يمثل الإعلان عن تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة أحد أهم التطورات السياسية التي شهدتها إسرائيل منذ الإعلان عنها عام 1948. فهذه الحكومة، التي تعتمد في بقائها على مشاركة قوى اليمين الديني المتطرف، تتجه إلى تبني سياسات قد تسهم في إحداث تحولات جذرية في بيئة الصراع مع الفلسطينيين من ناحية، ومن ناحية أخرى تؤسس لوضع نهاية لطابع العلاقة القائم بين الدين والدولة في إسرائيل.
تضم الحكومة الجديدة، إلى جانب حزب الليكود، حركات دينية تنتمي إلى كل من: "التيار الحريدي" المعروف بتشدده "الفقهي" في مقاربة القضايا المتصلة بعلاقة الدين بالدولة، و"التيار الحردلي" الذي يجمع بين التشدد "الفقهي" والتطرف القومي، وينطلق هذا الأخير من رؤى دينية قومية متطرفة تدعو إلى إنهاء الصراع مع الشعب الفلسطيني بحسم السيطرة على الأرض.
تمثل التيار الحريدي في الحكومة الإسرائيلية الجديدة حركتا "شاس" برئاسة وزير الداخلية والصحة الحاخام أرييه درعي، و"يهودت هتوراه" بزعامة وزير الإسكان الحاخام إسحاق غولدكناف، في حين يمثل التيار الحردلي كل من حركة "المنعة اليهودية" بقيادة وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير، و"الصهيونية الدينية بقيادة وزير المالية بتسلال سموتريتش(1). وعلى الرغم من أن معظم الحكومات التي سبق أن شكلها الليكود قد شاركت فيها أحزاب دينية، فإن هذه هي الحكومة الأولى في تاريخ إسرائيل التي منحت تأثيرا كبيرا وحاسما للتيار الديني "الحردلي".
ترصد هذه الورقة الأسباب التي أرغمت نتنياهو على الاعتماد على قوى اليمن الديني في تشكيل حكومته الجديدة، وتستعرض المحددات الرئيسة التي ستؤثر في طريقة إدارة الحكومة للصراع مع الشعب الفلسطيني، وفي مواجهة التحديات الإقليمية، وكذلك تلك التي ستؤثر في وجهة سياساتها على الصعيد الداخلي. وتستشرف انعكاسات سياسات الحكومة الجديدة على الواقع الفلسطيني وعلاقات إسرائيل الإقليمية والدولية، كما ستقف على التداعيات المتوقعة على تماسك المجتمع الإسرائيلي نتيجة لتوجهات هذه الحكومة.
مسوغات تحالف نتنياهو مع اليمين الديني
سجلت قوى اليمين الديني في الانتخابات الأخيرة إنجازات غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل. فقد حازت 32 مقعدا، وهو ما يمثل أكثر من ربع مقاعد الكنيست؛ وذلك بعد أن كانت ممثلة في الكنيست السابق بـ22 نائبا. وقد مثلت النتائج التي حصلت عليها تحديدا القوى الحردلية، مفاجأة الانتخابات؛ حيث حصلت "الصهيونية الدينية" على أكثر من ضعف ممثليها في الكنيست السابق، إذ قفز تمثيلها من 6 نواب إلى 14 نائبا. وكان لافتا أن حركة "المنعة اليهودية" التي تعد الأكثر تطرفا بين قوى التيار الحردلي في كل ما يتعلق بالموقف من الصراع مع الشعب الفلسطيني، قد ضاعفت قوتها سبعة أضعاف، حيث قفز تمثيلها من نائب إلى سبعة نواب. في المقابل حافظ حزب الليكود تقريبا على تمثيله في الكنيست، حيث حصل على 32 مقعدا؛ وهو ما يعني أن نواب اليمين الديني يشكلون نصف الأغلبية البرلمانية التي تستند إليها الحكومة الجديدة.
وتعكس نتائج الانتخابات الأخيرة التحولات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي، ولا سيما على الصعيد الديمغرافي. فنسبة التكاثر الطبيعي في أوساط الحريديم تبلغ ثلاثة أضعاف نسبة تكاثر العلمانيين؛ حيث يبلغ معدل ولادات المرأة الحريدية سبع ولادات(2). وتشير التقديرات إلى أن الحريديم سيضاعفون عددهم كل 16 عاما، في حين أن بقية الفئات سيتضاعف ثقلها الديمغرافي مرة كل 37 عاما(3). وهذا يعني أن إسهام التيار الحريدي في تعزيز قوة تمثيل اليمين الديني في الجولات الانتخابية القادمة سيتعاظم.
