مصر: تفاقم الأزمة في شمال سيناء

تشير الحملة العسكرية بشمال سيناء إلى تخلي النظام المصري عن المقاربة التنموية والحوارية، مقابل تبني سياسات أمنية؛ حيث تحولت سيناء إلى ساحة حرب بين الدولة والمجتمع السيناوي. وقد أصبحت المنطقة العازلة مطلبًا إسرائيليًّا-أميركيًّا، وترتبط بالسياسة المصرية الجديدة تجاه قطاع غزة والمقاومة في القطاع.
2014113123549735734_20.jpg
أصبحت المنطقة العازلة مطلبًا إسرائيليًّا-أميركيًّا، وترتبط بالسياسة المصرية الجديدة تجاه قطاع غزة والمقاومة في القطاع [رويترز]

ملخص

منذ الإطاحة بالرئيس مرسي، وتدهور العلاقة بين حماس ونظام الحكم المصري، التقت وجهتا النظر المصرية والإسرائيلية نحو حماس والوضع في قطاع غزة بصورة كبيرة؛ وبات إضعاف حماس واحتواء نفوذها في قطاع غزة هدفًا مشتركًا للجانبين. ولذا، فإن القرار بإنشاء منطقة عازلة على الحدود، الذي قدمه نظام السيسي باعتباره الإجراء الرئيس لعلاج الفشل الأمني الذي كشفته عملية الشيخ زويد، لا علاقة له بمكافحة الإرهاب في سيناء والتعامل مع المنظمات المسلحة فيها؛ فالمنطقة العازلة مطلب إسرائيلي-أميركي، ولا يُتوقع أن تؤثر، سلبًا أو إيجابًا، في الحرب الدائرة بين الحكم والتنظيمات المسلحة في شمال سيناء.

وفي السياق ذاته بدأت جماعة أنصار بيت المقدس مؤخرًا في اتباع أساليب الردع التي يتبعها تنظيم داعش مع الخصوم في المناطق الحاضنة، بما في ذلك قتل المتعاونين مع أجهزة الأمن المصرية والإسرائيلية، والتبني الصريح للمسؤولية عن عمليات القتل.

أما خارجيًّا، وفي سياق انهيار السيطرة المركزية في ليبيا ما بعد الثورة، والعداء المتصاعد بين الثوار الليبيين والنظام المصري، لم يعد من المستبعد أن تُؤسَّس صلات ما بين التنظيمات المسلحة في شمال سيناء والجماعات الليبية المسلحة، التي تشاركها الخلفية الأيديولوجية.

تعرَّض كمين أمني مصري في منطقة الشيخ زويد من محافظة شمال سيناء، يوم الجمعة 24 أكتوبر/تشرين الأول، لهجوم مسلح لم تتضح تفاصيله بعد، أدى إلى مقتل ما يزيد عن 30 عسكريًا وجرح عشرات آخرين. في اليوم نفسه، أعلنت الحكومة المصرية حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر في محافظة شمال سيناء، ودفعت بالمزيد من قوات الجيش والأمن إلى المنطقة القريبة من حدود مصر الشرقية مع قطاع غزة والدولة العبرية. كما أُعلن في القاهرة عن إغلاق معبر رفح مع قطاع غزة لأجل غير مسمى، وتأجيل جولة المفاوضات غير المباشرة بين حماس والدولة العبرية، التي كان من المقرر أن تستضيفها القاهرة في الأسبوع الأخير من أكتوبر/تشرين الأول. بعد أيام قليلة، أعلنت السلطات المصرية عن تنفيذ خطة لإقامة منطقة عازلة مع قطاع غزة، تمتد من 400 متر إلى كيلومترين؛ مما استدعى إجبار آلاف من الأهالي الذين يقطنون المنطقة العازلة المفترضة على التخلي عن منازلهم وأراضيهم الزراعية.

