أصبح انحياز وسائل الإعلام الغربية للسردية الإسرائيلية، التي تُظهِر الذات الإسرائيلية ضحية المقاومة الفلسطينية وأن المشكلة في حركات المقاومة وليس الاحتلال الإسرائيلي، مألوفًا للمتلقي، ولم يعد أمرًا مفاجئًا أو طارئًا/غريبًا. ففي كل مرة تتفجَّر فيها الأوضاع بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، في قطاع غزة والضفة الغربية، تتجرَّد تلك الوسائل بانتماءاتها المختلفة (يمينية وغير يمينية) من تقاليد وقواعد الممارسة الإعلامية المهنية، والمعايير التحريرية في تغطية الحروب والأزمات. وينغمر هذا الإعلام في الدعاية للخطاب الإسرائيلي وروايته للصراع، ويتماهى مع المنظور السياسي الإسرائيلي/الغربي وتَمثُّلاته لحركات المقاومة وحلِّ القضية الفلسطينية، منذ احتلال الأراضي الفلسطينية وحتى تاريخ المواجهة العسكرية التي تخوضها حركة حماس، في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
لكن يبدو اليوم أن هذا الانحياز للدعاية الإسرائيلية، والتوحد في الرؤى والخطاب بين طرفي السردية الإسرائيلية والغربية، بلغ شأوًا بعيدًا يُحوِّل وسائل الإعلام الغربية إلى مؤسسات سياسية و"أجهزة أيديولوجية" -بحسب تعبير الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير- لقوى النفوذ الدولي والمالي، وهو ما ينزع عنها ما تبقى من رداء المهنية. فلم تعد تُخفي انحيازها، بل تُجاهر بدعم السردية الإسرائيلية، وتقلب الحقائق وتُكرِّس نشاطها الإخباري للتعتيم عليها (حقائق الاحتلال، والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين...). إذن، كيف تتجسد المظاهر والأبعاد الأيديولوجية في سياق تغطية الإعلام الغربي للحرب الإسرائيلية المستمرة على الفلسطينيين، وحصار قطاع غزة منذ 2007؟
الهوس بتجريم حماس وإدانة المقاومة الفلسطينية
أظهرت معظم وسائل الإعلام الغربية انشغالها البالغ بتجريم حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) إثر الهجوم الواسع الذي شنَّته في عمق التجمع الاستيطاني "غلاف غزة"، الذي يضم عددًا من المدن والمستوطنات المتاخمة للخط الحدودي الفاصل بين القطاع وإسرائيل، وهي سبع مستوطنات، إلى جانب ثلاث ثكنات عسكرية. ففي المقابلات الإخبارية التي أجرتها بعض القنوات الدولية مع شخصيات ورموز فلسطينية كان السؤال الاستهلالي أو الرئيسي للضيف ينطلق من مغالطة "المصادرة على المطلوب" التي تجعل "النتيجة جزء القياس أو يلزم النتيجة من جزء القياس"، كما يقول العالم البلاغي عبد القاهر الجرجاني، أي أن يكون المطلوب وبعض مقدماته شيئًا واحدًا. وهذا ما يكشفه سؤال المذيع في قناة "سكاي نيوز" (Sky News) للسفير الفلسطيني في بريطانيا، حسام زملط: "قال لنا أليستر بانكول من المصادر الإسرائيلية: إن ما يقارب 600 إسرائيلي قتل في الهجمات، هل ستدين هجوم حماس؟".
هنا، يُزوِّد المذيع ضيفه بعناصر الجواب ويُرشِده للمطلوب، بل "يضع على لسانه" المقدمة والنتيجة المطلوبة ليس فقط لإدانة حركة حماس، بل لدفع الضيف إلى إدانة نفسه وحالة المقاومة الفلسطينية برمتها التي تستعيد حيويتها في كامل الأراضي المحتلة. ويتكرَّر هذا المنطق/المغالطة في أسئلة أخرى بقنوات مختلفة، مثل "بي بي سي نيوز" (BBC News): "هل تؤيد هجوم حماس الذي شنَّته صباح يوم السبت... هذا سؤال مهم؟"، وأيضًا في قناة "سي إن إن" (CNN) التي وجهت سؤالها إلى مصطفى البرغوثي، رئيس المبادرة الوطنية الفلسطينية، وقد عرَّفته بممثل السلطة الفلسطينية التي تسيطر على أجزاء من الضفة الغربية: "بعد كل ما قيل، ما رد فعلك على ما رأيته حتى الآن؟ ... حماس تستهدف المدنيين الإسرائيليين والنساء والأطفال والجدات، أليس هذا إرهابًا كلاسيكيًّا؟".
