السيسي رئيسًا: شرعية ملتبسة وخيارات متناقضة

فاز عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية المصرية، لكن عزوف غالبية المصريين عن الاقتراع، وتمسكه بالخيار الأمني في مواجهة المأزق السياسي، سيجعلان شرعيته ملتبسة وخياراته متناقضة
2014612143449737734_20.jpg
عودة العسكر إلى حكم مص [أسوسيتد برس]

ملخص

في الثامن من يونيو/حزيران 2014 أقسم المشير عبد الفتاح السيسي -وزير الدفاع المصري السابق- أمام المحكمة الدستورية العليا اليمين لتولي رئاسة الجمهورية؛ المشير -الذي كان فريقًا حينها- هو مَنْ قاد الجيش في 3 من يوليو/تموز 2013 للإطاحة بالرئيس محمد مرسي؛ وذلك بعد عام واحد فقط من تولِّيه منصب الرئاسة؛ بذلك لم يَعُدْ ثمة جدل ذي معنى حول ما إن كان فِعْل الإطاحة بمرسي ثورة أم انقلابًا.
خَلْفَ طقوس ومراسم التنصيب المتسمة بالفخامة والإبهار، ثمة شعور مستبطن بالأزمة، وشعور آخر بالانتصار؛ وُلِدَ شعورُ الأزمة من المسار الذي خطَّته مظاهرات 30 من يونيو/حزيران، وقيام القيادة العسكرية بالإطاحة بالرئيس المدني المنتخب بإرادة شعبية حرَّة للمرَّة الأولى في تاريخ الجمهورية، ومن موقف الأغلبية المصرية من الانتخابات الرئاسية. أما شعور الانتصار فلا يتعلَّق بفوز السيسي في الانتخابات الرئاسية، التي كان الجميع يُدرك أنه سيفوز فيها، على أية حال؛ بل بانتصار الدولة المصرية العميقة على التحديات والمخاطر التي تهدَّدَتْهَا منذ إسقاط نظام مبارك في 11 من فبراير/شباط 2011.

مقدمة

في الثامن من يونيو/حزيران 2014 أقسم المشير عبد الفتاح السيسي -وزير الدفاع المصري السابق- أمام المحكمة الدستورية العليا اليمين لتولي رئاسة الجمهورية؛ المشير -الذي كان فريقًا حينها- هو مَنْ قاد الجيش في 3 من يوليو/تموز 2013 للإطاحة بالرئيس محمد مرسي؛ وذلك بعد عام واحد فقط من تولِّيه منصب الرئاسة؛ بذلك لم يَعُدْ ثمة جدل ذي معنى حول ما إن كان فِعْل الإطاحة بمرسي ثورة أم انقلابًا، أو ما إن كان 3 من يوليو/تموز امتدادًا لثورة يناير/كانون الثاني 2011 أم ردَّة عليها.

مهما كان الأمر؛ فإن يومَ تولِّي السيسي لمهام منصبه لم يكن مجرَّد إجراء رسمي؛ بل تضمَّن سلسلة من اللقاءات الاحتفالية، استمرَّت طوال 8 من يونيو/حزيران؛ بداية من جلسة قسم اليمين في قاعة رئيسية للمحكمة الدستورية، شهدها قضاة المحكمة ورجال القضاء والأزهر والكنيسة المصرية؛ ثم جلسة شهدها ملوك ومسئولون ومندوبون عرب وأجانب في قصر الاتحادية؛ في مقدمتهم: ملك البحرين، وأمير الكويت، وولي العهد السعودي، وولي عهد أبو ظبي، والرئيس الفلسطيني؛ وصولاً إلى اجتماع مهرجاني في باحة قصر القبة في المساء، ضمَّ كبار ضباط القوات المسلحة وعددًا كبيرًا من رجال الدولة والصحافيين والكُتَّاب والفنانين والشخصيات عامة؛ وفي سابقة غير معروفة في التقاليد المصرية الدستورية، وقَّع الرئيس الانتقالي عدلي منصور والرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي وثيقة لتسليم السلطة.

