الاستفتاء الأحادي: عقدة جديدة في حبل أبيي

99,99% هي نتيجة الاستفتاء الذي أجرته، نهاية أكتوبر/تشرين الأول، من طرف واحد عشائر قبيلة دينكا نقوك، لمصلحة ضم منطقة أبيي المتنازع عليها بين دولتي السودان إلى دولة جنوب السودان، لكنه قوبل بالرفض من الأطراف الصديقة قبل الخصوم.
2013117133720533734_20.jpg

 

المصدر [الجزيرة]

 

ملخص
الصراع على منطقة أبيي الحدودية بين دولتي السودان متعدد، فهناك صراع الخرطوم وجوبا على تبعيتها، وهناك صراع بين قبيلتي الدينكا نقوك والمسيرية على الإنتماء إليها.
ويعد هذا الصراع جزءا من تداعيات الصراع الأوسع بين السودان وجنوبه، والذي إنتهى بانفصال الجنوب في 2011، فبقي مصير منطقة أبيي عالقا، ولم يعرف أفقا للتسوية رغم مرور أكثر من عامين عن الإنفصال، فكل من السودان وجنوب السودان منغمس في مشاكله الداخلية، ولا يمتلك القدرة أو الإجماع لتسويته.
لكن في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2013، أجرت قبائل دينكا نقوك استفتاء أحاديا لتقرير الجهة التي ستنظم منطقة أبيي إليها، قابلته الأطراف المعنية بالرفض، خشية أن ينسف كل الترتيبات الهشة التي تسوي الخلاف سلميا، فتندلع مواجهات جديدة قد يمتد لهيبها إلى دولتي السودان، وقد تتجاوزهما آثاره إلى كامل الجوار.

منطقة أبيي الغنية بالبترول من القضايا العالقة بين دولتي السودان وجنوب السودان، حيث يؤكد كل منها إنتمائها له، فالسودان يعتبرها من جنوب كردفان، أما جنوب السودان فيعتبرها جزءا من منطقة بحر الغزال الشمالي، وقد نجحت لجنة التحكيم الدولي سنة 2009 في إعادة ترسيم حدود المنطقة وقبول الطرفين بها.
داخل هذا الصراع بين الدول، يدور صراع بين قوى تتنازع المنطقة، فقبائل دينكا نقوك التي تريد الإنضمام لجنوب السودان تعتبر المنطقة خاصة بها، وترفض الإعتراف بحق قبائل المسيرية بالإنتماء إليها، أما قبائل المسيرية، التي تريد الانضمام للسودان، فيصرون على إنتمائهم للمنطقة ويبررون رحيلهم الفصلي إلى الشمال بضرورات البحث عن المرعي لمواشيهم.

في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول، أجرت قبائل دينكا نقوك استفتاء أحاديا لتقرير الجهة التي ستنظم منطقة أبيي إليها، فأحدثت توترات حادة بين مختلف الأطراف المعنية بمصير المنطقة.

إستفتاء دون مرجعية

99,99% هي نتيجة الاستفتاء الذي أجرته، في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2013، من طرف واحد عشائر قبيلة  دينكا نقوك، لمصلحة ضم منطقة أبيي المتنازع عليها بين دولتي السودان إلى دولة جنوب السودان، وقد شارك فيه حسب اللجنة الانتخابية 65 ألفًا، وأُعلنت نتيجته في الحادي والثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي لكن رفضها  كل فرقاء مسالة أبيي، ابتداء من الاتحاد الإفريقي، وحكومة جنوب السودان، وانتهاء بالحكومة السودانية، وقبيلة المسيرية المساكنة للدينكا نقوك في المنطقة والمنازعة لهم في ملكيتها، وبالتالي فهي معترضة على إلحاقها الجغرافي والسياسي. ويستند الرفض إلى عدم قانونية الاستفتاء باعتبار أن المقرر في كل وثائق المسألة، كبروتوكول أبيي 2004، وقانون استفتاء أبيي الذي أجازه البرلمان السوداني، في 30 ديسمبر/كانون الأول 2009، إبان شراكة الحركة الشعبية في حكم السودان الموحد قبل انفصال الجنوب، وقرارات مجلس السلم والأمن الإفريقي، وقرارات مجلس الأمن الدولي، وجوب تنظيمه تحت إدارة مفوضية متفق عليها من طرفي النزاع ووفق إجراءات مشهودة ومراقبة محليًا وإقليميًا ودوليًا. وأن يتم بعد بسط الاستقرار في المنطقة، تقوم المؤسسات المدنية التي ينص عليها بروتوكول أبيي 2004 بضمانه، مثل الإدارة المشتركة، ومجلس تشريعي، وشرطة مشتركة؛ ولما لم يتحقق أي من هذه الشروط الضرورية رفضت الأطراف المعنية الاستفتاء الأحادي الذي أجرته دينكا نقوك.

