وزير الدفاع المصري والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبدالفتاح السيسي (الجزيرة) |
خرج المصريون، كما كان متوقعاً، يوم 30 يونيو/ حزيران 2013 إلى ميادين وشوارعِ مدنهم، لاسيما العاصمة القاهرة، فكانوا بالملايين، مؤيدين كانوا لرئيس الجمهورية المنتخب، د. محمد مرسي، ومعارضين له، في أجواء انقسام لم تشهدها البلاد، المنقسمة على نفسها أصلاً، منذ إطاحة نظام الرئيس مبارك في 11 فبراير/ شباط 2011. وقد طرح كل من الطرفين، وفي الشارع، أقصى مطالبه. بذلك، وبغض النظر عن حجم واستمرارية الحشود في المعسكرين، دخلت مصر أزمة سياسية مستحكمة.
هذه قراءة مبكرة لأسباب وتداعيات الأزمة، وللخيارات المطروحة أمام مصر وقواها المختلفة للخروج منها، وما إن كانت هناك فرصة تبقت لحماية النظام الديمقراطي الوليد.
أزمة قديمة متجددة
مصر، كما معظم الدول العربية، هي بلد منقسم على ذاته، وقد أصبح هذا الانقسام واضحاً منذ اللحظات الأولى لانهيار النظام السابق. تجلى هذا الانقسام تقريباً في كل محطات الفترة الانتقالية، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية. في أساس هذا الانقسام، كان الخوف المتبادل بين معسكر القوى الإسلامية السياسية ومعسكر يضم قوى مختلفة من الأحزاب والجماعات ذات التوجهات الليبرالية واليسارية. في الشهور الأولى من المرحلة الانتقالية، كانت الأغلبية الشعبية تميل لصالح المعسكر الإسلامي؛ وهذا ما انعكس في التصويت على التعديلات الدستورية في مارس/ آذار 2011، وخارطة الطريق التي حملتها تلك التعديلات، وفي الانتخابات البرلمانية الأولى. ولكن الدعم الشعبي لمعسكر الإسلاميين بدأ في التآكل، نظراً للتخوف من بعض الجماعات السلفية وبعض الأصوات الإسلامية الراديكالية، وبفعل هجمة إعلامية منظمة وواسعة النطاق ضد الإسلاميين؛ ونظراً لاستعادة شبكات النظام القديم لأنفاسها، والدعم الذي تلقته من دول عربية.
ولعل الفارق الضيق بين الأصوات التي حصل عليها مرسي عن الأصوات التي ذهبت لمنافسه، أحمد شفيق، رجل النظام السابق، في الانتخابات الرئاسية، كان انعكاساً لهذا التراجع. خلال العام الأول من رئاسة مرسي، تفاقم الانقسام وازداد تراجع الدعم الشعبي للمعسكر الإسلامي، لعدة عوامل: الأخطاء التي ارتكبها الإخوان المسلمون في الحكم، وتعنت قوى المعارضة والرافضة لمجرد وجودهم في الحكم، والصعوبات الاقتصادية الهائلة التي تواجهها البلاد، وتدخلات عربية في الشأن السياسي المصري. ولَّد هذا التفاقم تخندقاً استقطابياً في المناخ السياسي، حيث راحت القوى والجماعات المعارضة تطالب بتخلي الرئيس عن منصبه، رافضة أية دعوة للمشاركة في الحكم، بينما أصر المعسكر الإسلامي على شرعية الرئيس وبقائه حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة. وهذا ما أصبح عنوان الانقسام والتدافع في مظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2013.
