في العشرين من يوليو/تموز، قام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بزيارة لشمال قبرص، ما يُعرف بجمهورية شمال قبرص التركية، مصحوبًا بوفد رسمي وسياسي كبير. جاءت الزيارة في الذكرى السابعة والأربعين لعملية الإنزال العسكري التركي في الجزيرة في 1974، التي عُرفت بعملية السلام، وقُصد بها حماية حياة وحقوق الأقلية التركية في الجزيرة.
تعتبر زيارات المسؤولين الأتراك الكبار لشمال قبرص شأنًا روتينيًّا، ولكن الواضح هذه المرة أن دوائر الرئاسة التركية دفعت الصحافة المحلية، خلال الأيام القليلة السابقة على الزيارة، إلى توقع إعلان الرئيس عن خطوات مهمة بشأن مستقبل الجزيرة وعلاقات شطريها الشمالي بالجنوبي. وإن أُخذ سياق النزاع على الجزيرة في الاعتبار، فقد جاءت وقائع الزيارة، سيما خطاب أردوغان أمام برلمان جمهورية شمال قبرص التركية، مطابقة للتوقعات.
قال أردوغان في خطابه: إن أي حل للنزاع في الجزيرة لابد أن يرتكز إلى حل الدولتين، دولة للقبارصة اليونانيين، وأخرى للقبارصة الأتراك، ومن ثم تبحث الدولتان كيفية تنظيم العلاقة بينهما، وإن أية مقاربة أخرى للنزاع لن تفضي إلى حل. وأكد أردوغان على أن الأتراك ليس بإمكانهم إضاعة خمسين سنة أخرى في انتظار الحل. لذلك، فإن أنقرة تدعم توجه جمهورية شمال قبرص نحو الفتح الجزئي وإحياء المجال العام لمدينة فاروشا الساحلية، التي هجرتها أغلبية سكانها من اليونانيين القبارصة، منذ عملية الإنزال التركي، وتعتبر منطقة عسكرية، وموضع نزاع، أوصت الأمم المتحدة بأن تبقى على حالها إلى حين التوصل لحل نهائي للمسألة القبرصية. كما وعد الرئيس، الذي تُقدِّم بلاده دعمًا ماليًّا واقتصاديًا ملموسًا لجمهورية شمال قبرص، ببناء مجمَّع رئاسي يليق بالجمهورية.
أثارت زيارة أردوغان لشمال قبرص ردود فعل هائلة، من جهات متعددة، إقليمية ودولية. وحتى قبل بدء الزيارة، كانت مفوَّضة الاتحاد الأوروبي، أورسولا فون دير لايين، التقت بالرئيس القبرصي اليوناني، يوم 8 يوليو/تموز، وأكدت على أن الاتحاد الأوروبي لم يزل يدعم التفاوض من أجل وحدة الجزيرة ويرفض تقسيمها. وفي تعليق على أصداء زيارة أردوغان، أعرب جوزيب بوريل، مفوض الشؤون الخارجية للاتحاد، عن القلق من تصريحات الرئيس التركي بخصوص حل الدولتين، وقال: إنها "غير مقبولة". وما إن انتهت زيارة أردوغان لشمال الجزيرة، حتى توجه وزير الخارجية اليوناني، نيكوس ديندياس، إلى نيقوسيا، ليلتقي برئيس الجمهورية القبرصية اليونانية، نيكوس أناستاسيلاس، ورئيس بلدية فاماغوستا في المنفى، التي كانت تتبعها مدينة فاروشا، ليعرب عن دعم أثينا للقبارصة اليونانيين، ورفضها إجراءات قيادة شمال قبرص التركية وتأييد أردوغان لهذه الإجراءات.