يعتبر اتفاق الرئيس السوداني عمر البشير أثناء زيارته لجوبا، مع رئيس جنوب السودان سلفاكير، قبل أيام من الاستفتاء، تحركًا لإجهاض مضمون الاستفتاء؛ حيث أعطيا الأولوية لتكوين الإدارة المدنية التي تنص عليها الاتفاقات، وتخصيص 2% من قيمة البترول الذي ينتج في المنطقة أو يمر بها لمصلحة التنمية، وبسط الاستقرار فيها، توطئةً لخلق ظروف أفضل لإجراء الاستفتاء، ولكن كل جهد من هذا القبيل سيصطدم بالسؤال المعضلة، الذي أعاق بشكل كبير  تسوية القضية، وهو سؤال أهلية الناخب في هذا الاستفتاء وتعريف من يحق له التصويت، فبروتوكول أبيي 2004 والذي عززته المحكمة الدولية بلاهاى 2009 يحصر الناخبين بعشائر دينكا نقوك التسع والسودانيين القاطنين في المنطقة، بينما يقول المسيرية، ومن يساندهم كالحكومة السودانية، إنهم مع غيرهم قاطنون في المنطقة، فيعترض الدينكا ومن خلفهم حكومة الجنوب على ذلك، ويعتبرون المسيرية مجرد رعاة عابرين لهم حق الرعي دون حقوق المواطنة الأخرى.

دينكا نقوك: حسابات الاستفتاء

لماذا اتخذت عشائر دينكا نقوك هذه الخطوة الأحادية؟

1- وجدت الدينكا نقوك في مقترح رئيس الهيئة الإفريقية الرفيعة لمتابعة القضايا المعلقة بين دولتي السودان بعد الانفصال، ثامبو مبيكي، في سبتمبر/أيلول 2012، تنظيم استفتاء في أكتوبر/تشرين الأول 2013، رفضه مجلس الأمن والسلم الإفريقي، تسويغًا لخطوتها من جهة، وانتهازًا لفرصة رحلة المسيرية الصيفية خلال هذا الشهر بعيدًا عن المنطقة .

2- ترجح نتيجة الاستفتاء كفة القوى القبلية التي تريد الانضمام إلى الجنوب، وتهمش القوى التي تميل للحلول التوافقية. وكأن القوى المتشددة تريد أن تقوي موقفها على حساب القوى التي تبحث عن حلول توافقية للمسألة.

3-  راهن الدينكا نقوك على أن تتمكن الخطوة من إطلاق دينامية بين القوى الجنوبية، فتسارع قوى سياسية للاعتراف بشرعية الاستفتاء للضغط على الحكومة الجنوبية، وتستعمله رصيدًا يغذي شعبيتها في المنافسات الانتخابية القادمة؛ وبالفعل تقدمت الأحزاب الجنوبية بمذكرة للرئيس سلفاكير تطالبه فيها بالاعتراف بنتيجة استفتاء أبيي.

4- يرى كثير من المراقبين أن خطوة الاستفتاء لا تعبّر فقط عن اليأس من حل متفق عليه، وحالة الجمود التي طبعت المسألة لوقت طويل، ولكنها تعبير عن الصراع الذي يدور حول السلطة في الجنوب والذي أطاح فيه سلفاكير بمجموعة من قادة الحركة الشعبية، ومنهم أبناء دينكا نقوك، أي قادة منطقة أبيي وعلى رأسهم رئيس اللجنة العليا للاستفتاء، دينج ألور، الذي أعفاه الرئيس سلفاكير من منصبه الوزاري وأخضعه للجنة تحقيق توطئة لتقديمه لمحاكمة. وبما أن أبيي خارج سيادة الجنوب الآن، فإن دينكا نقوك في حاجة إلى أرضية جغرافية سياسية تؤمّن مشاركتهم في إدارة المركز في جوبا دون أن يُنظر إليهم باعتبارهم خارج الجغرافية السياسية للجنوب.

5- يرى مراقبون أن خطوة الاستفتاء من طرف واحد ليست بعيدة من الجمعيات والمنظمات الدولية التي ظلت لسنوات طوال الداعم الأهم للجنوب في الساحة الدولية، فنتيجة الاستفتاء من طرف واحد تجدد حملات هذه المنظمات دعمًا لدينكا نقوك، وتحرك القوى الدولية للضغط على السودان والدفع باتجاه حل يتفق مع مبتغى دينكا نقوك .

