اللعب بالنار: مزالق الخيار الأمني في مصر

قد يؤدي الخيار الأمني، الذي تنتهجه السلطات المصرية لتثبيت الانقلاب، إلى إثارة عنف مضاد، فتقع البلاد في دوامة من العنف لا يمكن لأي طرف السيطرة عليها.
201421095914236580_20.jpg
انحسار مساحة الاحتجاج السلمي في مصر (أسوشييتد برس)
ملخص
توحي مؤشرات الشهور والأسابيع القليلة الماضية، أن العنف المسلح قد ينتشر على نطاق واسع في مصر، فلا يستطيع النظام التحكم فيه، وهناك مسوغات من الإحباط والمظلومية قد تؤسس لوجود حاضنة شعبية لهذا العنف، يصعب الآن تقدير حجمها. في مثل هذه الحالة، سيتسع نطاق المواجهة، ويسهم تصاعد العنف في إضافة مزيد من الحطب إلى النار. ليس من الضروري التوكيد على أن نهج العمل المسلح، مهما اتسع نطاقًا، لن يستطيع الإطاحة بنظام حكم يمسك بمقاليد الدولة، ولكن من الصعب أيضًا أن تستطيع الدولة إيقاع هزيمة سريعة وحاسمة بعنف مسلح ذي طابع شعبي واسع، ولا يقتصر على تنظيم معزول. وقد تؤدي صعوبة تحقيق الهدفين إلى حقبة طويلة، مؤلمة، وباهظة التكاليف من العنف وفقدان الأمن.

في 23 يناير/كانون الثاني 2014، تعرض كمين أمني مصري في المدخل الشمالي لمدينة بني سويف لهجوم مسلح، أودى بحياة خمسة جنود. في اليوم التالي، فُجّرت سيارة أمام مقر مديرية أمن محافظة القاهرة؛ مما أدى لمقتل أربعة وجرح 51 شخصًا. وفي 28 يناير/ كانون الثاني، اغتيل اللواء محمد السعيد، مساعد وزير الداخلية ومسؤول المكتب الفني للوزير، أمام منزله في شارع الهرم بالجيزة. في اليوم نفسه، هوجمت كنيسة بمدينة 6 أكتوبر بالسلاح؛ حيث قُتل أحد رجال الأمن من حراس الكنيسة.

كان هذا الأسبوع من نهاية يناير/كانون الثاني الأكثر دلالة على تصاعد المعارضة المسلحة لنظام حكم 3 يوليو/تموز 2013 في مصر، لكن هذه الهجمات ليست إلا الوقائع الأبرز لأن وقائع مماثلة وإن كانت أقل بروزا لم  تنقطع منذ صيف العام الماضي؛ ففي نهاية ديسمبر/كانون الأول 2013، فُجّرت مديرية أمن محافظة الدقهلية، بمدينة المنصورة، في حادث أودى بحياة 13 وجرح 130 من رجال الأمن والمدنيين. وفي نوفمبر/تشرين الثاني، اغتيل عقيد الأمن الوطني، محمد المبروك، قرب منزله بمدينة نصر. وفي أكتوبر/تشرين الأول، فُجّر مقر المخابرات الحربية بمدينة الإسماعيلية. قبل ذلك، في سبتمبر/أيلول، تعرض موكب وزير الداخلية، اللواء محمد إبراهيم، لهجوم انتحاري، نجا منه الوزير بأعجوبة.

أهمية هذه السلسلة من الهجمات المسلحة أنها جرت في مدن وادي النيل، أما في شبه جزيرة سيناء، التي تعتبر مقرًا للجماعات الإسلامية الراديكالية المسلحة منذ تسعينيات القرن الماضي، فقد أوقعت الهجمات على قوات الجيش والأمن منذ انقلاب 3 يوليو/تموز عشرات القتلى من الجنود، وأسقطت طائرة عسكرية مروحية في يناير/كانون الثاني الماضي 2014. لم تكن هذه الهجمات مفاجئة، ليس فقط لأن الجماعات المسلحة تتمتع بوجود قوي وجذور عميقة في سيناء، بل أيضًا لأن قوات الجيش المصري تمارس عملية قمع واسعة النطاق في قرى وتجمعات شمال سيناء السكنية منذ بداية الصيف الماضي. وليس من المستغرب أن تؤجج عملية القمع العسكرية الغضب وتدفع إلى الانتقام، ولكن وقوع عدد ملموس من الهجمات العسكرية في مدن الوادي هو أمر مختلف تمامًا.