خارطة الاحتجاج والتأييد
ضمت حشود المحتجين على رئاسة مرسي قطاعات واسعة من المصريين العاديين، غير المنضوين في أحزاب سياسية، بل ومن فقدوا ثقتهم في الأحزاب والشخصيات السياسية. وقد خرج هؤلاء مدفوعين بتدهور الأوضاع الاقتصادية، وبفعل ضخ إعلامي أحادي كثيف. كما ضمت الحشود أعداداً من النشطين السياسيين، سواء الأعضاء في الأحزاب والجماعات السياسية المناهضة لحكم مرسي باعتباره رئيساً إسلامياً، أو أولئك الذين يعتقدون بأن مرسي لم يستطع، ولا يبدو أنه يعمل من أجل، تحقيق أهداف الثورة المصرية، بما في ذلك أحزاب مثل مصر القوية، الذي يقوده الإخواني السابق عبد المنعم أبو الفتوح.
ولوحظ أن أعداداً كبيرة من المسيحيين المصريين، قُدِّرت بمئات الآلاف، شاركت في حركة الاحتجاج، سيما في ميدان التحرير، وأمام قصر الاتحادية، أو في مدينة الإسكندرية. وليس ثمة شك، أن شبكة واسعة من قيادات وكوادر ومؤيدي النظام السابق، بما في ذلك وزراء داخلية وضباط أمن سابقون، ساهمت في الحشد وتواجدت بقوة وصورة ملموسة وصريحة في مواقع التظاهر؛ كما ضخ رجال أعمال كبار أموالا هائلة، استخدمت لتنظيم عمليات الحشد في بعض المواقع، ومن الراجح أن بعض قوى النظام السابق تجد من مصلحتها إثارة الفوضى ولو بعمليات اغتيال لأعضاء من جماعة الإخوان حتى تعطي انطباعا بأن البلد سينهار، فتأخذ القوات المسلحة السلطة . وإن صدق حديث الفريق أحمد شفيق التليفوني من الإمارات، مساء يوم 30 يونيو/ حزيران، مع قناة دريم المعارضة، يبدو أنه لعب دوراً رئيساً، بالتوافق ومشاركة محمد البرادعي، في التخطيط لحركة الاحتجاج ولما يمكن أن ينجم عنها من إطاحة الرئيس مرسي.
من جهة أخرى، اصطف في الحشد المؤيد للرئيس أبناء جماعة الإخوان المسلمين وحزبها، حزب الحرية والعدالة، والجماعة الإسلامية وحزبها، حزب البناء والتنمية، وكافة القوى السلفية، بما في ذلك الجبهة السلفية، وحزب الوطن، المنشق عن النور (الذي اختار موقفاً حيادياً)، والقوى الإسلامية الوسطية، مثل حزب الوسط، وقطاع شعبي واسع، من المتعاطفين مع الرئيس عموماً، أو الحريصين على حماية الشرعية الدستورية ومكتسبات النظام الديمقراطي الوليد.
دلالات تدخل قيادة الجيش
كان المشهد عشية 30 يونيو/ حزيران مثيراً للقلق. خلال النهار ومعظم المساء، أظهر الطرفان قدرة فائقة على الحشد، بغض النظر عن مدى توافق أهداف ودوافع المحتشدين في كل معسكر. ولكن أياً من الطرفين لم يبدو قادراً على الحسم. في المؤتمرين الصحفيين الذين عقدهما ناطقان باسم الرئيس، لم تقدم الرئاسة تنازلاً جوهرياً لمطالب القوى السياسية التي تقف خلف حركة الاحتجاج، سيما ما يتعلق بتنحي الرئيس أو انتخابات رئاسية مبكرة؛ كما لم يبدو أن الرئيس قادر على احتواء حركة الاحتجاج، التي هدد منظموها بالتصعيد في الأيام القليلة المقبلة. من جهة أخرى، لم تستطع المعارضة وحركة الاحتجاج إخافة الرئيس، ولا بدا أنها قادرة على إطاحته. كلا الطرفين، بكلمة أخرى، لم يكن يستطيع حسم المواجهة، سيما أن خلف كل منهما حشد جماهيري كبير.
