إيران والاتجاه شرقًا بين الواقع والمرجو: نقاش حول نيات الصين

على الرغم من تركيز مقاربة الاتجاه شرقًا علی إحداث توازن دولي يُسعف إيران في الوقوف أمام حملة "الضغوط القصوى" ويمكّنها من الاستمرار في مقاومة السياسة الأميركية والذود عن استقلالها، فإن الإطار المنظِّم لتلك المقاربة يشير إلى إستراتيجية أوسع تقول بضرورة الاصطفاف إلى جانب القوى الصاعدة عالميًّا أمام القوى المسيطرة. وقد شهدت مقاربة الاتجاه شرقًا في حقبة الرئيس رئيسي تطوّرات أعادت إثارة النقاشات النخبوية والجدل السياسي حولها.
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والرئيس الصيني شي جين بينغ، في اجتماع على هامش قمة شنغهاي (المصدر: موقع الرئاسة الإيرانية)

مع تراجع العلاقة الإيرانية الغربية علی وقع اندثار المخرجات الاقتصادية المرجوّة إيرانيًّا من الاتفاق النووي، أصيب "النموذج الصيني" الموجِّه لسياسة حكومة "الاعتدال" للرئيس روحاني بمقتل أعاد المنادين بمقاربة الاتجاه شرقًا إلى الواجهة في السياسة الإيرانية. وعلى الرغم من تركيز مقاربة الاتجاه شرقًا علی إحداث توازن دولي يُسعف إيران في الوقوف أمام حملة "الضغوط القصوى" ويمكّنها من ثمّ من الاستمرار في المقاومة أمام السياسة الأميركية والذود عن استقلالها، فإن الإطار المنظِّم لتلك المقاربة يشير إلى إستراتيجية أوسع تقول بضرورة الاصطفاف إلى جانب القوى الصاعدة عالميًّا أمام القوى المسيطرة (الولايات المتحدة). وقد شهدت مقاربة الاتجاه شرقًا في حقبة الرئيس رئيسي تطوّرات أعادت إثارة النقاشات النخبوية والجدل السياسي حولها. فما المستجد؟ وإلى أين يمضي ذلك الخيار بالاتجاه شرقًا؟ نركز في هذه الورقة علی أحدث التطوّرات المرتبطة بتلك المقاربة، بعد تفصيل أبعادها ومعانيها وخبرة إيران السابقة بها، لاستخلاص مخرجاتها في سياسة إيران الخارجية وعلاقاتها مع كل من روسيا والصين بالتحديد.      

انكفاء النموذج الصيني

يمثّل النموذج الصيني أحد النماذج التنموية الموجّهة لأولويات السياسة الخارجية، التي أثارت كثيرًا من النقاش النظري والجدل السياسي في إيران. بدأت ضرورة التهدئة (Detente) مع الخارج لإعادة إعمار الاقتصاد وتنميته في الداخل تأخذ حيّزًا متصاعدًا في النقاشات السياسية الإيرانية بعد وضع الحرب العراقية الإيرانية أوزارها، وبالتحديد بعد انتخاب الراحل أكبر هاشمي رفسنجاني رئيسًا للجمهورية في إيران. فأمام واقع اقتصادي وتنموي مأزوم إثر حربٍ أتت بويلات جمّة علی المجتمع الإيراني، دفعت ضرورات المرحلة الشعب الإيراني إلى انتخاب إدارة ركزت في حملتها الانتخابية علی "إعادة الإعمار" في الداخل و"التهدئة" مع الخارج. وما كانت السياستان إلا جمعًا لما قامت به الصين، أي النموذج الصيني، من التهدئة مع الولايات المتحدة، والدول الغربية في الخارج، إلى التركيز علی التنمية الاقتصادية في الداخل. بذلك شرعت إدارة رفسنجاني في سياسة التهدئة مع الجوار، وانطلقت جولات "الحوار الانتقادي" مع الاتحاد الأوروبي في التسعينيات من القرن المنصرم، وكان الهدف الرئيس لتلك السياسة يتمثّل في تقليص أعباء السياسة الخارجية من جهة والإتيان بالأموال العربية والغربية إلى الاقتصاد الإيراني من جهة أخرى.