جرت سلسلة مراسم تنصيب السيسي في أجواء احتفالية غير مسبوقة في التقاليد المصرية، وفي قاعات وباحات ضخمة، غلبت عليها الفخامة والقوة، أبرزت هيبة الدولة وديمومتها. رافق هذه المراسم إطلاق المدفعية طلقات الترحيب بالرئيس، وتحليق طائرات سلاح الجوِّ في سماء العاصمة، واصطفاف حرس الشرف في باحة القصر الجمهوري. لم تَعْرِف تقاليدُ تنصيب رؤساء الجمهورية مثلَ هذه المراسم من قبلُ، لا عند تولِّي مرسي ولا أي رئيس آخر من قبله؛ وعلى الرغم من اختلاف مراسم التنصيب من رئيس إلى آخر، فإن حدث تولِّي رئيس للجمهورية اعْتُبر دائمًا شأنًا مصريًّا، فلَمْ يُسْتَدْع من قبلُ مثل هذا الحضور الواسع لملوك ورؤساء عرب وأجانب؛ وبينما حرص مرسي -الذي ألقى خطاب تولِّيه الأهم في ميدان التحرير- على الطابع الشعبي لبداية رئاسته، اختفى الشعب كلية من مراسم تنصيب السيسي.
لماذا أُجريت مراسم التنصيب بهذه الدرجة من الاحتفالية، وهذا الحرص على التمثيل العربي والأجنبي؟ ولماذا والبلاد تُواجه أزمة اقتصادية مستحكمة، جرت المراسم في سياق من الفخامة وطغيان الصورة؟ وأي مسار سيختاره السيسي فعلاً للتعامل مع الأزمات التي تثقل كاهل الدولة والشعب، سياسيًّا واقتصاديًّا؟

أزمة الشرعية وعودة الدولة

خَلْفَ طقوس ومراسم التنصيب، ثمة شعور مستبطن بالأزمة، وشعور آخر بالانتصار؛ وُلِدَ شعورُ الأزمة من المسار الذي خطَّته مظاهرات 30 من يونيو/حزيران، وقيام القيادة العسكرية بالإطاحة بالرئيس المدني المنتخب بإرادة شعبية حرَّة للمرَّة الأولى في تاريخ الجمهورية، ومن موقف الأغلبية المصرية من الانتخابات الرئاسية. أما شعور الانتصار فلا يتعلَّق بفوز السيسي في الانتخابات الرئاسية، التي كان الجميع يُدرك أنه سيفوز فيها، على أية حال؛ بل بانتصار الدولة المصرية العميقة على التحديات والمخاطر التي تهدَّدَتْهَا منذ إسقاط نظام مبارك في 11 من فبراير/شباط 2011.

على الرغم من تأكيد الفريق السيسي وأنصاره طوال الشهور الأحد عشر الماضية على أن الأحداث التي شهدتها مصر بين 30 من يونيو/حزيران و3 من يوليو/تموز 2013 كانت ثورة شعبية، واستجابة من الجيش لمطالب الشعب؛ فقد ظلَّ شبح الانقلاب يُهيمن على مصر السياسية، وعلى صورة السيسي ومؤيديه؛ فالتظاهرات الشعبية المستمرَّة بلا هوادة، وانفضاض العديد من القوى والشخصيات السياسية عن نظام 3 من يوليو/تموز، عزَّزت الشعور بفقدان الشرعية. ولاحتواء شكوك الشرعية حاولت وسائل الإعلام والكُتَّاب والصحافيون الموالون لوزير الدفاع صناعة صورة من الشعبية الكاسحة للسيسي، والتفاف قطاعات واسعة من المصريين حوله؛ بل إن خطوة ترشحه للرئاسة تم تصويرها كرضوخ من السيسي للضغط الشعبي.

بيد أن السيسي -كما يبدو- كان مقتنعًا بشعبيته؛ وقد بلغت ثقته بهذه الشعبية أنه لم يكترث طوال أيام الحملة الانتخابية بتقديم برنامج انتخابي، ولا بعقد لقاءات جماهيرية، بل سارع إلى التصريح برغبته في رؤية ذهاب ثلاثين مليونًا من المصريين إلى صناديق الاقتراع. ولأن فوز السيسي في الانتخابات لم يكن موضع شكٍّ، أصبحت نسبة المقترعين مقياس الشرعية الأبرز للانتخابات الرئاسية.

