هزت السنغال في الأسبوع الأول من شهر يونيو/حزيران 2023 مواجهات دامية بين الشرطة والمتظاهرين. وجاءت هذه المظاهرات احتجاجا على الحكم الصادر في حق أبرز قادة المعارضة، رئيس حزب "باستيف" وعمدة بلدية زيغنشور، عثمان سونكو. فقد قضت المحكمة بسجنه لمدة عامين بتهمة "إفساد الشباب". فكيف تناسلت خيوط هذه الأزمة؟ وما حصيلة المواجهات الدامية؟ وما السبيل للخروج من أزمة، يبدو أن حلها سيتطلب مزيدا من الجهد والوقت؟
تحييد المعارضة وإخراجها من المشهد
لم يطل فرح أنصار المعارض العنيد عثمان سونكو بتبرئته من تهمتي الاغتصاب والقتل حتى وجدوا أنفسهم أمام حكم قضائي لم يكن متوقعا بتهمة "إفساد الشباب" السنغالي، والحكم على الرجل بالسجن النافذ لسنتين. يعود تاريخ ملف سونكو القضائي إلى بدايات 2021 حين رفع محامو الفتاة أدجي صار على سونكو قضية الاغتصاب والتهديد بالقتل خلال زياراته المتكررة من ديسمبر/كانون الأول 2020 إلى فبراير/شباط 2021 لصالون التدليك بالعاصمة دكار، الذي تعمل به الفتاه المذكورة.
من الملاحظ أن الحكم القاضي بالسجن النافذ ودفع غرامة قدرها 600 ألف فرنك غرب إفريقي، الذي صدر يوم الخميس 1 يونيو/حزيران 2023، غير قابل للاستئناف حسب مساطر القضاء السنغالي. فقد رفض المتهم سونكو حضور المحاكمة وغاب عن مداولاتها وعن سماع الحكم، وبالتالي كان الحكم نافذا لا استئناف له. والواقع أن تهمة "إفساد الشباب"، لم تكن متوقعة لدى أنصار سونكو، بل إن عيونهم كانت منصبة نحو تهمتي الاغتصاب والتهديد بالقتل. وما دام زعيمهم قد جرت تبرئته من التهمتين، فلم يكونوا يتوقعون غير إغلاق ملف سونكو وعودته لممارسة نشاطه السياسي، والاستعداد لاستحقاق رئاسي حاسم لم يعد بين الناخب السنغالي وبينه سوى سبعة أشهر.
يرى أنصار سونكو في الحكم عليه بتهمة "إفساد الشباب" إقصاءً مبكرا لزعيمهم من رئاسيات فبراير/ شباط 2024، وتحييدا لأهم معارض للرئيس ماكي صال، الطامح إلى بقاء أطول في سدة الحكم. لذلك نزلوا غاضبين إلى الشوارع ودخلوا في مواجهات غير مسبوقة في دولة تعتبر ذات تقاليد ديمقراطية راسخة.
لم يكن أنصار سونكو وحدهم من يرون أن زعيمهم عرضة لحكم قضائي غير عادل في نظرهم، بل إن المعارضة السنغالية أيضا تؤكد أن الحكم على سونكو أريد منه منعه من الترشح للاستحقاق الرئاسي المقبل. وقد صرحت السياسية آمنة توري الملقبة "ميمي"، والتي كانت رئيسة الوزراء مع الرئيس ماكي صال، قبل أن تنشق عنه، أن الحكم على عثمان سونكو يأتي في سياق إقصاء الرئيس ماكي صال المتعمد لمعارضيه وإسكات الأصوات التي يمكن أن تمنع فوزه بعهدة ثالثة أو تمديد عهدته الثانية.
الحصيلة الخطيرة والبحث عن مخارج
تشير أرقام الحصيلة المؤقتة لأحداث الأيام الماضية في السنغال إلى مصرع ما لا يقل عن ستة عشر متظاهرا، وإصابة 357 بجروح وإصابات متفاوتة، فضلا عن اعتقال ما يناهز 500 من المتظاهرين. وما زاد في تفاقم الوضع، إقدام السلطات على حجب الإنترنت، وبالتالي توقف شبكات التواصل الاجتماعي التي كانت تواكب ما يجري في الشارع السنغالي وتتفاعل معه بحيوية لافتة. وقد رأى مراقبون للشأن السنغالي في هذه الإجراءات تراجعا للديمقراطية السنغالية وانتهاكا للحريات الفردية والجماعية في دولة كانت مستقرة ولم يحصل فيها انقلاب عسكري منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1960. وظلت مؤسساتها الدستورية والقضائية تعكس، لعقود، صورة إيجابية من التدبير الديمقراطي نادرة في القارة الإفريقية.
