تحدي الصلاحيات: خيارات أردوغان في معركة الرئاسة

يطرح ترشح طيب رجب أردوغان الراجح لرئاسة الجمهورية التركية تحديات كبيرة على نظام بلاده السياسي، فالدستور يحتاج إلى تعديل لإعادة توزيع الصلاحيات داخل الجهاز التنفيذي، والمعارضة الداخلية لن تنهزم في المعركة دون قتال.
2014539285617734_20.jpg
لعبة المواقع في النظام السياسي التركي (رويترز)

ملخص
أصبح من المرجح أن رئيس الوزراء التركي، رئيس حزب العدالة والتنمية، طيب رجب أردوغان، في طريقه إلى الترشح لرئاسة الجمهورية. طبقًا للقانون، لابد لتركيا انتخاب رئيس جديد قبل نهاية أغسطس/آب، أي قبل نهاية ولاية الرئيس الحالي عبد الله غول. وطبقًا لتعديل دستوري أُقر في 2010، ستجري الانتخابات الرئاسية للمرة الأول في تاريخ الجمهورية بالاقتراع المباشر من الشعب، وليس بأغلبية أصوات نواب البرلمان.

المرجح أن أردوغان سيصبح رئيس جمهورية تركيا بعد أغسطس/آب المقبل، وأن احتمال أن يحل غول محله في رئاسة الحزب والحكومة لم يعد مؤكدًا، بينما تتزايد حظوظ أحمد داوود أوغلو. ومن المرجح أن أردوغان وحزبه سيحاولان إجراء تعديل دستوري، بصورة أو أخرى، يمنح رئيس الجمهورية سلطات تنفيذية إضافية، بحيث يصبح شريكًا في صنع القرار، على الأقل في حقلي السياسة الخارجية والأمن والدفاع.

مقدمة

أصبح من المرجح أن رئيس الوزراء التركي، رئيس حزب العدالة والتنمية، طيب رجب أردوغان، في طريقه إلى الترشح لرئاسة الجمهورية. طبقًا للقانون، لابد لتركيا انتخاب رئيس جديد قبل نهاية أغسطس/آب، أي قبل نهاية ولاية الرئيس الحالي عبد الله غول. وطبقًا لتعديل دستوري أُقر في 2010، ستجري الانتخابات الرئاسية للمرة الأول في تاريخ الجمهورية بالاقتراع المباشر من الشعب، وليس بأغلبية أصوات نواب البرلمان.

بإمكان أردوغان بالطبع أن يتجنب الترشح للرئاسة، وأن يحتفظ بموقعه في رئاسة الوزراء حتى الانتخابات البرلمانية المقبلة في العام القادم؛ بل وحتى أن يجري حزبه تعديلاً على نظامه الداخلي بما يسمح للنواب بالترشح للبرلمان لأكثر من ثلاث دورات برلمانية، ويُسمح له بالتالي بالاستمرار في رئاسة الحكومة لأربع سنوات أخرى بعد انتخابات 2015. ولكن أردوغان رفض دائمًا خيار تعديل النظام الداخلي للحزب؛ كما أن استطلاعًا أُجري بحضور رئيس الوزراء لقادة الحزب ومجموعته البرلمانية في منتصف إبريل/نيسان 2014 ، أظهر أن الأغلبية في حزب العدالة والتنمية ترغب في ترشحه لرئاسة الجمهورية. والمتوقع الآن أن يعلن أردوغان بالفعل عزمه المنافسة على موقع الرئاسة في النصف الثاني من مايو/أيار.

ستفتح مثل هذه الخطوة الساحة السياسية التركية على عدد من الأسئلة: ما هو مصير الرئيس الحالي عبد الله غول، الذي هو أيضًا من القادة المؤسسين للعدالة والتنمية؟ وهل ثمة صفقة لتبادل الأدوار بين أردوغان وغول، على الطريقة الروسية؟ هل سيستطيع أردوغان حسم المعركة الانتخابية من الدورة الأولى، أو أنه سيضطر للذهاب لدورة انتخابية ثانية، تقف فيها المعارضة خلف مرشح واحد، بكل ما في ذلك من مخاطر؟ وأي نوع من الرؤساء سيكونه أردوغان، إن تولى الرئاسة فعلاً؛ بمعنى أية صلاحيات سيمارسها؟