في الولايات المتحدة، وبعد إلحاح من نواب أميركيين أثناء جلسة استماع بالكونغرس بتاريخ 22 يوليو/تموز، قالت فيكتوريا نولاند، نائبة وزير الخارجية الأميركي، إن إدارة بايدن لا تؤيد تقسيم قبرص إلى دولتين، ولا تقبل تغيير الوضع القائم في فاروشا. وكذلك جاء موقف الخارجية الفرنسية. وفي اليوم التالي، 23 يوليو/تموز، أصدر مجلس الأمن بيانًا رئاسيًّا، بموافقة كافة أعضاء المجلس، أعرب عن القلق تجاه تحرك قيادة شمال قبرص لفتح مدينة فاروشا، داعيًا كافة أطراف النزاع القبرصي إلى الالتزام بقرارات الأمم المتحدة السابقة بخصوص الوضع في الجزيرة.
أما المفاجئ، فكان بيان الخارجية المصرية، في 22 يوليو/تموز، الذي صدر حتى قبل بيان مجلس الأمن الرئاسي، وأعرب هو الآخر عن القلق من تغيير وضع مدينة فاروشا وطالب بضرورة الالتزام بقرارات مجلس الأمن بشأنها. ولا شك أن البيان المصري، بالرغم من تجاهله الجدل حول تصور حل الدولتين، يعبِّر عن استمرار التزام مصر بالتحالف مع قبرص واليونان، بالرغم من التقارير المتزايدة حول تقارب مصري-تركي.
المؤكد، طبقًا لتصريحات رئيس قبرص التركية، أن فكرة تقسيم الجزيرة إلى دولتين مستقلتين وُلِدت في قبرص التركية وليس في أنقرة، وأن الرئيس القبرصي التركي، أرسين تاتار، هو الذي أقنع أردوغان بالفكرة، وليس العكس. ولكن تبني أنقرة لمقاربة الدولتين، والتخلي كلية عن حل يستند إلى نظام فيدرالي، الذي كان مطلب القبارصة الأتراك الأصلي، يعتبر تحولًا جوهريًّا في مسار المسألة القبرصية. كما أن إعادة التأهيل الجزئي لمدينة فاروشا، بالرغم من أنه أثار معظم ردود الفعل المندِّدة، لابد أن يُحسب باعتباره مسألة لاحقة لتوجه القبارصة الأتراك الجديد نحو حل الدولتين.
فكيف وصلت الأمور في علاقات شمال وجنوب قبرص إلى هذا المنعطف؟ وكيف يمكن تفسير تبني أنقرة للتوجه السياسي القبرصي التركي الجديد؟ وما الذي يعنيه هذا التحول في سياق التوتر الذي يشوب شرق المتوسط؟ وهل ثمة ما يمكن أن تحققه تركيا من هذا التصعيد المفاجئ في الأزمة القبرصية؟
نزاع طويل ومفاوضات غير مثمرة
خضعت قبرص للسيطرة العثمانية منذ القرن السادس عشر، إلى أن فرضت بريطانيا نظام الحماية على الجزيرة في 1878. عقب التحاق الدولة العثمانية بالتحالف الألماني/النمساوي في الحرب العالمية الأولى، ألغت بريطانيا نظام الحماية عن قبرص، كما فعلت في مصر، وجعلت منها مستعمرة تابعة للتاج (Crown Colony). وكما في اليونان، سيما خلال الفترة بين الحربين، شهد المجتمع اليوناني في الجزيرة بروز تيار قومي، يدعو إلى الاستقلال والوحدة مع اليونان، ضمن حلم النهوض القومي اليوناني (Enosis). أفضى تصاعد الحراك القومي في الجزيرة، الذي ساندته كل من الكنيسة الأرثوذكسية والحزب الشيوعي القبرصي، على السواء، إلى تأسيس المنظمة القومية لمقاتلي قبرص في 1955، بقيادة كولونيل الجيش اليوناني من أصول قبرصية، جورج غريفاس. ولأن الحركة القومية القبرصية-اليونانية حملت من البداية بُعدًا دينيًّا، فقد تمتعت الكنيسة الأرثوذكسية، تحت قيادة الأسقف مكاريوس، بنفوذ كبير في الحراك القومي اليوناني في الجزيرة. وهذا ما أفضى إلى تباين نسبي بين الأساليب التي تبنَّتها المنظمة القومية لتحقيق استقلال الجزيرة، وتلك التي تبنَّاها الأسقف مكاريوس.
