توافق المكرهين: استراتيجيات تجنب الفشل في سوريا

اتضح، من جولة جنيف 2، أن رعاة الطرفين السوريين حريصون على تجنب الفشل، لأن استمرار النزاع المسلح يفقدهم مع الوقت إمكانية السيطرة على الأوضاع.
20142611549142580_20.jpg
المبعوث العربي والأممي في سوريا الأخضر الإبراهيمي (أسوشييتد برس)
ملخص
لم تحقق الجولة الأولى من مفاوضات جنيف2 تقدمًا يُذكر، لا على الصعيد الإنساني ولا على صعيد القضايا السياسية؛ فالنظام السوري الذي ذهب إلى جنيف مُكرهًا بفعل الضغوط الروسية التي مورست عليه وحتى لا يظهر كمن يرفض الحل السلمي، بدا متصلبًا أكثر من أي وقت مضى، وهو يرى أن المشهدين السياسي الإقليمي والميداني أصبحا أفضل مما كانا عليه عندما جرت الدعوة إلى عقد المؤتمر. لكن الركون إلى فكرة أن الأمور تسير لصالحه، قد تكون وهمًا خادعًا؛ فالوضع الإنساني الكارثي بدأ يهدد أيضًا بتغير المزاج الدولي مع اتضاح أن مسار جنيف في غياب أدوات ضغط حقيقية لن يكون أكثر من مجرد تمرين عبثي. استنتاج عززه إعلان الأميركيين عن بدء تزويدهم المعارضة السورية بأسلحة خفيفة؛ وهو أمر يحدث للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة؛ ما يؤشر إلى احتمال التصعيد ميدانيًا للمساعدة في تحريك الوضع على طاولة المفاوضات خلال الفترة القادمة؛ فالقول باستحالة الحل العسكري قد لا يستقيم في غياب أي أفق للحل السياسي.

مقدمة

كما كان متوقعًا، انتهت الجولة الأولى من مفاوضات جنيف2 بين ممثلي النظام السوري ومعارضته دون نتائج  حاسمة. ورغم أن الوسيط الأممي الأخضر الإبراهيمي تمكن بمساعدة أميركية-روسية من تجاوز بعض العقبات البروتوكولية والإجرائية من قبيل جمع الوفدين في قاعة واحدة والحصول على موافقة وفد النظام على مناقشة بيان جنيف واحد، باعتباره أساس المفاوضات، إلا أن تقدمًا جوهريًا لم يتحقق سواء على صعيد القضايا الإنسانية، من قبيل فك الحصار أو فتح ممرات آمنة للمناطق المحاصرة، أو على صعيد القضايا السياسية الأكثر تعقيدًا من قبيل مناقشة موضوع هيئة الحكم الانتقالي التي تعد جوهر بيان جنيف واحد.

تحاول هذه الورقة الوقوف على الأسباب التي حالت -ويُتوقع أن تستمر في الحيلولة- دون تحقيق تقدم جوهري في مفاوضات جنيف، كما تتطرق إلى القضايا التي تشكّل جوهر الخلاف بين أطراف الأزمة، وصولاً إلى توقع مآلات وآفاق الحل السياسي المأمول دوليًا في سورية.