لماذا وكيف وصل النشاط العسكري المسلح إلى الوادي؟ من يقوم به؟ وما الذي يعنيه لمستقبل مصر الأمني والسياسي؟

الجدل حول المسؤولية

في مواجهة التصاعد الملموس للصدامات المسلحة، برزت خلال الأسابيع القليلة الماضية وجهتا نظر مصريتان رئيستان:

الأولى: يمثلها خطاب الدولة الرسمي، الذي يقول بصورة واضحة: إنه يتعامل مع هجمة إرهابية على الدولة ومقدراتها، وإن الدولة، كما قال الرئيس المؤقت عدلي منصور في 26 يناير/ كانون الثاني 2014، قادرة على دحر الإرهاب وهزيمته، كما نجحت في هزيمة إرهاب التسعينيات، وإن الدولة ستأخذ من الإجراءات ما هو ضروري لتحقيق هذا الهدف. إلى جانب ذلك، تعمل أجهزة الدولة والمؤسسات الإعلامية المساندة لنظام 3 يوليو/تموز على تأسيس ارتباط بين المجموعات التي تقوم بهذه العمليات المسلحة والقوى الإسلامية المعارضة للنظام، والإخوان المسلمين منهم على وجه الخصوص. أما على صعيد المعلومات التي توفرها أجهزة الدولة المختصة حول هذه الهجمات، فثمة قدر ملموس من الغموص والتخبط.

فعلى سبيل المثال، لا يُسمح لوسائل الإعلام، بما في ذلك الموالية للنظام، بتغطية العمليات التي تدور في سيناء منذ أكثر من ستة شهور؛ ويُعلن عن أسماء مشتبه بهم ومتهمين، يتضح بعد ذلك أن بعضهم معتقل منذ شهور، أو أنه متوفى، أو، كما في حالة اتهام بعض الفلسطينيين، أن المتهمين استُشهدوا قبل زمن بعيد، أو أنهم معتقلون في السجون الإسرائيلية منذ سنوات، كما أن المعلومات التي تعلنها أجهزة الدولة حول بعض هذه العمليات، سرعان ما يتم التراجع عنها، أو تتوفر أدلة قاطعة من مصادر غير رسمية بعدم صحتها.

مثل هذا الغموض والتخبط ساعد على بناء وجهة نظر أخرى، تتبناها أغلب قوى المعارضة للنظام، سيما التحالف الوطني لدعم الشرعية، التي تقول: إن هذه الهجمات ليست سوى أعمال تخطط لها وتشرف على تنفيذها أجهزة أمن رسمية. هدف النظام، حسب وجهة النظر هذه، هو خلق مناخ من الخوف والرعب لدى المصريين، يساعد على تمرير سياسات وإجراءات ما كان يمكن تمريرها في مناخ صحي وآمن، ويؤدي استخدام مقولة: المواجهة مع الإرهاب إلى صناعة حاجز صلب بين عموم المصريين والقوى المعارضة، واستدعاء دعم الرأي العام العالمي، والقوى الغربية على وجه الخصوص، التي تعيش منذ سنوات حقبة استثنائية من الحرب على الإرهاب. حوادث العنف المسلح، يقول خطاب المعارضة، هي باختصار مناهضة كلية لخيار المعارضة الاستراتيجي باعتماد وسائل العمل السياسي والشعبي السلمية، وتصب لصالح نظام مأزوم، عاجز عن كسر أو استيعاب الحركة الشعبية المعارضة.