وتدل أنماط تصويت الفئات الاجتماعية على حدوث مزيد من التطرف "القومي" في توجهات الشباب الإسرائيلي، حيث إن الإنجاز الكبير الذي حققته "المنعة اليهودية" جاء نتيجة تصويت الجنود في الخدمة الإجبارية(4)؛ إذ صوت حوالي 30% من الجنود للحركة(5). ولعبت مخرجات العملية التعليمية في المدارس الإسرائيلية وتغليب المضامين والقيم الدينية دورا مهما في تشرب النشء اليهودي "الأفكار المتطرفة"؛ مما أسهم في تعاظم التأييد لليمين الديني(6).
وقد توجه نتنياهو لتشكيل حكومته الجديدة، اعتمادًا على التحالف مع قوى اليمين الديني المتطرف، على الرغم من أنه لا توجد فروق أيدلوجية بين حزب الليكود الذي يقوده، والأحزاب اليمينية الأخرى التي شكلت الحكومة السابقة وتناوب على رئاستها نفتالي بينيت ويائير لبيد. ولعبت الملفات الجنائية وقضايا الفساد التي يُحاكم فيها نتنياهو دورا رئيسا في دفعه إلى التحالف مع قوى اليمين الديني المتطرف. فنتنياهو يسعى لأن يسنّ الكنيست قانونا يعفي رئيس الحكومة والوزراء والنواب من المحاكمة ما داموا يشغلون مواقعهم الرسمية، وقد أطلق على هذا القانون "القانون الفرنسي"#a7
. لكن من أجل تمرير القانون الفرنسي فإن نتنياهو معنيّ بتمرير قانون آخر يجرّد المحكمة العليا من صلاحية إعادة النظر في القوانين التي يسنّها الكنيست حتى لا تفتي بعدم دستورية القانون الفرنسي؛ وقد أطلق على هذا القانون قانون "التغلب". وبعبارة أوضح فإن هذا القانون يجرّد المحكمة العليا من صلاحية الاعتراض على القوانين التي يسنّها الكنيست أو القرارات التي تتخذها الحكومة.
وباستثناء الليكود وقوى اليمين الديني، فإن جميع الأحزاب الإسرائيلية الأخرى تعارض سنّ هذه القوانين وتعدها "وصفة للقضاء على الديمقراطية الإسرائيلية"، ولشرعنة الفساد، فضلًا عن أنها تأتي لدواع شخصية فقط(8).
وإذا كان نتنياهو معنيًّا بتمرير قانون "التغلب" لدواع شخصية، فإن قوى اليمين الديني أكثر تحمّسًا لتمريره لأنه يخدم توجهاتها الأيدلوجية إزاء القضايا المتعلقة بطابع العلاقة بين الدين والدولة، والصراع مع الشعب الفلسطيني. هذا القانون سيضمن لقوى اليمين الديني تمرير القوانين التي تكرّس، حسب منطلقاتها، الطابع اليهودي الديني لإسرائيل، وسيمكنها من تمرير التشريعات واتخاذ القرارات الحكومية التي تساعد على "حسم الصراع" مع الفلسطينيين، دون رقابة قانونية حقيقية.
التوجهات السياسية للحكومة الجديدة
تلعب ثلاثة محددات رئيسة دورا رئيسا في توجيه سياسات الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وهي:
أولا: المنطلقات الأيدلوجية للأحزاب المشاركة فيها: تدعم جميع الأحزاب المشاركة في الحكومة الجديدة الاستيطان وتهويد الضفة الغربية والقدس، وتنادي بإضفاء شرعية على كل البؤر الاستيطانية التي دشنت في الضفة بدون إذن حكومة وجيش الاحتلال، وتعارض قيام الدولة الفلسطينية ومنح الفلسطينيين أي قدر من السيادة على الأرض، وترفض استئناف "عملية السلام" ومسار تسوية الصراع(9). وفضلًا عن ذلك، تتبنى بعض أحزاب الحكومة مواقف أكثر تطرفا في سعيها لحسم الصراع لصالح إسرائيل، فحركة "الصهيونية الدينية" تطالب بضم منطقة "ج" -التي تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية- إلى إسرائيل من دون منح الفلسطينيين الذين يقطنون فيها حقوقا سياسية(10). وتعد حركة "المنعة اليهودية" أكثر الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم تطرفًا، في كل ما يتعلق بالصراع مع الشعب الفلسطيني، حيث يدعو البرنامج العام للحركة صراحة إلى تهجير فلسطينيي الضفة الغربية والقدس وفلسطينيي الداخل وفرض السيادة الإسرائيلية على كل الأراضي التي احتلت عام 1967، وينص على وجوب فرض السيادة اليهودية على المسجد الأقصى بوصفه "ملكا للشعب اليهودي"(11). وتطالب الحركة بإجراءات عملية لمواجهة النضال الفلسطيني؛ حيث يطالب زعيمها بن غفير بفرض حكم الإعدام على منفذي العمليات وطرد عوائلهم "ومن يؤيدهم" إلى خارج فلسطين، وتكثيف التصفيات الجسدية، بوصفها أحد الإجراءات في مواجهة المقاومة(12).