الطريق إلى جنيف 2

في السابع من مايو/أيار 2013، أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف من موسكو عن اتفاق على عقد مؤتمر دولي جديد لحل الأزمة السورية يستند إلى إعلان جنيف1 الذي جرى التوصل إليه في 30 يونيو/حزيران 2012، ونص في جوهره، من بين نقاط عديدة، على تشكيل هيئة حكم انتقالية تتمتع بكامل الصلاحيات التنفيذية كخطوة لا غنى عنها لوقف الحرب والانتقال بسورية إلى نظام حكم ديمقراطي. لكن عقبات كثيرة حالت دون انعقاد المؤتمر في الموعد الذي حدده الوزيران وهو نهاية شهر مايو/أيار 2013؛ إذ ظل مصير ومستقبل الرئيس بشار الأسد ومسألة تمثيل المعارضة المنقسمة تحول دون إمكانية عقده. (1) لكن تنامي المخاوف من تزايد نفوذ المتطرفين في أوساط المعارضة السورية، واحتمال انتقال تأثيرات المسألة السورية إلى دول الجوار، أدّيا إلى مضاعفة الجهود لعقد المؤتمر. كما شكّل الاتفاق الأميركي-الروسي على نزع الكيماوي السوري حافزًا للدفع باتجاه حل سياسي لأنه عبّر من جهة عن قدرة الطرفين على التعاون لتسهيل بلوغ تسوية إذا توافرت لديهما الإرادة، وأدى من جهة أخرى إلى تصعيد الضغوط الإقليمية والدولية لعدم الاكتفاء باتفاق الكيماوي بل التركيز على جوهر الصراع ووقف الاقتتال. (2) لكن فترة الأشهر الثمانية التي فصلت بين الاتفاق على عقد المؤتمر وتاريخ انعقاده شهدت حدوث متغيرات كثيرة ميدانية وسياسية، وكان لها بالغ الأثر على مسار عملية التفاوض في جولة جنيف2 الأولى.

المشهد الميداني

كانت موازين القوى على الأرض مع مطلع العام 2013 تميل لغير صالح النظام، بعد أن فقد مناطق واسعة في الشمال والشرق، وشكّل استيلاء فصائل المعارضة على الرقة في مارس/آذار 2013 ضربة كبيرة للنظام باعتبارها أول مركز محافظة يخرج عن سيطرته؛ إذ دأب النظام منذ انتقال الثورة إلى طورها المسلح على التمسك بعواصم المحافظات في مقابل ترك الأرياف حتى لا تستنزف جهده العسكري في جنباتها الواسعة. كما مَثَّل استيلاء فصائل المعارضة على معظم مناطق الغوطة الشرقية والأحياء الجنوبية لريف دمشق فضلاً عن بعض أجزاء الريف الغربي في داريا والمعضمية تهديدًا حقيقيًا للعاصمة. لذلك عندما طرح الأميركان والروس فكرة المؤتمر الدولي الجديد في مايو/أيار 2013 كان وضع النظام الميداني ضعيفًا ومرتبكًا، ولم يكن له ولحلفائه بالتالي مصلحة حقيقية في الذهاب إلى أي تسوية في مثل هذه الظروف. لذلك وبمجرد الإعلان عن الاتفاق، بدأ النظام وحلفاؤه بالعمل حثيثًا على تغيير الوقائع على الأرض حتى يمكنه الذهاب إلى المؤتمر بوضع أقوى.

ورغم أن دعم إيران وحزب الله للنظام السوري لم يكن خافيًا منذ بداية الثورة، إلا أن هذا الدعم خرج إلى العلن وبطريقة مباشرة فقط بعد اتفاق موسكو؛ إذ أعلنت إيران أنها لن تسمح بسقوط النظام. (3) وعلى الأثر أرسل حزب الله المئات من عناصره للمشاركة في استعادة مناطق حيوية في حمص، وخاصة في منطقة القصير. كما تمكن النظام بمساعدة ميليشيات طائفية عراقية، انتظمت تحت أسماء مثل: "لواء أبو الفضل العباس"، من تحقيق اختراقات عسكرية في مناطق مختلفة من ريف دمشق خاصة في الأحياء الجنوبية، وفك الحصار عن معسكري وادي الضيف والحامدية في ريف إدلب، والاستيلاء على بلدة خناصر الاستراتيجية الواقعة على الطريق الدولي إلى حلب، وتمكن من إعادة فتح طريق دمشق-حمص الاستراتيجي بعد أن استعاد السيطرة على بلدة قارة في القلمون. هذا التدخل من قبل حلفاء النظام، وإن لم يؤد إلى تغيير استراتيجي في معادلة الصراع على الأرض، إلا أنه غيّر من تفاصيل المشهد الميداني، وعزز من قدرة النظام على الصمود والانتقال إلى مرحلة المبادرة في الهجوم.

