مصر: منابع السخط لا تنضب (رويترز-أرشيف) |
ملخص ما شهدته مصر يوم الأحد الماضي، في الذكرى الرابعة لثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، كانت عوامله فاعلة طوال ما يقارب تسعة عشر شهرًا؛ حيث تواصل الحراك الشعبي المعارض لنظام 3 يوليو/تموز 2013 بوتائر مختلفة، من الاحتشاد في ميداني رابعة والنهضة، ثم مظاهرات محدودة في مناطق مختلفة من البلاد، ثم مظاهرات حاشدة في أيام الجمعة من كل أسبوع. بيد أن أحداث الذكرى الرابعة للثورة المصرية شهدت نوعًا من التغيير في المزاج الشعبي المعارض، كما أن حجمها كان الأضخم بما لا يقاس، مقارنة بالحراك خلال أشهر العام الماضي. هذه الصورة تناقض الرسالة التي عمل النظام على إرسالها، إقليميًّا ودوليًّا، بأنه نجح أخيرًا في إحكام قبضته على البلاد، وأن التحدي الرئيس الذي يقابله اليوم هو الملف الاقتصادي، لا غير. |
مقدمة
وقعت، في وقت متأخر من مساء يوم الأحد 25 يناير/كانون الثاني، مئات المظاهرات الشعبية في أغلب مدن مصر وبلداتها؛ هجمات واسعة النطاق على مراكز الحكم والداخلية والإدارة المحلية؛ حرق عشرات السيارات والناقلات التابعة لقوات الأمن والبوليس؛ حوادث قطع طريق وسكك حديدية في كافة أنحاء البلاد؛ بل وهجمات مسلحة على دوريات وكمائن لقوات الأمن. كانت حصيلة اليوم، الذي استمر بعض فعالياته الجماهيرية حتى فجر اليوم التالي، أكثر من 25 قتيلًا من المتظاهرين، وأربعة عناصر من قوات الأمن، إضافة لمئات الجرحي من المتظاهرين وعدة مئات آخرين تم اعتقالهم.
فيما يلي قراءة أولية لأحداث الأحد 25 يناير/كانون الثاني 2015 ودلالاتها على مستقبل الحركة الشعبية المعارضة، ومستقبل نظام الحكم، ورؤية القوى الإقليمية والدولية ذات الاهتمام لوضع هذا النظام.
تنامي الحراك الشعبي
ليس من السهل، بالنظر إلى عدد الحركات الاحتجاجية وانتشارها في أنحاء البلاد، تقدير حجم المشاركين في الحراك الشعبي، ولكن الواضح أن مصر شهدت واحدًا من أكبر الحشود الشعبية المعارضة للنظام منذ فضِّ اعتصامي رابعة والنهضة في صيف 2013. هناك جملة من الأسباب تقف خلف هذا التصعيد الشعبي المعارض، وأهم هذه الأسباب هو المناخ السياسي العام الذي يسود البلاد بعد أكثر من عام ونصف العام على ولادة نظام 3 يوليو/تموز 2013، واتضاح حجم النقلة التي شهدتها مصر من وضع ديمقراطي، حر، غير مستقر، إلى وضع يخضع لقبضة أمنية قمعية، تضيق فيه مساحة الحرية السياسية باستمرار، ولا يبشر باستقرار سريع. وقد عززت أحكام التبرئة، والإفراج عن رموز نظام مبارك، وعن مبارك نفسه وابنيه، من الشعور بأن مصر تعود بصورة مطَّردة إلى النظام القديم، وإنْ بأسماء جديدة. إضافة إلى ذلك، فإن الانهيار المتسارع في سعر الجنيه المصري والتدهور المتسارع في الأوضاع الاقتصادية، رسَّب قناعة واسعة بأن النظام لم يعد قادرًا، بالرغم من الدعم الخليجي الكبير، على احتواء الأزمة الاقتصادية المستفحلة.