ثانيا: الاتفاقات الائتلافية: تضفي الاتفاقات الائتلافية التي تشكلت الحكومة الإسرائيلية على أساسها، شرعية على ضم أجزاء من الضفة الغربية. جاء في الاتفاق الائتلافي بين الليكود و"الصهيونية الدينية"، أن الحكومة الجديدة تلتزم بفرض "السيادة الإسرائيلية" في الضفة الغربية(13). ويعد هذا التوافق سابقة في تاريخ إسرائيل إذ لم يحدث أن التزمت حكومة بضم مناطق في الضفة الغربية.
وحسب الاتفاق الذي توصل إليه الليكود مع "الصهيونية الدينية"، تلتزم الحكومة الجديدة بالاعتراف بجميع البؤر الاستيطانية "غير القانونية" في الضفة الغربية، أي التي أقيمت من دون إذن جيش وحكومة الاحتلال. وبناء على هذا الاتفاق أُنشئت وزارة خاصة داخل وزارة الدفاع، يشغلها سموتريتش إلى جانب شغله منصب وزير المالية، وستكون مسؤولة عن الإشراف على المشروع الاستيطاني، ومنح التراخيص بتدشين مستوطنات جديدة في أرجاء الضفة الغربية، ولها أيضا صلاحية تسوية أوضاع البؤر الاستيطانية "غير القانونية". وتحوز الوزارة صلاحية مراقبة البناء الفلسطيني في الضفة الغربية، حيث سيكون بوسعها إصدار الأوامر بهدم المنازل الفلسطينية في المنطقة "ج" تحديدا، بحجة أنها بنيت من دون تصاريح.
وسيمكّن تبوُّؤ سموتريتش منصب وزير المالية "الصهيونية الدينية" من لعب دور حاسم في توجيه الموازنات الهادفة إلى تطوير المشروع الاستيطاني بما يساعد على حسم مصير أكبر مساحة من الأرض في الضفة الغربية لصالح الاحتلال. كما أن حصول الحركة على وزارة الهجرة والاستيعاب سيمكّنها من توجيه عدد كبير من المهاجرين للإقامة في المستوطنات لزيادة الثقل الديمغرافي للمستوطنين اليهود في الضفة. والجدير بالذكر أن نتنياهو التزم أمام بن غفير بتمرير قانون يشرّع فرض حكم الإعدام على المقاومين الفلسطينيين الذين ينفذون عمليات ضد جنود أو مستوطنين، قبل تمرير مشروع موازنة عام 2023(14).
ونص الاتفاق الائتلافي على تعديل قانون الشرطة ليصبح بن غفير صاحب صلاحيات مطلقة على قوات الشرطة وحرس الحدود العاملة في الضفة والقدس والمناطق التي يقطنها فلسطينيو الداخل. وستمكّنه هذه الصلاحيات من منح المستوطنين اليهود حرية أكبر في اقتحام الأقصى وإقامة الصلوات التلمودية، والتوسع في قمع الفلسطينيين الذين يمكن أن يتصدوا لهذه الاقتحامات. وستستغل "المنعة اليهودية" أيضا حصولها على الوزارة المسؤولة عن تهويد النقب والجليل -وهما المنطقتان اللتان توجد فيهما الأغلبية الساحقة من فلسطينيي الداخل- لتطبيق مخططها الهادف إلى إضعاف قدرة هؤلاء الفلسطينيين على البقاء، ووضع صعوبات أمام حصولهم على الخدمات، والإحجام عن منحهم تراخيص بناء. وقد أوضح الوزير المكلف بشغل الوزارة من "المنعة اليهودية" إسحاق فسلاروف أنه سيحرص على مساعدة "من هم مخلصون للدولة" فقط(15).
