السودان: تداعيات القبضة الأمنية على مبادرة الحوار

تمد الخرطوم يدا للحوار مع المعارضة ويدا أخرى لاعتقال عدد من رموزها، فاهتزت الثقة أكثر في تعهد السلطة بإجراء حوار جدي يوسع مساحة الحريات ومشاركة السودانيين في حكم بلادهم.
2014612125046659734_20.jpg
تشدد الخرطوم مع اكثر رموز المعارضة تمسكا بالحوار: الصادق المهدي [رويترز]

ملخص

من أهم التطورات الداعية إلى إعادة قراءة التحولات الجارية في الساحة السياسية السودانية إقدام السلطات السودانية على اعتقال السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام طائفة الأنصار، و إبراهيم الشيخ رئيس المؤتمر السوداني ، وكذلك عودتها إلى التضييق على الحريات الصحافية بتعطيل صحيفة "الصيحة" الحديثة الصدور، التي كشفت العديد من ملفات الفساد الكبيرة في أجهزة حكومية حساسة، ورافقتها حملة إعلامية واسعة ضد الفساد الحكومي؛ تفاعل معها الرأي العام باهتمام، أما التطور الأكثر أهمية فهو تصاعد الدور المحوري الذي بات يؤدِّيه جهاز الأمن والمخابرات الوطني في المجالين السياسي والعسكري.
أضافت هذه الوقائع المزيد من التعقيدات على أوضاع البلاد المأزومة، وستودي تداعياتها إلى خلط أوراق اللعبة السياسية، وإعادة تشكيل موازين القوى وفق أجندة جديدة بما يقود مسارات الأحداث في اتجاه بدائل قد تكون تصعيدية، في وقت كان تنتظر فيه الساحة السودانية أن تنجح مبادرة الحوار الوطني.

مقدمة

من أهم التطورات الداعية إلى إعادة قراءة التحولات الجارية في الساحة السياسية السودانية إقدام السلطات السودانية على اعتقال السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام طائفة الأنصار ورئيس المؤتمر السوداني إبراهيم الشيخ، وكذلك عودتها إلى التضييق على الحريات الصحافية بتعطيل صحيفة "الصيحة" الحديثة الصدور، التي كشفت العديد من ملفات الفساد الكبيرة في أجهزة حكومية حساسة، ورافقتها حملة إعلامية واسعة ضد الفساد الحكومي؛ تفاعل معها الرأي العام باهتمام، أما التطور الأكثر أهمية فهو تصاعد الدور المحوري الذي بات يؤدِّيه جهاز الأمن والمخابرات الوطني في المجالين السياسي والعسكري.

هذه السلسلة من التطورات السياسية والعسكرية المتلاحقة أضافت المزيد من التعقيدات على أوضاع البلاد المأزومة، وستودي تداعياتها إلى خلط أوراق اللعبة السياسية، وإعادة تشكيل موازين القوى وفق أجندة جديدة بما يقود مسارات الأحداث في اتجاه بدائل تصعيدية، في وقت كان تنتظر فيه الساحة السودانية أن تنجح مبادرة الحوار الوطني، التي أطلقها الرئيس عمر البشير في يناير/كانون الثاني الماضي، ودعا القوى المعارضة بشقيها المدني والعسكري إلى الانضمام إليها للبحث عن مخرج للأزمة الوطنية.
ما دلالات هذه الوقائع على مسار الحوار؟ وما هي السيناريوهات المرتبطة بذلك؟

إسكات المعارضة المعتدلة

مثَّل اعتقال المهدي حدثًا مفاجئًا وبارزًا في الساحة السودانية؛ إذ جاء معاكسًا لمسار التطورات السياسية التي تشهدها البلاد في الآونة الأخيرة؛ وذلك منذ إطلاق البشير دعوته لأطراف النزاع السوداني للتوافق على قواعد جديدة للتنافس على السلطة، والتراضي على كتابة دستور جديد يحتكم إليه جميع الفرقاء السودانيين، ثم الذهاب إلى انتخابات عامة.