منذ منتصف الخمسينات، لم تقتصر هجمات القوميين الوحدويين على الوجود البريطاني، بل طالت أيضًا الأقلية التركية في الجزيرة. وهذا ما دفع الأتراك إلى تنظيم أنفسهم نقابيًّا وسياسيًّا، وإلى ولادة منظمة المقاومة التركية. في النهاية، وافق البريطانيون، في 1960، على منح قبرص الاستقلال بعد جولات من المفاوضات وصياغة دستور وافقت عليه كل من بريطانيا وتركيا واليونان، وهي الدول التي أصبحت ضامنة لاستقلال الجزيرة وبناء استقلالها على الأسس التي حددها الدستور. قضى الاتفاق أيضًا باحتفاظ بريطانيا بقاعدتين عسكريتين في جنوب قبرص، وسمح لعدد صغير ومحدد من القوات اليونانية والتركية بالوجود على أرض الجزيرة.
بصورة عامة، وبالرغم من محاولات الأطراف المختلفة تضخيم حجم وجودها، يمثِّل القبارصة من الإثنية اليونانية وتابعي الكنيسة الأرثوذكسية ما يقارب ثلاثة أرباع السكان، بينما يشكِّل الأتراك، المسلمون السنَّة، ما بين 20 إلى 24 بالمئة من السكان. أما العدد القليل المتبقي فيضم مسيحيين من أتباع الكنيسة الكاثوليكية أو الأرمنية أو المارونية. وقد صيغ دستور دولة الاستقلال على أساس طائفي، بهدف الحفاظ على وجود ودور كافة المجموعات الطائفية والإثنية. فالرئيس، يوناني أرثوذكسي، ونائبه تركي مسلم، كما نصَّ الدستور على أن يعكس توزيع مقاعد البرلمان ومجلس الوزراء تنوع السكان بحصص محددة.
ولكن، وخلال ثلاث سنوات فقط من الاستقلال، ادَّعى الرئيس القبرصي، الأسقف مكاريوس، أن نظام الحكم القائم تسبَّب في شلل مؤسسات الدولة، وطرح تعديلًا دستوريًّا من 14 مادة. رفض الأتراك التعديلات المقترحة، التي رأوا أنها تمس وجودهم في مؤسسات الدولة ودورهم في صناعة القرار، وسحبوا ممثليهم من كافة أجهزة الدولة والحكم. وسرعان ما انحدرت الجزيرة إلى واحدة من أبشع دورات العنف الأهلي، عندما بدأت مجموعات يونانية راديكالية مسلحة بمهاجمة الأتراك في نهاية 1963 وبداية 1964. أودت الهجمات إلى مقتل 364 مواطنًا تركيًّا، وإلى تهجير ما يزيد عن 25 ألف تركي من قرى وأحياء مختلطة.
في نهاية 1963، كانت ثمة إرادة في أنقرة للتدخل العسكري في الجزيرة، ولكن رسالة التحذير التي أرسلها الرئيس الأميركي، جونسون، للرئيس التركي أوقفت عملية التدخل. وربما تعتبر "رسالة جونسون"، التي أطلقت مراجعة استراتيجية بعيدة المدى في توجهات الدولة التركية، بداية التوجه الاستقلالي عن الناتو والغرب في سياسة تركيا الخارجية. في النهاية، ولتجنب المزيد من التفاقم الإقليمي، قرر مجلس الأمن نشر قوة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة في الجزيرة، في ربيع 1964. كما بدأت عملية وساطة، انتهت إلى تقديم الوسيط، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، دين أتشيسون، مقترحات لتسوية الخلاف في الجزيرة، ولكن الرئيس مكاريوس رفض مقترحات أتشيسون.