يؤكد هذا النوع من الأسئلة الموجهة الاتجاهَ السلبي في تغطية الشبكات الإخبارية الغربية لنشاط فصائل المقاومة، وتركيزها على مصادرة الآراء بهدف "تجريم" فعل المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وإظهار حركة حماس وبقية الفصائل المسلحة في صورة "الحركات المتعدية" التي تستهدف السكان الإسرائيليين الآمنين في مستوطناتهم نساءً وأطفالًا وشيوخًا. وهنا، تبرز أيديولوجية الخطاب الإعلامي الغربي الذي يُنْشِئ تَمثُّلًا ومعنى خاصًّا بالاحتلال الإسرائيلي يجعله في وضعية أو حالة "الضحية" المُعْتَدَى عليها من قِبَل المقاومة الفلسطينية التي تُمارس أفعالًا عدائية وأعمالًا "إرهابية كلاسيكية"، في نظر هذا الإعلام. وتُنْشِئ هذه الأيديولوجيا أيضًا تقابلًا متناقضًا بين دولة الاحتلال/الضحية التي تَحْرِم الفلسطينيين من حقهم في إقامة دولتهم المستقلة، والمقاومة الفلسطينية/المعتدية التي تواجه هذا الاحتلال وسياساته التطهيرية و"جرائمه ضد الإنسانية" التي أدانتها منظمات حقوقية دولية، مثل "هيومن رايتس ووتش" الأميركية وغيرها. ولذلك يُجرِّد هذا التقابل فعلَ المقاومة الفلسطينية من أي مشروعية قانونية، بل يُجرِّم سلاحها، ولا يرى في عملها حقًّا مشروعًا يكفله القانون الدولي الإنساني الذي يحمي ضحايا الحرب والاحتلال.
تُمثِّل هذه السردية رجع الصدى للدعاية الإسرائيلية التي ظلت تُصنِّف حماس منذ نشأتها في العام 1987 "حركة إرهابية"، تستخدم العنف والقتل ضد المدنيين الإسرائيليين، واليوم "تحتجزهم رهائن". لذلك لا تختلف حماس في المنظور الدعائي الإسرائيلي عن تنظيم "الدولة الإسلامية"، بل إن "حماس هي تنظيم الدولة الإسلامية، التي فرضت الحرب على إسرائيل واحتفلت بقتل النساء والأطفال والمسنين". ويُدرك القائم بالدعاية الإسرائيلية تأثير هذا الوسم أو العلامة، التي يَدْمَغ بها حماس، في مزاج الرأي العام الدولي/الغربي، وإبراز الحركة بمظهر "التوحش" الذي يُجرِّدها من إنسانيتها وحقها في الحرية والمقاومة المشروعة للاحتلال. ويخلق ذلك صورة مرغوبة تستجيب لأهداف الحكومة الإسرائيلية في تعبئة المجتمع الدولي من أجل نَبْذ الحركة، وإدانة نهجها في المقاومة لفك الحصار عن قطاع غزة، والدفاع عن مقدسات الفلسطينيين، ومن ثم طرد الاحتلال. ولربما الأكثر من ذلك هو استخدام هذه العلامة (الإرهاب) في تبرير سياسة الحكومة الإسرائيلية وحربها الشاملة على قطاع غزة، وإنشاء تحالف دولي بقيادة إسرائيل ضد حركة حماس مثلما أُنْشِئ التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، في سبتمبر/أيلول 2014، والذي ضمَّ في عضويته 86 دولة تلتزم بإضعاف التنظيم وإلحاق الهزيمة به في نهاية المطاف.