في ضوء إعلان الرئيس المصري عن أن الهجوم يستهدف كسر إرادة مصر وجيشها، وأن حكومته ستتخذ الخطوات الكفيلة بمواجهة الإرهاب في سيناء، فالمتوقع أن لا تقتصر الإجراءات الحكومية المصرية في شمال سيناء على ما أعلنته خلال الأيام القليلة التالية لوقوع الهجوم. وتفيد تقارير نشرها نشطاء حقوقيون محليون أن وحدات من الجيش المصري بدأت حملة جديدة ضد الأهالي في المناطق التي يشتبه باحتضانها للجماعات المسلحة، وأن هذه الوحدات تعتمد ممارسات بشعة في تعاملها مع الأهالي.

فإلى أي حد يمكن أن تنجح مقاربة الحكومة المصرية للشأن السيناوي في احتواء موجة العنف المسلح المتصاعدة في هذه المنطقة بالغة الاضطراب من البلاد؟ وهل يصب قرار إنشاء المنطقة العازلة فعلاً في جهود مكافحة الإرهاب في شمال سيناء، أم أنه يستهدف تحقيق أهداف أخرى؟

محافظة مضطربة

ليس هذا هو الهجوم المسلح الأول على قوات الجيش والأمن المصرية في شمالي شرق سيناء، وإن كان أكثرها دموية. فمنذ صيف 2012، وإلى جانب عشرات من الحوادث الصغيرة والمحدودة، تعرضت قوات الجيش والأمن لست هجمات رئيسة: أولها كان ما يُعرف في اللغة السياسية المصرية بمذبحة رفح الأولى، التي أوقعت 16 قتيلاً من الجنود في نقطة حدودية، في 5 أغسطس/آب 2012، وأدت إلى قرار الرئيس السابق محمد مرسي بالإطاحة بوزير الدفاع وقائد أركان الجيش آنذاك. أسست جهود مرسي السياسية وخطط التنمية الكبيرة التي أعلنتها حكومته في شمال سيناء لفترة هدوء طويلة في المحافظة، لم تنته إلا بعد الانقلاب على مرسي ووقوع ما يُعرف بمذبحة رفح الثانية في 19 أغسطس/آب 2013، التي أوقعت 25 ضحية من العسكريين. في 11 سبتمبر/أيلول من العام نفسه، فُجِّر مبنى المخابرات الحربية في رفح المصرية، في هجمة أدت إلى سقوط 11 قتيلاً من حراس المبنى والعاملين فيه. في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، أدى هجوم في مدينة العريش إلى مقتل 11 جنديًا آخرين؛ وفي 28 يونيو/حزيران 2014، قُتل أربعة جنود في منطقة رفح.

ما أشارت إليه البيانات الرسمية، أن سبب عملية الجمعة 24 أكتوبر/تشرين الأول كان تفجيرًا لسيارة يقودها انتحاري. ولكن الصور التي سُرِّبت لموقع الهجوم تشير إلى دمار واسع، بما في ذلك تحطيم ناقلات عسكرية مصفحة، مما يوحي بأن الهجوم كان أكبر من مجرد سيارة متفجرة، وربما شمل أيضًا هجومًا بقذائف الهاون. الأهم، أن البيانات الرسمية لم توضح السبب خلف وجود هذه العدد الكبير من الضباط والجنود في نقطة عسكرية صغيرة، ليست سوى كمين لمراقبة الطريق (check-point). ما يضفي قدرًا آخر من الغموض، أن جهة ما لم تعلن مسؤوليتها عن العملية حتى بعد مرور أسبوع على وقوعها.

تعود الجماعات المسلحة في شمال سيناء، كما أوضح تقرير سابق لمركز الجزيرة للدراسات، إلى تغلغل التيار السلفي الجهادي في المنطقة خلال التسعينات من القرن الماضي. والواضح أن أغلب الجماعات السلفية المبكرة قد اضمحل أو تحلل أو انقسم على نفسه بعد ذلك، وأنها انتهت إلى تيارين رئيسيين: الأول: ويعتبر أن هدفه الرئيس مساندة المقاومة في فلسطين، بمهاجمة الاحتلال الإسرائيلي وتغلغله في شمال سيناء؛ والثاني: ويرى أن الحُكم المصري، بممارسته الظلم والطغيان ضد أهالي سيناء وتواطئه مع الإسرائيليين، بات غير شرعي، وينبغي مقاومته وإسقاطه.