إضافة إلى ذلك، قدمت التقارير من أنحاء البلاد صورة للعنف والاشتباكات بين الطرفين أكبر بكثير من تلك التي حملتها وسائل الإعلام، سواء من حيث عدد حوادث الصدام، والصدامات المسلحة، على وجه الخصوص، أو الخسائر في الأرواح التي بلغت 28 قتيلاً ومئات الجرحى، والدمار الذي نزل خاصة بمقار الإخوان وحزب الحرية والعدالة، وبصورة أقل حزب الوسط. ونظراً لنفوذ ضباط الشرطة والأمن ووزراء الداخلية السابقين، المؤيدين لحركة الاحتجاج، بدا أن وزير الداخلية فقد السيطرة على قطاعات وعناصر من قوات الشرطة في كافة أنحاء البلاد؛ بل إن بعض عناصر الشرطة انضم بالفعل لحركة الاحتجاج، وقام بدور في العنف الموجه ضد الإخوان ومقارهم ولو بالامتناع عن حماية مقرات الإخوان من هجمات البلطجية كما حدث في مقر الإخوان بالمقطم.
كان القائد العام للقوات المسلحة، الفريق عبد الفتاح السيسي، في 23 يونيو/ حزيران 2013، قد وجَّه نداء للقوى السياسية يدعوها للحوار والتوافق وتجنب مخاطر 30 يونيو/ حزيران. وفي ضوء الصورة التي أسفر عنها اليوم ذاته، وجدت قيادة القوات المسلحة أن عجز الطرفين عن حسم الموقف وتصاعد العنف، يتطلب تدخلاً سريعاً، وإلا فإن البلاد مقبلة على صدام واسع النطاق وباهظ التكاليف، قد لا يستطيع الجيش احتواؤه إن اندلع. وهذا، ربما ما دفع قيادة القوات المسلحة، التي يرأسها الفريق السيسي (وليس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كما أشيع)، إلى إصدار بيان 1 يوليو/ تموز، الذي أكد على أن ليس لدى الجيش رغبة في الدخول طرفاً في الحياة السياسية، والتزامه بأسس الحكم الديمقراطي، ولكنه أنذر القوى السياسية المعنية جميعها بإيجاد حل للخروج من الأزمة خلال 48 ساعة، وإلا فإن الجيش سيضطر إلى طرح خارطة طريق.
فما الذي يعنيه بيان القوات المسلحة؟
بعد شهور من حرصها على إظهار الولاء للرئيس مرسي وإدارته، اتخذت قيادة الجيش موقف الحياد من الانقسام المتفاقم في البلاد وحالة الصراع المحتدمة. وبالرغم من أن بيان القوات المسلحة لم يتضمن إشارة إلى الشرعية والدستور، فإن الأرجح أن الجيش لا يريد القيام بانقلاب عسكري، بالمعنى التقليدي، وأنه حريص على الابتعاد عن تحمل الأعباء السياسية لإدارة البلاد. ولكن عجز الطبقة السياسية المصرية عن مواجهة الالتزامات التي يفرضها النظام الديمقراطي، سيما في مرحلة تحول وانتقال، وحالة الانقسام البالغة التي تشل التجربة الديمقراطية الوليدة، جعلت الجيش حكماً بين القوى، وليس حاكماً. هذه العودة، ستبطئ عملية التحول الديمقراطي في البلاد، وستجعل الجيش، لعدة سنوات قادمة، الحكم والحارس والرقيب المشارك، بدلاً من أن يكون هذا الدور مقصوراً على صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية الحرة.
خيارات غير حاسمة
دخول الجيش إلى ساحة التدافع بالصورة التي دخل بها لا يعني أن خيارات مصر باتت محسومة. هذا تدخل مركب، وليس انقلاباً صريحاً، وقد لا تسير الأمور في الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة كما يريدها أي من الأطراق، بما في ذلك قيادة القوات المسلحة. لقاء الفريق السيسي، بعد صدور بيان قيادة القوات المسلحة، بالرئيس مرسي ورئيس الحكومة في جلسة ثلاثية، امتدت لساعات، كان توكيداً على أن الجيش لا يريد الانقلاب على الرئيس والدستور. وهذا ما أكده الناطق باسم القوات المسلحة في بيان ثان في مساء اليوم نفسه. ولذا، فإن المتوقع أن تشمل خارطة الطريق التي سيقترحها الجيش تحقيقاً لبعض مطالب كلا الطرفين، وليس كلها، وتستبطن تنازلات من كلا الطرفين، على حد سواء، وأن تظل خارطة الطريق هذه ضمن الإطار الدستوري.