في المقابل، ارتبك وضع فصائل المعارضة ميدانيًا، وكان لانقساماتها وانقسامات حلفائها الإقليميين، وعدم حماسة الأميركيين لتقديم دعم عسكري لها، أكبر الأثر في كبح جماح تقدمها؛ فرغم إجماع إدارته على ضرورة تسليح المعارضة "المعتدلة"، رفض الرئيس باراك أوباما المقترح وظل موقفه مترددًا حتى عندما خرق النظام السوري الخطوط الحمراء واستخدم الكيماوي ضد شعبه في الغوطتين في أغسطس/آب 2013. (4)

ومع ضعف الموقف الدولي والإقليمي من الخروقات التي يرتكبها النظام بحق المدنيين، زادت النزعات المتشددة في أوساط المعارضة السورية، إلى أن ظهر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام والذي كان إعلانه في إبريل/نيسان 2013 من جملة الأسباب التي دعت الأميركان والروس إلى المبادرة لإطلاق فكرة جنيف2، والاتفاق على احتواء نفوذ المتشددين، والتشديد على مكافحة الإرهاب.

شكّل ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وتمدده تهديدًا فعليًا لمسيرة الثورة السورية؛ إذ بدأ يطرد فصائل المعارضة، بما فيها ذات التوجهات السلفية، من المناطق التي فقدها النظام ويعلن إنشاء الدولة الإسلامية ويفرض على الناس سلوكيات وتصرفات تتناسب ومعتقداته. استغل النظام الوضع للتأكيد على روايته الأولى أنه إنما يواجه تنظيمات تكفيرية، إرهابية، وأن على العالم، خاصة الغربي، مساعدته باعتباره نظامًا علمانيًا وحاميًا للأقليات الدينية، بدلاً من السعي إلى الإطاحة به. إلا أن مبادرة فصائل المعارضة سواء كانت إسلامية أو علمانية إلى إعلان الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في الثالث من يناير/كانون الثاني 2014، أفقد النظام هذه الورقة، رغم أنه استفاد من ناحية أخرى من اقتتال المعارضين له؛ إذ أدى ذلك إلى إضعاف فصائل المعارضة التي سقط في صفوفها المئات خلال المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية؛ ما حدا بالنظام إلى محاولة استعادة المبادرة الميدانية في بعض المناطق، خاصة في حلب، فحقق تقدمًا حول مطارها الدولي كما استعاد أحياء فيها مثل النقارين والشيخ سعيد والتي كان داعش انسحب منها. (5)

بالمحصلة، عندما عُقد جنيف2 كان وضع النظام ميدانيًا قد تحسن نتيجة تدخل حلفائه والاقتتال في صفوف المعارضة، وقد استغل النظام ذلك ليطالب بتعديل بيان جنيف1  لأن الحالة الميدانية كانت قد تغيرت مقارنة بما كانت عليه عندما جرى التوصل إلى الاتفاق في 30 يونيو/حزيران 2012. (6)

المشهد السياسي

بالتوازي مع تحسن وضع النظام ميدانيًا، بدأ المشهد الإقليمي يتبدل أيضًا؛ إذ أخذ رئيس الحكومة التركية يعاني مشاكل داخلية كبيرة، كما أخذت الأزمة السورية تنعكس على تركيا أمنيًا، سواء عبر تفجيرات مثل تلك التي حصلت في الريحانية في شهر مايو/أيار 2013، أو هجمات قام بها تنظيم الدولة الإسلامية ضد مراكز حدودية تركية واستلزمت ردًا. (7) من جهة أخرى، بدا أردوغان، عقب اتفاق النووي الإيراني، وكأنه يستبق تقاربًا أميركيًا-إيرانيًا وشيكًا، بمحاولة استعادة دفء العلاقات التي توترت بسبب الأزمة السورية مع طهران، فدعا خلال زيارته الأخيرة لها إلى إنشاء مجلس يجمع حكومتي البلدين، وإلى التعاون «في شكل بنّاء» لمكافحة الإرهاب. (8) واستتباعًا، بدأ النظام السوري يأمل بأن ينعكس هذا التقارب تغيرًا في موقف أنقرة منه، كما أخذ يروج لذلك حلفاؤه. (9)