ليس من السهل الجزم بصحة أي من وجهتي النظر هذه. قد تكون الهجمات المسلحة، خارج نطاق شبه جزيرة سيناء، مخططة من أجهزة أمنية كما فعلت من قبل أثناء حكم مبارك لما فجرت كنيسة لتأجيج العداء الديني. سؤال: من المستفيد؟ يصلح أحيانًا بالفعل لتقديم التفسير الصحيح لحوادث العنف والقتل؛ والواضح أن النظام مستفيد بالفعل من حوادث العنف، لأنها تساعده في تحميل تحالف قوى الشرعية مسؤولية القيام بها؛ حيث استغل تفجير مديرية أمن الدقهلية لحظر جماعة الإخوان المسلمين بصفتها جماعة إرهابية. ولكن الصحيح أيضًا أن النظام لم يستطع لحد الساعة تقديم أدلة قطعية على مسؤولية الإخوان علاوة على أن الإخوان أنفسهم يدينون هذه العمليات، ويؤكدون على خيارهم السلمي مرارًا وتكرارًا. في النهاية، وبغض النظر عن محاولات النظام توظيف هذه العمليات سياسيًا، فليس ثمة شك في أنها تُظهر عجز أجهزة الدولة عن السيطرة على أمن البلاد، وتمثل إهانة بالغة للدوائر الأمنية وقادتها؛ إضافة إلى أنها تؤكد فقدان مصر للاستقرار، بكل ما يجره ذلك من أثر سلبي على القطاع السياحي والمستثمرين الأجانب والمصريين على السواء.

الاحتمال الثاني: والذي يبدو أكثر ترجيحًا حتى الآن، أن هذه العمليات قد تكون من فعل أفراد ومجموعات وأهالي اختاروا نهج العمل المسلح، بعد مرور شهور على انغلاق أفق الحل السياسي لأزمة البلاد الطاحنة، والاستهتار البالغ بالحياة، الذي يَسِمُ تعامل قوات الأمن والجيش مع الحركة الشعبية المعارضة منذ يوليو/تموز الماضي؛ أو فعل جماعات مسلحة تواجدت قبل انقلاب 3 يوليو/تموز، أصبحت أكثر استعدادًا خلال الأشهر السبعة الماضية لاستهداف قوات الجيش والأمن.

أنصار بيت المقدس وأخواتها

إحدى أبرز الجماعات التي أعلنت مسؤوليتها حتى الآن عن عدد من العمليات في شبه جزيرة سيناء، وأغلب الهجمات الكبيرة في مدن الوادي، هي جماعة أنصار بيت المقدس. البعض في تحالف دعم الشرعية يتهم هذه  الجماعة بأنها اختراع أمني خالص؛ أما وسائل الإعلام الموالية للنظام فتدعي أن الجماعة شُكّلت بأمر وتمويل من القيادي الإخواني البارز، المهندس خيرت الشاطر، قبل انقلاب 3 يوليو/تموز، كاحتياطي مسلح للإخوان المسلمين. كلا الاتهامين لا يستند إلى أسس وأدلة، والواضح أن اتساع نطاق عمليات الجماعة وتصاعدها فاجأ كافة الأطراف، فلجأت إلى تفسيرات خيالية.

تعود أنصار بيت المقدس في جذورها إلى الجماعات الإسلامية في شبه جزيرة سيناء، التي توجهت إلى حمل السلاح منذ تسعينيات القرن الماضي. كان النشاط الإسلامي بدأ في أوساط أهالي شمال سيناء، سواء سكان المدن أو التجمعات البدوية المستقرة، في الثمانينيات، ليتبلور في ثلاثة تنظيمات رئيسة: التوحيد والجهاد، والتبليغ والدعوة، ودعوة أهل السنة والجماعة. الأول بين هذه التنظيمات، التي تخلتف في توجهاتها الفكرية، هو من لجأ إلى العمل المسلح في التسعينيات، وقام بتفجيرات مدوية في عدد من المنتجعات السياحية في سيناء. ردت أجهزة نظام مبارك على التفجيرات تلك بحملة قمعية هائلة، طالت الأهالي والقبائل البدوية. وبالرغم من أن الحملة نجحت في كبح جماح المسلحين السيناويين، إلا أنها أججت الغضب في صفوف الأهالي وعززت التوجهات الراديكالية لدى الشبان الإسلاميين.

خلال السنوات الأولى من هذا القرن، شهدت الجماعات الإسلامية في سيناء انشقاقات وولادة تشكيلات جديدة. اختفت كلية تقريبًا جماعة التوحيد والجهاد، ولكن الساحة شهدت ولادة أربعة تنظيمات مسلحة: مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس، والسلفية الجهادية، وجند الإسلام، وأنصار بيت المقدس. لم يُعرَف عن الأول أية توجهات لمهاجمة قوات الجيش والأمن، بل تكريس جهوده لمهاجمة الإسرائيليين عبر الحدود أو عملائهم في شمال سيناء. أما التنظيمات الثلاثة الأخرى، فالواضح أنها جمعت بين استهداف الإسرائيليين وقوات الجيش والأمن المصرية على السواء. بدأ هذا الاستهداف قبل ثورة 2011، واستمر خلال حكمي المجلس الأعلى للقوات المسلحة والرئيس مرسي.

