(الجزيرة) |
ملخص ومن النقاط الإيجابية التي ستكون في صالح داوود أوغلو أنه حافظ على علاقة وثيقة وثقة متبادلة مع أردوغان طوال السنوات الماضية، وخاض إلى جانبه كل المعارك الرئيسة التي واجهتها الحكومة في العامين الماضيين. وإلى جانب تمثيله لجيل جديد في قيادة الحزب، لم يُسجَّل له موقف معارض من فكرة تعديل الدستور أو وضع دستور جديد كليّة، ولا من فكرة إعادة بناء الدولة. |
لم يعد ثمة شك، عندما أعلن رئيس الجمهورية المنتخب، رئيس الوزراء وزعيم حزب العدالة والتنمية، رجب طيب أردوغان، بعد اجتماع اللجنة التنفيذية المركزية للحزب يوم 21 أغسطس/آب، أن اللجنة اتفقت على تقديم مرشح واحد لمؤتمر الحزب الطارئ يوم 27 من الشهر نفسه، أن د. أحمد داوود أوغلو، سيكون رئيس الحكومة التركية المقبل. بعد شهور من التخمينات، حسم أردوغان وحزب العدالة والتنمية الموقف من مستقبل الحزب ومستقبل حكومة البلاد، مباشرة عشية تحقيق الفوز برئاسة الجمهورية، في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المباشرة الأولى في تاريخ البلاد، التي عُقدت في 10 أغسطس/آب 2014. وكان الحسم قاطعًا، بلا شك؛ فبعد أن برزت اقتراحات تدعو لفصل رئاسة الحكومة عن قيادة الحزب، أكد أردوغان في إعلانه أن مثل هذا الفصل لن يحدث، وأنه ضار بمستقبل الحزب وموقع رئيس الحكومة. ولذا، فالمتوقع أن يجمع داوود أوغلو، بعد توكيد ترشيحه في مؤتمر الحزب الطارئ، بين قيادة الحزب ورئاسة الحكومة.
لم يأخذ العدالة والتنمية قراره هذا بسهولة، وكان ثمة تجاذبات حتى اللحظة الأخيرة تحاول أن تدفع الحزب نحو مسار مختلف، كما أن من المبكر القول بأن عهد داوود أوغلو في الحكم قد بدأ. فيما يلي، قراءة مختصرة للأسباب التي أدت إلى صعود وزير الخارجية التركي والأكاديمي البارز إلى أعلى مواقع السياسة والحكم في تركيا، وللمهمات التي تنتظره، قبل أن يؤكد بالفعل قيادته للحزب والدولة.
من الأكاديمية إلى السياسة
وُلد أحمد داوود أوغلو لعائلة تركية محافظة في 1959 بمدينة تاشكنت من محافظة قونيا، ولكنه تلقى تعليمه المدرسي في مدرسة تركية-ألمانية بمدينة إسطنبول. ومنها، انتقل لدراسة العلوم السياسية والاقتصاد بجامعة البوسفور، التي حصل منها أيضًا على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية والعلوم السياسية. خلال التسعينات، مارس داوود أوغلو التدريس الجامعي بجامعة مرمرة، وجامعة بايكنت، والجامعة الإسلامية بماليزيا. كما مارس الكتابة الصحفية بين 1994-1999 في صحيفة يني شفق. وإلى جانب التركية والألمانية والإنجليزية، يتحدث داوود أوغلو العربية، التي تعلمها في عمان والقاهرة. نشر داوود أوغلو ثلاثة أعمال رئيسية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أبرزها: العمق الاستراتيجي، الذي تُرجِم لعدة لغات؛ وعشرات الدراسات الأكاديمية.
