رئيس تركيا القادم: حسابات المتنافسين وإستراتيجياتهم

تستعد تركيا لتنظيم أول اختيار لرئيس الجمهورية بانتخابات شعبية مباشرة، ولا يوجد بين المتسابقين الثلاثة مرشح أتاتوركي، أما الأكراد فيناورون ليكونوا القوة المرجحة إذا لم يتحقق الحسم في الدور الأول.
201471472332345734_20.jpg
المتنافسان الرئيسيان على الرئاسة التركية ينتميان إلى خلفيات إسلامية [أسوسيتد برس]

ملخص

أعلن رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان، كما كان متوقعًا، في مطلع يوليو/تموز 2014، وبحضور المئات من أعضاء الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، ترشحه لرئاسة الجمهورية التركية. قبل ذلك بأيام قليلة، كان حزبا المعارضة، حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، قد أعلنا اتفاقهما على ترشيح د. أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي، للانتخابات. وسرعان ما لحق بالاثنين المرشح الكردي، صلاح الدين تمرتاش، الرئيس المشارك لحزب السلم والديمقراطية ذي الميول القومية الكردية.
الملاحظ في هذه الخارطة الانتخابية، أن هذه لن تكون أول انتخابات مباشرة لرئيس الجمهورية وحسب، بل وأول انتخابات تفتقد إلى مرشح ينتمي إلى الدائرة الأتاتوركية التقليدية. وهو ما يعني بالضرورة أن حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية يعترفان صراحة بأن مرشحًا أتاتوركيًا لم يعد بإمكانه الفوز في انتخابات شعبية مباشرة.


مقدمة

أعلن رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان، كما كان متوقعًا، في مطلع يوليو/تموز 2014، وبحضور المئات من أعضاء الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية، ترشحه لرئاسة الجمهورية التركية. قبل ذلك بأيام قليلة، كان حزبا المعارضة، حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، قد أعلنا اتفاقهما على ترشيح د. أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي، للانتخابات. وسرعان ما لحق بالاثنين المرشح الكردي، صلاح الدين تمرتاش، الرئيس المشارك لحزب السلم والديمقراطية ذي الميول القومية الكردية.

بهذا، اكتملت خارطة مرشحي أول انتخابات رئاسية تركية مباشرة منذ تأسيس الجمهورية، المقرر عقدها في 10 أغسطس/آب المقبل. وبهذا، أيضًا، وبعد شهور من الأسئلة حول ما إن كان أردوغان سيترشح للرئاسة وما إن كان حزبا المعارضة الرئيسان سينجحان في التوافق على مرشح مشترك، انطلقت في الفضاء السياسي التركي أسئلة من نوع آخر: ما الذي يعنيه ترشيح إحسان أوغلو عن حزبي المعارضة؟ هل سيستطيع أردوغان تحقيق الفوز في هذه المعركة الانتخابية أيضًا؟ وإن استطاع، فهل سينجح في حسم المعركة من الجولة الأولى؟ وأي رئيس يمكن أن يكونه أردوغان، إن أصبح رئيسًا بأصوات الأغلبية الشعبية، وليس الأغلبية البرلمانية كما عليه أمر من سبقوه من الرؤساء؟

أوزان مختلفة

وُلد أكمل الدين إحسان أوغلو، أول من دخل السباق الرئاسي، بمدينة القاهرة في 1943، لأب كان قد غادر تركيا بمعيّة آخر شيوخ الإسلام العثمانيين، بعد إلغاء السلطنة ومشيخة الإسلام. وقد تلقى إحسان أوغلو تعليمه في جامعتي عين شمس والأزهر، قبل أن يعود لتركيا في مطلع السبعينات، حيث تخرج بدرجة الدكتوراه في جامعة أنقرة. تدرج إحسان أوغلو بعد ذلك في سلك التعليم الجامعي، مكرسًا اهتمامه البحثي في مجال تاريخ العلوم الإسلامية. وقد تولى رئاسة قسم تاريخ العلوم في جامعة إسطنبول طوال الفترة من 1984 إلى 2003. في 2004، قامت حكومة أردوغان بترشيح إحسان أوغلو، الذي تربطه بالدوائر العربية والإسلامية علاقات وثيقة، لمنصب الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، الذي تولاه بالفعل من يناير/كانون الثاني 2005 إلى يناير/كانون الثاني 2014.