أطلقت الهجمات التي شنتها الجماعات المسلحة في شمال وجنوب سيناء خلال التسعينات والعقد الأول من هذا القرن عدة حملات عسكرية وأمنية واسعة النطاق. وليس ثمة شك في أن هذه الحملات فاقمت من الوضع في المنطقة، أكثر من قدرتها على مكافحة الانفلات الأمني. لا يزيد تعداد سكان شمال سيناء عن ثلاثة أرباع المليون، يتمركزون بصورة كبيرة في الشريط الساحلي الممتد من شرق القنطرة، مرورًا بمدينة بئر العبد، إلى رفح المصرية على الحدود مباشرة مع قطاع غزة. وتعتبر مدينة العريش، عاصمة المحافظة، الأكثر كثافة سكانية في المحافظة. وتتكون الأغلبية العظمى من سكان شمال سيناء من عنصرين رئيسيين: الأول: ويضم أبناء القبائل البدوية، سيما التياهة، والسواركة، والترابين، والرميلات، والمساعيد، وعشائر أصغر من أصول طائية، الذين استقروا في معظم قرى ومدن المحافظة الصغيرة، ويعملون في الزراعة وتربية الحيوانات. يعود وجود بعض هذه العشائر، التي تتصل بصلة قرابة مع الامتدادات القبلية في جنوب فلسطين والأردن، إلى ما قبل الإسلام، وأخرى إلى موجات الهجرة المتعاقبة خلال القرون التالية؛ وترتبط ارتباطًا وثيقًا بسيناء وأرضها. أما العنصر الثاني، فيضم أبناء المهاجرين من البلقان والقوقاز، الذين وطَّنتهم الدولة العثمانية في مدينة العريش منذ نهاية القرن الثامن عشر وخلال التاسع عشر، لحماية الطريق الساحلي وحفظ أمنه.

لأسباب استراتيجية، فصل البريطانيون، خلال فترة احتلالهم الطويلة لمصر، شبه جزيرة سيناء عن وادي النيل، وكان على أبناء الوادي، بمن في ذلك موظفو الدولة، الحصول على تصريح خاص لدخول سيناء. ولأسباب غير واضحة حتى الآن، حافظت الدولة الجمهورية خلال العهد الناصري على القيود الإدارية ذاتها. جعل هذا الفصل التعسفي، الذي كان له عواقب اقتصادية بالغة، الحياة في شمال سيناء نضالاً شاقًا من أجل البقاء، من جهة، وعزز علاقات أبناء شمال سيناء بقطاع غزة وأهله (الذي كان آنذاك تحت إدارة مصرية)، من جهة أخرى.

وقد أسس هذا الانفصال، وإحجام الإدارات المصرية المتعاقبة عن فتح أبواب الجيش والمؤسسة الأمنية والبيروقراطية المدنية لأبناء شمال سيناء، لهوَّة ثقافية واجتماعية بين أبناء القبائل وسكان العريش، من جهة، ورجال الدولة المصرية من أبناء الوادي، الذين سيطروا على مقدرات شمال سيناء، من جهة أخرى. لم يستطع رجال الدولة استيعاب قيم الشرف والكرامة والثأر والقرابة، السائدة في مجتمع شمال سيناء، ولا فهموا طبيعة تدين أبناء القبائل أو أهل العريش؛ بل وعجزوا حتى في الكثير من المناسبات عن فهم اللهجات العربية المستخدمة في المنطقة.

خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي بعد 1967، وبالرغم من انخراط العديد من أبناء سيناء في مقاومة الاحتلال، وربما بسبب هذا الانخراط، تغيرت الظروف الاقتصادية والمعيشية بصورة ملموسة. عامل الإسرائيليون شيوخ القبائل بدرجة من الاحترام، وفروا الخدمات الصحية والتعليمية، وفتحوا أسواق سيناء على قطاع غزة وفلسطين المحتلة منذ 1948، وأدخلوا تقنيات جديدة للزراعة وتربية الحيوانات. وهذا ما ساعد في تحسن ملموس في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. بانسحاب الإسرائيليين وعودة السيادة المصرية، توقع أبناء سيناء أن تصدق القاهرة هذه المرة في وعود التنمية الشاملة، ولكن المشاريع الوحيدة التي حرصت عليها حكومات الرئيس مبارك كانت تلك الخاصة بالتنمية السياحية، المتسعة في جنوب سيناء، والأقل اتساعًا في الشمال. وبالرغم من أن السياحة، التي ارتبطت بشركات كبرى غير محلية، وفرت مصادر اقتصادية محدودة، إلا أنها فاجأت مجتمعات سيناء بإدخال قيم أخلاقية غريبة وغير مقبولة، وأجَّجت الصراع حول ملكية الأرض. كما كشفت عن رضا الدولة المصرية عن بقاء سيناء مفتوحة للإسرائيليين؛ وهذا ما أفسح المجال في النهاية لنشاط الجماعات الدينية، سيما السلفية منها.