في مايو/أيار 1964، شهدت قبرص موجة جديدة من الاشتباكات الأهلية. وفي 1967، سيطر العسكريون على الحكم في اليونان، وهو ما أدى إلى جرأة أعلى في نشاطات القوميين اليونانيين في قبرص، الذين ارتكبوا مجازر جديدة في قرى تركية. أزيح الكولونيل غريفاس، بضغط دولي، من قيادة الحرس الوطني القبرصي، ولكنه عاد مرة أخرى إلى الجزيرة في 1971 ليشكِّل منظمة قومية جديدة. وبالرغم من وفاة غريفاس في بداية 1974، إلا أن سيطرة مجموعة عسكرية جديدة على الحكم في أثينا، شجَّع عسكريين يونانيين قوميين في قبرص على إطاحة مكاريوس في انقلاب عسكري والسيطرة على الحكم، في يوليو/تموز 1974.
استمرار الهجمات على أتراك الجزيرة من المجموعات المسلحة اليونانية وقوات الحرس الوطني، واقتناع أنقرة بأن الجماعة الانقلابية تؤيد عملية التطهير العرقي لأتراك الجزيرة، دفع حكومة أجاويد-أربكان إلى اتخاذ قرار التدخل العسكري في 20 يوليو/تموز، دون استشارة واشنطن. نجم عن التدخل التركي حركة تهجير واسعة النطاق لكل من اليونانيين والأتراك، إلا أنه صنع واقعًا جديدًا، ووفَّر الأمن للأتراك القبارصة فيما يعادل ثلث مساحة الجزيرة.
تحت ضغوط دولية، انهار الانقلاب العسكري في نيقوسيا وعاد مكاريوس إلى الحكم. وبدأت بالتالي مباحثات بين الجانبين في جنيف، حدَّد الأتراك القبارصة موقفهم فيها بالمطالبة بحكم ذاتي ضمن نظام حكم ثنائي القومية. ولكن المفاوضات لم تفض إلى أية نتيجة، نظرًا لأن الجانب القبرصي أصرَّ على الانسحاب التركي، وإعادة توحيد الجزيرة، وإقامة نظام حكم مركزي. في 1983، ونظرًا للشعور بعدم جدوى التفاوض، وعلى خلفية اضطراب الوضع السياسي التركي الداخلي بعد انقلاب 1980، أعلن القبارصة الأتراك، بقيادة رؤوف دنكتاش، الاستقلال وقيام جمهورية شمال قبرص التركية. اعترفت أنقرة بالجمهورية الوليدة مباشرة، ولكن، ما عدا قبولها عضوًا مراقبًا في منظمة العمل الإسلامي، لم تستطع جمهورية شمال قبرص الحصول على اعتراف أي من الدول الأخرى، ولا على عضوية الأمم المتحدة.
من الفيدرالية إلى حل الدولتين
بقيام جمهورية شمال قبرص، تغير الموقف التفاوضي لأتراك قبرص تصاعديًّا من المطالبة بإدارة ذاتية إلى نظام فيدرالي. فبالرغم من أن جمهورية الشمال لم تتمتع باعتراف دولي، حافظت تركيا على دعم الأتراك القبارصة، ماليًّا، وسياسيًّا-اقتصاديًّا، وعسكريًّا، بغضِّ النظر عن تحولات السياسة والأحزاب الحاكمة في أنقرة. كما أن دورات التفاوض المتقطعة بين الأتراك واليونانيين، كشفت عن أن قبرص الجنوبية، مدعومة بصورة كاملة من أثينا، ليس لديها الاستعداد لقبول حل يكفل المساواة والمشاركة العادلة بين الطرفين، سيما بعد اللقاءات غير المسبوقة بين رئيسي شمال وجنوب قبرص في نهاية 2001.