المفاجأة أن المصريين عزفوا عن التصويت طوال يومي الاقتراع المقرَّرين من اللجنة العليا للانتخابات، 26 و27 من مايو/أيار 2014. ولأن وجود مراقبين وصحافيين أجانب بأعداد كبيرة جعل من الصعب إخفاء حقيقة امتناع أغلبية المصريين عن التصويت؛ فقد أُطلقت حملة شعواء عبر وسائل الإعلام لدفع الناس للاقتراع؛ سواء بالتوسل إليهم، بإثارة مخاوفهم، أو بالتهديد بعقوبة عدم القيام بالاقتراع، كما تعرَّضت اللجنة العليا للانتخابات لضغوط رسمية وغير رسمية لتمديد فترة الاقتراع ليوم ثالث؛ ولكن مشهد اليوم الثالث من الانتخابات كان أكثر فداحة من سابقيه؛ حيث خلت مقارُّ الاقتراع بصورة شاملة تقريبًا من الناخبين.

بهذا تفاقمت أزمة شرعية النظام وشرعية الانتخابات الرئاسية معًا، وأصبح من الضروري أن تأخذ مراسم التنصيب طابعًا عربيًّا ودوليًّا، وسمات احتفالية كبيرة؛ كما تمَّ ابتكار وثيقة تسليم السلطة بين منصور والسيسي، لتوكيد شرعية الرئيس الجديد والمسار الذي جاء به إلى مقعد الرئاسة.

بيد أن مراسم التنصيب لم تخلُ أيضًا من شعور الدولة بالظفر والانتصار، وهو ما انعكس ليس في إجراءات وطقوس التنصيب، وقاعات وباحات القصور التي كانت مسرحًا لها، وحسب؛ بل -أيضًا- في خطابات نوَّاب رئيس المحكمة الدستورية، والكلمة التي ألقاها عدلي منصور، ثم في خطاب السيسي المسائي؛ حيث أُطلقت عبارات مثل: "أثبتت الدولة المصرية أنها عصية على الانكسار"، و"الحفاظ على وحدة الدولة"، و"استعادة هيبة الدولة."

الحقيقة، أن أحدًا لم يَسْعَ طوال الأعوام الثلاثة الماضية إلى كسر الدولة المصرية، وقد تحدَّث الثوار باعتزاز عشية تنحِّي مبارك عن نجاح ثورتهم في إسقاط النظام دون المسِّ بالدولة، وكان أقصى طموحات المصريين -بما في ذلك السياسة التي انتهجها مرسي- تعهُّد عملية تدريجية لإصلاح أجهزة الدولة ومؤسساتها وعلاقتها بالشعب؛ ولكن حتى هذه المقاربة الإصلاحية لاقت قدرًا كبيرًا من الخوف والخشية في دوائر الدولة المصرية، الدولة التي وُجدت وتعاظمت طوال مائتي عام، دون لحظة انقطاع واحدة؛ لذا ما إن بدأ مشروع التخلُّص من مرسي ونظام ثورة يناير في التبلور حتى انحازت أجهزة ومؤسسات الدولة العميقة جميعها تقريبًا إلى المشروع.

بوصول السيسي -ابن ذراع الدولة العسكري- إلى مقعد الرئاسة تُعلن الدولة المصرية انتصارها على الخطر الذي تهدَّدها طوال ثلاثة أعوام. وتعني رئاسة السيسي -من وجهة نظر الدولة المصرية- عودة الأمور إلى سابق عهدها، وسيادة خطاب الدولة؛ وتقاليدها المكرَّسة في التعامل مع شعبها، وشبكة العلاقات والمصالح التي تسندها وتستند إليها.