عُرف داوود أوغلو بقربه من الدوائر الإسلامية خلال سنوات الدراسة والعمل الجامعي، وربطته علاقات وثيقة بالشبان الإصلاحيين في حزب الرفاه، الذين اختاروا في 2001 طريقًا مختلفًا عن طريق زعيم الحزب التاريخي نجم الدين أربكان، وأسسوا بالتالي حزب العدالة والتنمية. في نوفمبر/تشرين الثاني 2002، حقق العدالة والتنمية فوزًا ساحقًا في الانتخابات العامة، ومضى ليشكّل حكومته منفردًا في مطلع 2003. ولأن زعيم الحزب رجب طيب أردوغان كان لم يزل ممنوعًا بحكم قضائي من العمل السياسي، قاد رفيقه عبد الله غول حكومة الحزب الأولى لعدة شهور. كان عبد الله غول هو من دعا البروفسور داوود أوغلو للعمل معه، بمنصب سفير متجول، مستشارًا للشؤون الخارجية. وعندما رُفع الحظر عن أردوغان وتولى رئاسة الحزب والحكومة، أبقى أردوغان داوود أوغلو مستشارًا له للشؤون الخارجية، وكلّفه بالفعل بعدد من الملفات بالغة الحساسية، بما في ذلك العراق، والمباحثات السورية-الإسرائيلية، التي لعبت فيها أنقرة دور الوسيط.
في ربيع 2009، عُيّن داوود أوغلو وزيرًا للخارجية في حكومة أردوغان الثانية، وكان تعيينه في المنصب من خارج البرلمان واحدة من الحالات قليلة الحدوث في تاريخ النظام السياسي التركي؛ ولكنه سرعان ما أصبح عضوًا في البرلمان عن العدالة والتنمية بعد انتخابات 2011، بعد فوزه الساحق بمقعد عن قونية. وبالرغم من أنه أصبح منذ ذلك الوقت الشخصية المهيمنة على السياسة الخارجية التركية، فالمؤكد أن السياسات التي تبناها خلال السنوات الخمس الماضية تبلورت من خلال تفاهم كامل مع رئيس الحكومة أردوغان.
أعلن داوود أوغلو منذ توليه وزارة الخارجية، في انسجام مع خبرته السابقة ورؤيته لموقع تركيا ودورها، أن تركيا ليست مجرد جسر بين الشرق والغرب، بل هي لاعب أساسي على ساحة الإقليم والعالم، مشيرًا إلى أهمية الميراث العثماني المشترك لشعوب الجوار التركي. كما أكد على أنه سينتهج سياسة تصفير المشاكل مع جوار تركيا كله. وهكذا، نشطت الدبلوماسية التركية في العامين الأولين من ولايته لبناء أسس علاقات جديدة مع أرمينيا، وأذربيجان، وصربيا، واليونان، وإيران، وسوريا، والعراق، والسعودية، ومصر، ودفْع علاقات تركيا بأوروبا وأميركا وروسيا والصين إلى الأمام، وتأسيس موقع لتركيا في القارة الإفريقية. ولكن أنقرة، كما عواصم العالم الأخرى، فوجئت باندلاع حركة الثورة العربية، التي ساندتها بقوة، باعتبارها حركة ديمقراطية، تؤسس لعالم عربي جديد وتسير على خطى تركيا الإصلاحية. ولكن تعثر حركة الثورة العربية أدى في النهاية إلى تورط تركيا في حرب أهلية سوريّة، وفي فتور العلاقات مع إيران، وفي انقطاعها مع مصر، وفي توتر مكتوم مع السعودية والإمارات، اللتين تقفان ضد عملية التغيير في المشرق العربي.
وهكذا، وبالرغم من الحيوية البالغة التي اكتسبتها السياسة الخارجية التركية تحت قيادته، وُجّهت لداوود أوغلو انتقادات متكررة من الأحزاب والصحف المعارضة، وصفت سياسة تصفير المشاكل بالفشل. جانب من هذه الانتقادات كان محقًا، وجوانب أخرى ليست كذلك. الحقيقة، أن سياسة تصفير المشاكل طُرحت من البداية ببعض من المثالية والغموض؛ ففي حين كان لابد من إدراك حقيقة أن سياسة دولة كبيرة إقليميًا وفاعلة خارجيًا لا يمكن أن تخلو من المشاكل، فربما كان لابد من أن تُطرح السياسة باعتبارها هدفًا بعيد المدى، أو مثالاً يحتذى، بغض النظر عن إمكانية تحققها في الواقع المعقد للمشرق والبلقان والقوقاز. من جهة أخرى، فإن أغلب المشاكل التي واجهتها سياسة تركيا الخارجية بعد 2011 لم تكن من صنعها، بل نتيجة تعقيدات الإقليم ومواريثه التاريخية الحديثة، التي قُدّر لها أن تصطدم مرة واحدة بأشواق الشعوب في الحرية والديمقراطية والإصلاح.