قاطعت القوى اليسارية والليبرالية دعوة الرئيس، وطالبت بتنفيذ جملة اشتراطات لتهيئة أجواء الحوار؛ من بينها إلغاء القوانين المقيدة للحريات، وتشكيل حكومة انتقالية، ورفضت حركات المعارضة المسلحة الانضمام إلى المبادرة؛ لكن زعيم حزب الأمة المعارض الصادق المهدي أبرز الذين استجابوا لدعوة البشير دون شروط سابقة، وهو موقف أدى إلى بروز معارضة قوية داخل حزبه بقيادة الأمين العام للحزب إبراهيم الأمين؛ وهو ما اضطر المهدي إلى إبعاده.

والملاحظ أن هذا الاعتقال وقع في الوقت الذي كانت تتصاعد فيه انتقادات بعض القوى السياسية المشاركة شاكية بطء عملية الحوار؛ بل عدم تقدُّمها خطوة واحدة بعد أربعة أشهر من إطلاقها، وبعد شهرين من لقاء المائدة المستديرة؛ الذي جمع البشير بقادة القوى السياسية المعارضة، الذين لَبَّوْا دعوته، فماذا الذي حدث؟

بدأ الأمر على نحو غير متوقَّع حين أصدر جهاز الأمن بيانًا صحافيًّا وجَّه فيه لائحة اتهامات ضد المهدي؛ تضمنت: "الانتقاص من هيبة الدولة، وتشويه سمعة القوات النظامية، وتهديد السلام العام، وتأليب المجتمع الدولي ضد البلاد". وأعلن الجهاز عن تدوين بلاغ جنائي في نيابة أمن الدولة بحق المهدي تحت مواد تُجَرِّم "النشر المسبِّب للتذمر وسط القوات النظامية، ونشر الأخبار الكاذبة، والإخلال بالسلام العام وإشانة السمعة".

وحسب مذكرة الادعاء فقد تضمَّنت التهمة إيراد "معلومات كاذبة وظالمة ومسيئة" عن "قوات الدعم السريع" التابعة لجهاز الأمن في تصريحات صحافية، وقالت: إن المهدي اتهمها بـ"ارتكاب جرائم حرب للقرى، واغتصاب ونهب ممتلكات المواطنين، وضم عناصر غير سودانية لصفوفها، وأنها تعمل خارج نطاق القوات النظامية"، وهو ما اعتبره جهاز الأمن "تعمُّدًا وقصدًا للإساءة للدولة والانتقاص من هيبتها، وتغذية للفتنة، وتهديدًا للسلام العام للبلاد".

المهدي من جانبه أصدر بيانًا، اعتبر الاتهامات الموجهة إليه باطلة، وأضاف أنه ملتزم بما قاله؛ أي: "المطالبة بتحقيق عادل فيما جرى ويجري في المناطق المعنية"؛ وذلك في إشارة إلى دارفور وجنوب البلاد، وقال المهدي في بيانه: "إنني مستعد للمساءلة العادلة، التي لا يكون فيها الشاكي هو الخصم والحكم، أطالب بمحاكمة عادلة وعلنية، ويسمح فيها بحقِّ الدفاع الذي سوف يتولاه كل ذي ضمير وطني أو حقاني حي؛ لأن القضية ليست شخصية، ولا حزبية، بل قومية".

ثم لم تلبث أن تصاعدت التطوُّرات؛ حيت جرى استجواب المهدي في نيابة أمن الدولة على خلفية البلاغ، وجرى إطلاق سراحه بالضمان الشخصي لحين موعد المحاكمة؛ لكن زعيم حزب الأُمَّة انتقد مجدَّدًا جهاز الأمن؛ ليُسارع الأخير إلى إضافة تهمتين إضافيتين تصل عقوبتهما إلى الإعدام ليتم اعتقاله. وفي حين تحاول السلطات الحكومية التأكيد على أن القضية ضد المهدي دوافعها قانونية محضة، فإنها في الوقت نفسه لم تلتزم الصمت لتترك العدالة تأخذ مجراها؛ فقد سمحت لمحمد حميدتي قائد "قوات الدعم السريع" محلَّ الجدل بمهاجمة المهدي، كما تواترت تصريحات لمسؤولين في الحكومة والحزب الحاكم لتبرير الخطوة، فيما سارع نواب ممثلون للمؤتمر الوطني الحاكم لاتهام المهدي بالخيانة.