وليس ثمة شك في أن حكومة العدالة والتنمية، التي وصلت للحكم في أنقرة في نهاية 2002، تبنَّت موقفًا من الحل التفاوضي في قبرص أكثر إيجابية من أية حكومة تركية سابقة. وهذا ما أفسح المجال لكوفي عنان، السكرتير العام للأمم المتحدة، لمحاولة كسر الجمود في الأزمة القبرصية. وتعتبر خطة عنان، 2004، أهم محاولات الحل على الإطلاق منذ 1974. فقد تقدم عنان بتصور محدد وواضح لطرفي النزاع، يستند إلى نظام فيدرالي، دعمته كل من تركيا واليونان وبريطانيا. ودعا عنان الأتراك واليونانيين القبارصة إلى الاستفتاء على خطة الحل، كل على حدة. بيد أن نتائج الاستفتاء جاءت بمفاجأة غير متوقعة. فقد صوَّت الأتراك لصالح قبول خطة عنان بأغلبية الثلثين ولكن اليونانيين رفضوا الخطة بأغلبية ثلاثة أرباع المصوِّتين، بعد أن دعاهم رئيس جمهورية قبرص اليونانية، إلى عدم إقرارها. وقد اعتُبر فشل خطة عنان أكبر الفرص الضائعة في تاريخ الأزمة كله، فقد أشار هذا الفشل، بدلالة واضحة، إلى صلابة تعنُّت الجانب اليوناني وعجزه عن الاعتراف بالتعددية الإثنية والطائفية في الجزيرة.
كانت جمهورية قبرص اليونانية، الجمهورية القبرصية الوحيدة المعترف بها دوليًّا، وبضغط من أثينا، على وشك الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، وهو ما حدث بالفعل في توسعة 2004 الأوروبية. وربما كانت عضوية الاتحاد، التي حُرمت منها قبرص التركية، أحد الأسباب التي دفعت إلى تصلب الموقف اليوناني، وإطاحة خطة عنان. في المقابل، فإن قصر صفة العضوية الأوروبية على قبرص اليونانية، عمَّق من الشعور بالعزلة لدى القبارصة الأتراك، ومن خيبة الأمل لدى حكومة العدالة والتنمية في أنقرة، التي التزمت سياسات أوروبية إصلاحية منذ توليها مقاليد الحكم. ويمكن القول: إن التعامل الأوروبي التمييزي مع كياني الجزيرة القبرصية كان المحطة الأولى في طريق انهيار الثقة بين تركيا وأوروبا.
خلال السنوات التالية، وتحت الضغط الدولي، استمرت المفاوضات بصورة متقطعة بين جانبي الأزمة، دون أن تحقق اختراقًا ذا قيمة. وبالرغم من أن رئيس جمهورية شمال قبرص السابق، مصطفى أكنجي، كان بين أكثر القادة القبارصة الأتراك تساهلًا واستعدادًا للتوصل إلى حل تفاوضي مع الجانب اليوناني، وأنه عمل على أن يرتفع التمثيل في مفاوضات 2015-2017 إلى مستوى الرئيسين، لم يستطع الطرفان تحقيق تقدم ملموس نحو الحل. وربما كان هذا الإخفاق التفاوضي المستمر ما أضعف حظوظ أكنجي السياسية، ومن ثم خسارته الانتخابات الرئاسية لجمهورية شمال قبرص في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، التي جاءت بإرسين تاتار رئيسًا. والحقيقة أن تاتار لم يُخْفِ موقفه من أن مستقبل قبرص لابد أن يرتكز إلى حل الدولتين حتى قبل فوزه في الانتخابات.
