شكَّلت الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية، التي جرت جولتها الأولى في 14 مايو/أيار 2023، محطة سياسية أخرى كاشفةً اتجاهات الخطاب الإعلامي (السياسي) لمعظم وسائل الإعلام الغربية في تغطية أطوار التنافس السياسي البرلماني، وتحليل سياقات الصراع الانتخابي الرئاسي بين زعيم تحالف الجمهور، رجب طيب أردوغان، وزعيم تحالف الأمة، كمال كاليتشدار أوغلو. وتبدو سمات هذا الخطاب السياسي بارزة لأول وهلة في عناوين بعض الصحف والمجلات التي توسم بـ"الرصينة والمهنية"، وأيضًا التقارير الإخبارية، التي آثرت أن تكون جزءًا من الصراع الانتخابي المحلي باصطفافها ودعمها لأطروحات المعارضة السياسية ومرشحها الذي تصفه بـ"الديمقراطي الاجتماعي". وفي المقابل تضطلع هذه الوسائل بدور الآلة الإعلامية الدعائية لتشويه تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم بقيادة أردوغان خلال العقدين الماضيين (2002-2023)، والذي تصمه بـ"المستبد والديكتاتور".
يركز الخطاب السياسي لمعظم وسائل الإعلام الغربية على رسم صورة مغرقة في السلبية -بأبعاد مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية وأخلاقية- للرئيس التركي أردوغان، بل يأمل بعضها ويتوقع "هزيمته الحتمية" وغيابه عن المشهد السياسي التركي والساحة الدولية؛ لأن ذلك يبعث -في اعتقادها- الأمل في حقبة جديدة للدبلوماسية التركية. فكيف، إذن، يُؤطِّر هذا الخطاب الإعلامي/السياسي الصورة السلبية لتجربة حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان؟ وإلى أي حدٍّ تمثِّل أبعاد الصورة السلبية (المعرفية، النفسية، السلوكية) خطابًا تمييزيًّا كارهًا لهذا الكيان السياسي أو التجربة السياسية التي تعبِّر عن آمال وتطلعات فئات واسعة من الاجتماع السياسي التركي؟
التأطير السلبي للتغطية: التحامل والتشهير
تنطلق تغطية معظم وسائل الإعلام الغربية للانتخابات التركية من موقف سياسي متحيِّز يحرص بشدة على تأطير تجربة سنوات حكم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في إطار سلبي (الاتجاه السلبي للتغطية) وصورٍ قاتمة يتحامل فيها على إدارته السياسية التي ألحقت ضررًا عميقًا بتركيا؛ حيث "بنى نظامًا سياسيًّا مستبدًّا قائمًا على القمع وإخضاع الآراء المعارضة، والزج بالمعارضين في السجون، والتضييق على المجتمع المدني، والهيمنة على المؤسسات المستقلة، وازدراء حقوق الإنسان والديمقراطية". ويتكرر هذا الموقف المتحيِّز، الذي يركز على ما يعتبره نظامًا سياسيًّا استبداديًّا/ديكتاتوريًّا بناه أردوغان خلال ولايته الرئاسية (2014- 2018)، في معظم وسائل الإعلام الغربية التي اختارت أن تكون ناطقًا باسم المعارضة السياسية. ويَبرُز ذلك من خلال بعض العناوين: "شبح الاستبداد المتزايد يخيم على الانتخابات التركية"، "الانتخابات الرئاسية التركية 2023: أردوغان، بروفايل زعيم استبدادي"، "هل الرئيس التركي أردوغان ديكتاتور؟"، ولا ترى هذه الوسائل في أردوغان سوى نسخة لسلطوية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، "الانتخابات التركية: أردوغان، بوتين آخر"؛ إذ يسعى الرئيس الإسلامي -في نظرها- إلى تحقيق حلمه الإمبراطوري وتعزيز انجرافه الاستبدادي.
وتركز التغطية أيضًا على سوء إدارة أردوغان للاقتصاد التركي؛ الأمر الذي أدى إلى تآكل مستويات المعيشة وارتفاع تكاليفها، وانخفاض قيمة الليرة وارتفاع التضخم، وغضب المواطنين الأتراك. وتعزو وسائل الإعلام الغربية ذلك مرة أخرى إلى طبيعة النظام السياسي الذي يخوِّل الرئيس صلاحيات واسعة؛ حيث ينظم كل شيء ويقرر في كل شيء، "ويحكم البلاد بقبضة من حديد". وهو الذي خدع -في نظرها- العالم الغربي عندما ادَّعى أنه سيكون مسلمًا ديمقراطيًّا مثلما يوجد مسيحيون ديمقراطيون في بعض البلدان الأوروبية. ولهذا لم تتحرَّج بعض المجلات في مطالبة رجب طيب أردوغان، الذي تصف نظام حكمه بالاستبدادي، بـ"الرحيل" عن المشهد السياسي التركي لأجل إنقاذ الديمقراطية: "أردوغان يجب أن يرحل" (Save Democracy, Erdogan must Go).