ما أثار حيرة المراقبين أن الانتقادات التي ساقها المهدي لهذه القوات المثيرة للجدل لم تكن كافية لتبرير هذه الإجراءات العقابية المشدَّدة بحقِّه، قياسًا إلى أنه سبق لوالي شمال كردفان أحمد هارون أن أعلن الاتهامات نفسها بحقِّ هذه القوات، وطالب بترحيلها من ولايته إثر ممارسات ارتكبتها أثارت غضب المواطنين؛ الذين تظاهروا محتجين ضدها. كما أن اتهامات مماثلة وردت في حقها من قبل نواب في البرلمان، ومن رئيس يوناميد (العملية المختلطة للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دارفور)، كما أن الصحف تناولتها بالنقد؛ حتى إبَّان خضوعها لرقابة مباشرة من جهاز الأمن. فما المعادلات الجديدة التي حوَّلت هذه القوات إلى خطٍّ أحمر لا يمكن المساس به؟ ولماذا اختارت السلطات المهدي لتختبر فيه موقفها الجديد؛ على الرغم من أن اعتقاله شكَّل ضربة قوية لمبادرة الحوار المتعثرة أصلاً؛ خاصة أن مشاركته فيها تمنحها ثقلاً إضافيًّا؟ ولماذا بدت السلطات مستعدة لإحراج المهدي صاحب الموقف المعارض الأكثر مسالمة للسلطة، فضلاً أن نجله الأكبر عبد الرحمن يُشارك في الحكومة، بصفة شخصية حسب توصيف والده؛ وذلك في منصب مساعد رئيس الجمهورية، كما أن نجله الآخر يعمل ضابطًا في جاهز الأمن؟

كل هذه الأسئلة وغيرها ظلت تشغل أوساط الرأي العام في غياب تفسير رسمي منطقي يتسق مع سياق المعطيات، فما الذي يجعل الحكومة تمضي قدمًا في التفاوض مع الحركة الشعبية/شمال، التي تقود معارضة مسلحة ضدها في جنوبي كردفان والنيل الأزرق، والمتحالفة في الوقت نفسها مع الحركات المسلحة في دارفور تحت لافتة الجبهة الثورية، والرافضة جميعًا لمبادرة الحوار المطروحة من البشير، ثم تتخذ في الوقت نفسه موقفًا متشدِّدًا ضد المهدي الملتزم بشدَّة بمعارضة سلمية، ويشكل أحد أركان مبادرة الحوار، لمجرَّد انتقادات لقوى مسلحة موالية للحكومة لم تكن هي الأولى ولا الوحيدة، فهل قرَّرت القيادة الحاكمة التنصُّل من مبادرة الحوار تحت غطاء إثارة غبار كثيف بالتصعيد ضد المهدي؟

وهل للأمر علاقة بتفاعل ترتيبات إعادة ضبط توازنات القوى داخل السلطة الحاكمة؛ خاصة أنه لم تمضِ سوى أشهر معدودة منذ أن أبعد البشير نهاية العام المنصرم برجال "الحرس القديم"، وثمة مؤشرات على أن الشخصيات المبعدة لم تستسلم، وأنها لا تزال تراهن على العودة وتأدية أدوار مستقبلية؛ وذلك من واقع أن وجودها الطويل في السلطة على مدار خمسة وعشرين عامًا في مواقع رئيسية يجعلها لا تزال تحتفظ ببعض خيوط اللعبة والنفوذ، كما تشير التطورات إلى احتمال بروز مراكز قوى أو جماعات مصالح داخل السلطة؛ قد تقاوم توجُّه الرئيس البشير لصناعة تحالف جديد عبر مبادرته للحوار يؤمِّن له الاستمرار في السلطة؛ سواء جرت الانتخابات في العام القادم، أو تم التوافق على تأجيلها؟

