لم يكن ممكنًا إقرار التعديلات الدستورية المقترحة من حزب العدالة والتنمية في البرلمان من أجل طرحها على الاستفتاء الشعبي بدون الدعم الذي قدَّمه حزب الحركة القومية.
ثمة حملة انتخابية صعبة تنتظر الطرفين المتعارضين من التعديلات، وليس هناك ما يمكن التيقن منه قبل إعلان نتائج الاستفتاء. بيد أن المسألة الأكثر أهمية تتعلق بالعواقب بعيدة المدى على حزب العدالة والتنمية وقاعدته الكردية بوجه خاص؛ فمن الناحية الإثنية، يُعتبر العدالة والتنمية حزب الأتراك والأكراد والعرب والشركس، وكافة الجماعات التركية الإثنية الأخرى. في حين يلتزم حزب الحركة القومية، تقليديًّا، الموقف الأكثر حدة في مواجهة الحركة القومية الكردية، بجناحيها المسلح وغير المسلح.
مقدمة
أخيرًا، أرسل البرلمان التركي (المجلس الوطني الكبير)، في 2 فبراير/شباط 2017، حزمة التعديلات الدستورية الجديدة إلى الرئيس، رجب طيب أردوغان، للتوقيع عليها. وكانت هذه التعديلات قد أُقرَّت في قراءتها الثانية والنهائية من قبل البرلمان في 21 يناير/كانون الثاني. بذلك، تنتقل المعركة حول التعديلات من دهاليز السياسة الحزبية والحسابات البرلمانية إلى الشارع، وتبدأ معركة كسب الأغلبية الشعبية في الثامن من فبراير/شباط، على أن يُعقد الاستفتاء على التعديلات، على الأرجح، في 16 إبريل/نيسان 2017.
ليس هذا دستورًا جديدًا لتركيا، بل حزمة من التعديلات على الدستور، تضم 18 مادة. ولكن هذه التعديلات تعد أكبر مشروع عرفته الجمهورية في تاريخها لتغيير بينة نظام الحكم. كل من دستور 1961 ودستور 1982، اللذين وُضعا بإشراف حكومات انقلابية عسكرية، أجريا تغييرات في بنية الحكم وصلاحيات وشروط الرئاسة ورئاسة الوزراء، بلا شك، ولكنَّ كليهما احتفظ بجوهر النظام البرلماني. التعديلات المقترحة على الاستفتاء تنقل تركيا رسميًّا، وبدرجة واسعة، إلى النظام الرئاسي. وهذا ما جعل المعركة حولها طويلة، ومعقدة، وذات أثر بالغ على التوزانات السياسية في البلاد.
لم يكن ممكنًا إقرار التعديلات الدستورية في البرلمان من أجل طرحها على الاستفتاء الشعبي بدون الدعم الذي قدَّمه حزب الحركة القومية. احتاجت التعديلات 330 صوتًا لإقرارها في البرلمان للاستفتاء، بينما لا تزيد الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية الحاكم عن 316 نائبًا. ما انتهى إليه الأمر لم يكن مجرد وعود بالدعم من حزب الحركة القومية، بل تقديم حزمة التعديلات للبرلمان باسم الحزبين معًا: العدالة والتنمية والحركة القومية.
كما يحتدم الجدل حول طبيعة النظام الرئاسي الذي تقترحه التعديلات، سيستمر النقاش، بالتأكيد، في الأوساط التركية السياسية، حول دوافع حزب الحركة القومية لتبني هذه التعديلات والنظام الرئاسي. ولكن السؤال الأكبر يتعلق بما إن كانت تركيا تدخل حقبة جديدة من التحالفات السياسية. تحاول هذه الورقة قراءة هذين التطورين معًا: توفُّر أغلبية برلمانية لإقرار التعديلات الدستورية، وأثر التوافق بين العدالة والتنمية والحركة القومية على مستقبل الحكم في تركيا.
بناء نظام سياسي جديد
يمكن القول: إن تغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي أصبح المشروع الدستوري الأهم لحزب العدالة والتنمية، ورئيسه، آنذاك، رجب طيب أردوغان، منذ ما بعد انتخابات 2011 البرلمانية. يعتقد أردوغان، وعدد من كبار مستشاريه، ومن قادة العدالة والتنمية، أن تركيا تمر بمرحلة نهوض حرجة، وتوجد في جغرافيا من الأزمات والتحديات، وأن النظام الرئاسي سيجعل عملية اتخاذ القرار أسرع وأسلس، ونظام الحكم أكثر استقرارًا. ولكن العدالة والتنمية لم يبدأ بطرح النظام الرئاسي، بل بمشروع وضع مسودة دستور جديد بالكامل، توافقي، يحل محل الدستور الحالي، الذي كُتب في ظل نظام انقلاب 1980 العسكري. للتوصل إلى الدستور التوافقي، شُكِّلت لجنة، بعضوية متساوية، من كافة الأحزاب الممثلة في البرلمان. ولكن اللجنة لم تستطع التوافق إلا على ما يقارب السبعين مادة من الدستور الجديد، قبل أن تعالج مقترح النظام الرئاسي، الذي أوصلها إلى طريق مسدود؛ ومن ثم إلى توقفها عن العمل.