ولكن، وبالرغم من أن تولي إحسان أوغلو لأمانة منظمة التعاون الإسلامي ما كان ليتم بدون الدعم السياسي والدبلوماسي الذي وفرته حكومة أردوغان، فإن علاقته بأردوغان وحكومته توترت خلال 2013 لإحجامه عن إدانة الانقلاب العسكري في مصر واتباعه سياسة أقرب لموقف دول الخليج العربية المؤيدة لنظام الانقلاب. وقد يؤدي التعارض بين تحالفاته الخارجية وتوجهات الرأي العام التركي إلى التقليل من حظوظه في المنافسة الرئاسية.

كان المرشح الثاني هو رئيس الحكومة ورئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان. وُلد أردوغان بمدينة إسطنبول في 1954 لأسرة تعود في جذورها لمدينة رايزه في منطقة البحر الأسود؛ وتلقى تعليمه الأولي في مدرسة إمام خطيب الإسلامية، ومنها انتقل لجامعة مرمرة حيث تخرج بدرجة البكالوريوس في الاقتصاد والتجارة. وقد بدأ أردوغان نشاطه السياسي منذ سنوات الجامعة، عندما التحق باتحاد طلاب تركيا المناهض لليسار الماركسي. أصبح أردوغان أيضًا عضوًا نشطًا في حزب الخلاص الوطني، ذي التوجه الإسلامي، الذي أسسه نجم الدين إربكان في مطلع السبعينات، وظل وفيًا لأربكان وعضوًا بارزًا في الأحزاب التي أسسها بعد ذلك طوال أكثر من ربع قرن. في 1994، فاز أردوغان في انتخابات بلدية إسطنبول، وتولى رئاسة بلدية المدينة طوال الأعوام الأربعة التالية؛ وهي الفترة التي شهدت نقلة هائلة في خدمات وأنظمة أكبر المدن التركية ومركزها التجاري والصناعي. وجعلت هذه المحطة من أردوغان شخصية تركية قومية.

حوكم أردوغان، وأدين، في 1999 على إلقاء قصيدة في لقاء جماهيري بمدينة سيرت قبل ذلك بعامين، مما تسبب في سجنه لعدة شهور وحرمانه من الترشح لأي موقع سياسي لخمس سنوات. في 2001، توصل أردوغان لقناعة بأن نهج أربكان وبرنامجه السياسي عاجز عن كسب تأييد الأغلبية الشعبية، وهو ما أدى به، وعدد من رفاقه إلى تأسيس حزب العدالة والتنمية. وفي نهاية العام التالي، اكتسح العدالة والتنمية الانتخابات وحصل على أغلبية برلمانية لا تنازع، أهّلته لتشكيل الحكومة منفردًا. تولّى عبد الله غول، الشخصية الثانية في الحزب، رئاسة الحكومة، إلى أن استطاع أردوغان، بعد تعديل قانوني، الترشح والفوز بمقعد برلماني في انتخابات تكميلية. ومنذ 2003، يقود أردوغان حكومة العدالة والتنمية، محققًا الفوز في تسع جولات انتخابية متلاحقة، بين انتخابات برلمانية ومحلية واستفتاءات شعبية على حزمتين رئيستين للتعديلات الدستورية.

يُنظر إلى أردوغان اليوم، سواء للنهضة الكبيرة التي حققها لتركيا طوال الأحد عشر عامًا من رئاسة الحكومة، أو للسياسة الخارجية النشطة التي اتبعتها حكومته، باعتباره أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ الجمهورية التركية منذ مصطفى كمال. ولكن رئيس الحكومة القوي واجه تحديات صعبة في العام الأخير، بدأت بحركة احتجاج شعبي، نظمتها قوى المعارضة في ميدان تقسيم في الصيف الماضي، وتواصلت مع انفراط العلاقة بين العدالة والتنمية وجماعة غولن، التي يتهمها رئيس الحكومة بمحاولة السيطرة على مقاليد الدولة التركية.