قبضة حديدية

الكلمة المفتاحية في قراءة هذه التطورات هي "قوات الدعم السريع"، التي يعود تأسيسها إلى ميلشيات القبائل ذات الأصول العربية في بدايات الحرب الأهلية في دارفور في عام 2003، وأدَّت دورًا محوريًّا في مساندة القوات الحكومية في الحرب الأهلية، التي أخذت منحى عنصريًّا ضدَّ الحركات المسلحة المتمرِّدة المنتمية إلى قبائل ذات أصول إفريقية؛ ولكن مع اتساع نطاق التجاوزات والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان في تلك الحرب تدخَّل المجتمع الدولي، وأحال مجلس الأمن الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية في عام 2005، فأصدرت لائحة اتهام طالت الرئيس البشير نفسه، ثم ألحقت به وزير الدفاع الفريق عبد الرحيم حسين؛ لكن أدَّت تلك الضغوط الدولية إلى محاولة السلطات الحكومية التخلُّص من إرث تلك الميلشيات؛ التي عُرفت على نطلق واسعة بـ"الجنجويد" بإدماجها في القوات المسلحة تحت مسمى قوات "قوات حرس الحدود"؛ غير أن مواصلة هذه القوات ممارستها المثيرة للجدل، وانفلاتها من ضوابط وقيود العمل العسكري المنظم زاد في إحراج المؤسسة العسكرية الرسمية؛ مما اضطرها إلى رفع يدها عن هذه المليشيات القبلية الموالية لها، فأظهر قادتها الامتعاض من الموقف الحكومي، ورأوا فيه تنكُّرًا لدورها ولخدماتها في مساندة النظام؛ لتتحوَّل هي نفسها إلى قوات متمرِّدة محاولة عقد تحالفات مع خصوم الأمس من الحركات المسلحة؛ فأصبح الشيخ موسى هلال زعيم قبيلة المحاميد مسيطرًا على أجزاء واسعة من ولاية شمال دارفور؛ متحديًا السلطات الحكومية المحلية، وإن كان يحاول الاحتفاظ بشعرة معاوية مع الحكم؛ معتبرًا نفسه داعية للإصلاح داخل الحزب الحاكم.

ومع ازدياد حاجة الحكومة لعناصر مقاتلة مساندة في ضوء اتساع الاضطراب الأمني في دارفور وجنوب البلاد الجديد، مع تراجع قدرة القوات المسلحة على تجنيد أفراد؛ بسبب العزوف عن ذلك حسبما أبلغ وزير الدفاع البرلمان، لم تجد السلطات بُدًّا من العودة إلى الاستعانة ببعض تلك الميلشيات؛ غير أن رفض قادة المؤسسة العسكرية تكرار التجربة السابقة بكل تبعاتها جعل جهاز الأمن والمخابرات يتكفَّل بتلك المهمة؛ ليضم تلك الفصائل إلى هيئة العمليات التابعة له، التي كان تشكيلها إبان قيادة رئيس الجهاز السابق صلاح عبد الله مثار تنازع مع القوات المسلحة، التي رأت فيها تدخُّلاً من جهاز الأمن في صميم مهامِّها كقوَّة قتالية؛ متجاوزًا دوره في جمع وتحليل المعلومات.

تمكَّن جهاز الأمن من خلال توظيف الحاجة الملحة للنظام لقوات مقاتلة مساندة من ضمِّ هذه الميلشيات إلى صفوفه، وخلع على قادتها رتبًا عسكرية؛ ليتم بذلك تشكيلها تحت مسمى "قوات الدعم السريع" بقيادة محمد حميدتي؛ الذي حصل على لقب عميد، وهي قوات ضاربة تقدر بنحو عشرة آلاف مقاتل شديدي المراس، تتميز بخاصية الخفَّة في الحركة، وأصبحت تتجوَّل في مسارح العمليات من دارفور إلى جنوب كردفان، غير أن طبيعتها المتفلِّتة أثارت الاتهامات السابقة بارتكابها لتجاوزات وانتهاكات لحقوق الإنسان.

غير أن التطور الأبرز في سيرة هذه القوات انتقال وجودها من مسارح العمليات إلى داخل العاصمة الخرطوم؛ لتصبح لاعبًا فاعلاً في المعادلة السياسية، وبرز هذا الدور للمرَّة الأولى إبان المظاهرات الاحتجاجية في سبتمبر/أيلول الماضي 2013، التي واجهتها السلطات بعنف غير مسبوق أدَّى إلى مقتل نحو مائتي متظاهر، ثم جاءت هذه التطورات الأخيرة لتُثْبِت أن "قوات الدعم السريع" أصبحت القوَّة الضاربة التي تعتمد عليها السلطة الحاكمة في فرض سيطرتها؛ وذلك مع الملاحظة الواضحة لصمت الجيش والشرطة، وهو ما يُثير تساؤلات حول موقفهما من تسليط الضوء الإعلامي الكثيف على هذه القوَّة الجديدة باعتبارها صِمَام أمان للنظام في معاركه ضدَّ المتمردين في الأطراف، وضدَّ المعارضين في العاصمة.

