ليبيا: صوت الرصاص أعلى من صوت الحوار [غيتي / Getty Images]
|
ملخص تمحورت مقاربة مبعوث الأمم المتحدة لليبيا، برناردينو ليون، للحوار حول دفع الأطراف المتصارعة إلى طاولة التفاوض أملًا في تخليها عن خيارها العسكري لصالح تفاهمات سياسية تنهي الصراع الدائر. لكن استمرار جبهات المواجهة المسلحة يحول دون تحقيق الحوار الجاري نتائج مهمة على الأرض؛ إذ لا يستند على بدائل تقنع المتقاتلين بأن الرهان على السلاح مكلف وغير مضمون النتائج وأن الأفضل لهما اعتماد الحوار والتوافق لأنه أقل تكلفة ويضمن مصالحهما الحيوية. |
مقدمة
انطلق الحوار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة في ليبيا وتدعمه الأطراف الغربية في ظروف شديدة التعقيد؛ إذ يتقاسم السلطة في البلاد جسمان تشريعيان وحكومتان وقوتان مسلحتان، تسعى كل منهما لفرض إرادتها بالقوة. وتحول الخلاف حول مشروع التغيير وبناء الدولة إلى استقطاب قبلي وجهوي وأيديولوجي يهدد اللحمة الوطنية والنسيج الاجتماعي.
وتشتعل في الأقاليم الثلاثة حرب ضروس، أشدها ضراوة المعارك الجارية في مدينة بنغازي، وذلك بعد إطلاق عملية الكرامة بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر؛ إذ تحول بعض أحياء بنغازي إلى أنقاض وتعطلت كافة مرافق الحياة من مدارس وجامعات ومستشفيات، وتعاني المدينة من نقص شديد في الوقود وغاز الطهي والكهرباء وحتى بعض السلع الأساسية. كما تندلع في الجنوب وفي جنوب غرب العاصمة طرابلس اشتباكات بين الطوارق والتبو، وقوات فجر ليبيا وجيش القبائل، لكن بأقل خسائر مقارنة بالوضع في بنغازي.
كيف يمكن جمع الفرقاء الليبيين على التخلي عن السلاح والاحتكام في خصومتهم السياسية إلى قواعد مشتركة للفصل في خصومتهم بالطرق السلمية.
هذه هي مهمة المبعوث الدولي برناردينو ليون. فما هي رهاناته لتحقيق ذلك؟ وما هي حظوظ نجاحه؟
مقاربة ليون: التفاوض وترك السلاح
تمحورت مقاربة مبعوث الأمم المتحدة لليبيا، برناردينو ليون، للحوار حول دفع الأطراف المتصارعة إلى طاولة التفاوض أملًا في تخليها عن خيارها العسكري لصالح تفاهمات سياسية تنهي الصراع الدائر. وباتفاق مع الأطراف الغربية المتابعة للشأن الليبي والتي أصدرت عدة بيانات جماعية حول تصورها لحل الأزمة، يطالب ليون الأطراف المتنازعة بالاتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية تُمنح تفويضًا لتسيير البلاد إلى أن يتم إقرار الدستور والعودة للمسار الديمقراطي عبر انتخابات برلمانية ورئاسية.
ويبدو أن الضغوط تفعل فعلها فيما يتعلق بالاتفاق على آلية لتعيين رئيس الحكومة الائتلافية؛ حيث تقوم آخر آلية مقترحة من قبل رئيس البعثة الأممية على ترشيح أربعة أعضاء من البرلمان وأربعة مماثلين من المؤتمر الوطني يحظون بتأييد مكونات عسكرية ومدنية لتشكيل مجلس أعلى مؤقت تترأسه شخصية مستقلة، وهو من يعيِّن رئيسًا للحكومة الائتلافية، لينحل المجلس الأعلى بمجرد استلام رئيس الحكومة المعين مهامه.
في نفس السياق، دعا ليون عمداء البلديات المنتخبين وزعماء قبائل وقادة عسكريين ورؤساء أحزاب وحتى شخصيات مستقلة للمشاركة في الحوار دون أن يتضح الدور المنوط بهم، وإذا ما كانوا سيدلون بدلوهم في آلية اختيار رئيس الوزراء، أو أنهم سيتحاورون حول قضايا وملفات خارج صلاحيات الحكومة المرتقبة تُعتبر محل نزاع، وفي مقدمتها: خارطة الطريق ووضع الثوار وقانون العزل السياسي والمصالحة الوطنية.
خيارات الأطراف السياسية
تكشف القراءة الأولية في مقاربة السيد ليون ومواقف الأطراف المتصارعة منها عن صعوبات كبيرة قد تُفشل مساعي الحل السلمي. وسبقت الإشارة إلى أن ليون أفسح المجال لمكونات عدة للمشاركة في الحوار شملت ممثلين عن البرلمان والمؤتمر الوطني وعمداء المجالس البلدية وقادة أحزاب ونشطاء من المجتمع المدني ومستقلين، لكن لم يكن هناك معايير واضحة لاختيارهم؛ حيث أثارت دعوة بعضهم للمشاركة في الحوار جدلًا. كما يقف تعنت كل طرف من الأطراف المتنازعة حائلًا دون تحقيق أي تقدم، نتيجة عدم اتفاق مكونات كل طرف على القبول بالحوار من ناحية، وبسبب الأولويات والشروط من ناحية أخرى.