لكن تُظهِر هذه الدعوة أيضًا تناقض الإعلام الغربي في اعتبار ما يجري "أهم انتخابات في 2023" ودليلًا على حيوية الديمقراطية التركية ونزاهتها وتنافسيتها التي تعطي للمواطنين والمتنافسين أملًا حقيقيًّا في التغيير عن طريق صندوق الاقتراع، وفي الوقت نفسه يحرض هذا الإعلام على "إنقاذ" الديمقراطية التركية التي بلغت هذا المستوى من النضج والصلابة في نظام يقوده العدالة والتنمية والرئيس أردوغان بنفسه.
ويأخذ التأطير السلبي بُعدًا أخلاقيًّا بنشر إحدى المجلات الفرنسية كاريكاتيرًا مسيئًا للرئيس التركي أردوغان بإيحاءاته الجنسية التي تهدف إلى التشهير والنيل من رمزية المرجعية السياسية والهوية الفكرية والثقافية التي يمثِّلها، باعتباره زعيمًا سياسيًّا إسلاميًّا منشغلًا بملذاته الشهوانية، ولا يستطيع أن يفكر خارج هذا المنظور أو السلوك الجنسي. وهو تأطير نمطي في المخيال السياسي لهذا الإعلام حول الإسلام السياسي؛ إذ لا يستطيع هو ذاته أن يفكر خارج هذا المنظور.
خلق حالة من الكراهية
يشتغل التأطير السلبي لصورة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والتحامل على المرجعية السياسية والهوية الفكرية والثقافية التي يمثِّلها، في سياق ثلاثة أبعاد متوازية، وذلك لإنشاء معان محددة يُراد لها أن تشكِّل اليافطة أو العلامة المرجعية التي تسم النموذج السياسي والفكري لتجربة أردوغان، وإنتاج تمثيلات مخصوصة لتجربته في الحكم خلال العقدين الماضيين. وتتكون هذه الصورة السلبية من الأبعاد المعرفية والنفسية والسلوكية. وهنا، تحاول معظم وسائل الإعلام الغربية أن تُقدِّم تجربة أردوغان وحزب العدالة والتنمية في الحكم باعتبارها شرًّا مطلقًا؛ إذ عطلت البلاد ولم تنقلها إلى الحكم الديمقراطي كما كان يُؤمَّل منها، بل كرَّست نظامًا سياسيًّا استبداديًّا وحكمًا فرديًّا يهيمن فيه الرئيس على مؤسسات الدولة. ويُعد ذلك جزءًا من الصورة المعرفية التي تُروِّجها هذه الوسائل عن تجربة أردوغان، فهي تكرس أطروحة الحاكم المستبد الذي يهدد حيوية المجتمع التركي واختياراته الديمقراطية. وفي هذا السياق، تحاول أن تضع تقابلًا وتمايزًا بين الرئيس أردوغان والمجتمع التركي باعتبارهما ضدين لا يلتقيان. وتستغل وسائل الإعلام الغربية تجاذبات الصراع السياسي بين المعارضة السياسية والتحالف الحاكم بزعامة حزب العدالة والتنمية، في رسم هذا البعد الفكري برؤية لا تخلو من العداء السياسي لكل رموز التجربة التي يمثِّلها أردوغان، وذلك من أجل تأليب الرأي العام التركي، والرأي العام المحلي/الأوروبي، ضد هذه التجربة.
في سياق هذا العداء السياسي، تشتغل معظم وسائل الإعلام الغربية على تشكيل صورة أخرى نفسية تبعث على كراهية تجربة أردوغان وحزب العدالة والتنمية في الحكم من خلال التركيز على تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، والتراجع الحقوقي والتضييق على المجال العام. وتحاول هذه الوسائل تكثيف أبعاد الصورة النفسية السلبية برسم صورة نمطية جنسية مقززة للرئيس الغارق في المتع والملذات، وهو البعد الأكثر حساسية الذي تراه أكثر استثارة للرأي العام التركي والأوروبي. وهو خطاب يهدف إلى تشويه سمعة الرئيس التركي أردوغان، وخلق حالة عدائية تجاه تجربته في الحكم، وكذلك المرجعية السياسية والهوية الفكرية والثقافية التي يمثِّلها. ويؤدي هذا العداء بدوره إلى خلق حالة من الكراهية تجاه رمزية التجربة وكل ما له علاقة بالإسلام السياسي.