تراجع التركيز علی التنمية الاقتصادية مع انتخاب الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي عام 1997 بأجندة تمحورت حول التنمية السياسية في الداخل. بذلك استمرّت السياسة الخارجية الداعية للتهدئة إذ كانت تُمثّل ضرورة للحدّ من إسقاطات السياسة الخارجية علی التطوّر السياسي في الداخل، حسب القائمين عليها. وبينما غيّر الرئيس خاتمي أولوية الحكومة من التنمية الاقتصادية إلى التنمية السياسية، طرح الرئيس محمود أحمدي نجاد (2005-2013) تصوّرًا اختلف اختلافًا جذريًّا عن رؤى سلفيه؛ إذ لم تعد للتهدئة مع الدول الغربية أولوية في رؤية أحمدي نجاد الذي عزل الداخلي عن الخارجي ولم يُعر إسقاطات السياسة الخارجية علی الاقتصاد والسياسة الداخلية أهمية تُذكر. ولظرف صعود أحمدي نجاد أثر واضح في سياسته الخارجية، فقد أنعمت الطفرة النفطية في حقبة الرجل بمداخيل مالية لم تدر بمخيلة سلفيه الباحثيْن عن الاستثمارات الأجنبية. ولأول مرة في تاريخ إيران بدأ الحديث عن الاتجاه شرقًا بصفته خيارًا إستراتيجيًّا يؤمّن المصلحة القومية الإيرانية. نتج ذلك التوجّه عن تزايد الضغط الغربي الذي نقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن وصدرت علی إثره قرارات عقابية تسبّب تراكمها في أثقال مرهقة علی الاقتصاد الإيراني تُوّجت بحملة "عقوبات معيقة" (Crippling Sanctions) من حكومة الرئيس أوباما فيما بعد.

وبعد ثمانية أعوام من السياسة الخارجية المناكفة للغرب والداعية إلى الاتجاه شرقًا، صوّت الإيرانيون لبرنامج روحاني الذي عاد بخطابه وسياسته إلى "النموذج الصيني". فقد ذكّر روحاني إبان حملته الإيرانيين، في خطاب اقترب من رؤية رفسنجاني، بضرورة أن تخدم السياسة الخارجية التنمية الاقتصادية في الداخل، وبذلك عادت إيران إلى النموذج الصيني من البوابة النووية. وكان الرئيس روحاني واضحًا عند قوله إن استمرار البرنامج النووي يجب ألّا يمنع دوران العجلة الاقتصادية (1). كان الرئيس روحاني واضحًا بوضع سياسة خارجية تركز علی نزع فتيل الأزمة النووية بصفته محورًا لإعادة دمج إيران في منظومة القيمة العالمية (Global value chain) ومن ثمّ تنمية الاقتصاد الإيراني. وكان الرئيس روحاني قد تكلّم عن النموذج الصيني، ونشر المركز الإستراتيجي للبحوث الذي رأسه -قبل انتخابه رئيسًا لإيران- كتبًا ودراسات عن ذلك النموذج أحصت فوائده التي وجّهت سياسة روحاني فيما بعد.

بناءً علی ذلك النموذج وبمجرّد تسلّمه مهام الرئاسة، بدأ روحاني العمل علی تنشيط الدبلوماسية النووية، وفق رؤاه المطبوعة بكتاب تحت العنوان ذاته (2). ووفق نموذجه الصيني، كان عليه التهدئة مع الخارج من البوابة النووية للانتقال إلى التنمية الاقتصادية عبر دمج الاقتصاد الإيراني في الاقتصاد العالمي. تُوّج ذلك الجهد باتفاق نووي وُقّع عام 2015، وكان المرجو أن يؤدي حل العُقدة النووية إلى الابتعاد عن المشاحنات الخارجية والتركيز علی التنمية الاقتصادية في الداخل. أتی الرئيس ترامب بانسحابه من الاتفاق النووي وعقوباته القصوى علی كل تلك الحسابات، وانتقلت حكومة روحاني إثر ذلك من أولوية التنمية الاقتصادية إلى "المقاومة الاقتصادية". وانتهی بذلك النموذج الصيني في إيران إلى حين، وبدأت فترة استمرت إلى اليوم من علاقات متدهورة بالدول الغربية تضع "المقاومة القصوى" أمام "الضغوط القصوى" أنتجت برنامجًا نوويًّا متطوّرًا قلّص مدة الاختراق بشكل مؤرّق للدول الغربية، وإن لم يفلح في الإتيان بانفراجة اقتصادية حتی الآن.

أسباب الاتجاه شرقا وأبعاده

أصاب الرئيس ترامب النموذج الصيني بمقتل عند انسحابه من الاتفاق النووي وفرضه عقوبات أحادية علی إيران، فعاد الاتجاه شرقًا إلى الواجهة مرة أخرى. ولأن الاتجاه شرقًا يناقض كل ما نادت به إدارة روحاني منذ حملته الانتخابية الأولی، لم يكن بمقدور إدارته تغيير البوصلة الخارجية وتبنّي الاتجاه شرقًا خيارًا إستراتيجيًّا رئيسًا. نتيجة لذلك، وجد الشعب نفسه أمام خيارين في انتخابات عام 2021: انتخاب شخصية مقربة من روحاني علی أمل أن تغيّر إدارة ترامب أو خليفتها الأولويات الأميركية وتعود لتنفيذ الاتفاق الموقّع عام 2015 أولًا، وانتخاب رئيس يغيّر السياسة المتبعة عبر أجندة وأولويات خارجية مختلفة ثانيًا، وهو الذي رجّحته انتخابات 2021 الرئاسية.