احتمالات الصفقة

ما إن انتهت تركيا من الانتخابات المحلية العاصفة في 30 مارس/آذار 2014، حتى انتقلت الأجندة السياسية إلى انتخابات الرئاسة. وكان من الواضح أن الجميع ينتظر لقاء أردوغان وغول حول المسألة لحسم الموقف. الذين رجحوا خوض أردوغان الانتخابات الرئاسية، توقعوا أن يكون السيناريو الأقرب للتحقق هو صفقة لتبادل المواقع بين غول وأردوغان، على طريقة بوتين-ميدفيديف. في اعتبارات السياسة التركية لم يزل هناك عدد من السنوات في مسيرة غول السياسية، وليس من المتوقع أن يختار الرجل التقاعد في مثل هذا الوقت، سيما وأن خوض أردوغان للرئاسيات يعني أن غول قد أُفسح له المجال؛ فطبقًا للتعديل الدستوري الأخير، وتفسير المحكمة العليا للتعديل، يحق لغول بالفعل الترشح للمنصب مرة أخرى، بعد أن تغير نظام الترشح كلية وتغيرت الفترة الرئاسية من ولاية واحدة بسبع سنوات إلى ولايتين، بخمس سنوات لكل منها(1). بمعنى أن غول لابد أن يُكافَأ على نحو ما، بعد تخليه عن حقه في الترشح.

المسألة الأخرى التي طرحت سيناريو تبادل الموقعين، أن جهات داخل العدالة والتنمية وخارجها تتصور أن من الصعب على الحزب إيجاد شخصية قيادية تملأ الفراغ الذي سيتركه أردوغان، وأن غول، الذي تولى رئاسة الحكومة فعلاً لعدة شهور في نهاية 2002 وبداية 2003، هو الأكثر قدرة على الحفاظ على وحدة الحزب وشعبيته في السنوات القليلة المقبلة.

الحقيقة، أن الرجلين التقيا منذ 30 مارس/آذار2014  عدة مرات، أولها كان في اليوم التالي مباشرة للانتخابات المحلية؛ وأن الحوار، الرسمي وغير الرسمي، داخل مؤسسات الحزب قد أُطلق بالفعل حول الموقف من الانتخابات الرئاسية. في 19 إبريل/نيسان، أجاب عبد الله غول بوضوح على سؤال من أحد الصحفيين، مشيرًا إلى استبعاده سيناريو التبادل الروسي، على أساس أن مثل هذا النهج ليس مناسبًا لتركيا. لم يقل غول بوضوح إنه في طريقه للتقاعد، وقد أشار البعض إلى أن تصريح الرئيس ليس سوى طريقة أخرى للمقايضة. ولكن ما تشير إليه أوساط العدالة والتنمية أن غول بات يدرك أن رفيقه القديم أردوغان لن يكون رئيسًا رمزيًا واحتفاليًا، وأنه سيمارس كل صلاحيات الرئيس المقرة حاليًا الآن، بما في ذلك رئاسة مجلس الوزراء، من حين لآخر، وأنه سيسعى إلى إجراء تعديل دستوري يعزز من موقع رئاسة الجمهورية. رئاسة أردوغان للجمهورية، من وجهة نظر غول وأنصاره، ستولّد قدرًا من التوتر المستديم مع رئيس الحكومة، ولن تترك للأخير حرية كافية في إدارة شؤون البلاد كما يريد.

بذلك، يتراجع سيناريو التبادل، وإن لم يعد من الممكن استبعاده كلية، ويحل محله سيناريو خروج غول من الساحة السياسية التركية، ربما إلى موقع دولي. وقد بدأ بالفعل الحديث في دوائر العدالة والتنمية حول الأصلح لتولي موقع رئاسة الوزراء من بين الوزراء الحاليين. ونظرًا لإمكانات د. أحمد داوود أوغلو وقدراته، وقربه من أردوغان، وعدم وجود خصوم له داخل الحزب، وفوزه بأول عهدة برلمانية؛ فقد برز اسمه مؤخرًا بصفته المرشح الأقوى لخلافة أردوغان.

جولات الحسم

حصل العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية السابقة، 2011، على ما يقارب 50 بالمائة من الأصوات، بينما حصل على 45.6 من الأصوات في الانتخابات المحلية الأخيرة، التي أُجريت في 30 مارس/آذار الماضي. دفع هذا الفارق الطفيف في نصيب الحزب من الأصوات البعض إلى توقع أن يخفق أردوغان في الحصول على أكثر من خمسين بالمائة من الأصوات في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية؛ حيث سيتشارك على الأرجح أكثر من مرشح، وأن يضطر إلى خوض جولة ثانية أمام مرشح واحد، تصطف خلفه أحزاب المعارضة جميعًا. ما تشير إليه هذه التوقعات أن وصول أردوغان لموقع رئاسة الجمهورية ليس مضمونًا ولا مؤكدًا، على أية حال.