لماذا اختير؟
أشار أردوغان، في إعلان يوم 21 أغسطس/آب، إلى عدد من الأسباب التي رجحت اتفاق الحزب على ترشيح داوود أوغلو لرئاسة الحزب والحكومة، أولها: موقفه الصلب في المعركة التي خاضتها حكومة العدالة والتنمية ضد جماعة غولن ومحاولتها بناء كيان مواز داخل جسم الدولة التركية. الثاني: أن داوود أوغلو لم يزل شابًا، وأنه لم يقضِ إلا فترة برلمانية واحدة، مما يؤهله، طبقًا لقوانين الحزب الداخلية، لأن يبقى عضوًا في البرلمان لفترتين أخريين. بمعنى، أن اختياره سيجدد دماء الحزب والحكومة، ويحافظ على استقرار كليهما لأكثر من ثماني سنوات أخرى، كذلك.
هذه أسباب وجيهة بلاشك؛ ولكن ثمة أسباب أخرى، لم يذكرها أردوغان في بيانه؛ إذ لم يكن خافيًا خلال الشهور القليلة السابقة على الانتخابات الرئاسية أن أمام العدالة والتنمية خيارين رئيسيين لحل مسألة خلافة أردوغان في قيادة الحزب والحكومة، الأول: الاتفاق على شخصية انتقالية، تتولى الأمور إلى أن يستطيع عبد الله غول، الرئيس المنتهية ولايته، العودة إلى البرلمان، ومن ثم رئاسة الحكومة. وليس ثمة شك أن الاقتراحات التي تقدمت بها بعض شخصيات العدالة والتنمية من الجيل القديم، المؤيدة لغول، حول فصل رئاسة الحكومة عن زعامة الحزب، كانت تصب في هذا الاتجاه. فلم يكن لدى هؤلاء مانع من تولي أي كان لرئاسة الحكومة، على أن يصبح غول بمجرد انتهاء ولايته في رئاسة الجمهورية رئيسًا للحزب، إلى أن تتسنى له العودة للبرلمان. أما الخيار الثاني، فكان ما تم بالفعل، أي تجاهل غول وطموحاته في العودة، والتوافق على شخصية من الجيل الثاني، ومنحه فرصة كاملة لقيادة الحكومة والحزب معًا.
الذين روجوا لفكرة عودة غول، إلى جانب الاعتبارات الشخصية الإنسانية البحتة، ظنّوا أنه الوحيد، سواء من جهة التجربة أو الكاريزما، المؤهل لملء الفراغ الذي سيتركه أردوغان في الحزب ورئاسة الحكومة، ولكن معارضي سيناريو عودة غول كانوا كثيرين؛ يقول هؤلاء: إن أردوغان خاض معركة بالغة الخطورة وغير مضمونة النتائج في 2007 لـتأمين رئاسة غول للجمهورية؛ ولكن العلاقات بين الرجلين خلال السنوات السبع الماضية، سيما في العامين الأخيرين، لم تكن سلسة دائمًا؛ فقد أظهر غول ترددًا واضحًا في دعم السياسة الواضحة والمقاتلة التي اتبعها أردوغان ضد الانقلاب في مصر، وضد متظاهري تقسيم في صيف العام الماضي، وضد مؤامرة جماعة غولن ومحاولتها السيطرة على قرار الدولة. هذه السياسة الواضحة والمقاتلة، يقول منتقدو غول، هي التي حمت تركيا من المؤامرات ومن أن تقع فريسة الاضطرابات التي عصفت بالمشرق في العامين الماضيين. فوق ذلك، يشير معارضو سيناريو عودة غول، إلى أن رئيس الجمهورية المنتهية ولايته لا يؤيد مشروع أردوغان بسنّ دستور جديد بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، يعيد بناء الدولة التركية ويعزز من دور رئيس الجمهورية في قرار البلاد وسياساتها. وسيكون وجود غول في رئاسة الحكومة، بالتالي، مصدر قلق وتوتر في رأس الدولة؛ مما سيترك أثرًا سلبيًا على حركة البلاد السياسية والاقتصادية وعلى موقع العدالة والتنمية في الحكم.