ليس من المتيقن متى وكيف ولدت كل من هذه الجماعات المسلحة؛ ولكن الإشارة الأولى المتوفرة لجماعة أنصار بيت المقدس في مواقع التواصل الاجتماعي تعود إلى 2012. وتُظهر بعض الأشرطة المصورة التي أصدرتها الجماعة تبنيها لمقولات أبي مصعب الزرقاوي، مؤسس تنظيم القاعدة في العراق، وأبي محمد العدناني، المتحدث الرسمي باسم دولة العراق والشام الإسلامية (داعش). هذا لا يعني بالضرورة أن أنصار بيت المقدس امتداد للقاعدة أو داعش، أو أنها ترتبط بأيهما بصلات رسمية، ولكنها مؤشرات واضحة على تأثر الجماعة بأدبيات القاعدة ومقولات قادتها في المشرق العربي.

في 9 أغسطس/آب 2013، قتلت طائرة إسرائيلية بلا طيار، في اختراق فادح للسيادة المصرية، أربعة من أعضاء أنصار بيت المقدس في شمال شرقي سيناء، اتضح فيما بعد أنهم جميعًا من أبناء قبائل المنطقة. ولكن سلسلة العمليات التي أعلنت الجماعة مسؤوليتها عنها في مدن الوادي، من الإسماعيلية، إلى القاهرة والجيزة، وصولًا للمنصورة، خلال الشهور السبعة الماضية، تدل على أن المقدرات العملياتية للجماعة لا تقتصر على شبه جزيرة سيناء. والأرجح، في ضوء تعقيد بعض هذه العمليات، أن عضوية الجماعة لا تقتصر على أبناء شمال سيناء، بل وتشمل أبناء مدن وقرى الوادي أيضًا. بعض هؤلاء الأخيرين من العناصر الإسلامية الراديكالية التي لجأت لشمال سيناء هربًا من مطاردة أجهزة الأمن في عهد مبارك، وبعضهم ربما التحق بالجماعة في الشهور القليلة الماضية.

بيد أن هذا لا يعني أن أنصار بيت المقدس وحدها من قام بسلسلة العمليات ضد قوات الجيش والأمن خلال الشهور التالية للانقلاب. في 6 فبراير/شباط، نشرت صحيفة الشروق المصرية نبأ مقتل عنصر من قوات الأمن في محافظة الشرقية، مشيرة إلى أنه السادس الذي يُقتل على يد مجهولين في المحافظة خلال أسبوع واحد. مثل هذه الهجمات، إضافة إلى حوادث إلقاء زجاجات المولوتوف والعبوات المتفجرة على سيارات الشرطة والأمن المركزي، الحوادث التي أخذت تنتشر في أنحاء البلاد وتتزايد بوتيرة متصاعدة، تقوم بها عناصر محلية، غير منضوية في تنظيمات كبيرة، وُلدت في مناخ الحراك الشعبي المعارض للانقلاب وأصبحت أكثر راديكالية في توجهاتها بفعل قمع قوات الأمن. وقد بدأت بعض المجموعات الشبابية بالفعل في الإعلان عن تشكيلات محلية (تميز نفسها عن التحالف الوطني لدعم الشرعية)، توحي أسماؤها بالتوجه لاستخدام وسائل أكثر عنفًا وأقل سلمية في مواجهة النظام وقوات الأمن.  

عواقب التصعيد

السؤال الآن يتعلق بالعواقب المترتبة على هذا التصاعد للهجمات المسلحة. عندما تواجه تحديًا ما، تلجأ الدول عادة إلى استدعاء الذاكرة والخبرة المتراكمة، وإلى قياس الحاضر على الماضي، وربما هذا هو الذي جعل الرئيس المؤقت يشير إلى إرهاب التسعينيات، والتوكيد على أن الدولة قادرة اليوم، كما كانت في التسعينيات، على هزيمة الإرهاب. المشكلة، أن مصر القرن الحادي والعشرين تختلف عن مصر التسعينيات، تمامًا كما أن سوريا 2011 لم تكن سوريا الثمانينيات.