لأن الانتخابات البرلمانية تجري في تركيا على برامج وطنية عامة وبنظام حزبي، نسبي، فهي بلاشك مقياس يعتد به لشعبية الأحزاب السياسية وقادتها، ولكن الانتخابات المحلية ليست كذلك؛ فهي محلية بالفعل، سواء من جهة البرنامج والشخصيات، أو من جهة النظام الانتخابي. إن القول بأن الانتخابات المحلية الأخيرة، التي جرت في ظل أجواء صراع سياسي محتدم وبالغ الحدة، اكتسبت هي الأخرى طابعًا وطنيًا، هو قول صحيح بالتأكيد، ولكن الصحيح أيضًا أن هذا الطابع الوطني لم يحلّ كلية محل طابعها المحلي.

الصحيح أيضًا أن العدالة والتنمية خاض ثلاث انتخابات محلية منذ وصوله للحكم، الأولى في 2004، والثانية في 2009، وأخيرًا الثالثة. كان نصيب العدالة والتنمية في الأولى ما يقارب 41 بالمائة من الأصوات، وفي الثانية أقل بقليل من 39 بالمائة، ثم قفز في الأخيرة إلى ما يقارب 46 بالمائة. ليس هذا وحسب، بل إن العدالة والتنمية هو الحزب الثاني في تاريخ التعددية الحزبية الذي يحقق مثل هذه النسبة من الأصوات في انتخابات محلية؛ سبقه إليها فقط حزب العدالة (بقيادة سليمان ديميريل) في أول انتخابات محلية بعد انقلاب 1960. الفارق، أن نسبة من ذهبوا للاقتراع في حالة حزب العدالة لم يتجاوز 40 بالمائة، بينما أدلى 89 بالمائة من الناخبين بأصواتهم في الانتخابات المحلية الأخيرة.

ثمة سمات أخرى لانتخابات 30 مارس/آذار لا يشار إليها كثيرًا في هذا الجدل، أولها: أن العدالة والتنمية كان الحزب الوحيد الذي حقق فوزًا في كافة المناطق الانتخابية التركية الخمس، التي يجمع مدنها وسكانها تقليديًا مزاج واحد: الجنوب الشرقي، الأناضول، الشمال، ساحل إيجة، والغرب والجانب الأوروبي. كل الأحزاب الأخرى انحصر تأييدها في واحدة أو اثنتين من هذه المناطق؛ مما يجعل العدالة والتنمية الحزب الوحيد ذا القاعدة الشعبية الوطنية. السمة الثانية: أن العدالة والتنمية رفع نصيبه من الأصوات في 74 مدينة من المدن الـ 81 الرئيسة، بينما تراجع هذا النصيب في 7 مدن فقط.

أما السمة الثالثة المهمة، فتتعلق بتوزيع الأصوات على الأحزاب الأخرى؛ حيث حقق حزب الشعب الجمهوري المعارض 27.6% من الأصوات، وحزب الحركة القومية 15.2%، وحزب السلم والديمقراطية الكردي 4.2%، وتوزعت 3 بالمائة من الأصوات على أحزب محافظة أو إسلامية صغيرة، وذهب ما تبقى لمستقلين وأحزاب صغيرة، متفرقة، من اتجاهات غير إسلامية مختلفة. مثل هذا التوزيع للأصوات، حتى لو اعتُبرت الانتخابات المحلية مقياسًا، يعني أن فرصة أردوغان في الحصول على عدة ملايين أخرى من الأصوات، سواء من أنصار الأحزاب المحافظة والإسلامية الصغيرة، أو من الصوت الكردي، أو حتى من أصوات القوميين، هي احتمال راجح.

المرجح على أية حال أن أحزاب المعارضة، سيما الشعب الجمهوري والقومي (نظرًا لصعوبة توافق السلم والديمقراطية معهما)، لن تستطيع التوافق على مرشح مشترك؛ وأن الصوت الإسلامي والمحافظ والأغلبية العظمى من الصوت الكردي ستذهب إلى أردوغان؛ وأن حظوظ رئيس الوزراء التركي في حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى كبيرة بالفعل. ولكن، وفي حال ذهبت الانتخابات لجولة ثانية، فمن المستحيل تقريبًا أن تستطيع الأحزاب التحكم في أصوات أنصارها، وسيصعب بالتالي حشد أنصار الشعب الجمهوري والقومي خلف مرشح واحد.

مساحة الصلاحيات

في مقابلة سابقة سُئل رئيس الوزراء التركي أي رئيس للجمهورية سيكون، إن قرر أخيرًا خوض انتخابات الرئاسة؟ فكان رد أردوغان أنه سيكون رئيسًا يعرق؛ بمعنى أنه سيكون رئيسًا عاملاً وفعالاً، وليس مجرد رئيس رمزي، يمثل سيادة الدولة ويقوم بما يشبه التوفيق بين السلطات. والحقيقة، أن الانتخابات الرئاسية المقبلة ستشكّل معضلة دستورية وسياسية ملموسة للجمهورية التركية، بغضّ النظر عن هوية الرئيس. أما إن كان هذا الرئيس راغبًا في توكيد سلطاته التنفيذية، مثل أردوغان، فإن المعضلة ستكون أكبر.

