بعد الانقلابين العسكريين في مالي، في 24 مايو/أيار 2021، وفي بوركينا فاسو، في 24 يناير/كانون الثاني 2022، جاء الدور على جارتهما بمنطقة الساحل، وهي النيجر التي عرفت يوم أمس، 26 يوليو/تموز 2023، انقلابًا عسكريًّا يتجدد بموجبه التدخل العسكري في الشأن السياسي في منطقة تعرف إعلاميًّا وسياسيًّا بأنها منطقة نفوذ فرنسي بامتياز، كما تعرف بأنها منذ أزيد من عقد تعيش حالة أمنية معقدة نتيجة الوجود الدائم لمجموعات مسلحة منها ما هو محسوب على تنظيم القاعدة ومنها ما هو محسوب على تنظيم الدولة.
بعد أزيد من اثنتي عشرة ساعة من الأوضاع المتوترة ومن الأخبار المتضاربة، أعلن المتحدث باسم المجلس العسكري، اللواء أمادو عبد الرحمن، في بيان عبر شاشة تليفزيون النيجر الوطني، وهو محاط بتسعة ضباط سامين، الإطاحة بحليف فرنسا المفضل بمنطقة الساحل، الرئيس محمد بازوم.
ومن الواضح من صور الضباط الانقلابيين على الشاشة أن جميع أسلاك الجيش والأمن الوطني كانت حاضرة في تفاصيل الانقلاب، ومشاركة في تنفيذه؛ فإذا كانت بداية حجز الرئيس المطاح به، محمد بازوم، على أيدي الحرس الرئاسي فإن الجيش والدرك والشرطة قد انضمت له وتناغمت معه مما يعني إجماعًا من طرف جميع الأسلاك العسكرية على الانقلاب.
وهناك ثلاث دوائر لابد من وضعها في الحسبان لفهم ما دار ويدور في هذه الدولة الغرب إفريقية الفقيرة وغير الشاطئية، والتي تحظى باهتمام أجنبي خاص نظرًا لما تحت أرضها من مواد أولية، من أبرزها اليورانيوم، الذي تعتبر النيجر من أبرز مصدِّريه عالميًّا، وهذه الدوائر هي:
ثنائية سياسية لا يمكنها التعايش
أولًا: الدائرة السياسية: يوجد منذ بعض الوقت صراع مزمن داخل الحزب الحاكم بالنيجر، أي الحزب النيجري من أجل الديمقراطية والاشتراكية (PNDS-Tarayya)، والذي ظل الرئيس السابق، محمدو إسوفو، واضعًا اليد عليه حتى بعد مغادرته السلطة وانتخاب سلفه، محمد بازوم. ويُفهم من الدور المستمر للرئيس السابق، محمدو إسوفو، داخل الحزب الحاكم أن فيه تقليصًا لدور الرئيس المطاح به، محمد بازوم، إذ قد بات من الواضح للمتابعين أن إسوفو يمسك بأجهزة الحزب، هذا فضلًا عن ولاء عدد من الضباط ذوي الرتب العالية في الجيش والذين ظلوا مصطفِّين إلى جانب الرئيس السابق، ويشكلون خلفيته العرقية القوية في الجيش.
ويرى المراقبون للوضع بالنيجر أن هناك صراعًا صامتًا ما فتئ يتفاعل بين الرئيس السابق، إسوفو وسلفه ووزير خارجيته ورفيقه في السياسة الرئيس المطاح به، بازوم. ويظهر ذلك في أنه ما إن بدأ الرئيس بازوم في تعيين قيادات سياسية وعسكرية موالية له في مناصب سامية سواء في أجهزة الدولة أو في المؤسسة العسكرية، ومُقصيًا بذلك حلفاء وأنصار سلفه، الرئيس إسوفو، حتى بدأ الخروج على بازوم يتبلور والتفكير في الإطاحة به يتحدد. وقد فُهم من تعيينات بازوم أنها محاولة لتقليم أظافر سلفه، إسوفو، والإطاحة بالرؤوس التي يعتمد عليها في أجهزة الدولة وفي المؤسسة العسكرية، والتي كانت الضامن لحضوره الفاعل وهو خارج الجهاز التنفيذي.
ومما يؤكد حضور إسوفو المستمر وتأثيره القوي أن محمد بازوم مكث بعد تعيينه رئيسًا للبلاد، في أبريل/نيسان 2021، سبعة أشهر قبل أن يعين أعضاء حكومته، وهو ما فُهم في وقته أنه مقيد بضغط من سلفه، محمدو إسوفو، منعه من تنفيذ إجراءات يمنحها له دستور البلاد. وفعلًا، عكس تعيين الحكومة وغيره من التعيينات في ذلك الوقت أن محمدو إسوفو هو الحاضر الغائب في الشأن النيجري.
ولا ننسى أن مدير الحملة الانتخابية للرئيس المطاح به، محمد بازوم، لم يكن سوى ساني إسوفو محمدو ابن الرئيس السابق، محمدو إسوفو. وهذا الصراع الصامت على النفوذ بين رئيس جديد يريد إحاطة نفسه بشخصياته الموالية له والتي يثق فيها، وبين حليفه وغريمه وسلفه الذي يريد إبقاء نفوذه وتأثيره من خلال زرع أذرعه في مختلف الأجهزة ظل حديثَ الصحافة بالنيجر طيلة السنتين الفارطتين. ولا أدلَّ على ذلك من أن اللواء سالفو مودي، الذي قد يكون له الدور الأهم في الإطاحة بالرئيس بازوم، يعتبر من أخلص قادة الجيش وأقربهم من الرئيس السابق، محمدو إسوفو، بل إنه كان قائد الحرس الرئاسي في عهد إسوفو. ولم تكن إقالة هذا الضابط وتعيينه سفيرًا في أبوظبي إلا أحد الأسباب التي عجلت بالإطاحة بالرئيس بازوم.