في سوريا، مثلًا، اشتعلت الثورة السورية بصورة سلمية كاملة، واستمرت كذلك لأكثر من ستة شهور، ولكن النظام ادّعى من البداية أنه يواجه تمردًا سلفيًا مسلحًا وأنه في معركة ضد الإرهاب وليس ضد الشعب؛ بل إن ثمة أدلة متضافرة على أن النظام دفع بجهد كبير من أجل تسليح الثورة، على أساس أن التسلح سيفسح له المجال للبطش بحركة الشعب وتلقين السوريين درسًا بالغًا. ولكن ما حدث في النهاية أن الأمر أفلت كلية من يد النظام؛ ومنذ خريف 2011، لم يعد بإمكانه لا التحكم بتوجهات التسلح، ولا هزيمة المجموعات المتزايدة والمتسعة التي قررت حمل السلاح، ولا إيقاف توجهات الانشقاق المتصاعدة في صفوف الجيش السوري.

بمعنى، أن مصر قد تنحدر تدريجيًا إلى مناخ من فقدان الأمن والصدامات المسلحة وانتشار العنف والعنف والمضاد، في الوقت الذي تعيش وضعًا اقتصاديًا وماليًا عامًا أقرب إلى حافة الهاوية منه إلى الاستقرار. بكلمة أخرى، مصر، التي هي أكبر بكثير، وأضخم بكثير، وأعقد بكثير، من سوريا، قد تكون في طريقها إلى كارثة تبلغ أضعاف الكارثة السورية. ما يقوله النظام: إنه واثق من هزيمة الإرهاب، وأنه لن يسمح بانحدار مصر إلى هاوية العنف، ولكن هناك من الأسباب ما يجب أن يثير الشك في هذه الثقة.

في مصر التسعينيات (كما في سوريا الثمانينيات) كان اللجوء إلى العنف المسلح كوسيلة لمعارضة النظام هو قرار جماعة سياسية، تنظيم سياسي، بقيادة وخلايا وهيكل تنظيمي. وحتى لو كان النظام على غير دراية كافية بهذا التنظيم وقياداته في البداية، لم تكن أجهزة الدولة المختصة في حاجة إلى وقت طويل للتعرف على بينة التنظيم وهوية قادته وطرق اتصاله. أكثر من ذلك، لم يكن لعنف التسعينيات جذور شعبية، ولم يحظ بتعاطف قطاعات ملموسة من الشعب. وبالرغم من أن الجماعة التي حملت السلاح في التسعينيات كانت إسلامية الهوية، إلا أنها لم تتلق دعمًا ولا تأييدًا في نهجها من القوى الإسلامية الكبرى في البلاد، سيما الإخوان المسلمون، ولا من مجتمع العلماء والدعاة الإسلاميين المصريين.

في النهاية، وبالرغم من حدة المواجهة وعنفها، استطاعت الدولة الإطاحة بقيادة الجماعات المسلحة، قتلًا أو اعتقالًا، وإحداث اضطراب كبير في خطوط اتصالها بالخارج. كما ساعدت عزلة الجماعات الشعبية والإسلامية على إضعافها وهزيمة النهج المسلح، ودفعها من ثم إلى المراجعة، وممارسة نقد ذاتي عميق وشامل لمجمل استراتيجية العمل المسلح التي اتبعتها.

في مصر الراهنة، يختلف الوضع إلى حد كبير؛ ما توحي به مؤشرات الشهور والأسابيع القليلة الماضية، أن العنف المسلح قد ينتشر على نطاق واسع، لا يستطيع النظام التحكم فيه، وهناك مسوغات من الإحباط والمظلومية قد تؤسس لوجود حاضنة شعبية لهذا العنف، يصعب الآن تقدير حجمها. في مثل هذه الحالة، سيتسع نطاق المواجهة، ويسهم تصاعد العنف في إضافة مزيد من الحطب إلى النار. ليس من الضروري التوكيد على أن نهج العمل المسلح، مهما اتسع نطاقًا، لن يستطيع الإطاحة بنظام حكم يمسك بمقاليد الدولة، ولكن من الصعب أيضًا أن تستطيع الدولة إيقاع هزيمة سريعة وحاسمة بعنف مسلح ذي طابع شعبي واسع، ولا يقتصر على تنظيم معزول. وقد تؤدي صعوبة تحقيق الهدفين إلى حقبة طويلة، مؤلمة، وباهظة التكاليف من العنف وفقدان الأمن.