اتسمت الحملات الأمنية خلال التسعينات والعقد الأول من القرن الحالي بقدر هائل من العنف والاستباحة، وعكست حجم التباعد الثقافي والاجتماعي بين مؤسسات الدولة والمجتمع السيناوي؛ ولكنها لم تستطع القضاء على التنظيمات المسلحة، التي أصبحت أكثر تجذرًا نسبيًا في المجتمع. في المرحلة بعد الثورة المصرية، أسهم تدين المجتمع السيناوي والهوة التي فصلته عن نظام مبارك في حصول مرسي على الأغلبية الساحقة من أصوات السيناويين في الانتخابات الرئاسية. وبعملية رفح الأولى، أدرك مرسي أن عليه تأسيس نمط جيد للعلاقة بين القاهرة وسيناء. كُثِّفت الاتصالات بين مكتب الرئيس ووجوه القبائل ورؤساء العائلات، كما بالنشطين الحقوقيين والإسلاميين، وبدأت حكومة هشام قنديل إعداد مشروع شامل للتنمية بتكلفة تزيد عن أربعة مليارات جنيه.

حالة حرب فعلية

أعاد الانقلاب على مرسي علاقة الشك والخوف بين القاهرة والسيناويين. وبإطلاق الحملة العسكرية الواسعة بعد عملية رفح الثانية، المستمرة حتى الآن، وتعهد نظام الانقلاب حملة تدمير منهجية للانفاق بين قطاع غزة ومصر، التي شكَّلت موردًا اقتصاديًا مهمًّا لأهالي سيناء، تحولت سيناء إلى ساحة حرب فعلية بين الدولة والمجتمع السيناوي.

التنظيم الأكثر شهرة الآن في سيناء هو أنصار بيت المقدس، الذي تعود أولى الإشارات على نشاطه إلى نهاية 2011 وبداية 2012. ويعتقد أن التنظيم كسب العديد من الأنصار خلال العام التالي للانقلاب على مرسي، أولاً: لأن الحملة العسكرية في شمال سيناء وظَّفت وسائل القمع والإهانة نفسها التي استخدمتها أجهزة نظام مبارك، وبصورة أكثر تدميرًا واستفزازًا هذه المرة؛ وثانيًا: لأن عملية الانقلاب ذاتها عززت الرأي القائل في صفوف الجماعات المسلحة في سيناء بأن الوسائل السياسية والديمقراطية للحوار مع القاهرة لن تجدي شيئًا، وأن السلاح بات أداة الحوار الوحيدة. لم تقتصر عمليات التنظيم في مرحلة ما بعد مرسي على شبه جزيرة سيناء، بل اتسعت لتطول أهدافًا في القاهرة والدقهلية وبورسعيد والإسماعيلية والسويس. وبالرغم من صعوبة تأكيد ذلك، فقد أعلن التنظيم أيضًا مسؤوليته عن العملية الدموية التي أدت لمقتل 28 عسكريًا في واحة الفرافرة، في صحراء مصر الغربية، في 19 يوليو/تموز 2014.

ثمة عدد من العوامل يقف خلف تصاعد وتيرة الهجمات على الأهداف العسكرية والأمنية في شمال سيناء، واتساع نطاق الحرب بين أنصار بيت المقدس والدولة خلال العام الماضي:

1) التزايد الملموس في أعداد المسلحين المنتمين للتنظيم منذ وقوع الانقلاب على مرسي، وتُظهر بعض الأشرطة المصورة لصلوات العيد أو الجنازات لأعضاء التنظيم، مئات من المسلحين، وعشرات من عربات الدفع الرباعي، وحرية نسبية للتجمع والحركة في بعض المناطق المعزولة لشبه الجزيرة.