على صعيد "معسكر طبرق" يظهر جليًّا أن الخلافات حول الرؤية السياسية كانت سببًا مباشرًا في تصدع جبهة الداعمين لعملية الكرامة من أعضاء البرلمان وكتلتيه الرئيسيتين. فالكتل الرئيسية تريد تعزيز شرعية البرلمان حتى يظل السلطة العليا للبلاد، بينما يدفع أعضاء مستقلون باتجاه خيار اللواء حفتر وأنصاره من الضباط في تشكيل "المجلس العسكري الأعلى" الذي يفوَّض في إدارة الصراع دون الرجوع إلى سلطة مدنية. وقد انعكس هذا التصدع في سلوك ومواقف كل مجموعة تجاه الحوار، فأنصار استمرار البرلمان يشاركون في حوار جنيف ويُبدون مرونة في التكيف مع خيارات المبعوث الأممي، فيما خرقت قوات حفتر الهدنة المتفق عليها ومضت في الرهان على الخيار العسكري.
على الضفة الأخرى في "معسكر طرابلس" يبدو الخلاف أقل درجة لكنه موجود وقابل لأن يتعمق؛ إذ يتماهى معظم أعضاء المؤتمر الوطني العام مع خيار قوات فجر ليبيا التي تقف موقفًا متوجسًا من الحوار، وتضع شروطًا تعتبرها ثوابت لا تتطابق مع مقاربة ليون للتفاوض. وفي مقدمة شروطها: رفض مشاركة اللواء حفتر في الحوار، والإصرار على أن يكون قرار المحكمة العليا القاضي بحل البرلمان أساسًا في التفاوض، وهو ما يعني أن يسلِّم به الجميع.
من جهة أخرى، يسلك عدد من أعضاء المؤتمر الوطني العام اتجاهًا بعيدًا عن أغلبية الأعضاء؛ وذلك بعدم التشبث بالشروط السابق الإشارة إليها، ويشاركهم في هذا بعض أعضاء البرلمان الذين قاطعوا جلسات طبرق، لكنهم شاركوا في أولى جلسات الحوار في غدامس في أكتوبر/تشرين الأول الماضي 2014.
موقف حفتر من الحوار
نشأ الخلاف بين البرلمان وعملية الكرامة، ممثَّلة في قيادتها العسكرية، من اعتقاد قيادة الكرامة بأن البرلمان والحكومة المؤقتة المنبثقة عنه لا يعطيان أولوية للعملية العسكرية في بنغازي، وهو مبررهم للفشل في السيطرة على المدينة. ولم يعد خافيًا أن الهوة بدأت في الاتساع بين الطرفين، ووصلت إلى درجة منع رئيس الحكومة المؤقتة، عبدالله الثني، ووزير دفاعه من الدخول إلى بنغازي، كما خرج أنصار الكرامة في مدن عدة في شرق البلاد يطالبون بإقالة الثني ومطالبة البرلمان بإقرار المجلس العسكري الأعلى.
ويراهن حفتر على السيطرة على بنغازي والقضاء على قوات مجلس شورى ثوار المدينة، ليصبح جيشه هو القوة الوحيدة في "برقة" وليعزز موقعه التفاوضي، لذلك لم يُبدِ تفاعلًا كبيرًا مع عملية الحوار، لأن قبول التفاوض دون السيطرة على بنغازي ربما لن يحقق ما يصبو إليه من أهداف. وهو في الوقت ذاته في حاجة إلى عدم الابتعاد تمامًا عن مسار الحوار حتى لا يجد نفسه في مواجهة المجتمع الدولي والأطراف الغربية التي أدانت بشكل صريح "اعتداءات حفتر في بنغازي" في بيانها الأخير في ديسمير/كانون الأول الماضي 2014.
وعلاوة على ما سبق، فقد تكبدت قوات حفتر خسائر كبيرة في الأرواح، مست مناطق وقبائل ساندته بقوة، ولن يكون من السهل عليه إقناعها باستمرار دعمه في حال جنح للتفاوض وقبل باتفاق لكن يكون مجزيًا.
فرص نجاح الحوار
يظل الاختلاف داخل مكونات كل طرف حول الحوار من أكبر التحديات أمام تحقيق أي تقدم في هذا الاتجاه، ولأن استراتيجية الطرفين لا تزال عسكرية وقائمة على الرهان بقوة على تحقيق انتصارات على الأرض خصوصًا مع بلوغ الطرفين نقطة حرجة.