ومع انتخاب رئيسي، عاد الاتجاه شرقًا وبدفعة أقوى من ذي قبل ليوجّه سياسة إيران الخارجية ويدير اقتصاد البلاد بطريقة مختلفة عن النموذج الصيني. استهدفت سياسة رئيسي التركيز علی القدرات الداخلية والتقرّب من الدول الشرقية التي تشمل القوى الآسيوية، الصين والهند وروسيا، أي القوى الصاعدة وفق فهم إستراتيجيي إيران، وذلك للحد من أثقال العقوبات الأحادية المفروضة علی البلاد. لا تمر، وفق هذه الرؤية، التنمية الاقتصادية عبر الاتفاق مع الدول الغربية بالضرورة؛ فقد كان الرجل واضحًا عند قوله إنه لن يضع مقدّرات البلاد جانبًا لينتظر مآلات الاتفاق النووي (3). ورغم استمراره بالدبلوماسية النووية مع دول الـ1+5، فإنه عمل جاهدًا علی بناء علاقات وطيدة مع القوى الصاعدة.

ويمكن تحديد أربعة أبعاد ومعان لإستراتيجية الاتجاه شرقا (4):

أولًا، يأتي ذلك التوجه بالبديل على المستوى الدولي أمام رفض الدول الغربية إنهاء عزلة إيران الاقتصادية والسياسية. أي إنها تعطي إيران إمكانية لتطوير وضعها على المستوى الدولي من دون الركون إلى النظام المُسَيطر عليه غربيًّا. ولأن التوجه غربًا لحكومات سابقة جاء بعكس المرجو في طهران من ضغوط اقتصادية وسياسية جمة، يمثّل الاتجاه شرقًا مخرجًا معاكسًا يبحث عن تحقيق الأهداف ذاتها بطرائق وأدوات مختلفة. 

ثانيًا، يفتح لإيران أبوابًا اقتصادية تمكِّنها من الحدّ من وطأة العقوبات الاقتصادية الأميركية أولًا، ويأتي بالاستثمارات التي تمكِّن طهران من تطوير قطاعاتها الاقتصادية الحيوية المعاقبة غربيًّا ثانيًا. والهدف الرئيس هنا هو إعادة هيكلة العلاقات الدولية لطهران بطريقة تمكنها من تقليص آثار تلك العقوبات على اقتصادها.

ثالثًا، يعبِّر ذلك التوجه عن اهتمامات إيران الدولية في المرحلة الانتقالية على مستوى النظام الدولي وتعني فيما تعنيه اصطفاف إيران إلى جانب القوى الصاعدة (الصين بالدرجة الأولى وروسيا ثانيًا) أمام القوى المسيطرة (الولايات المتحدة). هو عالم متغير كما تفهمه إدارة رئيسي وإستراتيجيوها، ولذلك فهي تعوّل على التقارب مع أصحاب الحظوة في النظام الدولي الصاعد. 

ورابعًا، يمكن الحديث عن بعد داخلي للاتجاه شرقًا. فأمام اتجاه التيارين "الإصلاحي" والاعتدالي" غربًا، يقوم المحافظون بالموازنة عبر الاتجاه شرقًا. وفي مثال لهذا الميل إلى الموازنة، يمكن اعتبار مزامنة التعاون العسكري مع روسيا في سوريا مع توقيع الاتفاق النووي، عام 2015، محاولة للموازنة بين اتجاهي السياسة الخارجية في الداخل.

هو خيار إستراتيجي يرمي إلى تعديل وضع إيران الدولي عبر إعادة تأطير اتجاهات إيران الدولية وتقليص آثار محاولات الدول الغربية الضغط على إيران بعزلها عن الاقتصاد العالمي تارة، والحدّ من تحركها الدولي في إطار مؤسسات "النظام الدولي" تارة أخرى. ولا يغيب عن رئيسي وطاقمه أن للاتجاه شرقًا في الوضع الراهن وظهور بوادر تفكك النظام الإقليمي الخاضع للولايات المتحدة مفعولًا في الرقي بمستوى التعاون الإقليمي بتوازنات دولية مختلفة عن ذي قبل. ولمّا كانت لإدارة رئيسي أولويات إقليمية سبق الحض عليها باستمرار باعتبارها البديل للتوجه الدولي لإدارة روحاني، فإن إعادة التركيز على الإقليم بأبعاده الدولية تمثّل نافذة جديدة لم تكن لتهتم بها إدارات سابقة أولت البُعد الدولي اهتمامًا أكبر. لذلك، يمكن الحديث عن الاتجاه شرقًا باعتباره محاولة لإعادة التوازن إلى اتجاهات إيران الدولية والإقليمية، بأبعادها الداخلية.