6- يعتقد بعض قادة المسيرية أن من أهداف الخطوة استفزاز قبائل المسيرية لتوريطهم في ردات فعل عنيفة تحرك الرأي العام العالمي باتجاه التعاطف مع دينكا نقوك؛ ما يمهد للضرب عرض الحائط بكل الوثائق والاتفاقيات والبروتوكولات ولاعتماد واقع جديد تفقد فيه قبيلة المسيرية حقوقها.

المسيرية: الرفض والحذر

أحدث الاستفتاء الأحادي قدرًا من الارتباك والتعقيد على كافة الصعد وبين جميع الفرقاء؛ فالمسيرية وصفوا الخطوة بأنها بائسة، طائشة، وبلوروا مواقفهم في النقاط التالية:

1- الخطوة غير قانونية، وتخالف كل المواثيق والاتفاقيات والبروتوكولات والقوانين التي سبق الاتفاق عليها حول مسألة أبيي .

2-  دعا فريق من المسيرية إلى استفتاء مماثل يشارك فيه جميع سكان أبيي بمن فيهم الدينكا، وخاصة الرافضين للاستفتاء منهم، والمنتشرين في مواقع كثيرة في السودان، وأن يحضره مراقبون من المنظمات الدولية والإقليمية، غير أن آخرين يرون أن الاستفتاء من طرف واحد مهما كان، موقف غير قانوني، وإجراؤه يعزز حالة الخروج على القانون والاتفاقيات. لكن يسند التوجه نحو استفتاء مضاد تصريح نافع علي نافع مساعد الرئيس السوداني عمر البشير بأن الحكومة ستُجري استفتاء في منطقة أبيي، وسيتضح حسب قوله أن الدينكا نقوك أقلية مقارنة بالساكنين في أبيي من شمال السودان وليس المسيرية فقط، وتتأكد بهذا الاستفتاء (شمالية) أبيي.

3- يرتاب المسيرية في مواقف مجلس الأمن والسلم الإفريقي من الاستفتاء الذي جرى، فرغم رفضه وإدانته علنًا، ودعوته مجلس الأمن الدولي لإدانته، إلا أنه لم يسع لإيقاف الاستفتاء وعنده أكثر من أربعة آلاف جندي متواجدون في المنطقة مسؤوليتهم حفظ الأمن، وقد جرى الاستفتاء تحت أنظارهم. كما يشكّك المسيرية في موقف حكومة الجنوب التي يتهمونها بتوزيع الأدوار بينها وبين دينكا نقوك؛ فبالرغم من إعلان حكومة الجنوب رفضها للاستفتاء إلا  أنها منحت العاملين في الدولة من قبيلة الدينكا نقوك إجازة مفتوحة للتسجيل والتصويت في الاستفتاء. ويتساءل المسيرية:  إذا كان الجميع وخاصة حكومة الجنوب ترفض الاستفتاء من طرف واحد؛ فمن أين تم تمويل الاستفتاء الذي تقدره بعض المصادر بخمسة ملايين دولار. وعززت من شكوكها التصريحات التي أدلى بها مايكل ماكواى وزير الإعلام في حكومة جنوب السودان لبرنامج وراء الخبر في قناة الجزيرة، يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 2013؛ حين طالب عشائر دينكا نقوك بتقديم نتائج الاستفتاء إلى الاتحاد الإفريقي.

4- هددت قيادة المسيرية بأنه في حالة اعتراف دولة الجنوب أو اعتراف مجلس الأمن والسلم الإفريقي بنتيجة الاستفتاء فإنها ستجتاح منطقة أبيي حتى حدود 1 يناير/كانون الثاني 1956؛ وهي الحدود المعترف بها بين دولتي السودان وجنوب السودان، وأنها أعدت لذلك حشودًا من المقاتلين، وستغلق أنابيب النفط التي تمر بهم، بجانب إغلاق الحدود والممرات التي تجاور منطقتهم عبر الحدود بين دولتى الشمال والجنوب بالاتفاق مع عدد واسع من القبائل التي سارعت لمناصرتها.

5- يرى المسيرية أن جلوس الإدارات الأهلية من زعماء القبيلتين، بعيدًا عن الحكومات والأحزاب الحاكمة في دولتي السودان، وبعيدًا عن المنظمات الإقليمية والدولية، من شأنه أن يجد حلاً يرضي الطرفين.

