في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي 2021، انتشر على مواقع الاتصال الاجتماعي وفي الأوساط الصحفية شريط لمقابلة مع وزير الإعلام اللبناني، مقدِّم البرامج التليفزيونية السابق، جورج قرداحي، أجراها برنامج رقمي تنتجه الجزيرة، بعنوان "برلمان الشعب"، وبالرغم من أن المقابلة سُجِّلت قبل أن يصبح قرداحي وزيرًا في سبتمبر/أيلول 2021، فقد أثارت جدلًا حادًّا، سيما ذلك الجزء منها المتعلق برأي قرداحي في الحرب اليمنية. وصف قرداحي الحرب بالعبثية، وقال إنها يجب أن تتوقف، مشيرًا إلى أن "الحوثيين يدافعون عن أنفسهم، ولم يعتدوا على أحد".
تصريحات قرداحي سبقت توزيره بالتأكيد؛ ولكن الوزير لم يُظهر تراجعًا أو ندمًا أو اعتذارًا عمَّا قاله بشأن المسألة اليمنية، متجاهلًا كليةً الدور الذي قام به الحوثيون في الانقلاب على مسار التحول الديمقراطي في اليمن. في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021، قال الوزير معلقًا على الضجة التي أثارتها تصريحاته: "أنا لم أخطيء بحق أحد، ولم أتهجم على أحد، فَلِمَ أعتذر؟".
خلال ساعات من انتشار الشريط، لم يُخْفِ مسؤولون وإعلاميون سعوديون مقربون من أوساط الحكم الغضب من تصريحات الوزير اللبناني. في المقابل، ذكر رئيس الحكومة اللبنانية، نجيب ميقاتي، بوضوح (26 أكتوبر/تشرين الأول) أن تصريحات وزير إعلامه مرفوضة ولا تمثل الحكومة أو سياستها. ولكن محاولة ميقاتي التنصل من تصريحات وزيره لم تُجْدِ نفعًا، وسرعان ما جاء رد الفعل السعودي الرسمي قاطعًا، وإن بصورة غير متوقعة.
في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2021، أعلنت السعودية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع لبنان؛ وقررت بناء على ذلك سحب السفير السعودي من بيروت؛ ودعوة السعوديين في لبنان للعودة إلى بلادهم، وإبلاغ السفير اللبناني بالرياض بمغادرة البلاد؛ ومنع دخول كافة الواردات اللبنانية للسعودية. وخلال ساعات، أعلنت البحرين متابعة الموقف السعودي وقطع العلاقات مع لبنان. في اليوم التالي، 30 أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت كل من الكويت والإمارات العربية المتحدة الموقف نفسه. قطر، التي شهدت علاقاتها مع السعودية تحسنًا ملموسًا، بعد قطيعة استمرت سنوات، استنكرت تصريحات قرداحي، بدون أن تذهب إلى قطع العلاقات الدبلوماسية.
كيف انفجرت هذه الأزمة العربية-العربية بهذه الصورة المفاجئة؟ وهل تتعلق الأزمة فعلًا بتصريحات الوزير قرداحي، أو أنها تتجاوز إطار العلاقات السعودية-اللبنانية؟
الوزير والحكومة والقرار اللبناني
تعود شهرة الوزير قرداحي إلى عمله طوال سنوات مقدمًا لبرنامج شعبي على قناة إم بي سي السعودية؛ ولكنه عُرِف أيضًا في السنوات التي أعقبت اندلاع الثورات العربية بدفاعه الصريح عن نظام بشار الأسد، والتماهي مع المحور الإيراني في المنطقة، السند الرئيس لنظام الأسد. لا يتمتع قرداحي بثقل خاص، لا في الرأي العام العربي ولا اللبناني. الأهم، أنه دخل حكومة ميقاتي، التي تشكلت على أسس حزبية وطائفية، على حصة تيار المردة، الذي يقوده آل فرنجية، المعروفون بعلاقاتهم الوثيقة بالنظام السوري منذ عقود طويلة.