تحديات رئاسة السيسي

لم يكن خافيًا طوال الأشهر الأحد عشر الماضية أن وزير الدفاع والمجلس الأعلى للقوات المسلحة هما أصحاب الكلمة العليا في إدارة شؤون البلاد، وأن عدلي منصور كان مجرَّد واجهة دستورية؛ ولكن هذا الوضع الملتبس للسلطة سمح للمشير السيسي ورفاقه التنصل من المسؤولية عن السياسات والقرارات التي لم تجد قبولاً شعبيًّا، وإلقاء مسؤولية التقصير على كاهل الحكومة والرئيس المؤقت؛ لكن منذ 8 من يونيو/حزيران لم يَعُدْ هذا ممكنًا؛ السيسي الآن هو المسؤول الأول والأخير عن الحكم والدولة، وبات عليه أن يُواجه عددًا من أكبر الأزمات التي عاشتها مصر في تاريخها الحديث: أزمة الانقسام السياسي/الاجتماعي، والتدهور المستمر في الوضع الاقتصادي ووضع المالية العامة، ومعضلة إصلاح جسم الدولة.

1. تعيش مصر -بداية- أزمة سياسية طاحنة، كشف عزوف الناخبين عن التصويت في الانتخابات الرئاسية عن عمقها وتفاقمها، وليس من الواضح في ظلِّ عدم وجود استطلاعات يُعْتَدُّ بها حجم التأييد الذي يتمتَّع به السيسي، وحجم المعارضة الصلبة لحكمه؛ ولكن أفضل التقديرات تُشير إلى انقسام إلى كتلتين متساويتين تقريبًا في الشريحة النشطة سياسيًّا والمهتمة بالشأن العام، وإلى حالة انتظار وترقُّب في صفوف أغلبية الشعب. ومشكلة السيسي بالطبع أن أغلب القوى والشخصيات السياسية التي أيَّدت 30 من يونيو/حزيران وعارضت الرئيس مرسي، كانت تتصوَّر فعلاً أن الجيش مدَّ يده إليها لبناء ديمقراطية جديدة؛ وبرؤية هؤلاء للبلاد وقد جرت من جديد إلى حكم شبه عسكري، سارع أغلبهم إلى الانفضاض عن النظام الجديد؛ بمعنى أن نظام 3 من يوليو/تموز أو نظام السيسي -كما ينبغي أن يُسَمَّى الآن- خسر خلال العام المنصرم الكثير من مؤيديه، ولم يكسب أحدًا.

تتجلَّى حالة الانقسام في حركة تظاهر مستمرَّة بلا هوادة منذ انقلاب 3 من يوليو/تموز، وفي حملات اعتقالات واسعة النطاق، وفي عودة العلاقة بين الأجهزة الأمنية والشرطية من جهة، وعموم الشعب من جهة أخرى، إلى وضع أسوأ مما كانت عليه في عهد الرئيس مبارك. ثمة عدد يتجاوز عشرين ألفًا من المعتقلين أو المسجونين على خلفية نشاطات معارضة سياسية بحتة، وقد فقد قطاع كبير من المصريين ثقته كلية بالجهاز القضائي، الذي تحوَّل إلى أداة قمعية إضافية في يد النظام؛ وعلى الرغم من أن المعارضة المسلحة لم تزل محدودة؛ فقد تحوَّلت شبه جزيرة سيناء إلى منطقة غير آمنة بفعل نشاطات المجموعات المسلحة، كما أن تقارير تفيد بأن البلاد أصبحت مخزنًا هائلاً للسلاح والمتفجرات، التي تتدفَّق من دول الجوار الإفريقي.

ويترك مناخ الانقسام السياسي أثرًا بالغًا على السلم الاجتماعي، والعملية التعليمية، ومصداقية النظام في الساحة العالمية، وعلاقاته بالمنظمات الدولية والإقليمية، والمجال الاقتصادي والاستثماري برُمَّته.

2. قبل أيام قليلة فقط من تنصيب السيسي رئيسًا، أعلنت حكومة محلب أنها اقترضت 66 مليار جنيه خلال مايو/أيار من السوق المحلية؛ وذلك ضمن عملية اقتراض مستمرَّة لسدِّ عجز الميزانية، الذي رفعت الحكومة توقعاتها له من 156 إلى 198 مليار جنيه في نهاية السنة المالية (التي تُصادف نهاية يونيو/حزيران الحالي 2014)، وكانت وزارة المالية المصرية أعلنت أن حجم الدين العام وصل 1.5 تريليون جنيه في نهاية عام 2013، ويُتَوَقَّع أن يتجاوز تريليوني جنيه مع بداية عام 2015؛ مما سيشكل عبئًا غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث، والواضح أن المساعدات المالية والاستثمارية التي قدمتها دول الخليج الثلاث (السعودية والإمارات والكويت) التي تُقَدَّر بـعشرين مليار دولار، بعد الإطاحة بالرئيس مرسي، لم تكن كافية لمعالجة الاختلالات المالية والاقتصادية.