المجتمع النيجري وصراع العرقيات المتجذر
ثانيًا: الدائرة العرقية: يذهب بعض المحللين إلا أن الرئيس المطاح به، بارزم، وهو من قبيلة أولاد سليمان العربية القليلة عددًا لكنها نافذة بسبب الثروة والحضور في الشأن العام، لا يملك حواضن شعبية ضاربة كما هي الحال بالنسبة لسلفه، إسوفو، الذي ينتمي لعرقية الهوسا ذات الأكثرية في البلاد، والتي تذهب بعض التقديرات إلى أنها تشكل أزيد من 60% من تعداد السكان، هذا فضلًا عن كون أعضاء المجلس العسكري الذي أطاح ببازوم كلهم من عرقية الهوسا. والقناعة العامة لدى نخبة عرقية الهوسا المدنية والعسكرية هي أنهم من أوصل محمد بازوم للسلطة، ولولا ناخبوهم لما استطاع أن يتبوأ أعلى منصب قيادي في البلاد، وبالتالي فهم يعتبرون أن لهم دالَّة على الرئيس بازوم بمقتضاها ينبغي أن تظل أغلب المنافع وأهم الوظائف بين أيديهم.
ولا شك أن ما تمتلئ به منصات التواصل الاجتماعي بالنيجر من تعليقات وآراء وتحليلات، ربما تصل أحيانًا إلى حد الخطاب العنصري، يدل في مجمله على أن بازوم بدا مؤخرًا وكأنه من خلال تعييناته إنما يقصي عرقية الهوسا مستبدلًا بها عناصر من عرقيات عربية وغيرها، وستكون في المستقبل سنده الذي يؤيده وعناصره التي يعتمد عليها. وفي المقابل، كانت منصات التواصل الاجتماعي المحسوبة على المجموعات العربية في تشاد ولبيبا والسودان تعكس نوعًا من التعاطف والتعاصب مع الرئيس بازوم، مما أعطى انطباعًا لمتابع الشأن النيجري، بل الشأن في منطقة الساحل جميعًا، أن هناك عودة لخطاب عنصري إقصائي طرفاه القبائل العربية والقبائل الإفريقية.
وهذا الجانب العرقي المتمثل في صراع الإثنيات ومحاولة وضعها اليد على أجهزة الدولة لا يمكن إغفاله في أية محاولة لفهم ما يحدث في منطقة الساحل بل وفي أغلب المناطق الإفريقية. وهو ما يفسر جانبًا مهمًّا مما تعرفه دولة النيجر الآن.
الولاءات الأجنبية: هل ستبقى فرنسا حاضرة بالنيجر؟
ثالثًا: الدائرة الأجنبية: لا يُتوقع لحد الساعة أن يحدث في النيجر تغيير في الولاءات أو تبدل في العلاقات الإقليمية والدولية، فإذا كان الرئيس المطاح به، بازوم، أحد الرؤساء الأفارقة المقربين من فرنسا، فإن المجلس العسكري لا يتوقع أن يغير شيئًا في علاقة النيجر بفرنسا، ولا أن يقوم بطرد عناصر الجيش الفرنسي الموجودين في البلاد كما فعل العسكريون في مالي وفي بوركينافاسو من طرد للفرنسيين واستبدال الروس بهم والتقرب من موسكو على حساب باريس. فليس هناك من مؤشرات حتى الآن توحي بهذا التحول الاستراتيجي الموغل في القطيعة مع فرنسا الدولة التي كانت تستعمر النيجر.
لكن لو وقع ضغط شديد على الانقلابيين من طرف منظمة الإكواس والاتحاد الإفريقي لتسليم الحكم للمدنيين وعودة الحزب الحاكم وأنصار بازوم، وغالبًا ما تبارك فرنسا وأميركا والدول الغربية عمومًا هذا التوجه الدبلوماسي وتعززه، فإن المجلس العسكري قد يتجه نحو التشدد خوفًا من محاكمة أعضائه والزج بهم في السجون. وهذا التوجه، لو وقع، فمن المحتمل أن يجد أعضاء المجلس العسكري الحاكم بالنيجر أنفسهم مضطرين للارتماء في أحضان روسيا، ولكن هذا الاحتمال لم يظهر بعد ما يعززه ويدعمه.
وفي الختام، فمن الملاحظ أن الانقلاب العسكري في النيجر قام بتنفيذه قادة عسكريون من الصف الأول ومن الضباط ذوي الرتب العليا، الحاضرين في المركز وليس بالأطراف، على خلاف ما حدث في مالي وبوركينافاسو حيث قام بالانقلاب هنالك ضباط من ذوي الرتب الأقل، وهذا ما يرجح فرضية أن ما حدث أكثر تعالقا بالوضع الداخلي منه بتأثير جهات خارجية كروسيا مثلا، وأن هذا الانقلاب ربما يعكس خلافا داخل النظام وليس انقلابا من خارجه. فالخلاف الحاصل بين ما حدث في النيجر وما سبق أن حدث في مالي وبوركينافاسو يعني، على الأقل في شكله الظاهر، أن الانقلابيين قد لا يغيرون من تحالفاتهم مع فرنسا.