أما المرشح الثالث، فهو صلاح الدين تمرتاش، الرئيس المشارك لحزب السلم والديمقراطية، ذي التوجهات الكردية القومية؛ وهو الحزب الذي تربطه علاقات وثيقة بحزب العمال الكردستاني، الذي خاض معركة مسلحة ضد الدولة التركية منذ منتصف الثمانينات، قبل أن يتوقف عن العمل المسلح وينخرط في مبادرة السلم الوطني والإصلاح التي أطلقها أردوغان قبل عامين. ولد تمرتاش في بالو ألزغ بشرق تركيا في 1973، ودرس القانون بجامعة أنقرة، وفي 2007، أصبح نائبًا في البرلمان التركي عن مدينة ديار بكر، تحت راية حزب المجتمع الديمقراطي، الذي تغير اسمه بعد ذلك إلى السلم والديمقراطية. في 2010، أصبح تمرتاش رئيسًا مشاركًا للحزب؛ وفي العام التالي، برز باعتباره القيادي الرئيس في حركة العصيان المدني الكردية، التي استلهمت تقاليد الثورة المصرية.

ولكن، وإلى جانب أنه أصغر المرشحين سنًا، فالواضح أن خلفية تمرتاش القومية الكردية تجعله أقل المرشحين حظًا. ولا يتوقع أن يحصل في الجولة الأولى من السباق على أكثر من 6 بالمئة من الأصوات؛ والمتوقع بالتالي أن يتم استبعاده في حال ذهب السباق لجولة ثانية.

الملاحظ في هذه الخارطة الانتخابية، أن هذه لن تكون أول انتخابات مباشرة لرئيس الجمهورية وحسب، بل وأول انتخابات تفتقد إلى مرشح ينتمي إلى الدائرة الأتاتوركية التقليدية. وهو ما يعني بالضرورة أن حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية يعترفان صراحة بأن مرشحًا أتاتوركيًا لم يعد بإمكانه الفوز في انتخابات شعبية مباشرة.

حسابات: التصدي لأردوغان أو المراهنة عليه

يراهن حزبا المعارضة الرئيسان في ترشيحهما المشترك لأكمل الدين إحسان أوغلو على الحسابات الرقمية لنتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، التي جرت في 30 مارس/آذار الماضي. فاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية، التي يراها البعض آخر استطلاع رأي يُعتد به، بما يقارب 46 بالمئة من الأصوات. وهكذا، فإن توزيع الأصوات في الانتخابات المحلية لا يجعل أردوغان يحسم السباق من الجولة الأولى، وسيضطر لخوض جولة ثانية أمام إحسان أوغلو؛ حيث تصبح النتيجة مفتوحة على عدة احتمالات، سيما إن نجحت المعارضة في تحسين صورتها أمام الناخب الكردي، أو حتى إقناعه بعدم التصويت في الجولة الثانية. اجتماع المعارضة على إحسان أوغلو استهدف بالتأكيد مثل هذا السيناريو؛ فالأستاذ الجامعي وأمين عام منظمة التعاون الإسلامي السابق ليس أتاتوركيًا، بل يُعرف بتوجهاته المحافظة، وعلاقاته الحسنة بالدوائر الإسلامية، داخل وخارج تركيا. ويحاول إحسان أوغلو، بالتوكيد على علمانيته وحرصه على الميراث الأتاتوركي، تطمين أنصار أحزاب المعارضة المخلصين. كما يحاول، بالتوكيد على حفاظه على موقع الرئيس كرمز للدولة ومدافع عن مصالحها، تطمين أنصار الدولتية التقليديين، من يخشون إطاحة أردوغان بما تبقى من هيمنة الدولة الجمهورية وسيطرتها.