صدى الاستفتاء الأحادي في الخرطوم

أثارت خطوة الاستفتاء الأحادي حالة من الارتباك والتوتر بين كافة الفرقاء؛ فالخرطوم المشغولة بالأوضاع السياسية والاقتصادية المضطربة في الشمال انحصر موقفها في التذكير بالاتفاق الذي تم مؤخرًا بين الرئيسين عمر البشير وسلفاكير ميارديت حول تكوين المؤسسات المدنية، والمضي قدمًا في تهيئة المناخ لاستقرار منتظر يستند للسلطات التي منحها اتفاق الترتيبات الإدارية والأمنية في فقرتيه (41) و(42) للرئيسين بتولي المسؤولية السياسية والأمنية دون القبائل المتنازعة. كما أكدت ثقتها بموقف حكومة الجنوب والاتحاد الإفريقي الرافضين للاستفتاء من طرف واحد. ولكن أهم التطورات التي صاحبت إعلان نتائج الاستفتاء، برأى مراقبين سودانيين، هي موافقة الحكومة السودانية على مقترح الاتحاد الإفريقي بإشراك مجلس الأمن الدولي في الجهود الرامية لتنظيم استفتاء يحل النزاع في المنطقة؛ إذ سيزداد الأمر تعقيدًا خاصة أمام الحكومة السودانية صاحبة التاريخ العسير مع مجلس الأمن، بسبب علاقة أميركا الصراعية مع السودان.

آفاق ومحاذير

أبيي قضية شديدة التعقيد، تتفاعل وسط استقرار هش يمكن أن ينزلق في أي وقت إلى مواجهات عسكرية؛ وترتسم وفق المعطيات الحالية عدة مسارات:

1- سيناريو الصدام: قد تعلن حكومة جنوب السودان الاعتراف بالنتيجة استجابة للضغوط التي تحاصرها، أو ترفع الحركة الشعبية علمها فوق سارية مدينة أبيي؛ فيشتعل غضب قبيلة المسيرية وقد تنفذ تهديدها باجتياح أبيي حتى حدود 1956، فتنهار العلاقة بين دولتي السودان:
• قد يرافق اجتياح المسيرية لمنطقة أبيي إغلاق الحدود بين الجنوب والشمال وتوقيف تدفق النفط الذي يمر بأراضيهم؛ مما ينسف اتفاقات التعاون التي تمت بين الدولتين بعد جهود مضنية. وهو اتفاق تراهن الدولتان عليه لإنقاذ اقتصاداتهم المتدهورة.

• قد تجر الأوضاع الأمنية الناتجة عن الاجتياح الدولتين إلى المواجهة المسلحة تحت ضغط الرأي العام في الطرفين، فتتدهور الحالة الأمنية بالإقليم، وقد تتجاوز تأثيراتها البلدين.

• قد يترتب على كل ذلك أوضاع اقتصادية بالغة الصعوبة لن تستطيع الدولتان مواجهة تداعياتها، فتقعا في حالة من التفسخ الأمني والسياسي والاقتصادي، تجرهما إلى حالات التفكك والصوملة.

2- السيناريو التوافقي: قد تتمكن الحكومتان في الشمال والجنوب من تكوين المؤسسات المدنية التشريعية والتنفيذية والشرطية، وتنجحان في تحقيق قدر من التنمية والاستقرار، ينزعان فتيل التوتر الحاد، فيتوفر المناخ لحوار هادئ بين الفرقاء يفضي إلى:
• تنظيم استفتاء بالتوافق على إدارة ونظم تشرف عليه، وقبول النتائج مهما كانت.
•  أن يتم تفاوض مباشر بين قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك على خلفية التعايش الإيجابي والإدارة المشتركة للمؤسسات المدنية، استنادًا إلى تاريخ طويل من التعايش والتداخل الأسري والعرقي؛ ما قد تنفتح معه آفاق أخرى للتعايش.

3- سيناريو تقسيم المنطقة: قد يجد المقترح الذي تقدم به الاتحاد الإفريقي والخاص بتقسيم المنطقة إلى قسمين جغرافيين أحدهما للمسيرية والآخر للدينكا نقوك حظه من الرواج وربما القبول بالرغم من ضبابيته وعدم وضوحه؛ وهو مقترح ربما تفرضه ظروف شح البدائل السلمية.

4- قد يتحقق السيناريو الذي يدعو له بعض الكتّاب السودانيين مثل بروفيسور ميرغني حمور من جامعة الخرطوم  بأن تصبح أبيي منطقة تكامل تتبع للرئاسة في كلتا البلدين، يرأسها مجلس رئاسي إقليمي رئاسته مزدوجة من ممثلين لكلتا الدولتين، على أن تتمتع أبيي بصفة كيان تكاملي بشخصية اعتبارية مستقلة، وأن يتمتع مواطنوها على طرفي الحدود بجنسية مزدوجة.

5- سيناريو الاستنزاف المستمر: قد تظل أبيي صداعًا مستمرًا يؤرق الدولتين لفترة قادمة، وأن تصبح مثل المشكلات الدولية المزمنة مثل كشمير بين الهند وباكستان، والصحراء الغربية بين المغرب والجزائر، أو قبرص بين اليونان وتركيا، وأن تظل العلاقات بين طرفي السودان يغلب عليها الطابع الصراعي.