جدل العسكري والسياسي

تُشير مجمل هذه التطورات التي تُعيد بها السلطة الحاكمة الصراع إلى مربع جدل العسكري مقابل السياسي في الأزمة السودانية، إلى أن مبادرة الرئيس البشير للحوار السياسي بديلاً للاحتراب الداخلي لم تتوافر لها الإرادة السياسية الكاملة لدى القيادة الحاكمة؛ سواء كان ذلك بسبب تخوُّفها من أن تقود إلى إفلات أوراق اللعبة من يدها، أو بسبب ضغوط صراعات داخلية داخل المؤسسة الحاكمة؛ ولذلك سرعان ما تراجعت إلى خطِّ دفاعها الأساسي؛ المستند إلى أن عامل استمرار السلطة على مدار خمسة وعشرين عامًا مضت كان بفضل شرعية القوَّة العسكرية التي توافرت للنظام؛ ولذلك ليس بوسعه الاستمرار في فرض سيطرته دون تأمين هذه القوَّة، غير أن مشروعية النظام اهتزَّت بشدَّة داخل المؤسسات النظامية بعد محاولة ضباط موالين للرئيس البشير تدبير محاولة انقلابية؛ هي الأولى من نوعها قبل أكثر من عام؛ ولذلك لجأ إلى نزع احتكار المشروعية القتالية من الجيش والشرطة، وأوجد قوات موازية تابعة لجهاز الأمن؛ وذلك في إطار لعبة التوازنات بين مراكز قوَّى متعدِّدة، وتمكين وجودها وتبريره سياسيًّا من خلال منحها وضعية غير قابلة للانتقاد المشكك في مشروعيتها الدستورية والقانونية.

مسارات

تقود هذه التحوُّلات المتسارعة إلى بروز احتمالات متعدِّدَة في مسار الأحداث، حسب الخيارات التي ستلجأ إليها القوى المختلفة على الساحة السودانية.

المسار الأول: لعبة التشدد والتصعيد

يستند إلى تراجع فرص مبادرة الحوار بعد هذا الضرر البالغ الذي أصابها باعتقال الصادق المهدي ورئيس المؤتمر السوداني إبراهيم الشيخ، والتضييق على حرية الصحافة؛ فعلى الرغم من أن المهدي أعلن من داخل معتقله استمرار التزامه بخيار الحوار، فإن حزبه تبنَّى لهجة تصعيدية تدعو إلى إسقاط النظام؛ فتجاوز بها خياره السابق الداعي إلى التوافق على نظام بديل، وهو تطوُّر قويٌّ من التيار المتشدِّد داخل الحزب الرافض للحوار مع النظام؛ الذي كان يتبنَّاه المهدي؛ بل إن حزب المهدي يحاول إبرام اتفاق مع "الحركة الشعبية" قطاع الشمال، التي تخوض حربًا ضد الحكومة السودانية، وطالبا في بيان مشترك بوحدة قوى التغيير؛ وذلك في جبهة عريضة تستعيد الديمقراطية وفقًا للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وتحقيق السلام الشامل والعادل، مع عدالة تقسيم السلطة والثروة والمواطنة المتساوية بلا تمييز. وهو الأمر الذي من شأنه أن يساهم في تكوين جبهة عريضة ضد النظام في الخرطوم. كما أن الاعتقالات أصابت في مقتل مصداقية الحكومة التي كانت محل تشكيك أصلاً من القوى التي قاطعت الحوار، كما أحرجت حزب المؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي؛ الذي عوَّل على إقناع الجميع بجدية البشير في مسعاه للمصالحة الوطنية؛ ولذلك فإن مبادرة الحوار لم تَعُدْ تملك ذلك الزخم الذي جعلها لفترة وجيزة "اللعبة السياسية الوحيدة" في الساحة.