ويكون الرهان في إنشاء هذه الحالة العدائية وما يستتبعها من الكراهية هو التأثير في سلوك الناخبين الأتراك لاتخاذ موقف معين وتوجيههم نحو السلوك المرغوب فيه تجاه الفاعلين السياسيين الذين يمسكون بمقاليد السلطة في البلاد، حيث تطالب وسائل الإعلام الغربي بـ"رحيلهم" عن المشهد السياسي التركي والمسرح السياسي الدولي، وإفساح المجال أمام "حكم ديمقراطي" تتلاقى أهدافه مع أهداف العالم الغربي.
الاعتلال المهني
يشير هذا النوع من التغطية للانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية إلى انجراف معظم وسائل الإعلام الغربية إلى الأماني والرغبات التي تعبِّر بالضرورة عن الموقف السياسي والفكري تجاه مجريات الأحداث في تركيا؛ إذ تتجرد هذه الوسائل من كل القواعد والمعايير والتقاليد المهنية التي تحكم الممارسة الإعلامية والصحفية. وبذلك تضرب بكل المواثيق الأخلاقية التي وضعتها هيئاتها التحريرية عرض الحائط، وتستخف بها حين يكون الموضوع مرتبطًا بالتجربة السياسية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية، وهو الأمر الذي برز بشكل فاقع في انتخابات 2023، وأيضًا في محطات سياسية سابقة. ويُظهِر هذا الاتجاه في التغطية حالة "الاعتلال" المهني التي يعاني منها هذا النمط من الإعلام المؤدلج والكاره للنموذج السياسي الأردوغاني، بل يبرز حالة الانقلاب على الأخلاقيات المهنية والضوابط الحاكمة للممارسة الإعلامية. لذلك لا يقيم هذا النموذج أي اعتبار ولا أي وزن لمبادئ الاستقلالية والموضوعية والنزاهة والإنصاف والحياد والتوازن، لأن "العمى المهني" والسياسي يحجب كل المعطيات العقلانية والموضوعية في تغطية القصة أو الموضوع؛ إذ يغلب عليه المنظور الأيديولوجي والسياسي، فيسمح لنفسه بأن يكون طرفًا في تغطية الانتخابات التركية، ومناصرًا لأطروحات المعارضة السياسية، وداعيًا المواطنين الأتراك إلى التعبئة للحيلولة دون إعادة انتخاب مرشح تحالف الجمهور.
لذلك تبدو هذه الوسائل الإعلامية أدوات سياسية لخدمة مشاريع سياسية معينة، وهو ما تعبِّر عنه بشكل صريح في تقاريرها ومقالاتها عندما تطالب بوضع حد لتجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم وزعيمها الذي تصفه بـ"المبتز" للعالم الغربي، وترحب في المقابل بزعيم تحالف الأمة، كمال كاليتشدار أوغلو، الذي سيرسي الديمقراطية في تركيا، ويعيد النظر في اختياراتها السياسية والدبلوماسية في علاقتها بالاتحاد الأوروبي والعالم الغربي عمومًا.
خاتمة
إذا كان اتجاه التغطية للانتخابات التركية يبيِّن حالة الاعتلال المهني التي تشكو منها معظم وسائل الإعلام الغربية عبر الانقلاب على القواعد الحاكمة للممارسة المهنية، فإنه يُظهر أيضًا خطورة الاصطفاف السياسي لتلك الوسائل ودعمها لأطروحات معينة؛ الأمر الذي يجعلها أدوات سياسية أو فاعلًا سياسيًّا مؤثرًا في الصراع الانتخابي، لاسيما في ظل حرصها على التحيز والتمييز والتشهير والتحامل على طرف سياسي بعينه. وهذا الفاعل يسعى لخلق حالة نفسية كارهة لهذا الطرف والتحريض عليه آملًا في تغيير معادلات المشهد السياسي التركي. كما أن هذا الدور السلبي ينجرف بتلك الوسائل إلى تعقيد التوتر السياسي أو الأزمة السياسية بين تركيا والاتحاد الأوروبي والعالم الغربي عمومًا، في الوقت الذي يبدو فيه دور الإعلام معلومًا وواضحًا في مبادئ "الكتيبات" والمواثيق المهنية لتلك المؤسسات.