دفع هذا المناخ بقطاعات شعبية جديدة إلى الالتحاق بالحراك المعارض، ولكن الأمر لم يقتصر على الاتساع الشعبي العفوي للحراك؛ ففي المدن الكبرى، على الأقل، سيما العاصمة القاهرة، هناك مؤشرات متزايدة على أن جماعات سياسية، مثل 6 إبريل واليسار الراديكالي والحركات الطلابية المعارضة، أصبحت أكثر استعدادًا للنزول إلى الشارع ومشاركة تحالف دعم الشرعية فعالياته من التظاهرات الشعبية. من جهة أخرى، عززت التغييرات المتلاحقة في البنية القيادية للإخوان المسلمين، داخل وخارج البلاد، من ثقة القواعد الإخوانية بالنفس، وتركت أثرها على قدرة التيار الإخواني، والمتعاطفين معه، على الحشد، وتصميمه على مواصلة الحراك الثوري ضد النظام.
ولكن، وبالرغم من الحشد الشعبي الكبير وعدد التظاهرات الجماهيرية واتساع نطاقها، فمن الصعب القول: إن ميزان القوى بين المعارضة والنظام وصل إلى المنعطف الحرج. لم تزل أغلبية بين المصريين تحجم عن المشاركة في الحراك الشعبي المعارض، إما بسبب الخوف من النظام وآلته القمعية، أو الرغبة في رؤية عودة الاستقرار، أو افتقادها البديل بعد إخفاق تجربة التحول الديمقراطي الأولى وتصدع الصف الثوري، أو حتى بسبب تأييد النظام والخشية من عودة الإسلاميين للحكم. بمعنى، أن قطاعات واسعة من الشعب لم تصل بعد إلى مستوى السخط الذي يدفعها إلى الشارع، مطالبة بإسقاط النظام.
تعطيل آلة الدولة
ثمة تحول لا يخفى في مزاج الحركة الشعبية المناهضة لنظام 3 يوليو/تموز 2013، فبالرغم من أن حركة الإخوان المسلمين، القوة الرئيسة في تحالف دعم الشرعية، الذي قاد المعارضة للانقلاب طوال الأشهر التسعة عشر الماضية، وشركاءها في التحالف، التزمت نهجًا سلميًّا كاملًا في معارضة النظام، فإن هناك مجموعات من الشباب، في طوال البلاد وعرضها، تتجه نحو تبني وسائل مختلفة قليلًا. بدأ ظهور مؤشرات هذا التحول بخجل وتردد منذ حوالي العام، ولكن هذه المؤشرات وصلت مستوى لم يعد من الممكن تجاهله في أحداث يوم 25 يناير/كانون الثاني الماضي، وما تلاه من أيام.
ويمكن تقسيم هذه المؤشرات إلى قسمين رئيسيين:
الأول: يشمل أعمال التخريب والتدمير والحرق لمؤسسات الحكم والإدارة المحلية؛ وأقسام ومراكز وسيارات الشرطة والأمن؛ ونقاط وأبراج شبكة الاتصالات الهاتفية؛ ومحولات الكهرباء الرئيسة؛ وطرق المواصلات البرية والسكك الحديدة. كما برزت مؤخرًا توجيهات للمودعين بسحب أموالهم من البنوك المختلفة، في تهديد واضح باستهداف القطاع البنكي.
أما القسم الثاني، فيشمل هجمات مسلحة منظمة على مراكز الشرطة والأمن، وعلى الكمائن ونقاط التفتيش الأمنية، وهجمات بهدف الاغتيال لضباط وقضاة ووكلاء نيابة وعملاء أمنيين، متهمين بسجلهم القمعي. الواضح أن الهدف من قسم الأعمال الأول تقويض قدرة النظام على الحكم وتعطيل آلة الدولة، وأن الهدف من قسم الأعمال الثاني الانتقام والعقاب.
ثمة ثلاث جماعات، أعلنت عن نفسها في أوقات مختلفة، لا تخفي مسؤوليتها عن هذه الأعمال. الأولى، وتسمى أجناد مصر، أعلنت عن وجودها قبل زهاء العام، وتتبنى شعارًا لها راية سوداء، تشبه إلى حد كبير راية تنظيم الدولة الإسلامية. وفي حال تأكدت علاقة أجناد مصر بتنظيم الدولة الإسلامية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تكون هذه الجماعة المسلحة، التي تنشط في محافظات وادي النيل، الثانية بعد أنصار بيت المقدس، التي تنشط في شمال سيناء، التي تعلن انتماءها إلى الدولة الإسلامية وتصورها الجهادي للإسلام.