الخلفيات الشخصية لوزراء الحكومة: لا يمكن إغفال دور الخلفيات الشخصية للوزراء المشاركين في الحكومة في إملاء خطط متشددة على توجهات الحكومة إزاء الصراع. فقد أسهم سموتريتش عام 1998 عندما كان في السابعة عشرة من عمره، في تدشين التشكيل الاستيطاني المتطرف "فتية التلال"، الذي يُعنَى بالسيطرة على الأراضي الفلسطينية الخاصة وتدشين بؤر استيطانية "غير قانونية"(16). كما انتمى بن غفير إلى حركة "كاخ" المتطرفة التي أسسها الحاخام مئير كهانا وكانت تدعو إلى تهجير الفلسطينيين إلى الدول العربية. واشتهر بممارسته العنف ضد الفلسطينيين وتحريضه عليه؛ حيث وجهت إليه شرطة الاحتلال 53 لائحة اتهام بممارسة العنف، أدين في ثمانية منها.
والجدير بالذكر في هذا السياق، أن هناك تباينًا بين جدول أولويات اليمين الديني من جهة، وحزب الليكود بقيادة نتنياهو من جهة أخرى. فإذا كانت قوى التيار الديني تولي اهتماما للقضايا والأجندة المتعلقة بالصراع مع الشعب الفلسطيني، فإن نتنياهو يولي أهمية أكبر لمواجهة التحديات الإقليمية، وأهمها المشروع النووي الإيراني وتمدد إيران في المنطقة. وقد حرص مقربون من نتنياهو على إيضاح أن هدف حكومته الجديدة الرئيس يتمثل في إحباط المشروع النووي الإيراني(17). لكن التباين في سلم الأولويات لن يقلص من قدرة قوى اليمين الديني على فرض أجندتها المتعلقة بالصراع مع الشعب الفلسطيني، خاصة أن الاتفاقات الائتلافية بينها وبين الليكود ألزمت الحكومة الجديدة بذلك.
وفيما يتعلق بالعلاقة مع العالم العربي، فقد تعهد نتنياهو، بعيد حصوله على التكليف بتشكيل الحكومة الجديدة، بالتوصل إلى مزيد من اتفاقات التطبيع مع الدول العربية. وحصل نتنياهو على مؤشرات من أطراف عربية على الاستمرار في التزامها بالتعاون مع حكومته الجديدة رغم ضمها أكثر قوى اليمين الديني تطرّفًا(18).
الانعكاسات على الواقع الفلسطيني
يحمل تشكيل الحكومة الجديدة احتمال تحول جذري في الواقع السياسي والأمني بالضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ومناطق فلسطينيي الداخل. فعلى صعيد "عملية السلام" ستواصل الحكومة الحالية نهج سابقتها في عدم السماح بإجراء أي مستوى من التفاوض مع الفلسطينيين لحل الصراع، وإن كانت الحكومة السابقة التي شكلها نتنياهو تبنت مفهوم "السلام الاقتصادي"، الذي يقوم على مبدأ تحسين الأوضاع الاقتصادية بديلًا عن المسار السياسي التفاوضي لحل الصراع. إن فرص تبني الحكومة الجديدة للسلام الاقتصادي متدنية؛ إذ إن قوى اليمين الديني المشاركة فيها لا تبدي حماسا لأي خطوات ترمي إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين بشكل جذري، لأن هذا سيحسّن قدرة الفلسطينيين على البقاء والصمود؛ وهو ما يتعارض مع توجهات قوى اليمين.
وتزيد المنطلقات التي قامت عليها الحكومة الجديدة وطابع الأشخاص الذين يتولون مقاليد الأمور، فرص انهيار السلطة الفلسطينية التي تراجعت قدرتها على فرض سيطرتها على مناطق في الضفة الغربية، وتقلصت فاعلية أجهزتها الأمنية، ولا سيما في جنين ونابلس. فتهاوي أفق الحل السياسي للصراع في ظل تعهد الحكومة الجديدة بضم مناطق في الضفة إلى إسرائيل، وفي ظل زيادة وتيرة قمع جيش الاحتلال واعتداءات المستوطنين وتعاظم الاستيطان والتهويد واعتماد القيادات الإسرائيلية الجديدة خطابا دينيا متشددا؛ سيزيد احتمالات انهيار السلطة.