أما في مصر، فقد جرى الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، وبدا العسكر أقل تعاطفًا تجاه الثورة السورية، فيما اعتبر البعض أن الأسد هو الرابح الأكبر من انقضاض القادة العسكريين على السلطة في مصر. (10)

وفي الوقت الذي كان يسوء فيه وضع خصوم النظام إقليميًا، كانت إيران تحقق مكاسب سياسية في المقابل. وقد لعب انتخاب حسن روحاني لمنصب الرئاسة دورًا مهمًا في الحيلولة دون توجيه واشنطن ضربة عسكرية للنظام السوري عقب استخدامه السلاح الكيماوي في شهر أغسطس/آب 2013؛ إذ ساهمت إيران بالتعاون مع روسيا -ومستفيدة من رغبة الرئيس باراك أوباما في تجنب الانجرار إلى تدخل عسكري جديد في المنطقة، والإضرار بفرص التقارب مع حكومة روحاني- في إخراج اتفاق الكيماوي إلى حيز النور. وقد ساهم الاتفاق في إعادة تأهيل النظام باعتباره طرفًا في اتفاقية دولية نص عليها قرار مجلس الأمن رقم 2118. كما عزز التوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2013 من اتجاه إدارة أوباما إلى بناء علاقة تفاهم مع إيران بدلاً من محاولة إضعافها عبر المساعدة في الإطاحة بالأسد. كما بدأ الأميركيون، من جهة أخرى، يجدون في احتواء نفوذ التيارات الجهادية في سورية عاملًا إضافيًا مشتركًا يمكن بالبناء عليه تحقيق مزيد من التقارب مع الإيرانيين. (11) ومن هنا أيضًا كانت موافقتهم على تسليم حكومة نوري المالكي طائرات أباتشي الهجومية للمساعدة في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية الناشط في سورية والعراق. (12)

هكذا بدت صورة المشهد الإقليمي عندما التئم مؤتمر جنيف2 في مدينة مونترو السويسرية صباح يوم 22 يناير/كانون الثاني 2014، وكان له -مثل التغير في الوضع الميداني- بالغ الأثر على مسيرة التفاوض التي لم تنته إلى نتيجة هامة في أسبوعها الأول، لكن تغير الوضعين الميداني والسياسي لم يكن العامل الوحيد، وإن كان الأبرز، في فشل التوصل إلى نتائج، بل لعبت بالمثل عناصر ظرفية أخرى وأبرزها غياب إيران عن المؤتمر، وضعف انخراط الراعيين، دورًا مهمًا في ذلك.

لعبة الرعاة

كانت إيران الغائب الأكبر في مؤتمر جنيف2، وقد أثارت الدعوة التي وجهها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لطهران، قبل أن يسحبها، جدلاً كبيرًا كاد يطيح بفرص عقد المؤتمر؛ إذ أصرت المعارضة السورية ومعها واشنطن وباريس على رفض حضور إيران ما لم تعلن التزامها بمقررات جنيف1 ؛ وهو ما اعتبرته الحكومة الإيرانية شرطًا مسبقًا لا تستطيع قبوله.