هذا الفشل في مسار الحوار سيجعل النظام الحاكم يتخلَّى عن محاولته لتمرير أجندة حفاظه على السلطة؛ التي كان يسعي إلى تحقيقها بأسلوب ناعم عبر مبادرة الحوار، وقد يختار العودة إلى مربعه الأول؛ وذلك باستخدام القوة المسلحة كأداة رئيسة لتحقيق هدف الحفاظ على السلطة، من واقع الترويج الكثيف لشرعية "قوات الدعم السريع"، وشرعنة وجودها ودورها داخل العاصمة مركز الحكم، وهو ما حدث بالفعل من خلال إصدار مدير جهاز الأمن لأوامر بنشر ثلاث ألوية من تلك القوات في الخرطوم؛ ويتضمن هذا المسار محاولة الاستمرار في طرح مبادرة الحوار بهدف كسب الوقت والوصول إلى محطة الانتخابات العام المقبل.

سيؤدي ذلك إلى بروز تحالف جديد تصنعه جهات ليست بالضرورة متفقة في الأهداف؛ ولكن يدفعها إلى ذلك تشدُّد النظام؛ فقد عانى تحالف المعارضة المدنية الراهن من الانقسام بسبب مواقف المهدي المعارض لإسقاط النظام بالقوَّة، وهو موقف لم يجد التقدير من السلطة الحاكمة، وهو ما يدفع حزبه دفعًا إلى تبنِّي الخيار الذي كان يرفضه؛ فيتعزز موقف الجبهة الثورية التي تضمُّ تحالف المعارضة المسلحة، وهو سيناريو قد يقود إلى مواجهة مسلحة داخل العاصمة لحسم السيطرة على السلطة.

المسار الثاني: انتفاضة شعبية

أن تؤدي حالة الاحتقان وانسداد الأفق السياسي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية المتردية أصلاً؛ التي لا تجد أية أولوية في حسابات السلطة إلى فرض المزيد من المعاناة على حياة المواطنين؛ الذين يُعانون من شظف العيش، ويزيد من تعقيدها ارتفاع نسبة البطالة وسط الشباب، الذين يُشَكِّلون أغلبية السكان؛ ومع تراجع الآمال في حدوث تسوية سلمية للأزمات السودانية المتلاحقة قد تقود إلى حالة انفجار شعبي أو انتفاضة تُعيد سيناريو الاحتجاجات التي جرت مرتين على مدار العامين المنصرمين؛ إلا أنه من غير المتوقَّع أن تنجح السلطات في قمعها بالقوَّة في ظل تزايد احتمالات تدخُّل المعارضة المسلحة لدعم سيناريو "الانتفاضة المحمية"، وهو ما يجعل السودان مرشحًا لأن تنتقل الحرب الأهلية من أطرافه إلى مركز السلطة.

المسار الثالث: تدخل عسكري

يعتمد على ردة فعل المؤسسة العسكرية على مجمل هذه التطوُّرات وتبعاتها المنذرة بدخول السودان حالة الفوضى الشاملة، ولاسيما الدور الجديد لـ"قوات التدخل السريع" التابعة لجهاز الأمن؛ التي خلَّفت تساؤلات واسعة عن مدى تحجيمها لدور القوات المسلحة ونفوذها وتصوير القوات المسلحة بمظهر العاجز عن القيام بمسؤوليتها مما استدعى استبدالها بقوَّة غير نظامية؛ ولذلك من الممكن ترجيح احتمال تدخل الجيش في ظلِّ ظروف مواتية لإحداث تغييرات من بينها: حدوث انتفاضة شعبية، والحصول على دعم خارجي، أو كخطوة استباقية لمنع حدوث فوضى.

المسار الرابع: استمرار الحوار

وهو أن تتمكَّن القوى المراهنة على الحوار من إمالة كفة التوازنات إلى صالحها، وهناك عدد من المؤشرات يدعم ذلك، كتمسُّك المهدي نفسه من داخل السجن بمسار الحوار، وإصرار حزب المؤتمر الشعبي بقيادة حسن الترابي على إنجاحه، وحتى الأحزاب التي علَّقت مشاركته فيه أبدت استعدادها للمشاركة فيه مجدَّدًا إذا أفرجت السلطات عن المهدي، ويُقَوِّي من هذا الاتجاه مساندة قوى دولية مؤثرة؛ مثل: الولايات المتحدة، وبريطانيا.