الصراع على شرق المتوسط
تبتعد قبرص حوالي 75 كيلومترًا عن الساحل التركي الجنوبي، و105 كيلومترات عن الساحل السوري، و380 كيلومترًا عن الساحل المصري الشمالي، و800 كيلومتر عن البرِّ اليوناني الرئيس. هذا الموقع، هو الذي أسَّس لقيمة قبرص في الاستراتيجية البحرية التركية بعد الحرب الثانية، وانتقال رودس ومجموعة جزر في مدخل بحر إيجة من السيطرة الإيطالية إلى اليونانية. ففي حال أصبحت القوة المسيطرة على الجزيرة قوة معادية، يمكنها أن تمنع تحرك الأسطول التركي في شرق المتوسط، أو يمكنها على الأقل أن تجعل حركته باهظة التكاليف. فالحفاظ على موطئ قدم في الجزيرة، ومنع تحولها إلى قاعدة لقوة معادية، بات أمرًا بالغ الحيوية للاستراتيجية البحرية التركية في المتوسط. بيد أن أهمية قبرص الجيوسياسية أصبحت أكثر توكيدًا في العقدين الأخيرين. كان الاهتمام بالبحث عن النفط والغاز في بحر إيجة وشرق المتوسط بدأ منذ سبعينات القرن الماضي، ولكنه أصبح أكثر إلحاحًا في نهاية التسعينات وبداية القرن الحادي والعشرين، عندما صدرت تقارير أميركية وإسرائيلية تفيد بوجود مخزون كبير من الغاز في شرق المتوسط. وقد سارعت قبرص، بدعم وتأييد من اليونان، لاتخاذ موقف هجومي من الخارطة الاقتصادية لدول شرق المتوسط.
متجاهلةً تركيا وقبرص التركية كلية، قامت حكومة نيقوسيا، باسم قبرص، بترسيم حدودها الاقتصادية البحرية مع مصر (2003) ولبنان (2007). وما إن أعلنت إسرائيل، في 2009، عن اكتشاف حقل غاز ضخم قرب ساحلها المتوسطي حتى قامت قبرص بترسيم حدودها الاقتصادية معها، في 2010. اكتشاف حقل غاز أفروديت جنوبي قبرص، في 2011، وانحياز أوروبا الواضح إلى جانب اليونان وقبرص اليونانية، عزَّز ثقة حكومة نيقوسيا بالذات ودفعها إلى اتخاذ خطوات أكثر عدائية تجاه تركيا وشطر شمال قبرص، سيما بعد أن أعلنت أنقرة عن تصورها الجديد لحدودها البحرية الاقتصادية وتحركها للدفاع عن حقوقها وحقوق شمال قبرص في شرق المتوسط.
في يناير/كانون الثاني 2019، انضمت قبرص الجنوبية إلى اليونان ومصر وإسرائيل في تشكيل منتدى شرق المتوسط، في خطوة لم يكن خافيًا أنها استهدفت عزل تركيا. وفي يناير/كانون الثاني 2020، وقَّعت قبرص الجنوبية واليونان وإسرائيل على اتفاقية أولية لمد خط أنابيب من حقول الغاز الإسرائيلية، مرورًا بالمجال الاقتصادي التركي وبقبرص، وصولًا إلى الساحل الأوروبي الجنوبي، بهدف الدخول إلى السوق الأوروبية للغاز. بمعنى، أن قبرص الجنوبية، بالرغم من انقسامها وحجمها المحدود، تحولت إلى طرف وأداة، في الوقت نفسه، في الصراع على الموارد والنفوذ في شرق المتوسط، وفي مواجهة مباشرة مع تركيا وشطر قبرص الشمالية.
رهانات التصعيد
كان ثمة من وجَّه انتقادات للمواقف التي عبَّر عنها أردوغان أثناء زيارته لشمال قبرص، سيما بعد الأصداء التي أثارتها الزيارة في أوروبا، والولايات المتحدة، ومجلس الأمن. من وجهة نظر معارضي الرئيس التركي، كان الوضع في قبرص قد استقر منذ زمن إلى تقسيم واقعي، وأن ليس ثمة ما يهدد شمال قبرص ومواطنيها، ولم يكن هناك من مبرر لتبني أردوغان موقف الرئيس القبرصي التركي، لا فيما يتعلق بحل الدولتين، ولا الفتح الجزئي لفاروشا. ويقول هؤلاء: إن أردوغان، بتصريحاته التي قصد بها إرضاء حلفائه في حزب الحركة القومية، جرَّ على تركيا من المتاعب على المستوى الدولي أكثر مما عزَّز من ضمان حماية أتراك قبرص ومصالحهم.