وتُعد إيران الحليف الأكبر للنظام السوري وأهم رعاته، فإذا كانت روسيا تؤمّن دعمًا دبلوماسيًا وسياسيًا للنظام على الساحة الدولية وخاصة في مجلس الأمن، فإن الدور الإيراني يعد أكثر أهمية، لأنه منخرط، حسب تقارير عديدة، بشكل مباشر بالصراع الدائر على الأرض من خلال الدعم اللوجستي الذي يجري تقديمه سواء عبر إيفاد قوات من ميليشيات حليفة في العراق ولبنان للقتال إلى جانب النظام السوري، أو عبر الخبرات التي يقدمها جيش المستشارين الإيرانيين الموجودين في سوريا أو الدعم المادي وشحنات الأسلحة التي يجري إرسالها لتعزيز موقف النظام والحيلولة دون انهياره. كل هذا يجعل إيران اللاعب الإقليمي الأبرز في الصراع السوري وصاحبة النفوذ الأكبر على النظام، وقد أدى غيابها عن جنيف2، رغم الاعتراف بأهمية دورها، إلى عدم توقع الكثير من المؤتمر. وتنظر إيران إلى الصراع السوري باعتباره مسألة تخص أمنها القومي وجزءًا من معركتها لإنجاز بناء مشروع نفوذها الإقليمي الذي بدأ في لبنان في ثمانينيات القرن العشرين ثم حصل على دفعة قوية بعد احتلال العراق والإطاحة بنظام حكم الرئيس صدام حسين. ومن نافل القول التأكيد على أن حل الصراع السوري لن يتم بمعزل عن إرادة إقليمية ركائزها الأساسية توافق إيراني-سعودي-تركي-قطري، وبمباركة أميركية-روسية مشتركة.

من ناحية أخرى، أدى ترك الطرفين السوريين للتفاوض -بوساطة المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي- في غياب الراعيين: الأميركي والروسي إلى نشوء ما يشبه حوار الطرشان؛ فبمجرد انتهاء احتفالية افتتاح المؤتمر، غادر مسؤولو الملف السوري في الخارجية الروسية غينادي غاتيلوف وميخائيل بوغدانوف مع وزير الخارجية سيرغي لافروف إلى موسكو؛ ما أدى إلى غياب الضغوطات الكافية على وفد النظام لإظهار الجدية في العملية التفاوضية. (13) من جهة ثانية، ورغم ارتفاع نبرة الخطاب الأميركي ضد النظام السوري أثناء وبعد جلسة جنيف الافتتاحية، إلا أن التسريبات عن حوار سري أميركي-روسي-إيراني حول سورية في مدينة برن السويسرية يجري بالتوازي مع مفاوضات جنيف، أدت إلى تغذية الشكوك لدى المعارضة السورية في أن المفاوضات الجدية ربما تجري في مكان آخر بعيدًا عنهم، وأن الأميركيين الذين رفضوا حضور إيران لجنيف يبدو مهتمين أكثر بالحديث معها ولكن سرًا.

لهذه الأسباب لم تحقق الجولة الأولى من مفاوضات جنيف2 تقدمًا يُذكر، لا على الصعيد الإنساني ولا على صعيد القضايا السياسية؛ فالنظام السوري الذي ذهب إلى جنيف مُكرهًا بفعل الضغوط الروسية التي مورست عليه وحتى لا يظهر كمن يرفض الحل السلمي، بدا متصلبًا أكثر من أي وقت مضى، وهو يرى أن المشهدين السياسي الإقليمي والميداني أصبحا أفضل مما كانا عليه عندما جرت الدعوة إلى عقد المؤتمر. لكن الركون إلى فكرة أن الأمور تسير لصالحه، قد تكون وهمًا خادعًا؛ ففي ظل الأوضاع الإنسانية الكارثية وفي ظل استمراره في قصف المدن والتجمعات السكنية بالبراميل المحشوة بالمتفجرات، فشل النظام في جنيف في تسويق روايته عن "مكافحة الإرهاب"، التي "يقودها" الرئيس بشار الأسد. (14) الوضع الإنساني الكارثي بدأ يهدد أيضًا بتغير المزاج الدولي مع اتضاح أن مسار جنيف في غياب أدوات ضغط حقيقية لن يكون أكثر من مجرد تمرين عبثي. استنتاج عززه إعلان الأميركيين عن بدء تزويدهم المعارضة السورية بأسلحة خفيفة؛ وهو أمر يحدث للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة؛ ما يؤشر إلى احتمال التصعيد ميدانيًا للمساعدة في تحريك الوضع على طاولة المفاوضات خلال الفترة القادمة؛ فالقول باستحالة الحل العسكري قد لا يستقيم في غياب أي أفق للحل السياسي. (15)