إن التوجهات المتطرفة لقوى اليمين الديني المشاركة في الحكومة ستقلص فرص بروز قيادة بديلة إذا غادر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس المشهد السياسي. فهذه القوى غير مستعدة لمنح أي قيادي فلسطيني يرى نفسه مرشحا لخلافة عباس إنجازات تساعد على تحسين مكانته الداخلية.
وفضلًا عن ذلك، تتجه الأحزاب المشاركة في الائتلاف الجديد نحو تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى والسماح لليهود بأداء الصلوات فيه، الأمر الذي سيسهم في إشعال فتيل مواجهة شاملة في الضفة والقدس بشكل يزيد فرص انجرار الحركات الفلسطينية في قطاع غزة إلى المواجهة والرد بإطلاق الصواريخ إلى العمق الإسرائيلي.
وقد يفضي انهيار السلطة في ظل وجود فراغ قيادي إلى تحديات استراتيجية كبيرة لإسرائيل. فمن ناحية سيكون جيش الاحتلال مطالَبًا بالدفع بمعظم قواته النظامية وقوات الاحتياط إلى الضفة الغربية لتحمل تبعات اتساع رقعة المواجهة، بشكل يقلص قدرة الجيش على التفرغ لمواجهة التحديات على الساحات الأخرى.
كما أن غياب السلطة الفلسطينية يعني تحمل إسرائيل تبعات توقف التعاون الأمني ونتائج تدهور الأوضاع الاقتصادية التي سترافق ذلك(19). وانهيار السلطة الفلسطينية سيجعل إسرائيل، قوة الاحتلال، مسؤولة عن إغاثة الفلسطينيين الواقعين تحت احتلالها وتقديم الخدمات المختلفة لهم، مع كل ما يترتب على الأمر من تبعات اقتصادية وسياسية.
في الوقت ذاته، فإن سياسات الحكومة الجديدة اتجاه فلسطينيي الداخل والتغييرات التي يمكن أن تحدثها داخل المسجد الأقصى تزيد احتمالات انفجار الأوضاع في مناطق وجود هؤلاء الفلسطينيين بشكل قد يفوق ما حدث خلال هبة الأقصى في مايو/أيار 2021. وقد يسمح هذا الواقع بتوحيد ساحات النضال الفلسطيني، وهو ما يفاقم حدة الأعباء الأمنية والاقتصادية التي ستواجهها إسرائيل. وبذلك سيسدل تشكيل الحكومة الجديدة الستار نهائيا على تجربة انضمام أحزاب تمثل فلسطينيي الداخل إلى الحكومات الإسرائيلية، كما حدث عندما انضمت "القائمة العربية الموحدة" برئاسة عباس منصور إلى حكومة بينيت ولبيد السابقة.
العلاقات مع العالم العربي
على الرغم من تعهد نتنياهو بأن تعمل حكومته الجديدة على التوصل إلى مزيد من اتفاقات التطبيع مع الدول العربية، فإن سياسات هذه الحكومة يمكن أن تشكل تحديا للدول التي وقعت على اتفاقات "سلام" وتطبيع مع إسرائيل. فعلى الرغم من التزام الدول العربية الصمت إزاء نتائج الانتخابات الأخيرة وتشكيل الحكومة الجديدة في تل أبيب وإبداء بعضها إشارات إيجابية اتجاهها(20)، فإن توجهات هذه الحكومة على صعيد الصراع مع الشعب الفلسطيني ستهدد استقرار نمط العلاقات القائم بين إسرائيل ومعظم الدول العربية، وستعرقل إمكانية التوقيع على اتفاقات تطبيع جديدة. فتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى ولا سيما بالسماح لليهود بأداء الصلاة فيه، وتبعات تغيير الأوامر الخاصة بظروف السماح للجنود بإطلاق النار وما يمكن أن ينتج عنها من تعاظم عدد الفلسطينيين الذين يسقطون قتلى وجرحى، وتفجّر مواجهات مع الفلسطينيين في أرجاء الأراضي المحتلة نتيجة لسياسات الحكومة الجديدة، هذه العوامل جميعها يمكن أن تكبح أو تغير توجهات بعض الدول العربية حول سياسة التطبيع مع إسرائيل. وستشكل سياسات الحكومة الجديدة تحديا كبيرا للأردن وتحديدا بسبب توجهاتها إزاء الأقصى وإرث العلاقة المتوترة التي ربطت نتنياهو والملك عبد الله الثاني. فنظرًا إلى أن الأردن يحوز الوصاية على الأقصى، فإن سياسات الحكومة الجديدة ستحرج عمان وتقلص هامش المناورة أمامها في كل ما يتعلق بطابع العلاقة مع تل أبيب. مع العلم بأن هذه العلاقة تحسنت في عهد حكومة بينيت ولبيد ووقّع البلدان عددًا من الاتفاقات الاقتصادية ذات الطابع الاستراتيجي، مثل اتفاق "الكهرباء مقابل الماء".