أما حسابات ترشح تمرتاش، الذي يدرك أن لا أمل له في المنافسة، لا في الجولة الأولى ولا في جولة ثانية محتملة، فتختلف قليلاً. فمنذ إطلاق عملية السلام المتعلقة بالمسألة الكردية، واتخاذ حكومة أردوغان جملة من الإجراءات غير المسبوقة، التي حققت اعترافًا تركيًا رسميًا بوجود الأكراد باعتبارهم كتلة ذات مطالب قومية وثقافية، تدرك الأغلبية الكردية أن تحقيق المزيد من مطالبها مرتبط إلى حد كبير بحكومة العدالة والتنمية، وبشجاعة أردوغان على وجه الخصوص؛ فلا توجهات حزب الحركة القومية، ولا ميراث حزب الشعب الجمهوري، يبعث على اطمئنان الأكراد، ولكن القيادات الكردية القومية لم تسلّم أوراقها كلية للعدالة والتنمية؛ وترى أن من مصلحتها توزيع الأصوات على ثلاثة مرشحين ومنع فوز أردوغان من الجولة الأولى. بذلك، يمكن أن يبدو فوزه في الجولة الثانية وكأنه أُنجز بأصوات الناخبين الأكراد، الذين منحوا تأييدهم لتمرتاش في الأولى.

تقوم حسابات أردوغان، من جهة ثالثة، على ضرورة حسم السباق من الجولة الأولى، واضعًا في الاعتبار عدة مسائل:
1. أن هذه انتخابات قومية وليست محلية؛ ففي حين أن الأخيرة تفرض على الناخب اعتبارات لا حصر لها، على المستوى المحلي، والشخصي، والعائلي، فإن سلوك الناخب التركي يختلف إلى حد كبير عندما يتعلق الأمر بمستقبل البلاد ككل.

2. أن حزب العدالة والتنمية كان دائمًا الحزب الأكبر في مقاطعات الأغلبية الكردية، وأن قطاعًا كبيرًا من الناخبين الأكراد لن يستجيب للمناورات السياسية، بل سيعطي صوته من البداية لمن يعتقد أنه الأفضل لحماية عملية السلام وضمان مستقبل البلاد.

3. ليس ذلك وحسب، بل إن الأصوات التي ذهبت لمرشحي الأحزاب الإسلامية الصغيرة في المحليات، ستصب لصالح أردوغان في السباق الرئاسي.

4. تقوم حملة أردوغان الانتخابية على أن الرئيس المقبل، كونه منتخبًا مباشرة من الشعب، لن يكون شخصية رمزية، أو ممثلاً لمصالح الدولة، بل رئيسًا فعالاً يأخذ في الاعتبار مصالح الشعب والدولة على السواء. وفي حين أن أردوغان يتمتع بسجل سياسي طويل، فإن منافسه الرئيس يكاد يكون وافدًا مفاجئًا على الساحة السياسية التركية؛ أو كما قال أردوغان في خطاب بمدينة سمسون (6 يوليو/تموز): "أنا لم أهبط للسياسة من الفضاء".
وليس ثمة شك في أن قانون المواد الست، الذي أُقرّ في البرلمان يوم 10 يوليو/تموز، والمتعلق بعملية السلام الكردية، يؤكد التزام العدالة والتنمية بدفع العملية إلى الأمام، ويصب في حسابات الرئاسة الأردوغانية. ولا يقل أهمية في الكشف عن نوايا أردوغان برنامج الرئاسة الذي أعلنه رئيس حزب العدالة والتنمية يوم 12 يوليو/تموز، والذي أكد فيه على أنه سيعمل عند توليه الرئاسة مباشرة من أجل وضع دستور جديد للبلاد، يتضمن تغيير نظام الحكم وإعادة توزيع السلطات بين رئيس الجمهورية والحكومة.

في النهاية، فإن المؤكد أن فوز أردوغان في السباق من الجولة الأولى سيمنحه تفويضًا معنويًا لوضع تصوره للرئاسة موضع التنفيذ، مهما كان رئيس الحكومة الذي سيخلفه. ولكن إخفاقه في تحقيق هذا الفوز، سيجعله أقل طموحًا في تعامله مع مهمات رئيس الجمهورية، والحدود الفاصلة بين سلطات الرئيس ورئيس حكومته.