أفق التوافق

بناء عليه، أخذ يتضح وبشكل متزايد أن اللاعبين الأساسيين في الأزمة السورية مهتمون باحتواء أية تداعيات يمكن أن تنتج عن فشل خيار التسوية، وهذا موقف واشنطن، كما أن بعضهم مهتم من جهة أخرى بالدخول في مساومات أوسع يشكل الاتفاق في سورية مدخلاً لها، وهذا موقف طهران، في حين يركز آخرون على الحفاظ على وتكريس المكاسب التي حققوها في المسألة السورية، وهذا موقف موسكو؛ فروسيا التي منحتها القضية السورية فرصة الحصول على التعامل بندية مع واشنطن وذلك لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة، سوف تطمح إلى تكريس هذا المكسب خاصة بعد أن برهنت على قدرتها على اجتراح تسويات وفرضها كما فعلت في اتفاق الكيماوي. ويعتقد الرئيس بوتين أنه بإجباره النظام المتمنع عن حضور جنيف2 قد بلغ ذروة تأثيره في الأزمة السورية، وأن سلوك النظام الرافض لتسوية، تؤدي إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة التي تعني موسكو أكثر من غيرها -أي الجيش والأمن- وتحد من تنامي نفوذ المتطرفين، يهدد مكتسبات روسيا التي جرى بناؤها على مدى ثلاث سنوات. وبالنسبة للروس هناك استحقاقات قادمة قد تشكّل فرصة لتأمين مدخل لحل الأزمة بدلاً من الاستمرار في إدارتها واحتوائها، أهمها انتهاء ولاية بشار الأسد الثانية في 17 يوليو/تموز القادم. وقد يشكّل هذا الاستحقاق مدخلاً لتعاون أميركي-روسي، قد تنضم إليه إيران إذا سارت مفاوضات ملفها النووي بشكل جيد، وتوفرت لديها حوافز للمساعدة في حل الأزمة السورية.

وتعمل روسيا باتجاه الحل المتوقع إنضاجه بحلول انتخابات الرئاسة السورية على مستويين: يشمل الأول توسيع تمثيل المعارضة بما يؤدي إلى زيادة ثقل الجانب المحسوب عليها وتخفيض سقف المطالب التي طرحها الائتلاف (الذي تعتبره موسكو الجسم الأكثر تطرفًا في المعارضة بسبب موقفه من النظام ورؤيته للحل). أما على مستوى النظام فيبدو أن الروس بدأوا توًّا رحلة البحث عن شخصيات، عسكرية خاصة، يمكن أن تكون جزءًا من الهيئة الانتقالية التي نصّ عليها جنيف1. وفي هذا السياق، تتركز الجهود الروسية على تمكين الأقليات، سواء من النظام أو المعارضة، من الحصول على حصة وازنة في هذه الهيئة. كما يعمل الروس على استقطاب عدد من كبار الضباط المنشقين باعتبار أنهم أكثر علمانية وأقرب إلى المدرسة العسكرية الروسية بحكم خدمتهم الطويلة في الجيش السوري، مقارنة بالفصائل العسكرية التي تشكّلت خلال الثورة، وذلك لتكوين المجلس العسكري المزمع إنشاؤه بالتوازي مع الهيئة الانتقالية. 

ورغم استمرار الخلافات حول بعض التفاصيل المهمة، إلا أن الأميركيين يشاركون بقوة في هذه المساعي، وبدأت تبرز مؤشرات تفاهم مشترك في اتفاق باريس في 13 يناير/كانون الثاني 2014 بين جون كيري وسيرغي لافروف، وكذلك في رسالة الدعوة إلى «جنيف2»؛ حيث اقترح الأميركيون على موسكو أسماء بعض الشخصيات السورية المرشحة لتكون ضمن هيئة الحكم الانتقالي، وحاولوا صوغ «خريطة طريق» لتنفيذ كل بند من بنود جنيف1 مع الدخول في تفاصيل هيكلية هيئة الحكم الانتقالي والمجلس العسكري والعلاقة بينهما. (16) ولإنجاح هذه المساعي يدرك الروس أنه لابد من دفع بشار الأسد إلى الخروج من المشهد، وتشكّل الانتخابات القادمة، الفرصة الأمثل لذلك. (17)