الملف الإيراني
على الرغم من أن نتنياهو يضع مواجهة البرنامج النووي الإيراني على رأس أولويات حكومته فإن هذا التوجه يتعارض مع أولويات شركائه في الحكومة من اليمين الديني، الذين يفضلون التركيز على تنفيذ السياسات الهادفة إلى حسم مصير الضفة الغربية عبر الضم الفعلي. صحيح أن قوى اليمين الديني لن تعارض توجه نتنياهو لمواجهة النووي الإيراني، لكن تركيزها على الساحة الفلسطينية سيقلص حجم وقيمة الموارد السياسية والدبلوماسية التي يمكن أن تساعد إسرائيل على مواجهة النووي الإيراني؛ إذ أوضحت الولايات المتحدة بالفعل لنتنياهو أن توجه الحكومة الجديدة "لتجاوز الخطوط الحمر" تحديدا في كل ما يتعلق بضم مناطق في الضفة وتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى سيقلص قدرة إدارة الرئيس جوزيف بايدن على التعاون معها في مجال مواجهة نووي إيران(21). وعلى الرغم من أن تراجع فرص التوصل إلى اتفاق نووي جديد قد أسهم في تقارب وجهتي النظر الإسرائيلية والأمريكية، فإن هناك خلافًا واضحا بين الجانبين بشأن الظروف التي تحتم التدخل عسكريا لمواجهة البرنامج النووي.
ففي حين يرى نتنياهو وجوب العمل العسكري ضد إيران لمنعها من التحول إلى دولة على "العتبة النووية"، (أي تمتلك القدرة والإمكانات والتقنيات التي تمكنها من إنتاج اليورانيوم المخصب اللازم لإنتاج السلاح النووي من دون أن تنتجه بالفعل)، فإن إدارة بايدن تتعهد بالعمل العسكري فقط لمنع إيران من إنتاج سلاح نووي. وفي المقابل لا توجد لدى إسرائيل القدرات العسكرية اللازمة للقضاء على البرنامج النووي الإيراني بمفردها، كما أكد ذلك عدد من القيادات الإسرائيلية ومن ضمنهم رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت(22).
التداعيات الداخلية
أسهم إفصاح عدد من قادة الأحزاب المشاركة في الحكومة الجديدة عن بعض توجهاتهم لإحداث تغيير جذري في طابع العلاقة بين الدين والدولة، في تعاظم مستويات الاستقطاب الداخلي وتعميق الصدع المجتمعي حتى قبل أن يتم الإعلان عن تشكيل الائتلاف الحاكم. إذ أعلن العشرات من رؤساء المجالس البلدية أنهم سيحبطون "الإصلاحات" التي سيدخلها آفي معوز، زعيم حزب "نوعم" الديني، الذي تم تكليفه بالإشراف على المواد غير المنهاجية في المدارس، وأنهم سيلجؤون إلى صلاحياتهم في وضع مواد تعليمية تتناقض مع التوجهات المتشددة التي تعهد معوز بفرضها، ومن ضمنها إلغاء 3000 برنامج دراسي بزعم أن مؤسسات أجنبية أسهمت في فرضها(23). وقد حظيت حملات "التمرد" التي قادها رؤساء البلديات بدعم كبير، وتحديدا من رئيس الوزراء السابق يائير لبيد الذي شارك قبل الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة في مظاهرات تدعو إلى تحدي توجهاتها على الصعيد الداخلي. ودعت قيادات علمانية وازنة إلى مواجهة توجهات الحكومة الجديدة على الصعيد الداخلي عبر تنظيم حركة عصيان مدني شامل(24).
وفي المحصلة هناك شعور يتعاظم في أوساط العلمانيين بأن توجه الحكومة الجديدة إلى سنّ قانون "التغلب"، سيفضي إلى تقليص هامش الحرية المتاح أمامهم في الفضاء العام، تحت تأثير توجهات قوى اليمين الديني المعنية باستغلال نفوذها في تغليب الطابع اليهودي للدولة على الطابع "الديمقراطي". وهناك احتمال كبير بأن تنزع قطاعات جماهيرية واسعة الشرعية عن الحكومة الجديدة لأنها غير مؤهلة لاتخاذ القرارات الحاسمة على الصعيد العسكري تحديدا. فباستثناء وزراء الليكود فإن جميع الوزراء الذين يمثلون الأحزاب الدينية المشاركة في الحكومة، إما أنهم لم يؤدوا الخدمة العسكرية وإما أنهم أدوا خدمة قصيرة في وحدات غير قتالية، هذا فضلًا عن أن قطاعا كبيرا من قواعد هذه الأحزاب لا يؤدي الخدمة العسكرية أصلًا بحجة التفرغ للتعليم الديني.