أما الجماعة الثانية، فتطلق على نفسها اسم: حركة العقاب الثوري، وقد أعلنت عن وجودها قبل يوم واحد من الذكرى الرابعة لثورة يناير/كانون الثاني، مدعية أن لها مجموعات نشطة في 15 من محافظات مصر. وبالرغم من صعوبة القطع في حقيقة مثل هذه الحالات، فإن إعلان انطلاقة حركة العقاب الثوري بدا خاليًا من لغة الخطاب الإسلامي الجهادي؛ مما قد يشير إلى أن هذه الجماعة ليست إسلامية التوجه. ولكن المدهش كان حجم العمليات التي تبنتها الجماعة في يومي 25 و26 يناير/كانون الثاني الماضي، التي توزعت على مناطق مختلفة من البلاد، بما في ذلك القاهرة والإسكندرية ومدن قناة السويس.
لا تتورع أجناد مصر والعقاب الثوري عن القيام بهجمات مسلحة وتفجير قنابل وعبوات موقوتة بهدف القتل، سواء قتل شخصيات مستهدفة بعينها، أو القتل العشوائي لمنتسبي أجهزة الأمن والشرطة. وبالرغم من التباين في لغة الجماعتين، فالواضح أنهما تعتقدان بأن العمل المسلح ضرورة حيوية للتعامل مع نظام الحكم، وأن عملية التغيير في مصر لن تُنجَز بدون عمل مسلح.
الجماعة الثالثة، التي تُعرف باسم المقاومة الشعبية، أُعلن عن وجودها قبل ما يقارب الشهور الستة، وتنمُّ لغة بياناتها عن توجهات إسلامية عامة، وعلاقة وثيقة الصلة بالحراك الشعبي. تتوجه المقاومة الشعبية نحو النشاط التخريبي وقطع الطرق، ولم يعرف عنها تبني هجمات مسلحة على قوى الأمن (لحد الآن على الأقل)، وإن كانت تعمل أيضًا على حماية المتظاهرين من هجمات المجموعات المرتبطة بأجهزة الأمن من البلطجية ورجال العصابات الإجرامية.
فيما عدا منطقة شمال سيناء، التي تشهد منذ انقلاب 3 يوليو/تموز ما يشبه حال الحرب بين قوات الجيش ومنظمة أنصار بيت المقدس المسلحة، فإن حجم ومعدل النشاطات التخريبية والهجمات المسلحة في محافظات الوادي لم يصلا بعد إلى مستوى يمكن أن يوصف بالنزاع المسلح، أو إلى تعطيل آلة الدولة عن العمل؛ ولا إلى ترك تأثير سلبي على الحراك الشعبي، مشابه لما عرفته سوريا من انحسار في الحركة الشعبية بعد تصاعد العمل المسلح. ولكن، إن حجم ونطاق ما شهدته مصر يوم 25 يناير/كانون الثاني الماضي يثير قلق قادة النظام من المستقبل.
سراب الاستقرار
لم يكن خافيًا على العسكريين الذين قادوا انقلاب 3 يوليو/تموز، وأغلب من تحالف معهم من السياسين المدنيين، أنهم يقومون بانتهاك للعملية الديمقراطية، وأن ما يقومون به لم يكن مُرحبًّا به في الأوساط الأميركية والأوروبية الحليفة لمصر. أرادت واشنطن والعواصم الأوروبية الأخرى بالتأكيد ترويض حكم الرئيس المنتخب محمد مرسي، ولكنها أرادت أن تنجز عملية التغيير بصورة قانونية ودستورية. ما راهن عليه قادة نظام 3 يوليو/تموز، في المقابل، كان الدعم الكبير، المالي، والاقتصادي، والسياسي، من دول الخليج، سيما الإمارات والسعودية والكويت، وأن هذه الدول، إضافة إلى الترحيب الإسرائيلي، ستساعد في النهاية على تغيير الموقف الغربي وبناء شرعية دولية واقعية للنظام. كما راهن النظام على أنه سينجح سريعًا في صناعة الاستقرار؛ مما سيوفر الشروط والمناخ الضرورين لاستمرار الدعم العربي والتطور التدريجي في الموقف الغربي. ويمكن القول: إن هدف تحقيق الاستقرار بسرعة بلغت أهميته حدًّا جعل النظام يقضي على اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة المسلحة، ومحاولة وضع نهاية لمظاهر المعارضة الشعبية الكبيرة والانقسام المجتمعي.