تطورات التوجه شرقا

توطيد العلاقة مع روسيا

لم تكن روسيا بعيدة عن حسابات إيران الإستراتيجية في العقود الماضية، وإن ابتعدت بالتقرّب من واشنطن في التسعينيات، فقد أعاد نأي بوتين بها عن "المحور الغربي" اهتمام إيران بتوطيد العلاقة بها. وإذ تدرّجت العلاقات الثنائية في نموّها من البُعد السياسي إلى أبعاد غير مسبوقة كالتعاون العسكري، فقد دعم الظرف الدولي والتطورات الإقليمية رقيّ العلاقات بين البلدين.

وبينما وضعت مجابهة السياسة الغربية كلًّا من إيران وروسيا في خانة الدول الأكثر تعرّضًا للعقوبات الغربية؛ فقد أثْرَت تلك العقوبات فحوى العلاقات الثنائية بتعاون اقتصادي وعسكري قلّ نظيره في تاريخ الجمهورية الإسلامية. وكانت الشراكة الوليدة بين البلدين في الشرق الأوسط قد أظهرتهما شريكين إستراتيجيين في سنوات تصاعد أزمتي أوكرانيا والاتفاق النووي. وفضلًا عن التقارب السياسي البادي في الزيارات المتبادلة بين قادة البلدين، فثمة ثلاثة محاور لتطوّر العلاقة:

  1. التعاون الاقتصادي التجاري: بعد تريّثها أمام العرض الإيراني القاضي بحذف الدولار والانتقال إلى العملات المحلية في التجارة البينية في مراحل سابقة، أبدت روسيا علی لسان رئيسها الاستعداد لاتخاذ تلك الخطوة (5). وازداد حجم التجارة البينية منذ بداية 2022 حتی نهاية أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته بنسب متفاوتة راوحت بين 27% للصادرات الروسية لإيران و10% للصادرات الإيرانية لروسيا، وقيل إن الرقم قد تخطّی حاجز الأربعة مليارات دولار المسجّل سابقا كحد أقصی (6). وكان قد جرى التفاهم علی الرقي بالتجارة البينية إلى 40 مليار دولار في غضون الأعوام العشرة المقبلة (7). كذلك وُقّعت أكبر مذكرة تفاهم في تاريخ العلاقة بين شركة النفط الوطنية الإيرانية وشركة غازبروم الروسية لتطوير حقول نفط إيرانية (8). ورغم ضرورة الانتقال من المذكرة إلى عقود محددة لتُترجم تعاونًا علی الأرض، فإن المقايضة تبدو مربحة للبلدين، إذ تخدم التقنية الروسية طهران في تطوير البنی التحتية للطاقة الإيرانية المعاقبة أصلًا بعقوبات واسعة من جهة وتُساعد روسيا في ضغطها علی الدول الغربية بإظهار تعاونها في مجال الطاقة مع ثاني أكبر مصدر للغاز والنفط في العالم من جهة أخرى.
  2. توسيع شبكة المواصلات: تزايد الاهتمام الروسي بتوسيع شبكة المواصلات الممتدة من جنوب شرقي إيران إلى شمالها، ولم تكن موسكو لتهتم بشبكة المواصلات تلك في غياب العقوبات الغربية التي حرمتها من مواصلاتها مع الدول الغربية. تمتد شبكة المواصلات الدولية الجديدة التي تعمل الدولتان علی توسيعها من شرقي أوروبا إلى البحر الهندي على مساحة 3000 كيلومتر تعبر بعيدًا عن أي تدخّل أجنبي (9). هو طريق إمداد مضاد للعقوبات الغربية، عزّز بُعده المائي في بحر قزوين سيطرة روسيا علی بحر الآزوف إثر الحرب الأوكرانية. وفي سياق ذلك، قامت روسيا بدعم عضوية إيران في اتحاد أوراسيا الاقتصادي (10)، وهو اتحاد قائم علی تسهيل التجارة الحرة والمشاريع المشتركة بين الدول الأعضاء. 
  3. التعاون التسليحي التقني: يبدو أن لهذا المجال الغامض الذي لا يحظى بالإفصاح عن تفاصيله حصة كبيرة من التعاون المتصاعد بين البلدين؛ فالتقارير المنشورة في الغرب علی الأغلب تشير إلى تصدير إيران كمًّا كبيرًا من الطائرات المسيّرة، قلب موازين الصراع الغربي الروسي في أوكرانيا. وإذا صحّت تلك التقارير فإيران تزوّد روسيا بسلاح يوازن ما في جعبة أوكرانيا من سلاح غربي، وذلك بكلفة زهيدة. وكانت الحكومة الأوكرانية قد ادّعت أن عدد المسيّرات الإيرانية المستخدمة من قبل روسيا بلغ حتی الآن 540 (11). أمام ذلك ووفقًا لتقارير أخرى، تحصل إيران علی أنظمة دفاعية وتسليحية متقدمة كبطارية الدفاع الصاروخي "إس-400" (S-400) ومقاتلات التفوّق الجوّي "سو-35" (SU-35) (12)، وكذلك الغنائم الروسية من التقنية العسكرية في الحرب الأوكرانية. هي مقايضة لا يمكن المرور بأهميتها العسكرية لإيران بسهولة. فـإن صحت تلك التقارير، تحصل الدولة المعاقبة عسكريًّا حتی العظم، والتي قامت ببناء برنامج صاروخي متطوّر نتيجة تلك العزلة وردعًا لأطماع أعدائها، علی مقاتلات وأنظمة دفاعية تمنحها قدرات وميزات عسكرية غير مسبوقة منذ 1979.