سارع ميقاتي إلى تطويق الأزمة عندما قال: إن تصريحات قرداحي، بغضِّ النظر عن كونها صدرت قبل التحاقة بالحكومة، لا تعبِّر عن سياسة الحكومة اللبنانية. وما إن أدرك رئيس الحكومة جدية الموقف السعودي، وحجم الضرر المترتب على قطع علاقات بلاده مع السعودية ودول الخليج الأخرى، لم يتردد في دعوة وزيره إلى الاستقالة، مذكِّرًا إياه بضرورة تقديم مصلحة لبنان على مصلحته الشخصية. يعرف ميقاتي، ربما أكثر من أي مسؤول آخر، أن اقتصاد بلاده في انحدار متفاقم منذ أعوام، وأن حكومته ذاتها، التي وُلدت بصعوبة بالغة، هي ربما آخر فرصة لإنقاذ البلاد من السقوط إلى الهاوية. ولكن المشكلة أن ميقاتي لا يستطيع إقالة الوزير، أو إجباره على الاستقالة.
وهنا، ربما، يقع جوهر أزمة العلاقات مع السعودية وحليفاتها الخليجيات.
تلقَّى قرداحي دعمًا صريحًا من سليمان فرنجية، رئيس تيار المردة، الذي اعتبر الضغوط على الوزير لتقديم استقالته مسألة كرامة وطنية. وقال فرنجية إن تياره لن يرشح وزيرًا بديلًا في حال أُجبر قرداحي على الاستقالة؛ وهي طريقة أخرى للقول بأنه سينسحب من الائتلاف الحكومي. كما أعلن حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، القوة الرئيسة في الساحتين العسكرية والسياسية اللبنانية، معارضة الدعوات لاستقالة قرداحي. وأشارت مصادر الحزب إلى أنه في حال استقال قرداحي فإن الوزراء الذين يمثلون الحزب في الحكومة سيقدمون استقالاتهم هم أيضًا. أصوات لبنانية أخرى، تُعرف بعلاقاتها الوثيقة مع سوريا وإيران، تحدثت عن حرية الرأي في لبنان، وحق المواطن اللبناني الأصيل في التعبير عن رأيه. وحتى رئيس الجمهورية، الجنرال ميشيل عون، حليف حزب الله الوثيق، وبالرغم من تصريحاته التي أكدت على علاقات لبنان العربية، والعلاقات مع السعودية ودول الخليج، بوجه خاص، لم يقل صراحة إنه يطلب من قرداحي الاستقالة.
بكلمة أخرى، ما كشفت عنه الأزمة أن رئيس الحكومة اللبنانية لا يستطيع إقالة أحد وزراء حكومته، ما لم يبادر الوزير نفسه إلى الاستقالة. إن أراد ميقاتي إقالة الوزير، فلابد أن يتقدم باستقالته شخصيًّا، واستقالة حكومته. ولأن ميقاتي يعتقد أن واجبه تجاه لبنان وأزمته الطاحنة يقضي بتحمل مسؤولية الحكم في هذه المرحلة، فليس من الوارد، حتى الآن على الأقل، استقالة الحكومة.
ولم يكن وضع الحكومة اللبنانية ورئيسها خافيًا على السعودية. في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، قال وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان: إن السعودية لا ترى فائدة في التعامل مع الحكومة اللبنانية، داعيًا الطبقة السياسية اللبنانية إلى التخلص من هيمنة حزب الله على الحكم في لبنان. بمعنى، أن مسألة إقالة قرداحي ليست ذات أهمية تُذكر بالنسبة للموقف السعودي، لأن المشكلة مع لبنان تتعلق بهيمنة حزب الله، ذراع إيران القوية، وليس مع نوايا ميقاتي أو موقفه. مشكلة السعودية مع لبنان، باختصار، تتعلق بإيران وليس بقرداحي.