فإصدار الحكومة الجديدة قرارات بشنّ حروب أو حملات عسكرية يمكن أن تنظر إليه قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي على أنه سلوك غير أخلاقي، باعتبار أن معظم مكونات الحكومة يدفع نحو التصعيد الذي يمكن أن يقود إلى اندلاع الحروب والحملات العسكرية من دون أن تلزم قواعدها بتحمل عبء الخدمة العسكرية. وفي الوقت ذاته فقد أسهمت الاتفاقات الائتلافية بين الليكود والأحزاب الدينية التي تمنح مؤسسات وأتباع التيار الديني مخصصات مالية هائلة، في تصاعد الدعوات إلى الامتناع عن أداء الخدمة العسكرية(25).
خاتمة
تنطوي السياسات التي ستطبقها الحكومة الجديدة على الصعيد الداخلي وعلى صعيد العلاقة مع الشعب الفلسطيني على تداعيات يمكن أن تنهي عمر الحكومة قبل انتهاء مدتها القانونية. ونتنياهو يعي خطورة هذا المسار على مصالح إسرائيل لكنه يدرك أيضا أن الشراكة مع قوى اليمين الديني هي وحدها التي تمنحه طوق النجاة من المحكمة والسجن، لذلك سيجد نفسه في أزمة خيارات صعبة.
من المتوقع أن يحاول نتنياهو المناورة والحفاظ على الصيغة الائتلافية الحالية ما دامت حكومته قادرة على مواجهة تبعات التداعيات الأمنية والسياسية والاقتصادية الداخلية لسياساتها. أما إذا فشلت في احتواء هذه التداعيات فإنه قد يبادر إلى حل الحكومة الحالية، وفكّ الشراكة مع قوى اليمين الديني بعد تمرير قانون "التغلب" والقانون الفرنسي الذي يمنحه فرصة الإفلات من المحكمة، ويتجه بعدها نحو القوى الحزبية العلمانية للتوافق معها على تشكيل حكومة بديلة. مع العلم بأن بعض القيادات اليسارية العلمانية دعت إلى وقف محاكمة نتنياهو وتشكيل حكومة بمشاركته على اعتبار أن هذا هو السيناريو الوحيد الذي يمكن أن ينقذ إسرائيل من تبعات توجهات قوى اليمين الديني المشاركة في الحكومة الحالية.
- تبلور التيار الحردلي في العقدين الأخيرين، وتؤمن مرجعياته بوجوب القيام بجهود بشرية لتحقيق الخلاص وتعجيل ترجل المخلص المنتظر، الذي يقود اليهود نحو قيادة العالم. وترى هذه المرجعيات أن حلول المخلص المنتظر سيتحقق بعد اندلاع حرب "يأجوج ومأجوج" وتحديدا بعد بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى. للإحاطة بمظاهر تأثير التوجهات الخلاصية في مواقف بن غفير وسموتريتش وبقية نخب التيار الحردلي من الصراع. انظر: نحميا شترسلر، "لن يغفر أحد لميخائيلي"، هارتس، 30 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022): https://bit.ly/3Xr3vl5
- أور، كولو، "التعاظم الديمغرافي في المجتمع الحريدي يزيد عدم المساواة"، سيحا مكوميت، 9 يوليو/تموز 2021، (تاريخ الدخول: 9 يوليو/تموز 2022): https://bit.ly/3ASj5wb.
- أدمكار، ياكي، "نظرة على المجتمع الحريدي في إسرائيل"، موقع واللاه، 10 أغسطس/آب 2022، (تاريخ الدخول: 10 أغسطس/آب 2022): https://bit.ly/3XC2VRs.
- تتراوح أعمارهم بين 18 و20 عاما.
- هذا ما ذكرته الباحثة الإسرائيلية هاني مزار على حسابها على تويتر، https://bit.ly/3OM3lRa.