قيادة الكرامة تضع كل ثقلها في بنغازي. وقد كان التغيير في قيادة المحاور العسكرية مؤخرًا يصب في هذا الاتجاه، وتعكس العمليات العسكرية المكثفة على الأحياء في قلب مدينة بنغازي الرغبة في حسم المعركة قبل أن يقع اللواء حفتر وأنصاره تحت ضغوط تلزمه بالتوقف.
بالمقابل، تحتاج عملية فجر ليبيا إلى السيطرة على قاعدة الوطية في جنوب غرب طرابلس، ومحاصرة جيش القبائل وبقايا كتائب القعقاع والصواعق في الزنتان لتحد من تهديدها، وتحتاج إلى إنهاء سيطرة القوات التابعة لإبراهيم الجضران على الموانيء والحقول النفطية؛ لذا فهي تستنفد كل طاقاتها لتحقيق نتائج سريعة دون أن تحقق ما تصبو إليه.
بالمقابل هناك عوامل مساعدة قد تسهم في تعزيز فرص نجاح الحوار منها:
- التداعيات السلبية للنزاع على الرأي العام، والذي برغم انقسامه ومناصرته للأطراف المتصارعة إلا أن طول أمد الحرب وآثارها الخطيرة قلَّل من حماسه وعظَّم من رغبته في نجاح الحوار.
- الإنهاك الذي أصاب المقاتلين بسبب اتساع رقعة المواجهات المسلحة وطول أمد الحرب، خصوصًا مع دخول الشتاء واشتداد موجات البرد في المناطق المفتوحة شرق وغرب البلاد.
- الارتباطات الخارجية التي تسهم في مدِّ القوة المتحاربة بالعتاد والذخيرة، وإمكانية التحكم فيها لأجل التحكم في القتال.
- الانهيار في أسعار النفط والانهيار في سقف إنتاجه، أثَّر سلبًا على الوضع المعيشي من جهة وعلى القدرة على تمويل العمليات القتالية، خاصة مرتَّبات المقاتلين.
- الحوار مطلب تدعمه الأطراف الدولية وتراهن عليه بعض الدول التي تربطها مصالح مشتركة مع ليبيا.
السيناريو الأقرب لمسار الحوار
في ظل استمرار جبهات المواجهة المسلحة فليس من المتوقع أن يفضي الحوار الجاري إلى تحقيق نتائج مهمة على الأرض؛ إذ لا توجد ضمانات تلزم قوات الكرامة وفجر ليبيا بوقف العمليات العسكرية، لأنها في وضع حرج استراتيجيًّا وتحتاج إلى التقدم ميدانيًّا ليتسنى لها ضمان تحقيق الاستقرار وفق رؤيتها. ونتيجة عدم وجود مجال لتدخل عسكري غربي يفرض على الأطراف المتصارعة التوقف وفسح المجال لتطبيق الاتفاق المبرم بين المتحاورين، فإنه لا يوجد مؤشر على إمكان ملاءمة الظروف لنجاح الحوار.
بالمقابل، من الناحية النظرية هناك فرصة لتمهيد الأجواء لنجاح الحوار تتأسس على توافق بين القبائل والمناطق؛ إذ في حال توافقت القبائل والمناطق ستصبح قادرة على فرض قيود على الجبهتين العسكريتين للتوقف والخضوع لبنود توافقها، غير أن الشقاق الحاد بين القبائل والمناطق، وتورط العديد منها في الصراع المسلح يقلِّل من فرص تفعيل هذا العامل.
خاتمة
بالنظر إلى مقاربة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا ورئيسها ليون لموضوع الحوار، واستقراءً لمواقف الأطراف المتنازعة يظهر أن الخلافات بين الأطراف المعنية بالحوار كبيرة وتفوق عوامل التقارب، وأنه لا وجود لمؤشرات تعكس رغبة وحرص الطرفين على إنجاح الحوار. وكلما أبدى بعض المنتسبين لكلا الطرفين حرصه على الحوار يقع نزاع داخل معسكر كل طرف يغير من مسار الحوار الذي لم ينطلق بشكل جدي بعد.
ويرى العديد من المعنيين بالشأن الليبي وبملف الحوار أن سبيل نجاحه يعتمد على جدية الأطراف الدولية في ذلك، لقدرتها على ممارسة ضغوط علىى كافة الأطراف المحلية والإقليمية التي تحول بشكل غير مباشر دون تقدمه. ولأن الأطراف الدولية المهتمة بالشأن الليبي قد تزاحمت لديها الملفات وفي مقدمتها ملف تنظيم الدولة في العراق وسوريا، وملف روسيا وأوكرانيا، وملف إيران، فإنها قد لا تحقق نتائج إيجابية للحوار في المدى القصير. لكن إذا خرجت الأزمة الليبية من السيطرة وباتت تهدد الأمن في جنوب المتوسط، ووفرت فرصة لتنامي الجماعات الجهادية، فإن القوى الكبرى في مجلس الأمن تضعها مجددًا ضمن أولوياتها، وقد تتوافق على إصدار عدة بيانات تخص الأزمة الليبية وتلوح بالعقوبات فتدفع الأطراف المتنازعة للتفاهم.