ترتيبات جديدة

تنتهي ولاية الرئيس التركي الحالي، عبد الله غول، يوم 28 أغسطس/آب. ولذا، فما أن تنتهي الانتخابات الرئاسية، فسيصبح على أردوغان التنحي عن موقعه في رئاسة الحكومة، في حال فاز بموقع رئيس الجمهورية، أو الاختيار بين الاستقالة أو إكمال ولايته في رئاسة الحكومة، في حال خسر السباق. أيًا كانت النتيجة، فستدخل تركيا بعد الانتخابات الرئاسية عهدًا جديدًا، يبدأ من أغسطس/آب المقبل، أو تتأخر بدايته إلى ربيع العام المقبل.

بافتراض فوز أردوغان، فعلى رئيس الجمهورية، قبل نهاية ولايته، أن يسمي رئيسًا جديدًا للحكومة. السؤال الآن هو: من سيكون هذا الرئيس المقبل للحكومة التركية؟ وهل سيكون رئيسًا انتقاليًا، تنتهي مهمته عند الانتخابات البرلمانية المقبلة، أو سيكون بالفعل الخليفة المرتقب لأردوغان؟ هذا هو السؤال الذي يشغل حزب العدالة والتنمية، إلى جانب حملة الانتخابات الرئاسية، التي انطلقت بالفعل منذ 11 يوليو/تموز.

يقول أحد الآراء، ويؤيده عدد من الوزراء وكبار شخصيات الحزب، مثل بولنت أرينتش وبشير أطلاي، إن الأفضل لمستقبل الحزب تولي رئيس حكومة انتقالي، على أن يتم إقناع عبد الله غول بالعودة للعمل السياسي، ويتم تسميته في مؤتمر الحزب الطاريء، المتوقع انعقاده في أكتوبر/تشرين الأول المقبل 2014، رئيسًا للحزب. بذلك، سيقود غول الحزب في الانتخابات البرلمانية في ربيع 2015، ويتولى رئاسة الحكومة في حال فاز العدالة والتنمية في الانتخابات. المشكلة، أن أغلبية مؤيدي غول هم من القيادات التي ينطبق عليها قانون الحزب الداخلي الذي يمنع احتلال مقعد برلماني لأكثر من ثلاث دورات متتالية. بمعنى، أنهم لن يخوضوا الانتخابات البرلمانية المقبلة. والأرجح، نظرًا لاعتبارات السن، أن أغلبهم سيتقاعد من العمل السياسي. مهما كان الأمر، فإن ذهاب العدالة والتنمية لهذا الخيار يعني أن شخصية رئيس الحكومة الانتقالي لن تكون ذات أهمية أو محل خلاف كبير، طالما أنه لن يقود الحزب والحكومة إلا لعدة شهور.

يذهب الرأي الثاني إلى أن العدالة والتنمية، من موقعه في إدارة شؤون البلاد، سيواجه مهمات مختلفة عما واجهه في حقبة حكومة أردوغان. إن كانت أولوية العدالة والتنمية في العقد الماضي العمل على هدم النظام القديم وتخليص البلاد من قبضته، فلابد في المرحلة القادمة من بناء مؤسسي لدولة جديدة، تقود تركيا في القرن الحادي والعشرين. بمعنى أن الحزب يحتاج قيادة شابة جديدة كلية، لا يبدو أن عبد الله غول مؤهل ليكون على رأسها. فوق ذلك، فسواء على مستوى معركة البناء الداخلي أو السياسة الخارجية، يُظهر غول حرصًا على صورته وعلاقاته أكثر من حرصه على تبني السياسات الضرورية. الأخطر، يقول هؤلاء، أن وجود أردوغان في رئاسة الجمهورية وغول في رئاسة الحكومة سيصنع توترًا مستمرًا في علاقات المؤسستين؛ مما سيترك أثرًا سلبيًا على مستقبل الحزب والبلاد. وإن كان بعض من قيادات الحزب والحكومة الكبار يؤيد عودة غول، كما يشير أنصار هذا الرأي، فالأغلبية من كوادر الحزب تؤيد تولي شخصية مثل أحمد داوود أوغلو، في المرحلة المقبلة، قيادة الحزب ورئاسة الحكومة.