ليس من الواضح ما إن كانت تصريحات أردوغان بشأن قبرص تحمل دوافع سياسية تركية محلية، أو أنها قصدت مسبقًا كسب المزيد من تأييد الشارع القومي، بالرغم من أن زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، رافق أردوغان في زيارة شمال قبرص. ما هو واضح أن قبرص الشمالية، التي كانت أنقرة تعتبرها أصلًا مسألة قومية-إنسانية، تتعلق بحماية حياة وحقوق الأقلية التركية في الجزيرة، اكتسبت أهمية جيوستراتيجية مضاعفة خلال العقود القليلة الماضية، سواء ما يتصل منها بأمن تركيا البحري، أو بحقوقها الاقتصادية في شرق المتوسط.
والأرجح، بالرغم من أن تصور حل الدولتين، ومن ثم الفتح الجزئي لفاروشا، وُلِدت في دائرة الرئيس تاتار، وأن أردوغان وجد في هذا التحول في موقف قيادة شمال قبرص فرصة لتعزيز المصالح التركية في شرق المتوسط. وربما تصور الرئيس التركي أن التحول الذي تصنعه أنقرة والأتراك القبارصة، حتى وإن أثار ردود فعل إقليمية ودولية، فسرعان ما سيصبح جزءًا من واقع مستقر جديد. وليس لدى الأتراك ما يخسرونه على أية حال، فلا أوروبا والولايات المتحدة، ولا الأمم المتحدة، بصدد الاعتراف بجمهورية شمال قبرص أو ممارسة ضغوط كافية على أثينا ونيقوسيا للتقدم نحو حل مُرض لكافة الأطراف.
بصورة عامة، يعود انحياز القوى الغربية لليونان والقبارصة اليونانيين إلى أسباب عدة، ذات أبعاد ثقافية وقانونية واستراتيجية. ثمة من يرى أن اليونانيين، المسيحيين الأرثوذكس، أقرب إلى الروح الأوروبية وجزءًا من ميراث أوروبا المسيحي. وهناك من لا يريد أن تبرز تركيا، بالرغم من وجودها ضمن التحالف الغربي، قوة مهيمنة في شرق المتوسط. ولكن آخرين يعتبرون المس بالأسس القانونية لكيان الدول القائمة، سواء بالتقسيم أو الضمِّ، خطرًا على استقرار أوروبا وجوارها.
وليس ثمة شك في أن دول الاتحاد الأوروبي، وإن بدرجات متفاوتة، رأت في تصريحات الرئيس التركي خلال زيارته لشمال قبرص، تصعيدًا لأزمة الجزيرة المستحكمة منذ عقود. ولكن من الصعب تصور ردود فعل أوروبية أو أميركية، أعلى من مستوى بيانات الاعتراض التي صدرت حتى الآن، سيما أن الردود التي أصدرتها الخارجية التركية وقيادة شمال قبرص أوضحت أن تقدير الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لمسألة فاروشا كان خاطئًا، وأن إجراء فتح المدينة لا يستهدف ممتلكات المواطنين اليونانيين الذين هجروها في 1974، بل يقتصر على مجال المدينة العام وحسب. بيد أن هذا لا يعني أن موقف شمال قبرص الجديد، الذي حاز على تأييد كامل من الرئيس التركي، لن يكون له أثر. هذا الموقف، من ناحية، سيجعل عملية التفاوض، المتعثرة أصلًا، أكثر تعقيدًا. ومن ناحية أخرى، سيسهم في تعزيز أوراق تركيا الجيوستراتيجية في شرق المتوسط، في المدى القصير على الأقل.