مشكلة الحكومة المصرية أنها لا تجد طريقًا آخر سوى الاقتراض المستمر؛ ما تصوَّره قادة الانقلاب من أن المساعدات الخليجية ستخلق مناخًا من التفاؤل، وتُعيد العجلة الاقتصادية للعمل لم يتحقق؛ لا المستثمرون المصريون من كبار رجال الأعمال المؤيدين للانقلاب أَوْفَوْا بوعودهم في ضخِّ استثمارات كبيرة إلى السوق، ولا ساعد الوضع الأمني والسياسي القلق المستثمرين الأجانب على تجاوز مخاوفهم، ولا تراجعت وتيرة الإضرابات العمالية.

من جهة أخرى؛ لم تُجْدِ جهود الحكومة نفعًا في تنشيط القطاع السياحي، الذي اعْتُبِرَ دائمًا أحد أهم مصادر موارد الحكومة والنشاط الاقتصادي على السواء؛ ولا استطاعت وقف التدهور المستمرِّ لقيمة الجنيه المصري؛ وهذا ما جعل إيرادات الدولة من الضرائب والجمارك والرسوم أقلَّ من التوقُّعات؛ وبينما تُخَطِّط حكومة محلب -الذي أعاد السيسي تكليفه برئاسة الحكومة- إلى رفعٍ تدريجي للدعم الحكومي على المحروقات والكهرباء والسلع الأساسية، الذي يستهلك زهاء ربع ميزانية الدولة، فإن أحدًا لا يعرف طبيعة الأثر الذي يمكن أن تتركه سياسة كهذه على السلم الاجتماعي، وإن كان المحتمل أن يسخط قطاع كبير من المصريين على هذه الإجراءات.

مدركًا حجم العبء الاقتصادي/المالي الذي يُواجهه حلفاؤه في القاهرة، أعلن العاهل السعودي عشية الإعلان عن فوز السيسي بالرئاسة عن الدعوة إلى مؤتمر دولي للمانحين، لمساعدة مصر على الخروج من أزمتها المالية/الاقتصادية؛ ولكن تجربة مؤتمرات المانحين السابقة لدول الثورات العربية لم تكن مجدية، ويرجح أن تعود السعودية والإمارات والكويت لتحمل العبء الأكبر في محاولة إنقاذ نظام السيسي من الغرق المالي/الاقتصادي؛ ولكن أحدًا لا يعرف مدى استعداد هذه الدول لمد يد العون من جديد، لاسيما إن استمرَّ مناخ التباطؤ الاقتصادي.

من جهة أخرى، وكما أغلب الحالات المشابهة، تُلقي الأزمات الاقتصادية بعبئها الأثقل على الطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل؛ وفي مصر تمثِّل هذه الطبقات الشريحة الأكبر من المصريين، وستجد حكومة السيسي نفسها أمام مأزق كبير إن حاولت معالجة الأزمة بإلقاء مزيد من الأعباء على الفقراء ومحدودي الدخل؛ مثل: رفع الدعم الحكومي عن المحروقات والسلع الأساسية، وستجد نفسها أمام مأزق لا يقلُّ تعقيدًا إن ألقت بالعبء على طبقة رجال الأعمال والأثرياء، الذين يقفون بقوَّة إلى جانب النظام.

3. ولا تَقِلُّ مسألة إصلاح الدولة تعقيدًا؛ إذ يُدرك الرئيس الجديد أن إبقاء أوضاع القضاء، وأجهزة الأمن ووزارة الداخلية، والتعليم والصحة، ووزارات الخدمات الأخرى على ما هي عليه لن يساعد كثيرًا في كسب دعم شعبي هو في أمسِّ الحاجة إليه، ولن يساعد في إطلاق حيوية اقتصادية؛ ولكن السيسي يُدرك -أيضًا- أن الإطاحة بمرسي وتولِّيه الرئاسة لم يكن ممكنًا دون وقوف مؤسسات الدولة وأجهزتها إلى جانبه؛ إن اختار السيسي الصِّدَام مع أجهزة الدولة؛ فلن يكون موقفها منه أفضل من موقفها من مرسي، وإن تجاهل ملف إصلاح جسم الدولة الهائل، فعليه أن ينسى وعود إمكانات الاقتصادي/الاجتماعي.