2) مُفيدًا من مؤسسة التعليم الجماعي، ومن الترابط الاجتماعي الذي وفرته التجمعات السكنية المستقرة، ومن خلفيته الإسلامية، استطاع التنظيم كسر الفواصل القبلية وتجنيد عناصره من معظم قبائل شمال سيناء والتمتع بما توفره الحواضن القبلية المختلفة.

3) دفعت الضغوط الأمنية على التنظيم الكثير من العناصر التي ترجع في أصولها لمدن الوادي إلى العودة لمدنها وقراها في وادي النيل، حيث بدأت تشكيل مجموعات مسلحة، لعبت، كما يبدو، دورًا رئيسًا في العمليات التي شهدتها مدن القناة الوادي الرئيسية.

4) أن التنظيم أفاد من خبرات خارجية، سيما من علاقة بدأت تُنسج، لم تزل مقصورة ربما على الاتصالات عبر الإنترنت، بين أنصار بيت المقدس وداعش. وقد أكد مسؤول في أنصار بيت المقدس هذه العلاقة، وتبادل الخبرات، في حديث أجرته معه وكالة رويترز للأنباء في 5 سبتمبر/أيلول 2014.

5) عمل اضطراب العلاقة بين القاهرة والثوار في ليبيا، وحرص القاهرة على قطع خطوط إمداد السلاح لقطاع غزة، على توفر كميات متزايدة من السلاح والذخائر والمتفجرات في شمال سيناء.
بدأت جماعة أنصار بيت المقدس مؤخرًا في اتباع أساليب الردع التي يتبعها تنظيم داعش مع الخصوم في المناطق الحاضنة، بما في ذلك قتل المتعاونين مع أجهزة الأمن المصرية والإسرائيلية، والتبني الصريح للمسؤولية عن عمليات القتل. وإن تأكدت التقارير التي تفيد بأن الهجوم الأخير على كمين الشيخ زويد قد أُنجز بعملية انتحارية، فالواضح أن التنظيم بات يلجأ لوسائل شبيهة بتلك التي طالما وظفها داعش في حربه مع الجيش والأمن العراقيين.

ولأن الحملة العسكرية المستمرة منذ أكثر من عام تتسم بطابع القمع والعقوبات الجماعية، وأن إجراءات ما بعد عملية الشيخ زويد، بما في ذلك منع التجوال لساعات طويلة، وقطع الاتصالات، وتدمير المنازل والتجمعات السكانية والمزارع والممتلكات، والإهانات العلنية لكافة شرائح المجتمع، والتهجير الجماعي، تعمِّق من الطبيعة القمعية الجماعية للمقاربة الحكومية؛ فالواضح أن سيناء باتت مرشحة للتحول إلى ساحة حرب واسعة بين الدولة المصرية وجزء من شعبها.
كلما تصاعدت إجراءات القمع الجماعي، اتسعت الهوة بين أجهزة الدولة والأهالي، وتزايدت فرص المسلحين في تجنيد العناصر، وتوفير البيئات الحاضنة، وفي إعطاء المواجهة طابع الحرب مع المجتمع السيناوي.

حصار غزة وأمن الدولة العبرية

شكَّلت الجماعات المسلحة منذ التسعينات مصدر قلق للإسرائيليين، سيما أن بعضًا من عمليات هذه الجماعات استهدف سائحين وأهدافًا إسرائيلية قرب حدود البلدين. وقد تعامل الإسرائيليون مع هذه التطور في جوارهم بطريقتهم المعتادة، وعملوا على تجنيد شبكات من العملاء في سيناء، وقاموا بالفعل بعدة عمليات اغتيال لعناصر من المجموعات المسلحة، ولكن مصدر القلق الرئيس للإسرائيليين لم يتعلق بعدد أو حجم العمليات التي تعهدتها التنظيمات السيناوية ضد أهداف إسرائيلية، بل بالدور الذي باتت سيناء تلعبه في إمداد وتسليح تنظيمات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.