بوجه عام، أحدث الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي أولًا وتوسّع الناتو ومآلاته في أوكرانيا ثانيًا أرضية مؤاتية لتوسيع العلاقات الإيرانية الروسية في اتجاهات عدة شملت الاقتصاد والمواصلات والتسليح. وتصرّ قيادتا البلدين علی المضي نحو علاقات أوسع وأعمق تعطيهما وزنًا أكبر في النظام العالمي الصاعد أمام القوى الغربية. وتعكس نقاشات الدوائر الإستراتيجية في إيران ميلًا أكبر إلى التقارب مع روسيا بعد أن كان ذلك الخيار يثير حفيظة كثيرين لأسباب تاريخية ومعاصرة، عكست انعدام الثقة بروسيا والوعود التي قطعتها بل والعقود التي وقّعتها سابقا. ينكمش ذلك الخطاب المشكك اليوم لسبب واضح يعبّر عنه البعض بالإشارة إلى توازن العلاقات في الحقبة الجديدة بين بلدين معاقبين يحاولان الحد من وطأة العقوبات وموازنة الضغوط عبر التكتّل، وذلك خلافًا لما كان سائدًا في السابق.

نقاش حول نيات الصين

بعد أعوام من النقاش المحتدم داخليًّا حول السبُل الأمثل للتعاطي مع المستجد دوليًّا (الصعود الصيني علی حساب القوة المسيطرة أي الولايات المتحدة) طُرحت مقاربة الاتجاه شرقًا في حقبة أحمدي نجاد كرد إستراتيجي علی السؤال المحوري في ذلك النقاش، واصطدمت تلك الرؤية بواقع مجاراة الصين للولايات المتحدة في حملة "العقوبات المعيقة" وتصويتها لمصلحة كثير من العقوبات الأممية ضد طهران من جهة وصعود حكومة روحاني التي لم تعتمد مقاربة الاتجاه شرقًا من جهة أخرى. وكما في الحالة الروسية، ونتيجةً لعودة العقوبات بحلّتها الأحادية وصعود المعوّلين علی الاتجاه شرقًا على أنه حل إستراتيجي، عادت الصين والعلاقة معها لتحدد جزءًا مهمًّا من معالم سياسة إيران الدولية.

نتيجة لذلك، بدت ملامح التقارب الإيراني الصيني بوضوح بعد توقيع وثيقة التعاون الشامل بين البلدين (13)، وقد أظهر ذلك اهتمامًا متبادلًا في رؤى الطرفين للرقي بعلاقاتهما. ففي الجانب الاقتصادي والتجاري، نمت العلاقات من مليار دولار إلى 51 مليار دولار على مدى ثلاثة عقود. ومن الواضح أن الزيادة المطردة للترابط الاقتصادي شكلت دافعًا لتأطير العلاقة بوثيقة التعاون الشامل وتوسيع مجالاتها بخطة عمل، إلا أن التطور الكبير لا ينبغي أن يُحشر في تلك الزاوية المركزة على الاقتصاد فقط. فإن كان الأمر لا يُشكل استثناءً في علاقات الصين العالمية، فإنها المرة الأولى التي تدخل إيران فيها إطارًا إستراتيجيًّا لتطوير علاقاتها مع قوة عالمية (14). وبالإضافة إلى ذلك، دعمت الصين وروسيا عضوية إيران في منظمة شانغهاي للتعاون، وتمثل إطارًا مؤسساتيًّا لتأطير العلاقات الأمنية والعسكرية بين إيران والدول الأعضاء في مرحلة دولية تشهد استقطابات عالمية بين القوى الآسيوية والغرب. أي إن إيران المعاقبة غربيًّا تؤكد بانضمامها إلى تلك المنظمة خيارها الوقوف إلى جانب الأقطاب الصاعدة عالميًّا على حساب تلك المسيطرة، ويحظى ذلك بترحيب كل من روسيا والصين.

