحة الدولية، مقاربة التأزم شرق الأوسطي المديد بمعزل عن القضية الفلسطينية.
ولا يعني التوكيد على هذه الحقيقة بالضرورة أن القوى الدولية، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، ستعمل على إحياء المسار التفاوضي نحو حل الدولتين، أو أن عودة القضية الفلسطينية إلى تصدر أجندة الأمن في منطقة الشرق الأوسط ستصب لصالح عباس والقيادة الحالية للحركة الوطنية الفلسطينية. المرجَّح، أنه إن أحجمت القوى الغربية عن الضغط على إسرائيل، في محاولة لتحقيق تقدم سياسي في المسار الفلسطيني، فإن جولة جديدة من الحرب ستكون مسألة وقت، وأن الجولة القادمة قد تكون أكثر تفاقمًا وأوسع نطاقًا من حدود فلسطين التاريخية. كما أن الاستمرار في التعامل مع قيادة عباس للحركة الوطنية الفلسطينية، وتجاهل القوى الأخرى، الأكثر فعالية ومصداقية، لن يوفر لأي تحرك سياسي، دولي أو إقليمي، الشرعية الكافية.
لقد وحَّدت هذه الجولة من الحرب الشعب الفلسطيني في كل مناطق وجوده، في الضفة والقطاع وداخل الخط الأخضر. وكشفت زيف الادعاء الإسرائيلي بتوحيد مدينة القدس، وأكَّدت الحقيقة التمييزية العنصرية لدولة إسرائيل. وكما أن من الخلل التعامل مع قيادة عباس باعتبارها الممثل للحركة الوطنية الفلسطينية، وتجاهل القوى الأكثر شرعية ومصداقية، فإن من الخلل أيضًا تجاهل ملايين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، سواء لبروزهم قوة بالغة التأثير في معادلة الصراع، أو باعتبارهم أصحاب حقوق وطنية مهدرة لم يضعها العالم في الحسبان طوال عقود.
وما ينطبق على القوى الغربية، سيما تلك الحليفة لدولة إسرائيل، ينطبق بصورة أكبر على المحيط العربي لفلسطين. فمنذ 2013 على الأقل، عندما انطلقت الردة على حركة الثورة والتغيير العربية، حسبت دول عربية نافذةٌ حركةَ حماس على تيار الثورة والتغيير، فاستهدفتها وكافة القوى الإسلامية الفلسطينية، وفرضت عليها وعلى قطاع غزة، الذي تديره حماس، حصارًا قاسيًا. أما خلال أيام المواجهة القصيرة، فقد خرج ملايين العرب والمسلمين إلى الشوارع للتعبير عن تضامنهم مع فلسطين وتأييدهم لقوى المقاومة الفلسطينية، وعن إيمانهم بأن القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين، وأن من العبث محاولة عزل فلسطين عن محيطها العربي والإسلامي. ما أكَّدته جولة الحرب الرابعة، والحراك العربي والإسلامي الهائل، أن الخلل في تعامل عدد كبير من الدول العربية مع الساحة السياسية الفلسطينية لا يقل فداحة عن الخلل في التعامل الدولي.
أما فيما يتعلق بدولة إسرائيل، فلابد أن عواقب الحرب ستأخذ بعضًا من الوقت، كما هي العادة في كافة الحروب السابقة، قبل أن تتكشف بصورة واضحة أمام الرأي العام الإسرائيلي. وبتكشف حقائق ما حدث، سيكون نتنياهو الخاسر الكبير، بعد أن دفع إسرائيل إلى حرب لا جدوى منها، وأخفق كلية في تحقيق أهدافه، المعلنة وغير المعلنة، منها. ولكن ثمة ما هو أكبر وأبعد أثرًا، وهو أن إسرائيل لم يعد لديها وسيلة لإيقاع الهزيمة بالشعب الفلسطيني، سواء بعزله عن محيطه العربي والإسلامي، أو بإخراجه من معادلة الصراع. فكافة وسائل القوى الاستعمارية جُرِّبت، ولم تُجدِ نفعًا.