وفي سياق هذا المنظور الدعائي الذي يُبرِز "توحش" الحركة، تستخدم السردية الإسرائيلية حقلًا معجميًّا وأوصافًا ذات حمولة أيديولوجية لتبرير الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فتصف الذين لقوا حتفهم في هجوم حماس على المستوطنات والثكنات العسكرية بـ"القتلى الإسرائيليين" (بفعل فاعل)، بينما تصف الفلسطينيين الذين لقوا حتفهم تحت حمم القذائف والصواريخ الإسرائيلية بـ"الموتى الفلسطينيين" وكأنهم قضوا نحبهم في فراش الموت. ويتكرَّر هذا الاستخدام في بعض وسائل الإعلام الغربية التي تأسست قبل مئة عام، ولطالما اعتبرت نفسها خلال العقود الماضية مرجعًا مهنيًّا في صناعة الإعلام، غير أن هذه المهنية تتحطَّم على صخرة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الذي يكشف تحوُّل هذه الوسائل في لحظة سياسية معينة إلى "أجهزة أيديولوجية" لرسم صورة مرغوبة وإنشاء معان مطلوبة.
التحريض عبر استدعاء سياقات التاريخ
تقيم الدعاية الإسرائيلية تماثلًا بين هجوم حركة حماس على المستوطنات والثكنات العسكرية، في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 (7/10)، وهجوم تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة، في 11 سبتمبر/أيلول 2001 (11/9)، الذي أحدث تحوُّلًا عميقًا في الولايات المتحدة وسياساتها الدولية، "وأغرقها في الحرب ضد الإرهاب التي لا تزال مستمرة حتى اليوم". وهو الأثر العميق نفسه الذي ستعرفه إسرائيل في المرحلة المقبلة، "وسيفرض عليها -بحسب الدعاية الإسرائيلية- إصلاحًا شاملًا لعقيدتها العسكرية وتقويم قدراتها حتى تتمكن من التصدي للتهديدات التي تفرضها حماس والجماعات الإرهابية الأخرى".
هذا الاستدعاء لأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول نجده أيضًا في الصحافة الأميركية التي رأت أن "التوغل السافر لحركة حماس داخل الأراضي الإسرائيلية يشكِّل صدمة أكبر لإسرائيل مقارنة بهجمات 11 سبتمبر/أيلول"؛ حيث "ارتكبت المزيد من جرائم الحرب باختطاف المدنيين". وتحاول هذه المقارنة بين الحدثين استصحاب السياقات التي دفعت إدارة الرئيس، جورج بوش الابن، في ذلك الوقت إلى تشكيل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة من أجل ما تُسمِّيه "الحرب على الإرهاب"، ومن ثم استحضار القوانين التي أقرتها الإدارة الأميركية، مثل "قانون الوطنية" الذي منح صلاحيات واسعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات الأميركية في مراقبة وتفتيش المشتبه فيهم، ورفع العوائق القانونية للتنصت على المحادثات الهاتفية... وشرَّع القانون أيضًا وضعية "المقاتل العدو" و"المقاتل غير الشرعي".
إذن، تحاول الدعاية الإسرائيلية عبر الوكيل الإعلامي الغربي تسويق ما تعتبره "جرائم" حركة حماس ضد المدنيين وسط الرأي العام الدولي/الغربي، وإثارة حالة نفسية أو خلق مزاج سياسي شعبي في المجتمعات الغربية للتفاعل الإيجابي مع محتوى الدعاية الإسرائيلية التي تُشَيْطِن حماس، وتنزع عنها أي صفة تربطها بحركات التحرير الوطني التي واجهت الاستعمار والاحتلال عبر التاريخ بل تبدو "حركة عميلة" ذات أجندات خارجية تتلقى الدعم والتمويل والسلاح من دول إقليمية، وتربط هجومها على إسرائيل بالدعم الذي تلقته من إيران خلال السنوات الماضية. وهو ما يُشرعِن لأي سياسة مجنونة قد يُقدِم عليها الاحتلال الإسرائيلي ولو تطلب ذلك "حرق قطاع غزة" بأكمله بعد نزع الصفة الإنسانية عن ساكنته، وإظهاره بلا قيمة إنسانية.