وكما هو الحال في العلاقة مع روسيا، يمكن اعتبار تحرّك إيران نحو إحداث الموازنة بُعدًا يغلب علی بقية أبعاد الاتجاه شرقًا. كذلك فإن ميل الصين إلى الرقي بالتعاون مع إيران يُبدي نظرتها إليها على أنها شريك إستراتيجي يمكن الاعتماد علی ابتعاده عن الركون إلى الإطار الأميركي في الشرق الأوسط. وإذ تستمر الصين بابتياع الطاقة من إيران والعمل الاقتصادي والتجاري معها رغم حملة الضغوط القصوی، لا تُعبّر المرحلة التي تلت توقيع وثيقة التعاون الشامل عن تغيير مهم في مستوى التعاون الثنائي وفحواه حتی الآن، وهو ما يعود بخطاب المنتقدين لمقاربة الاتجاه شرقًا إلى الواجهة. وقد أعطت زيارة الرئيس الصيني للرياض وتوقيعه بعضًا من البيانات والوثائق المشتركة دفعة أقوى لخطاب المنتقدين. 

لم تكن لتثير زيارة الرئيس شي للمملكة السعودية ما أثارته من نقاش في الداخل الإيراني انعكس علی خطابها الرسمي لو بقيت في حدود الاتفاقيات الثنائية. ففي الإطار الإستراتيجي، يرى الإيرانيون في الدور الصيني عنصرًا موازنًا في المنطقة لرؤية بكين الأكثر توازنًا من الغرب إزاء إيران وجاراتها من جهة، ولإيلاء بكين الاستقرار في المنطقة المصدّرة للطاقة إليها أهمية قصوى من جهة أخرى. ولذلك، فإن انخراطها في تعاون اقتصادي وتجاري أوسع في المنطقة، وإن أتی مع المملكة السعودية المنافسة الإقليمية لإيران، يأتي في سياق سياسة إيران الإقليمية ولا يزعجها. إلا أن ما استفزّ الإيرانيين أتی في توقيع الرئيس شي علی البيان الختامي للقمة المشتركة التي جمعته بقادة دول مجلس التعاون، فبعد أن يؤكد البيان في البند الحادي عشر "مشاركة دول المنطقة لمعالجة الملف النووي الإيراني، والأنشطة الإقليمية المزعزعة للاستقرار، والتصدي لدعم الجماعات الإرهابية والطائفية والتنظيمات المسلحة غير الشرعية، ومنع انتشار الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة"؛ يؤكد من جديد في البند الثاني عشر دعم "الجهود السلمية كافة، بما فيها مبادرة ومساعي دولة الإمارات العربية المتحدة للتوصل إلى حل سلمي لقضية الجزر الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى..." (15) وهو ما أثار الإيرانيين لما فيه من "دعم الصين ادعاءات الإمارات حول الجزر "(16) من جهة، ولخروج الصين عن المألوف في العلاقة الودية بينها وبين طهران من جهة أخرى.

ثار النقاش كالنار في الهشيم بعد صدور البيان، وتمحور حول أسباب توقيع الصين ومعاني التوقيع ومآلات العلاقة مع بكين. وإن فسّرنا الردود الإيرانية فيمكن تبويبها في رؤتين رئيستين؛ ففي الرؤية الأولی وهي الرؤية التي طغت علی النقاش، لم تُبد الصين اهتمامًا بحساسية الموضوع لدى إيران، وذهب البعض إلى حد اتهام الصين بخيانة صديقها القديم والوثيق في الشرق الأوسط. يعلل أصحاب هذه النظرة السلوك الصيني بأسباب عدة، منها ترجيح الصين العمل الاقتصادي والتجاري مع دول مجلس التعاون علی التعاون مع إيران (المجبرة إلى حد كبير علی الاستمرار في التعاون مع الصين بسبب العقوبات الأميركية) ومحاولة الصين إبعاد مجلس التعاون عن الولايات المتحدة، وهو أمر لا تحتاجه فيما يخص إيران البعيدة عن واشنطن أصلًا.