تصاعدت الضغوط الإسرائيلية على مصر من أجل إغلاق الأنفاق الحدودية، التي سمحت بها السلطات المصرية جزئيًا لتخفيف الضغوط المعيشية على القطاع، منذ نهاية حرب 2008-2009. ولأن مصر والولايات المتحدة لعبتا دورًا بارزًا في التوصل لاتفاق نهاية الحرب، لم تأت الضغوط على مصر من الدولة العبرية وحسب، بل ومن واشنطن أيضًا. ويرجح أن الوفود الأميركية الأمنية التي زارت منطقة الحدود المصرية مع قطاع غزة في مطلع 2009 هي التي قدمت مقترحات مثل إنشاء منطقة عازلة، أو إقامة جدار حديدي عميق، أو حفر قناة مائية، لوضع حد نهائي لنشاطات الأنفاق. ولكن، وبالرغم مما أبدته القاهرة من استعداد للتعاون في إغلاق الأنفاق، إلا أن السياسة المصرية لم تكن جادة تمامًا في هذا المجال. كان نظام مبارك يعرف أن الإغلاق الكامل للأنفاق سيؤدي إلى انفجار أمني واسع النطاق في منطقة الحدود، وظلت السياسة المصرية تدور حول إبقاء ولو جزءًا من الأنفاق للمساعدة في توفير حاجات أهالي القطاع المعيشية.

خلال الفترة بعد الثورة المصرية في يناير/كانون الثاني 2011، تزايدت الأنفاق بصورة هائلة، وتصاعدت نشاطات تهريب البضائع والسلاح من الجانب المصري إلى القطاع. وفي موازاة ذلك، تصاعدت الضغوط على المجلس العسكري للتعامل مع الظاهرة، سواء من الإسرائيليين أو الأميركيين. ويُعتقد أن قرارًا بإنشاء منطقة عازلة قد اتُّخذ بالفعل من قبل المجلس العسكري المصري قبل الانتخابات الرئاسية المصرية في صيف 2012. ولكن وصول مرسي لمقعد الرئاسة أخرج المنطقة العازلة من الحسابات كلية، سيما أن مرسي سرعان ما أدرك أن عواقب مثل هذه الخطوة لم تكن لتؤثر على الوضع في القطاع وحسب، بل وعلى علاقة إدارته بأهالي سيناء أيضًا.

منذ الإطاحة بمرسي، وتدهور العلاقة بين حماس ونظام الحكم المصري، التقت وجهتا النظر المصرية والإسرائيلية نحو حماس والوضع في قطاع غزة بصورة كبيرة؛ وأصبح إضعاف حماس واحتواء نفوذها في قطاع غزة هدفًا مشتركًا للجانبين. تعرف الأجهزة المصرية الاستخباراتية والعسكرية بصورة لا تحتمل الشك أن الأنفاق تُستخدم لإدخال البضائع والسلاح من الجانب المصري إلى الجانب الغزي، وليس العكس. كما تعرف هذه الأجهزة أن المصريين المقيمين على الحدود، الذين يرتبطون باقتصاد الأنفاق، لا علاقة لهم بالإرهاب، وأن همهم الرئيس هو التجارة مع القطاع. ولكن، ومع كل هجمة تعرضت لها قوات الجيش أو الأمن في سيناء، تصاعدت وتيرة حملة الإعلام الموالي للنظام الانقلابي لاتهام حماس أو أعضاء فيها بدعم المسلحين في سيناء أو التخطيط والمشاركة في الهجمات. وربما كانت الاتهامات الأخيرة للشهيدين محمد أبو شمالة ورائد العطار، اللذين استشهدا في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، بالمسؤولية عن عملية الشيخ زويد مثالاً واضحًا على نوايا نظام الجنرال السيسي.