تحت ضغط هذه الحصيلة الدامية، بات الرئيس ماكي صال في وضعية محرجة، فبادر يوم الاثنين، الخامس من يونيو/حزيران 2023، بزيارة لمدينة طوبى والاجتماع بالخليفة العام للطريقة الصوفية المريدية، الشيخ المنتقى بشير امباكي، الذي يملك تأثيرا قويا على المشهد السياسي في السنغال. ورغم أن لقاء الرئيس بالزعيم الصوفي كان قصيرا، حيث لم يتجاوز الساعة، ورغم أنه لا رئاسة الجمهورية السنغالية ولا الخلافة المريدية صرحتا بما دار بين ماكي صال والشيخ المنتقى، إلا أن تخمينات تواترت في المواقع الإخبارية السنغالية ذهبت إلى أن الرئيس ماكي صال فاتح الشيخ بقراره التخلي عن التقدم لعهدة رئاسية ثالثة. لكنه، بدلا من ذلك، قرر أن يطرح على طاولة الحوار الوطني تمديد ولايته الرئاسية الحالية لمدة عامين. وتذهب تلك التخمينات إلى أن التمديد الذي يرغب فيه ماكي صال شرط جوهري لتنظيم أي استحقاق انتخابي في جو آمن وملائم وشفاف.
فإذا صحت هذه التخمينات، فإنها تعني إعطاء مزيد من الوقت للرئيس ماكي صال للتحكم في الاستحقاق الرئاسي القادم. إلى جانب ذلك، تداولت المواقع السنغالية تصريحا مثيرا للزعيم الديني مودو كارا امباكي ذو النورين، وهو من أسرة الشيخ المنتقى بشير امباكي، أكد فيه أنه في ظل الأزمة الراهنة، يستحيل تنظيم الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد، أي فبراير/شباط 2024، وأنه بات من الضروري تأجيلها إلى وقت لاحق. ويدل هذا التصريح المفاجئ لشخصية ديينة مؤثرة بمستوى مودو كارا على أن هنالك سعيا ما لجعل فكرة التمديد مطروحة على جدول الحوار الوطني، وتهيئة الشارع السنغالي لقبول هذا الطرح الذي سيسمح للرئيس السنغالي ماكي صال بتمديد عهدته الثانية، خاصة وأن القانون الانتخابي السنغالي يعطي لرئيس الجمهوية صلاحية الدعوة إلى أي استحقاق انتخابي.
في المقابل، ترفض أحزاب المعارضة، وخصوصا حزب "باستيف" ورئيسه عثمان سونكو، مبدأ تمديد العهدة الثانية للرئيس ماكي صال وتعتبره مضرا بالديمقراطية السنغالية. وترى أن فتح هذا الباب سيكون سابقة خطيرة، ويمكن لأي رئيس سنغالي في المستقبل أن يوظفها لصالحه.
من المؤكد أن الأزمة التي يمر بها السنغال في الوقت الراهن معقدة ومركبة، وأنها بحاجة إلى حل سريع قبل أن تستفحل. في هذا السياق، جاءت زيارة ماكي صال لمدينة طوبى ولقائه بالزعيم الديني الشيخ المنتقى بشير امباكي. فهذه الزيارة توضح بجلاء أن بعض عناصر حل هذه الأزمة يوجد بيد المشيخة المريدية التي يدين لها أغلب الزعماء السياسيين بالولاء والطاعة.