خلال العام ونصف العام الماضيين، ضخت دول الخليج المؤيدة للنظام ما يزيد عن عشرين مليارًا من الدولارات في المالية العامة والسوق المصريتين. وعملت هذه الدول بالفعل، مؤيَّدة من الأوساط الغربية المؤيِّدة للدولة العبرية، على تطبيع تدريجي لعلاقات النظام الأميركية والأوروبية. وبدا في الأشهر القليلة الماضية أن النظام يقترب، وإن ببطء، من بناء صورة مستقرة للبلاد، بغضِّ النظر عن حجم الإجراءات القمعية والتعسف القضائي الذي وُظِّف لكبح المعارضة. ما حدث يوم 25 يناير/كانون الثاني 2015 أظهر أن حلم الاستقرار لم يزل بعيد التحقق، وأن النظام لم يعد قادرًا على كسر أو احتواء المعارضة الشعبية السياسية، وأن البلاد مقبلة على حقبة توتر متفاقمة، قد تكون أكثر حدة مما شهدته في العام ونصف العام الماضيين.
اهتمت وسائل الإعلام الغربية، من كافة التوجهات، بصورة ملموسة بأحداث يوم الأحد 25 يناير/كانون الثاني. وأعرب الناطقون باسم الخارجية الأميركية والاتحاد الأوروبي وعدد من الدول الأوروبية عن قلقهم تجاه أعداد القتلى من المتظاهرين. والمؤكد أن صورة عدم الاستقرار لن تساعد الحكومات الأوروبية، التي باتت تفكر في تقديم مساعدات مالية أو اقتصادية لمصر، في اتخاذ قرارات سريعة بهذا الشأن. من جهة أخرى، تتزايد المؤشرات على أن حماس دول الخليج لتقديم مساعدات مالية مباشرة للمالية المصرية لم يعد كما كان عليه قبل عام، سواء للخشية من ثقب الفساد الأسود في بنية الدولة المصرية (كما هي حال الإمارات)، أو للمتغيرات المتلاحقة في قيادة البلاد السياسية (كما هي حال السعودية)، أو للتراجع الكبير في أسعار النفط (كما هي حال الكويت). تراجع الدعم المالي المباشر هو التفسير الوحيد خلف عجز البنك المركزي عن الاستمرار في دعم قيمة العملة المصرية، والتراجع الحثيث في قيمة الجنيه مقابل الدولار.
فقدان السيطرة
راهن النظام المصري، وللمرة الأولى منذ 3 يوليو/تموز 2013، على الخيار الأمني للقضاء السريع على المعارضين وفرض الاستقرار، وعلى الدعم المالي لبعض الدول الخليجية لمنع انهيار اقتصاد البلاد، لكنه في الذكرى الرابعة يواجه تنامي عوامل عدم الاستقرار كاتجاه قطاعات جديدة نحو خيار إفشال أجهزة الدول عن التحكم في أنشطة البلد، وتدني الدعم المالي الخليجي الذي أضعف الجنيه المصري فباتت الأجور أقل قدرة شرائية من السابق وارتفعت أسعار المواد المستوردة، فتضافر تدني القدرة الشرائية الفعلية للأجور مع ارتفاع أسعار البضائع على جعل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمصريين أصعب من السابق.
والحاصل أن تنامي عوامل الاحتجاجات بالوسائل العنيفة مع تناقص قدرة الدولة على توسيع قاعدتها الاجتماعية يؤديان، لا محالة، إلى مزيد من الاضطراب وانفلات الأوضاع وتآكل مؤسسات الدولة وانتشار العنف داخل النسيج الاجتماعي.