ولذا، فإن القرار بإنشاء منطقة عازلة على الحدود، الذي قدمه نظام السيسي باعتباره الإجراء الرئيس لعلاج الفشل الأمني الذي كشفته عملية الشيخ زويد، لا علاقة له بمكافحة الإرهاب في سيناء والتعامل مع المنظمات المسلحة فيها. المنطقة العازلة هي أصلاً مطلب إسرائيلي-أميركي، وترتبط بالسياسة المصرية الجديدة تجاه قطاع غزة والمقاومة في القطاع، وليس من المتوقع أن تؤثر، سلبًا أو إيجابًا، في الحرب الدائرة بين الحكم والتنظيمات المسلحة في شمال سيناء. ولعل تأييد الناطقة باسم الخارجية الأميركية، 30 أكتوبر/تشرين الأول، لخطوة المنطقة العازلة، بالرغم من الشبهات الدستورية-الحقوقية والإنسانية التي تحيط بها، يشير بوضوح إلى أن مصر تستجيب أخيرًا للمطلب الإسرائيلي-الأميركي.

خاتمة

ليس ثمة تحد مسلح يمكن أن تواجهه دولة مثل ذلك الذي يرتكز إلى أرضية سياسية-أيديولوجية، وثقافية-اجتماعية. والواقع، أن مشكلة النظام المصري لم تعد محصورة بعدة عشرات من المسلحيين السلفيين الجهاديين، بل بقطاع واسع من المجتمع السيناوي. في أكثر من مناسبة، توفرت للقاهرة فرصة ردم الهوة التاريخية بين أهالي شمال سيناء والدولة المركزية، ولكن أنظمة الحكم المصرية المتعاقبة لم تقم بمهمتها كما يجب، أو أنها اتبعت سياسات فاقمت من حجم المشكلة. ما يحسب لإدارة مرسي، قصيرة العمر، أنها بدأت بالفعل تطوير مقاربة شاملة لاستعادة شمال سيناء، واستطاعت كسب ثقة أغلبية المجتمع السيناوي بصورة ملموسة؛ ولكن الإطاحة بمرسي لم تستعد مناخ الشك والريبة بين السيناويين والقاهرة وحسب، ولكنها أيضًا عززت وجهة النظر الأكثر تطرفًا وراديكالية في صفوف المسلحين.

ما تشي به الإجراءات الحكومية الأخيرة في شمال سيناء أن النظام تخلى بصورة كبيرة عن المقاربة التنموية والحوارية، ومال أكثر باتجاه سياسات القمع الأمنية والعقوبات الجماعية. كما أن التقارب الوثيق بين الأجهزة الأمنية والعسكرية المصرية ونظيرتها الإسرائيلية لن يؤدي إلا إلى توكيد خطاب العداء وفقدان الشرعية الذي توجهه الجماعات السلفية المسلحة للنظام المصري. ولأن هذه السياسات لم تُجْدِ من قبل، فليس من المتوقع أن يؤدي المزيد منها إلى نتيجة مخالفة. خلال الشهور القليلة المقبلة، من المتوقع أن تتسع الحاضنة المجتمعية للمسلحين وأن تتزايد أعداد المنضوين في صفوفهم من أبناء القبائل السيناوية على وجه الخصوص.

ليس ذلك وحسب، فإلى جانب بروز أدلة على وجود صلات، وإن غير مباشرة، بين تنظيم أنصار بيت المقدس وداعش، فإن أغلب مجموعات التنظيم التي ألقت الأجهزة الأمنية القبض عليها في محافظات الوادي تضم عناصر من أبناء هذه المحافظات وليس فقط من أبناء القبائل السيناوية. وفي ضوء انهيار السيطرة المركزية، الهشة أصلاً، في ليبيا ما بعد الثورة، والعداء المتصاعد بين الثوار الليبيين والنظام المصري، لم يعد من المستبعد أن تُؤسَّس صلات ما بين التنظيمات المسلحة في شمال سيناء والجماعات الليبية المسلحة، التي تشاركها الخلفية الأيديولوجية.

سيناء، باختصار، مرشحة لأن تبقى مصدر قلق وتحد للسلطات المصرية. وليس هناك في سياسات هذه السلطات ما يوحي بأنها تسير على النهج الصحيح لمواجهة هذا القلق واحتواء عواقب هذا التحدي. والأخطر، أن تستطيع التنظيمات السيناوية المسلحة تأسيس قواعد ارتكاز صلبة مماثلة في محافظات الوادي.