الحلول المطروحة للأزمة
ترتفع بعض الأصوات السنغالية معبرة عن ضرورة البحث عن خروج آمن من أزمة توشك أن تنزلق بالسنغال نحو أوضاع لا تحمد عقباها. وعلى رأس الحلول المقترحة ضرورة تنظيم حوار بين أبرز الفاعلين في هذه الأزمة، وهما الرئيس ماكي صال وخصمه السياسي عثمان سونكو. وفي غياب هذا الحوار، سيكون النظام الديمقراطي السنغالي الضحية الأولى للأزمة. ومن المحتمل أن يظل ماكي صال، الخبير بالمناورات السياسية، حريصا على حضوره في المشهد السياسي السنغالي الراهن، لكن حظوظه تتضاءل مع ضغط القوى السياسية والمندية المطرد والمتفاقم، ويظهر ذلك في ثلاثة مستويات:
- على المستوى الديني، يبدو أن المشيخة المريدية بطوبى، ذات النفوذ القوي، ليست مع الرئيس ماكي صال، رغم حرصه على أن يحظى بغطاء هذه المشيخة ورعايتها. فقد بادر إلى زيارة شيخها دون سواه من شيوخ التصوف بالسنغال. ويبدو أن مشيخة طوبى هي التي تقود ملف المصالحة والعودة بالبلاد إلى أجواء التفاهم وخفض مستوى التوتر. ويتوقع في الأيام القادمة أن يكون لها دور في توجيه الفاعلين نحو حوار شامل.
- على المستوى السياسي، يبدو أن أقوى تنسيقيات المجتمع المدني السنغالي "أف 24" (F24) باتت أبرز لاعب يتصدر مشهد المواجهة مع الرئيس ماكي صال. فهذه التنسيقية توثق جميع الخروقات التي من شأنها أن تشكل جرائم يمكن أن تدين الرئيس ماكي صال ونظامه أمام المحكمة الجنائية الدولية، وخصوصا ما وقع من قتل وسجن بداية الشهر يونيو/حزيران 2023. وتتكون "أف 24" من شخصيات سياسية معارضة وأخرى مستقلة، إلى جانب نشطاء في المجتمع المدني وأعضاء النقابات العمالية. ويشير الرقم 24 إلى عام الانتخابات الرئاسية السنغالية القادمة، لأن أولوية هذه التنسيقية المدنية هو الحيلولة دون تقدم الرئيس ماكي صال لعهدة رئاسية ثالثة.
- يضاف إلى دور المشيخة الصوفية في طوبى وتنسيقية "أف 24"، دور الشباب السنغالي الذي بات قوة ديمغرافية لا يستهان بها. فقد أصبحت هذه القوة تتمتع بحيوية وتأثير كبيرين بفضل مواقع التواصل الاجتماعي وسهولة استغلالها للتنسيق والحشد وقيادة تيار رافض لأجندة الرئيس ماكي صال. وكان واضحا انخراط الشباب السينغالي في الصفوف الأولى في تظاهرات يونيو/حزيران الجاري.
في ظل الاستقطاب الشديد بين نظام ماكي صال والمعارضة، لا يبدو أن المياه ستعود إلى مجاريها في وقت قريب. فالأزمة مرشحة لتطول أكثر، وبالتالي سيكون تنظيم الانتخابات الرئاسية في موعدها شبه مستحيل. ومن غير المستبعد أن تلعب المشيخات الصوفية دورا مهما في التخفيف من هذا الاستقطاب وخصوصا مشيخة طوبى. بيد أن المسألة الأعمق في الأزمة السنغالية الراهنة هو وجود خلل دستوري لا يقتصر على السنغال وحده، بل يشمل أغلب الدول الإفريقية. فالصلاحيات الواسعة التي تمنحها الدساتير الإفريقية لمؤسسة الرئاسة تجعل سلطتها شبه مطلقة. فيكون رئيس الجمهورية صاحب النفوذ الأقوى والمتحكم في إيقاع العملية السياسية برمتها. لذلك، فإن السلطة التنفيذية في السنغال هي صاحبة الأمر والنهي.
وما لم تحل مشكلة صلاحيات الرئيس والحد منها في مقابل صلاحيات الأجهزة التنفيذية الأخرى كرئاسة الوزراء والحكومة، والسلطة التشريعية والمجلس الدستوري وغير ذلك من مؤسسات الدولة، فإن الأزمة ستدوم. وما نشاهده اليوم مع ماكي صال كان قد حصل مع سلفه الرئيس السابق عبد الله واد سنة 2012، وربما يتكرر مع زعيم المعارضة عثمان سونكو نفسه لو قدر له أن يصل إلى سدة الحكم.