أما الرؤية الثانية فرجّحت عدم وقوف بكين علی حساسية الموضوع لدى طهران وانتقدت جهاز الخارجية الإيراني لعدم توقّع وتفادي ذلك عبر إيضاح الواقع لدى بكين قبل زيارة شي للرياض. ويقول أصحاب هذه القراءة إن البند المثير لإيران لم يتجاوز، في نظر الصين، الخطوط العريضة المعروفة للخارجية الصينية الداعية عادة إلى حل الخلافات الدولية عبر الحوار والركون إلى القانون الدولي.

وبعد إثارة الجدل الداخلي والنقاش النخبوي حول واقع الموقف الصيني ودوافعه، ذهبت إيران الرسمية نحو الرد علی الموقف الصيني. فعند زيارة مساعد رئيس­الوزراء الصيني طهران في غضون النقاش الساخط على الموقف الصيني وفي موقف نادرٍ لم تعهده العلاقات الثنائية، قام التلفزيون الإيراني بنشر صور للرئيس الإيراني مخاطبًا ضيفه بنبرة غير معهودة شكا فيها باسم "الحكومة والشعب الإيراني" مما صدر من الرئيس الصيني في الرياض وقال إن سلوكه أثار شكوكًا لدى الإيرانيين، وهو ما حاول الضيف الصيني تبديده بكلمات ودية حدّت من الجدل وإن لم توقفه (17). ونشر وزير الخارجية تغريدة باللغة الصينية قال فيها إن بلاده "لن تجامل أي طرف فيما يخص وحدة التراب الإيراني" (18). ورغم تلك المواقف المعبّرة عن الردود والنقاشات الداخلية، يمكن تلخيص الموقف الإيراني بعدم التأكد من مغزى التغيير الطارئ، وإذا كان مقصودًا ويعبّر عن استدارة صينية أم إنه غير مقصود ويعبّر عن عدم وقوف الصين علی حساسية الموضوع. وغني عن القول إن التثبّت من أي من الافتراضين سيؤدي إلى اتخاذ مواقف وسياسات مختلفة فيما يخص الصين والعلاقة معها.

النتيجة

أدى انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وفرضها عقوبات "الضغوط القصوى" من جانب أحادي إلى انكفاء النموذج الصيني الذي قام بالعمل وفقه الراحل رفسنجاني وحاول إعادة تطبيقه الرئيس روحاني، وضخّ ذلك الانكفاء الروح في مقاربة الاتجاه شرقًا من جديد. وهي مقاربة تبحث عن البديل الدولي أمام الضغوط الغربية لفتح أبواب اقتصادية جديدة أمام إيران إلى جانب تطوير علاقاتها بالأقطاب الصاعدة في نظام دولي في مرحلة انتقال، كما تبحث عن إحداث توازن بين اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية في الداخل. أتت الحرب الأوكرانية لتُعطي دفعة قوية للاتجاه شرقًا مع روسيا بالتحديد كما يُبدي تزايد أرقام التجارة البينية والمشاريع المشتركة ومذكرات التفاهم والاتفاقيات الموقعة بين روسيا وإيران. وتشير التقارير المنشورة عن التعاون العسكري بين البلدين إلى صور غير مسبوقة ومستويات عُليا للتعاون بمقايضات يراها الطرفان مربحة. وكان الاتجاه شرقًا قد بدأ زخمه الجديد مع توقيع اتفاقية الإطار للتعامل الشامل بين إيران والصين، إلا أن توقيع الرئيس الصيني لبيان مشترك مع قادة دول مجلس التعاون (رأى فيه الإيرانيون إساءة لبلدهم) أرسى مركب التفاهمات الصينية الإيرانية على كمّ هائل من الانتقادات. وعمدت الصين إلى محاولة لنزع فتيل النقاش الحاد ضدها بزيارة مقتضبة قام بها مساعد رئيس الوزراء الصيني لطهران، إلا أن ذلك لم يُبدّد الشكوك لدى طهران، إذ ما زال السؤال عن النيات والأهداف الصينية مطروحًا.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1-    "هم چرخ سانتريفيوژ بچرخد وهم چرخ اقتصاد بهترين شعار بود" (دوران عجلة أجهزة الطرد إلى جانب عجلة الاقتصاد كان أفضل شعار)، صحيفة كيهان، 24 خرداد 1399. (تاريخ الدخول: 1 يناير 2023): https://bit.ly/3RinCzm

2-    حسن روحاني (2011) أمنيت ملي وديپلماسي هسته اي (الأمن القومي والدبلوماسية النووية)، طهران: مركز تحقيقات استراتژيك، 1390. 
3-    "إبراهيم رئيسي: اقتصاد را معطل يك قرارداد نميكنيم" (إبراهيم رئيسي: لن نؤخر الاقتصاد من أجل اتفاقية)، وكالة ايسنا، 16 خرداد 1400. (تاريخ الدخول: 28 ديسمبر 2022): https://bit.ly/3HBTKur