- هذا ما استنتجته الباحثة ميخال شليف. انظر: شليف، ميخال، "الرابط بين تديين التعليم وصعود اليمين الشعبوي"، يديعوت أحرنوت، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022): https://bit.ly/3I2mVrl
- فينريب، إيلي ليفي، "القانون الفرنسي، حصانة أو عفو منذ البداية"، غلوبس، 29 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2022): https://bit.ly/3VnR6wm.
- هذا ما يراه يائير لبيد. انظر: شيفغيل، نوعا، "لبيد ضد قانون التغلب: الحكومة التي تظهر في الأفق ستدمر الديمقراطية لدواع شخصية"، هآرتس، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2022): https://bit.ly/3EZfPBU
- تعرض الباحث نير أبيشاي كوهين للتوجهات العامة لأحزاب الحكومة الجديدة من الصراع. انظر: كوهين، نير أفيشاي، "من الآن لا يوجد مبررات. إسرائيل دولة عنصرية"، يديعوت أحرونوت، 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2022): https://bit.ly/3gSP3Sz.
- "سموتريتش عن تأجيل الضم: يعرضون فشلا سياسيا كإنجاز"، يديعوت أحرنوت، 16 أغسطس/آب 2020، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2020): https://bit.ly/3Fn8Kep.
- "مبادئ العظمة اليهودية"، موقع الحركة، د.ت، (تاريخ الدخول: 3 ديسمبر/كانون الأول 2022): https://bit.ly/3iAGrjG.
- هذا ما دعا إليه بن غفير على حسابه على تويتر. انظر: https://bit.ly/3Pcw425.
- سيغل، عميت، "نتنياهو التزم لسموتريتش: فرض سيادة في الضفة الغربية"، قناة 12، 22 ديسمبر/كانون الأول 2022، (تاريخ الدخول: 22 ديسمبر/كانون الأول 2022): https://bit.ly/3jtlism.
- هذا ما نقلته قناة "13"، حساب القناة على تويتر: https://bit.ly/3jtSQGP.
- "وزير النقب والجليل القادم: سأساعد المواطنين المخلصين للدولة"، يديعوت أحرنوت، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2022): https://bit.ly/3OH4fOY
- يميني، بن دورون، "حكومة فتية التلال"، يديعوت أحرونوت، 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022): https://bit.ly/3Vv5oM5.
- "نتنياهو عاد ليدق طبول الحرب ضد إيران"، هآرتس، 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، (تاريخ الدخول: 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2022): https://bit.ly/3h5QFrX.
- دعت سفارة الإمارات العربية والبحرين في تل أبيب زعيم "المنعة اليهودية" إيتمار بن غفير إلى حضور الاحتفالين اللذين نظمتهما السفارتان بمناسبة ذكرى الاستقلال.
- قفز عدد الكتائب التي يحتفظ بها جيش الاحتلال في الضفة من 13 كتيبة عشية تفجر موجة العمليات الحالية إلى 25 كتيبة حاليا، في حين أن الجيش يطالب بتجنيد 66 كتيبة من قوات الاحتياط تحسبا لتواصل موجة العمليات. انظر: يديعوت أحرونوت، 4 ديسمبر/كانون الأول 2022، (تاريخ الدخول: 4 ديسمبر/كانون الأول 2022): https://bit.ly/3FBDg4s.
- على سبيل المثال، دعوة سفارة الإمارات في تل أبيب
- هذا ما ذكرته قناة التلفزة الإسرائيلية الرسمية "كان" مساء 9 ديسمبر/كانون الأول 2022. (تاريخ الدخول: 10 ديسمبر/كانون الأول 2022): https://bit.ly/3hfr3ck.
- معاريف، 15 يوليو/تموز 2022، (تاريخ الدخول: 15 يوليو/تموز 2022): https://bit.ly/3VMkb4Q.
- "تمرد رؤساء البلديات"، رشيوت، 5 ديسمبر/كانون الأول 2022، (تاريخ الدخول: 10 ديسمبر/كانون الأول 2022): https://bit.ly/3URKi9r.
- وهذا ما دعا إليه نائب رئيس أركان الجيش السابق يائير غولان في مقابلة مع إذاعة الجيش. انظر: https://bit.ly/3Wp0nov
هذا ما حذر منه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق جادي إيزنكوت. انظر: "إيزنكوت: يجب إخراج مليون متظاهر إلى الشوارع وسأكون بينهم"، يديعوت أحرونوت، 1 ديسمبر/كانون الأول 2022، (تاريخ الدخول: 1 ديسمبر/كانون الأول 2022): https://bit.ly/3PgtV5e