ولذلك يُظهِر هذا الخطاب الدعائي من خلال استدعاء تاريخ الحدثين (7/10) و(9/11) أن "المشكلة أساسًا في حركة حماس التي تقوم بأعمال إرهابية وحشية ضد المدنيين الإسرائيليين" مثلما كانت "المشكلة في تنظيم القاعدة الذي شنَّ هجمات إرهابية وحشية ضد الولايات المتحدة". ومن هذا المنطلق، يُنْشِئ الوكيل الإعلامي الغربي معاني جديدة للاحتلال، الذي يجب التسليم به قدرًا مكتوبًا والتطبيع معه استسلامًا؛ إذ إن المشكلة في الذات الفلسطينية المحتلة وليست في الذات الإسرائيلية/الاحتلال. لذلك تُرَوِّج بعض وسائل الإعلام لإمكانية القضاء على الحركة وإنهاء وجودها في قطاع غزة؛ حيث "تمكنت إسرائيل في مناسبات عدة في الماضي من قطع رؤوس الجماعات الإرهابية، لكن دون أن تنجح في القضاء عليها". وهو ما تعلنه الدعاية الإسرائيلية عبر رموز الحكومة الإسرائيلية التي تسعى إلى محو حركة المقاومة الإسلامية حماس من خريطة القطاع.
خلاصة
يبدو واضحًا أن الإعلام الغربي كان مهووسًا ومنشغلًا بتجريم حركة حماس وإدانة المقاومة الفلسطينية بعد الهجوم الذي شنَّته على المستوطنات الإسرائيلية والثكنات العسكرية في غلاف غزة. وكان يستخدم إستراتيجيات مختلفة، لاسيما استدراج شخصيات ورموز العمل الوطني الفلسطيني لشجب فعل المقاومة (المصادرة على المطلوب)، وإدانة أنفسهم وجلد ذواتهم أمام الرأي العام الدولي/الغربي. كما استخدم هذا الإعلام حقلًا معجميًّا يُروِّج للسردية الإسرائيلية ويُبرِز الاحتلال بمظهر الضحية، بينما تبدو المقاومة الفلسطينية في هيئة الكيان "المتوحش" من خلال ربط أبعاد صورتها النفسية والفكرية والسلوكية بتنظيم "الدولة الإسلامية"، وهو ما يخلق معاني جديدة في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الذي يجعل المشكلة أساسًا في الذات الفلسطينية التي تقاوم هذا الاحتلال بما يضمن حقها في إنشاء دولتها المستقلة وكما يكفل لها ذلك القانون الدولي والشرائع الإنسانية. وفي المقابل، تعمل هذه السردية على التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي في المخيال السياسي للجمهور الغربي، باعتباره الواقع السياسي القدري للشعب الفلسطيني، ولا مجال لجلاء الاحتلال، الذي يجب التعايش معه.
هذه الإستراتيجيات في التسويق السياسي للدعاية الإسرائيلية تجعل الإعلام الغربي جهازًا أيديولوجيًّا تُسخِّره مراكز النفوذ السياسي والمالي الدولي، والمؤسسات الإعلامية الدولية، في خدمة المصالح والمشروع الإسرائيلي بالمنطقة العربية. ولعل ما يشير إلى هذا المعطى/الحقيقة هو أن هذا الإعلام الأيديولوجي نفسه يعتبر دفاع الأوكرانيين عن أنفسهم مقاومة لإنهاء ما يُسمِّيه "الاحتلال الروسي" وإجلائه عن أراضيهم، بينما يُجرِّم ذات الإعلام المقاومة الفلسطينية ولا يراها حقًّا بشرعة القوانين الدولية بل "توحشًا" ضد الاحتلال الإسرائيلي/الضحية! ويُصنِّف بعض أعمالها ضمن "جرائم الحرب"، ويُندِّد بدفاع الفلسطينيين عن أنفسهم ضد التطهير العرقي والفصل العنصري، وذلك لشرعنة التوحش الإسرائيلي وسياساته ضد الفلسطينيين.