الصراع على لبنان
ارتبط لبنان بعلاقة تقليدية راسخة مع السعودية ودول الخليج. بغضِّ النظر عن ظروف نشأته، وما أراده الفرنسيون من دور له، يعتبر لبنان واحدًا من أصغر الدول العربية وأقلها موارد. خلال الخمسينات والستينات، عاش لبنان ازدهارًا قياسيًّا بفعل استقباله لفوائض الثروة النفطية، عندما نُظر إليه باعتباره ملاذًا آمنًا للمال والسياسة على السواء. ومنذ تحولت دول النفط إلى مستقبل للعمالة العربية، يعمل مئات آلاف اللبنانيين في وظائف مختلفة المستويات في دول الخليج. وحتى بعد اندلاع الحرب الأهلية في منتصف السبعينات، لم تتخل السعودية ودول الخليج عن لبنان، كونه أصبح مرآة لتوازنات القوة والنفوذ في المشرق. في 1989، لعبت السعودية دورًا فعالًا في إنهاء الحرب الأهلية، عندما جمعت الفرقاء اللبنانيين ورعت توقيع اتفاق الطائف.
كانت إيران قد أسست موقعًا لها في لبنان بفعل الدور الذي أخذ حزب الله في تعهده في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية الثمانينات. ولكن السعودية لم تظهر معارضة جادة للوجود الإيراني، طالما ظل هذا الوجود محدودًا، سيما أن اللاعبين الإقليميين والدوليين في لبنان كانوا في ازدياد، على أية حال. وليس ثمة شك أن فترتي وزارة رفيق الحريري الأولى، 1992–1998، والثانية، 2000–2004، أشَّرتا إلى فعالية واستمرارية النفوذ والدور السعودييْن في لبنان. اغتيال الحريري في 2005، الذي خلصت محكمة دولية خاصة إلى أن كوادر متقدمة من حزب الله قامت به، مثَّل انعكاسًا لحدة الصراع على لبنان، وعزم إيران وحلفائها السيطرة على الشأن اللبناني. وهو التوجه الذي جرى التوكيد عليه في اجتياح حزب الله لبيروت في مايو/أيار 2008. خلال العقد التالي، سيما بعد إحكام الحزب سيطرته على الطائفة الشيعية، والتحالف مع الجنرال عون، عزَّز حزب الله من هيمنته على الساحة اللبنانية السياسية، وعلى القرار اللبناني.
في 2015، وبعد إعلان الرياض الحرب على الحوثيين في اليمن لاستعادة الحكومة الشرعية بقيادة عبد ربه منصور هادي، بدأ الصراع السعودي-الإيراني يأخذ طابعًا إقليميًّا. ولم يكن غريبًا، بالتالي، أن يصبح لبنان أحد ساحات هذا الصراع. طبقًا لدوائر مقربة من ميقاتي، لم يتلق رئيس الحكومة اللبنانية تهنئة سعودية رسمية عندما تولى منصبه، ولا قام وزير الخارجية السعودي بالاتصال التقليدي مع نظيره اللبناني مرحِّبًا. مثل هذا الموقف السعودي من الحكومة اللبنانية الجديدة ليس معهودًا، سيما أن رئيس الحكومة في لبنان يأتي من السُّنَّة، وأنه عادة يُحسب على السعودية.
ما تقوله مصادر ميقاتي أن الرياض لم تكن سعيدة بتشكيله الحكومة اللبنانية، لأنها لم تكن تريد لحكومة أن تُشكَّل أصلًا، وأن الرياض، وليس تصلب عون، هو ما دفع سلف ميقاتي، سعد الحريري، إلى الاعتذار عن تشكيل الحكومة، بعد مفاوضات ماراثونية مع رئيس الجمهورية. من وجهة النظر السعودية، يعود جذر الأزمة اللبنانية إلى سيطرة حزب الله وإيران على الشأن اللبناني، وليست مسؤولية السعودية وحلفائها في لبنان إنقاذ الحزب وداعميه الإيرانيين من الأزمة.