وفق المنظور نفسه، قد تساعد المفاوضات بشأن سورية إيران في خدمة طموحاتها؛ فبعد أن نجحت في استئناف علاقة حذرة مع واشنطن، يبدو أن لدى طهران مصلحة كبيرة في استعادة مكانتها في المجتمع الدولي، وإذا ما أخذنا هذه الأولوية في الاعتبار، فإن ثمّة حاجة إلى قدر من الاعتدال الإيراني بشأن القضية السورية في مقابل إشراكها في الجهود الدولية الخاصة بحل الأزمة، وهناك بعض المؤشرات على أن إيران قد تكون أقل تصلبًا مما يبدو في القضية السورية. لقد ساهمت إيران في إقناع النظام السوري بالتخلي عن ترسانته الكيماوية لتجنيبه ضربة عسكرية، بعد أن كانت استأت بشكل علني من استخدامها. وبحسب الأمين العام للأمم المتحدة فقد وافقت إيران على بيان جنيف1، خلال اجتماعه مع وزير الخارجية محمد جواد ظريف، وبناء عليه وجّه إليها الدعوة لحضور جنيف2، (18) لكن طهران تراجعت بعد ذلك ما أدى إلى سحب الدعوة، ثم جاءت تصريحات الوزير ظريف في دافوس عندما دعا إلى انسحاب جميع المقاتلين الأجانب من سورية بما فيهم حزب الله، ليشكّل مؤشرًا جديدًا على رغبة حكومة الرئيس روحاني في أن تكون جزءًا من المناقشات الإقليمية والدولية حول الأزمة السورية. (19) هذه الرسائل والمعطيات هي التي دعت الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان للتوجه إلى طهران ضمن وفد مجموعة "الحكماء"  الذي يضم أيضًا الأخضر الإبراهيمي الذي يرعى المفاوضات في جنيف بين النظام والمعارضة السورية. (20)