داوود أوغلو، من جهة أخرى، بالرغم من أنه يحمل شخصية مستقلة، حافظ على علاقة وثيقة وثقة متبادلة مع أردوغان طوال السنوات الماضية، وخاض إلى جانبه كل المعارك الرئيسة التي واجهتها الحكومة في العامين الماضيين. وإلى جانب تمثيله لجيل جديد في قيادة الحزب، لم يُسجَّل له موقف معارض من فكرة تعديل الدستور أو وضع دستور جديد كليّة، ولا من فكرة إعادة بناء الدولة.
في الطريق إلى عهد جديد
يتولى أردوغان مهام رئاسة الجمهورية رسميًا مساء يوم 28 أغسطس/آب. المفترض، حسب جدول العدالة والتنمية الزمني، أن يكون داوود أوغلو قد انتُخب في مؤتمر الحزب الطارئ، في اليوم السابق، 27 أغسطس/آب، رئيسًا للحزب ومرشحًا وحيدًا لرئاسة الحكومة. تنتهي رئاسة أردوغان للحكومة بمجرد توليه مهام رئاسة الجمهورية، ويتولى داوود أوغلو رئاسة الحكومة بصورة مؤقتة، إلى أن يكلفه الرئيس الجديد بتشكيل حكومة جديدة. تشكيل الحكومة هو إذن أول التحديات أمام داوود أوغلو، وعليه في إنجاز أولى مهامه الرسمية أن يأخذ في الاعتبار عدة مسائل، منها: أن يحافظ على الوزراء الناجحين، سيما في المجموعة المالية-الاقتصادية، الذين يُعتبر وجودهم مطمئنًا لقوى السوق والدوائر المالية-الاقتصادية؛ ومنها كذلك: أن يحاول إرضاء مراكز القوى الرئيسة داخل الحزب، وأصحاب الطموحات على وجه الخصوص، إن لم يكن في ذلك ما قد يضرّ بكفاءة الحكومة الجديد وأدائها. ومنها: أن لا يتعمد بصورة ما استفزاز رئيس الجمهورية. ومنها: إضافة إلى ذلك كله، أن يحيط نفسه بعدد من الوزراء والمستشارين الأكْفاء، المؤمنين ببرنامجه، والقادرين على سدّ أي عجز محتمل لديه.
بيد أن تركيا لن تدخل عهد داوود أوغلو مباشرة بعد تشكيل حكومته؛ فلتوكيد جدارته برئاسة الحكومة وقيادة الحزب الأكبر والأكثر تأثيرًا في تركيا، لابد أن يقود داوود أوغلو العدالة والتنمية نحو فوز جديد، قاطع وصريح، في الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقرر لها ربيع أو بداية صيف 2015. وهذه فترة قصيرة، بلا شك، لابد لحكومة داوود أوغلو خلالها أن تحافظ على معدلات النمو والاستقرار الاقتصادي الحالي، وأن تتخذ مزيدًا من الخطوات التي تؤكد التزامها بسياسة السلم والمصالحة، الخاصة بحل المسألة الكردية، وأن تشق طريقها في خضم معضلات الإقليم المتفاقمة، بأكبر قدر من المكاسب وأقل الخسائر. على المستوى الشخصي، وبعد سنوات طويلة من الحياة الأكاديمية والعمل السياسي المتمحور حول السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، على رئيس الحكومة الجديد أن يتحرر من عباءة الدبلوماسية التركية، وأن يحتضن مهمات رئاسة الحكومة المختلفة، من الطرق والجسور، إلى سياسات الطاقة وأرقام التضخم والعجز التجاري، وصولاً إلى إدارة العلاقات مع دول الجوار ومشاكلها.