يمكن، مثلاً، أن تطرح خارطة الطريق تصوراً لتشكيل حكومة كفاءات، شبه ائتلافية جديدة، وتغيير النائب العام، وهي مطالب للمعارضة، وتحديد موعد لانتخابات برلمانية، وفق القانون الذي انتهى منه مجلس الشورى ولم يزل محل بحث المحكمة الدستورية، وهو ما يريده الرئيس. ويمكن أن تطرح الخارطة تصوراً محدداً لتشكيل لجنة وطنية من كافة الأطراف، تبحث تعديل الدستور؛ وهو أمر لا يعارضه الرئيس. ولكن، وبالرغم من أن الجيش لا يريد، ومن المستبعد أن يلجأ، إلى خطوة مثل إقالة الرئيس، فليس من الواضح إن كان سيدعو لإجراء استفتاء شعبي حول إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، أو إن كان سيقنع الرئيس بالدعوة إلى مثل هذه الانتخابات، قبل الانتخابات البرلمانية أو بعدها. ما هو مؤكد، أن الجيش، مهما كان موقفه من موقع رئاسة الجمهورية وتصوره لمستقبل الرئيس الحالي، لا يؤيد عودة النظام السابق، أو أحد رموزه، مثل أحمد شفيق، ولن يقبل بشخصية مثل محمد البرادعي، ولا بأي شخصية أخرى، يؤدي وجودها على رأس الدولة إلى استقطابات حادة وسط المصريين.
رغم أن حالة الانقسام والصراع تفسح المجال لعودة الجيش حكماً، فليس من الضرورة أن تصدر خارطة الطريق الموعودة فعلاً، أو تجد الخارطة، إن صدرت، قبولاً من كلا الطرفين معاً. بعد ساعات قليلة على صدور بيان الجيش، شرع المعسكران في تعزيز وجودهما الجماهيري في الشارع، في القاهرة وخارجها، وفي توكيد تصوره للأمور، في رسائل ضمنية للجيش بأن انحيازه للطرف الآخر سيترتب عليه عواقب وخيمة. كما أكد الإسلاميون بصورة لا تدع مجالاً للشك رفضهم لأي انقلاب على الشرعية. ولأن الإسلاميين يرون أنهم يدافعون عن وجودهم ذاته ضد مخاطر عودة عقارب الساعة إلى الوراء، وليس فقط عن الشرعية والدستور، فقد خرجوا، في استعراض بالغ للقوة، في 12 محافظة مصرية بمئات الآلاف مساء 1 يوليو/ تموز، إضافة لوجودهم المليوني في مدينة نصر بالقاهرة، للإعلان عن دعمهم للشرعية.
في النهاية، لا يبدو أن أياً من الطرفين سيستسلم لخارطة طريق يطرحها الجيش، إن صبت لصالح الطرف الآخر؛ كما إن قبول الطرفين بخارطة الطريق لا يعني بالضرورة أن الأمور ستسير قدماً وبسلاسة، ولو نسبية، على أساس من هذه الخارطة.
إن توافقت القوى السياسية على خارطة الطريق المقترحة من قيادة القوات المسلحة، فسيكون هذا تنفيسا للأزمة، ولو إلى حين. إن لم تتوافق، فسيصبح على الجيش كشف أوراقه كاملة والقيام بانقلاب سافر، ومن ثم تحمل أعباء مثل هذا الانقلاب؛ أو أن يترك الشارع، بحشوده وقواه السياسية، لتدافعها الحالي إلى أن ينهزم أحد الطرفين، أو يجدا معاً طريقاً للتوافق السياسي.