عقدة الصلاحيات التنفيذية

بالرغم من الأهمية البالغة للانتخابات الرئاسية، تغيب عن الساحة السياسية التركية مظاهر التوتر والاستقطاب الحاد التي شهدتها في الأسابيع القليلة السابقة على انتخابات مارس/آذار المحلية، التي كانت بالتأكيد أقل أهمية وأثرًا على مستقبل البلاد السياسي. السبب، ربما، أن نتائج الانتخابات المحلية، التي أُجريت على خلفية من انقسام سياسي عميق وشعور في أوساط المعارضة بأنها تلعب الفرصة الأخيرة لكسر أردوغان ومنعه من الترشح لمنصب الرئاسة، قد حسمت الكثير من الصراع. فاز العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية بفارق كبير، وبات أردوغان مرشح الحزب القوي لرئاسة الجمهورية، على أية حال.

إن فاز أردوغان في هذه المعركة، وكل الدلائل تشير إلى فوزه، فلديه فرصة للبقاء رئيسًا لدورتين كاملتين، أي حتى 2024. ومن الصعب الآن توقع الكيفية التي سيدير بها موقع الرئاسة أو تجسيد عزمه على أن يكون أكثر من رئيس رمزي وممثل لمصالح الدولة. والمرجح، بعد أن جعل أردوغان هذا جزءًا من برنامجه الانتخابي، أن يعود العدالة والتنمية بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، في حال فوزه بها، لمحاولة إقرار تعديل دستوري يعدل مهمات الرئيس ورئيس الحكومة، أو حتى يضع دستورًا جديدًا كلية، سواء بتوافق حزبي أو بقوة الأغلبية. في كل الأحوال، إذا لم يقر مثل هذا التعديل، ستظل الدولة التركية تحمل في داخلها أزمة مزمنة، وُلدت من تعديل 2007 الدستوري، الذي جعل رئاسة الجمهورية منصبًا منتخبًا مباشرة من الشعب، فيما أبقى على مهماته الرمزية السابقة.

بيد أن الشخصية التي ستخلف أردوغان في رئاسة الحكومة ستلعب دورًا بالغ الأهمية في سياق هذه الأزمة، فقد تبقيها مكتومة نسبيًا، أو تحولها إلى عنصر توتر واضطراب في آلية عمل الجهاز التنفيذي؛ حيث سيساهم تفاهم رئيس الحكومة القادم مع رئيس الجمهورية، في توزيع الصلاحيات، بجعل قيادة البلاد سلسة ومنظمة، إلى أن تصل الطبقة السياسية التركية إلى توافق دستوري حول إعادة النظر في سلطات وصلاحيات أذرع الدولة المختلفة.

ما لا يقل أهمية هو النهج الذي سينتهجه رئيس الحكومة الجديد وحكومته لتوكيد دور حزب العدالة والتنمية في قيادة البلاد خلال المرحلة الجديدة؛ فقد عرف تاريخ الجمهورية العديد من الأحزاب التي صعدت، بل وحكمت، ولكنها سرعان ما انزوت أو تلاشت بعد اختفاء مؤسسها الكاريزمي أو وفاته. تحدي العدالة والتنمية الأكبر في الشهور والسنوات القليلة المقبلة أن يثبت للشعب أنه حزب أكبر من كاريزما القائد، وأن وجوده وقيادته لتركيا ضرورة تتجاوز دور أية شخصية. وليس ثمة شك في أن هذا التحدي يرتبط ارتباطًا لا ينفصم بتصور العدالة والتنمية لتركيا، تركيا البلاد والدولة، في المستقبل القريب، سيما وقد باتت تركيا محاطة بمتغيرات مشرقية زلزالية، لم يشهدها المشرق منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.