والحاصل أن عددًا من الاتجاهات سيدفع إلى استمرار عملية المباحثات التي انطلقت مع جنيف2؛ فهناك من جهة تصميم دولي لأول مرة على مبدأ الشراكة السياسية لحل الأزمة السورية، ثم إن فشل هذا الخيار سيجرّ الوضع إلى مسارات في غاية السوء، يتصف جميعها باستمرار الاضطراب وتصاعد الحركات المتشددة، وتفاقم الاستقطابات الطائفية بالمنطقة، وهي مسارات تجعل قدرة الروس والأميركيين أضعف مع مرور الوقت على التأثير في مجريات الوضع السوري.
_____________________________
المصادر
1- "موسكو وواشنطن تتفقان على عقد مؤتمر دولي حول سورية قد يتم هذا الشهر"، روسيا اليوم، 7 مايو/أيار 2013، الرابط http://arabic.rt.com/news/614994/
2- مارك بيريني، الحرب السورية في ثلاث عواصم، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 29 أكتوبر/تشرين الأول، 2013، الرابط، http://www.carnegie-mec.org/2013/10/29/الحرب-السورية-في-ثلاث-عواصم/grgr
3- انظر: رجل دين إيراني يصف سوريا بالمحافظة الإيرانية الـ35"، العربية نت، 15 فبراير/شباط 2013، الرابط: http://www.alarabiya.net/articles/2013/02/15/266468.html
4- Michael R. Gordon and Mark Landler, “Backstage Glimpses of Clinton as Dogged Diplomat, Win or Lose,” The New York Times, February 2, 2013, at: http://www.nytimes.com/2013/02/03/us/politics/in-behind-scene-blows-and-triumphs-sense-of-clinton-future.html?pagewanted=all&_r=0
5-  "الدولة الإسلامية تهدد بوقف قتالها للنظام السوري"، الجزيرة نت، 5 يناير/كانون الثاني 2014، على الرابط: http://aljazeera.net/news/pages/d21186fe-2756-4161-a849-8373260022f7
6- تصريحات منسوبة لبثينة شعبان عضو الوفد المفاوض عن النظام في جنيف ومستشارة الرئيس الأسد للشؤون الاعلامية والسياسية، نقلتها صحيفة الحياة: "إن جنيف ليس قرآنًا أو إنجيلاً، وإنه صدر في يونيو/حزيران 2012 بينما الوضع على الأرض تغير الآن؛ لذلك يتعين أن تتغير المواقف وفقًا لما يقتضيه الواقع"، انظر، "ثاني أيام جنيف ـ 2: تعثّر المحادثات الإنسانية وانفراج بسيط بشأن حمص"، الحياة، 26 يناير/كانون الثاني 2014، الرابط: http://alhayat.com/Details/596923
7- غارة جوية تركية على قافلة لـ"داعش" شمال سورية، الحياة، 29 يناير/كانون الثاني 2014، الرابط: http://alhayat.com/Details/597947
8- "أردوغان يريد «حكومة مشتركة» وخامنئي يشدد على استثمار "طاقات هائلة"، الحياة، 30 يناير/كانون الثاني 2014، على الرابط: http://alhayat.com/Details/598024
9- هل طلب أردوغان من القيادة الإيرانية الوساطة مع الأسد؟ وكالة أنباء فارس، 1فبراير/شباط 2014، الرابط: http://arabic.farsnews.com/newstext.aspx?nn=9211110184
10- إسرائيل والأسد الرابح الأكبر من أحداث مصر، الحياة، 14 يوليو/تموز 2014، الرابط http://alhayat.com/Details/532267
11- U.S. and Iran Face Common Enemies in Mideast Strife, the New York Times, January 6, 2014, http://www.nytimes.com/2014/01/07/world/middleeast/iran-offers-military-aid-but-not-troops-to-iraq.html?nl=todaysheadlines&emc=edit_th_20140107&_r=0
12- أميركا تمضي قدمًا في بيع طائرات هليوكوبتر هجومية للعراق، الحياة، 27 يناير/كانون الثاني 2014، الرابط: http://alhayat.com/Details/597309
13-  دول غربية تلجأ إلى موسكو للضغط على دمشق: فصل المساعدات الإنسانية عن وقف النار، الحياة، 30 يناير/كانون الثاني 2014، http://alhayat.com/Details/597931
14- الوفد الرسمي السوري يقول إنه تقدم ببيان لمكافحة "الإرهاب" والائتلاف المعارض رفضه، الحياة، 30 يناير/كانون الثاني 2014، http://alhayat.com/Details/598155
15- Congress secretly approves U.S. weapons flow to 'moderate' Syrian rebels, Reuters, 27 January, 2014, http://www.reuters.com/article/2014/01/27/us-usa-syria-rebels-idUSBREA0Q1S320140127
16- اقتراح سوري مدعوم روسيًا: انتخابات رئاسية برقابة دولية خلال 3 أشهر، الحياة، 20 يناير/كانون الثاني 2014، http://alhayat.com/Details/594656
17- واشنطن تطلب من موسكو "عدم ترشح الأسد"، الحياة، 27 يناير/كانون الثاني 2014، http://alhayat.com/Details/596954
18- المعارضة السورية تهدد بمقاطعة جنيف2 إذا شاركت فيه إيران… ولافروف يحذر من أن غيابها سيكون "خطأً لا يغتفر"، القدس العربي، 20 يناير/كانون الثاني 2014، الرابط http://www.alquds.co.uk/?p=125423
19- ظريف يدعو إلى انسحاب المقاتلين الأجانب من سورية، الحياة، 25 يناير/كانون الثاني 2014، http://alhayat.com/Details/596254
20- "نصف خطوة" في بداية مفاوضات النظام و"الائتلاف"، 26 يناير/كانون الثاني 2014، الرابط: http://alhayat.com/Details/596649