ما يترتب على الموقف السعودي، إضافة إلى ذلك، وضع حدٍّ للضغوط الفرنسية والأميركية، التي كانت تسعى إلى أن تمد السعودية ودول الخليج يد العون إلى لبنان، ومساعدته على تخفيف الأعباء الاقتصادية الهائلة التي يئن تحتها. ترى الرياض أن الأميركيين والفرنسيين، كل لأسبابه الخاصة، أصبحوا أكثر تساهلًا مع التوسع الإيراني في المجال العربي، وفي لبنان على وجه الخصوص، وأن ليس من مصلحة السعودية مجاراة التواطؤ الفرنسي والأميركي مع النفوذ الإيراني في المشرق العربي. قد تعتقد الرياض أن قطع العلاقات الدبلوماسية، وإيقاف الحركة السياحية، ومنع الواردات، ترسل رسالة واضحة، إلى اللبنانيين والعرب والقوى الدولية، على السواء، بأنها لن تقبل المزيد من السكوت على سيطرة إيران على لبنان.
أفق داكن
حسبت الأوساط اللبنانية السياسية، بما في ذلك حلفاء إيران وسوريا، في بداية الأزمة مع السعودية أن وساطة فرنسية، أو أميركية، أو قطرية، ربما ستعيد الأمور إلى نصابها في علاقات لبنان الحيوية مع السعودية وحليفاتها الخليجيات. ولكن، وبمرور الأيام، أدرك الجميع أن نافذة التفاؤل ضيقة، وأنها تزداد ضيقًا مع مرور الأيام؛ وأن الرياض ترى لبنان من زاوية أكبر بكثير من مسألة قرداحي. تصريحات الوزير اللبناني، غير ذي الوزن السياسي الملموس، حملت في ذاتها الدلالات الأبعد للموقف السعودي من التوسع الإيراني في المنطقة العربية. فبدون الهيمنة الإيرانية على لبنان، يعتقد السعوديون، ما كان لوزير إعلام من خلفية مارونية، في حكومة يقودها رئيس يُعرف بعلاقاته السعودية التقليدية، أن يتحدث في شأن يمني-سعودي.
الحقيقة، أن السعودية ترى أنها تخوض مواجهة مع النفوذ الإيراني في اليمن والعراق ولبنان، وليس مع محاولات إثارة الأقليات العربية الشيعية في دول الخليج وحسب. وبالرغم من أن الحرب في اليمن فشلت، بعد ست سنوات، في إطاحة حكم الحوثيين في صنعاء، إلا أن ثمة شعورًا في السعودية، مهما كان مبالغًا فيه، أن نتائج انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2021 في العراق صبَّت لصالح حلفائها وخسارة حلفاء إيران. بمعنى، أن السعوديين باتوا مقتنعين بأن النفوذ الإيراني في المنطقة العربية ليس محصنًا، وأن هزيمته ممكنة، إنْ توفر الدعم العربي والغربي، وجرى اتباع السياسة الصحيحة وتوظيف الوسائل المناسبة.
هناك مباحثات سعودية-إيرانية، تجري برعاية عراقية منذ ما يقارب العام. ويُعتقد أن المبعوثين السعوديين والإيرانيين عقدوا أربع جولات في هذا المسار التفاوضي حتى الآن. وُصفت هذه المباحثات بالاستكشافية من قبل وزير الخارجية السعودي؛ بينما وصفها الناطقون الإيرانيون في أكثر من مناسبة بالجدية والودية. ولكن الواضح أن هذه المباحثات لم تصل إلى نتائج ملموسة، ولا حتى إلى تخفيف حدة التوتر في مناطق الاشتباك السعودية-الإيرانية.
الحرب في اليمن، إن استُثني الموقف الإماراتي وسلوك حلفاء الإمارات، لم تزل تدور على وتيرتها المعهودة، بما في ذلك محاولات الحوثيين تدمير أهداف سعودية بطائرات مسيرة. وتشير ردود فعل حلفاء إيران على نتائج الانتخابات العراقية إلى حجم القلق الإيراني من الدخول السعودي إلى العراق. والواضح، أن الموقف السعودي الحاد من الوضع اللبناني، يعني أن العلاقات السعودية-اللبنانية ستظل رهينة المباحثات السعودية-الإيرانية، التي تسير كما يبدو ببطء قد لا يحتمله الوضع اللبناني المتفاقم.