جدوى الحل الأمني

على الرغم من المناخ الاحتفالي المبالغ فيه ليوم التنصيب والحرص الكبير -تنظيمًا ودعوات- على أن تُؤَكِّد مراسمه شرعية الرئيس الجديد ونظام حكمه، فقد افتقد الحشد الرسمي في قصر الاتحادية تمثيلاً بارزًا للولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسة؛ لم تغب الدول الغربية عن الحفل؛ ولكنها أرسلت موظفين من الدرجة الثانية لتمثيلها، كتعبير ربما عن اختلافها مع توجُّهات السيسي، أو لشكِّها في إمكانية استمرار نظامه، أو لكليهما معًا. تُدرك واشنطن -وكذلك بريطانيا وفرنسا وألمانيا- حجم التحديات الذي تواجهها مصر، وتُدرك أن انقلاب 3 من يوليو/تموز فاقم من هذه التحديات؛ ليس بين هذه الدول –بالتأكيد- مَنْ يُريد عودة مرسي إلى الحكم؛ ولكنها كانت تُريد عملية تعالج الاستقطاب السياسي؛ حتى يتشكَّل نظام سياسي أكثر استقرارًا، ويحافظ على تحالفه مع الولايات المتحدة؛ لكن السيسي اختار سياسة مفاقمة الاستقطاب والإقصاء؛ فباتت مصر مع الوقت أبعد عن الاستقرار.

والأرجح، أن واشنطن -والعواصم الغربية الأخرى- أوصلت لعبد الفتاح السيسي من قبلُ تصوُّرها لضرورة أن يقوم بمحاولة رأب الصدع السياسي العميق الذي أحدثه، وضرورة أن يسبق السياسي ما هو أمني واقتصادي؛ ولكن رئيس الجمهورية الجديد لم يزل يُراهن -كما يبدو- على أنه سينجح في صناعة استقرار سياسي وأمني دون أن يُقَدِّم تنازلاً ما للإخوان المسلمين والقوى الإسلامية المتحالفة معهم؛ وعلى الرغم من حجم حركة الاحتجاج الشعبي واتساعها، وخسارته لأغلب حلفائه المبكرين، ليس ثمة دليل على أن السيسي يرى الطيف الواسع للمعارضة التي تواجهه، وأن الإخوان ليسوا سوى أحد مكونات هذه المعارضة.

هناك بالطبع مَنْ لاحظوا في خطاب السيسي مساءَ يومِ تنصيبه تكراره لكلمة المصالحة الوطنية؛ ولكن الإشارة للمصالحة لم تأتِ في أي سياق واضح، وبالنظر إلى النهج الذي اختاره في إدارة الأزمة منذ العام الماضي، وإلى المقابلات الصحفية القليلة التي أجراها أثناء الحملة الانتخابية، من الصعب تصوُّر قيامه بخطوة دراماتيكية في هذا المجال، هذا؛ فوق أن حلفاء السيسي في أجهزة الدولة وخارجها لن يقبلوا في هذه المرحلة المبكرة أية خطوات تصالحية في اتجاه القوى الإسلامية، سيكون ثمنها بالتأكيد التضحية برؤوس عدد من أبطال نظام الانقلاب.

لثقته البالغة في الذات، ولوعود الدعم الخليجية المتكررة، سيحاول السيسي -على الأرجح- التعامل مع الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية دون إجراء أي تغيير جوهري في مقاربته الأمنية والإقصائية للشأن السياسي، ربما حتى نهاية العام؛ إن نجح في محاولته فستستمر أوضاع البلاد السياسية على ما هي عليه؛ أما إن أخفق؛ فسيكون مضطرًا إلى البحث عن نهج سياسي مختلف مثل التصالح مع خصومه السياسيين، أو مواجهة مخاطر انفجار شعبي واسع.