4-    حسن أحمديان، "سياسة رئيسي الخارجية في عامها الأول: أولويات إقليمية وتحديات دولية" مركز الجزيرة للدراسات، 18 أغسطس 2022(تاريخ الدخول: 1 يناير 2023) : https://bit.ly/3JqaPZA
5-    "ديدار رئيس جمهور روسيه با رهبر انقلاب" (لقاء الرئيس الروسي مع قائد الثورة)، موقع خامنئي.آي آر، 28 تير 1401. (تاريخ الدخول: 27 ديسمبر 2022). https://bit.ly/3Drrrwb
6-    "حجم مبادلات تجاري روسيه وايران به يك ركورد بي سابقه رسيد" (وصول حجم التجارة الروسية الإيرانية إلى رقم قياسي جديد)، وكالة تسنيم للأنباء، 14 آذر 1401. (تاريخ الدخول: 1 يناير 2023): https://bit.ly/3HhI66x

7-    "افزايش تجارت ايران وروسية تا 40 ميليارد دلار" (ازدياد التجارة بين ايران وروسيا لـ40 مليار دولار)، وكالة ايرنا للأنباء، 4 خرداد 1401. (تاريخ الدخول: 1 يناير 2023): https://bit.ly/3Du9zRn
8-    "جزئيات تفاهمنامه 40 ميليارد دلاري ايران وروسيه" (تفاصيل مذكرة التفاهم الإيرانية الروسية بقيمة 40 مليار دولار)، موقع تجارت نيوز، 30 تير 1401. (تاريخ الدخول: 2 يناير 2023) : https://bit.ly/3RgStw3

9-     Jonathan Tirone and Golnar Motevalli (2022) “Russia and Iran are Building a Trade Route that Defies Sanctions,” Bloomberg, December 21. https://bloom.bg/3JjCOdr
10-    "روسيه: از عضويت ايران در اتحاديه اقتصادي اوراسيا حمايت ميكنيم" (روسيا: ندعم انضمام ايران لإتحاد أوراسيا الاقتصادي)، موقع بصيرت، 9 شهريور 1401. (تاريخ الدخول: 27 ديسمبر 2022) : https://bit.ly/3Jt6fKh
11-     “Ukraine official urges 'liquidation' of Iranian weapons factories” Reuters, December 24, 2022: https://reut.rs/3Y3IlZz
12-    Sakshi Tiwari (2022) “US Fears Russia Could Sell Its ‘Most Advanced’ S-400 Air Defense System To Iran On Top Of Su-35E Fighters,” Eurasian Times, December 13. https://bit.ly/3Y8vplw
13-    "برنامه جامع همكاري ايران وچين" (برنامج التعاون الشامل بين ايران والصين)، موقع وزارة الخارجية الإيرانية، د.ت. (تاريخ الدخول: 28 ديسمبر 2022) https://bit.ly/3XMSKt6

14-    حسن أحمديان، "ايران والصين: من التعاون إلى الشراكة الاستراتيجية" مركز الجزيرة للدراسات، 22 أبريل 2021، (تاريخ الدخول: 1 يناير 2023) : 
https://studies.aljazeera.net/ar/article/4979
15-    "النص الكامل لـ بيان قمة الرياض للتعاون والتنمية بين مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجمهورية الصين الشعبية" وكالة الأنباء السعودية، 9 ديسمبر 2022، (تاريخ الدخول: 1 يناير 2023): https://www.spa.gov.sa/2408124

16-    شيوا رحيمي، "چين إدعاي امارات در مورد جزاير ايراني خليج فارس را تأييد كرد" (الصين تدعم إدعائات الإمارات حول الجزر الإيرانية في الخليج الفارسي) موقع تجارت نيوز، 19 آذر 1401. (تاريخ الدخول: 2 يناير 2023): https://bit.ly/3wJyQDb
17-    "اظهارات صريح رئيس جمهور خطاب به معاون نخست وزير چين" (تصریحات رئيس الجمهورية الصريحة مخاطباً مساعد رئيس الوزراء الصيني)، وكالة مهر للأنباء، 23 آذر 1401. (تاريخ الدخول: 1 يناير 2023) : https://bit.ly/40cOC7q
18-    تغريدة لوزير الخارجية الإيراني، تويتر،12 ديسمبر/ كانون أول 2022،  (تاريخ الدخول: 1 يناير 2023): https://twitter.com/Amirabdolahian/status/1602190743673643008