عندما يُنتخب رئيس الجمهورية بأصوات أكثر من خمسين بالمائة من الناخبين، في حين أن من العسير على أي حزب أن يحقق الخمسين بالمائة من الأصوات، فمعنى ذلك أن تركيا ستختار رئيسًا، يتمتع بشرعية وتفويض كبيرين، بينما هو محدد السلطات. ولابد أن المشرع أغفل هذه المعضلة وهو يُعدِّل نظام الانتخابات الرئاسية، أو أنه تصور أن ذلك التعديل سيعقبه تعديل دستوري آخر يعيد توزيع السلطات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. ولكن محاولة كتابة دستور جديد لتركيا، يؤسس لنظام رئاسي-برلماني مشترك، لم تصل إلى النتيجة المأمولة، بعد أن أخفقت اللجنة التوافقية من كافة الأحزاب طوال 2013 في التوافق إلا على جزء يسير من مشروع الدستور الجديد.

فما العمل الآن؟

أحد التوقعات أن يكتفي أردوغان، إن أصبح رئيسًا، بممارسة سلطات الرئاسة الحالية، بما في ذلك ترؤس مجلس الوزراء أحيانًا، وهو الحق الذي تعارف رؤساء الجمهورية السابقون على عدم ممارسته، والاعتماد على العلاقة الوثيقة بينه وبين رئيس الوزراء المقبل، من جهة، وثقله السياسي-المعنوي، من جهة أخرى، للتأثير في القرارات الكبرى للحكومة والبلاد.

 الاحتمال الثاني: أن تلجأ حكومة العدالة والتنمية إلى إجراء تعديل دستوري محدود، يعيد توزيع السلطات بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، ويُقَرّ في استفتاء شعبي، طالما أن من الصعب إقراره برلمانيًا.

الاحتمال الثالث: أن تقوم الحكومة الحالية بتعديل نظام الانتخابات البرلمانية إلى نظام الدوائر الانتخابية (النموذج البريطاني)، الذي يتوقع أن يضيف إلى نصيب حزب العدالة والتنمية من مقاعد البرلمان ما يتراوح بين 50 و70 مقعدًا. بذلك، ستتمتع حكومة العدالة والتنمية المقبلة، بعد انتخابات 2015، بأغلبية الثلثين، وتستطيع بالتالي إقرار دستور جديد كلية، بما في ذلك تعديل نظام الحكم، برلمانيًا، وبدون الذهاب لاستفتاء شعبي غير مضمون.

خاتمة

ليس ثمة يقين مستديم في المجال السياسي، سيما المجال السياسي التعددي. وليس من المتيقن بعد ما الذي يمكن أن تستقر عليه الخيارات السياسية التركية بخصوص ملف رئاسة الجمهورية. ما هو متيقن أن هذه الخيارات لابد أن تحدد بصور واضحة في النصف الثاني من مايو/أيار  أو النصف الأول من يونيو/حزيران 2014. لكن استمرار مناخ التوقعات وفقدان اليقين ليس جيدًا لوضع البلاد المالي والاقتصادي.

المرجح أن أردوغان سيصبح رئيس جمهورية تركيا بعد أغسطس/آب المقبل، وأن احتمال أن يحل غول محله في رئاسة الحزب والحكومة لم يعد مؤكدًا، بينما تتزايد حظوظ أحمد داوود أوغلو. ومن المرجح أن أردوغان وحزبه سيحاولان إجراء تعديل دستوري، بصورة أو أخرى، يمنح رئيس الجمهورية سلطات تنفيذية إضافية، بحيث يصبح شريكًا في صنع القرار، على الأقل في حقلي السياسة الخارجية والأمن والدفاع.

بيد أن عملية انتقال بهذا الحجم لن تكون سهلة أو يسيرة. كان خوف أحزاب المعارضة، ومراكز القوة الداخلية وبعض القوى الخارجية، من استمرار وجود أردوغان على الساحة السياسية لعشر سنوات قادمة هو ما أجج الصراع السياسي في البلاد خلال الشهور القليلة الماضية. ومن الواضح أن هذه الأحزاب والقوى لن تستسلم بسهولة لرئاسة فعّالة للجمهورية لخمس، أو ربما (لدورتين) عشر سنوات، يقودها أردوغان نفسه.
___________________________________
هوامش
1- الدستور التركي، مادة 101، ص48: http://global.tbmm.gov.tr/docs/constitution_en.pdf