مع الفشل في وضع مسودة دستور جديد، هدأ الجدل قليلًا حول مسألة نظام الحكم، ليشتعل مرة أخرى بعد الانتخابات الرئاسية في 2014، التي أوصلت أردوغان إلى سدَّة الرئاسة، في أول انتخابات رئاسية مباشرة من الشعب. تولى أحمد داود أغلو منصب رئاسة الحكومة، وأعلن تعهده خوض الانتخابات البرلمانية في العام التالي ببرنامج يدعو إلى تحول البلاد إلى النظام الرئاسي. خلال الفترة بين صيف 2014 وصيف 2015، أضاف أنصار النظام الرئاسي موضوعة أخرى إلى موقفهم، مجادلين بأن وصول رئيس الجمهورية إلى موقعه في انتخابات مباشرة يعني تدافعًا في الصلاحيات والشرعية بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة؛ وأن الحل الوحيد لحسم الخلل الدستوري الجديد في قمة الحكم والدولة هو في تبني النظام الرئاسي.
ولكن، وفي غياب التوافق بين الأحزاب الرئيسة، لم يكن واضحًا كيف يمكن إجراء مثل هذا التعديل الدستوري الكبير. كان وزن حزب العدالة والتنمية البرلماني أقل مما يمكن أن يحقق إقرار أي تعديل دستوري في البرلمان، ولا حتى إقرار مثل هذا التعديل للاستفتاء الشعبي. في انتخابات يونيو/حزيران 2015 البرلمانية، خسر العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية لأول مرة منذ 2002، ودخلت البلاد حالة من القلق وفقدان اليقين. ولم يكن خافيًا أن بعض المعارضين للنظام الرئاسي، بما في ذلك أعضاء بارزون في العدالة والتنمية، ألقى بمسؤولية خسارة الأغلبية البرلمانية على عاتق أردوغان، نظرًا لمشاركته البارزة في الحملة الانتخابية ودعوته المتكررة إلى تحول البلاد إلى النظام الرئاسي.
مهما كان الأمر، فقد انتهت مرحلة القلق السياسي بانتصار العدالة والتنمية الحاسم في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015 البرلمانية، وتمتعه من جديد بأغلبية برلمانية مريحة. المشكلة، أن هذا الانتصار الانتخابي فاقم من الخلافات بين رئيس الجمهورية ورئيس حكومته، بدلًا من أن يعزِّز التوافق بينهما. وبالرغم من أنه لم تتوفر صورة واضحة للخلافات بين أردوغان وداود أغلو على الإطلاق، فثمة اعتقاد بأنه مع ربيع 2016، بات الرئيس مقتنعًا بأن رئيس حكومته لم يعد ملتزمًا العمل على تحول البلاد إلى النظام الرئاسي. جوهر الأمر، أن لا أردوغان ولا داود أغلو كان يعرف كيف يمكن إقرار تعديل دستوري، يأخذ البلاد إلى النظام الرئاسي. فحتى بعد الانتصار الانتخابي في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، لم يكن للعدالة والتنمية العدد الكافي في البرلمان لإقرار مثل هذا التعديل الدستوري، طالما أن أحزاب المعارضة الثلاث الأخرى في البرلمان ترفض التحول إلى النظام الرئاسي.
استقال داود أغلو من رئاسة العدالة والتنمية ورئاسة الحكومة في ربيع 2016، وتولى رئاسة الحزب ورئاسة الحكومة بنعلي يلدريم، الذي أعلن من اللحظة الأولى لتوليه منصبه التزامه بتحقيق النظام الرئاسي. ولكن هذا التغيير لم يكن التحول المواتي في المناخ السياسي في البلاد. التطور الحاسم جاء مع محاولة 15 يوليو/تموز 2016 الانقلابية الفاشلة؛ فمن ناحية، عزَّز أداء أردوغان في مواجهة الانقلابيين من وضعه الشعبي، باعتباره قائدًا يُؤتَمَن على البلاد والدولة. ومن ناحية أخرى، صنعت المحاولة الانقلابية انطباعًا لدى قطاعات واسعة من الشعب بأن نظام الحكم البرلماني ليس مستقرًّا بما يكفي، وأن هناك ضرورة لتقوية موقع رئيس الجمهورية. أردوغان، من جهته، رأى الفرصة التي أتاحها فشل المحاولة الانقلابية، وأعاد النظام الرئاسي إلى صدراة الجدل السياسي في البلاد.
تحول موقف حزب الحركة القومية
في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2016، تحدَّث دولت بهشتلي، وإن بشيء من الغموض، وللمرة الأولى، عن استعداد حزبه النظر في عرض النظام الرئاسي على البرلمان. وقد جاءت الاستجابة مباشرة من رئيس الحكومة يلدريم، الذي قال إن حزبه على استعداد لوضع مسودة لتعديلات دستورية، وبدء نقاش مع حزب الحركة القومية حولها. كيف ولماذا جاء التغيير في موقف حزب الحركة القومية؟ ليس ثمة إجابة قاطعة. ولكن هناك جملة من الشواهد، التي يمكن أن تقدم ما يقترب من الإجابة.
يُنظَر إلى العلاقة بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، عادة، باعتبارها شأنًا عائليًّا بالغ التعقيد من القرابة والخصومة، التوافق والصراع، والود والكراهية. يشترك كلا الحزبين في قطاع واسع من قاعدتيهما الشعبية؛ وبالنظر إلى أن العدالة والتنمية أقرب إلى الائتلاف السياسي منه إلى الحزب الأيديولوجي المصمت، فإن الكتلة القومية، التي توصف بالمعتدلة، في العدالة والتنمية هي كتلة معتبرة الوزن والتأثير. لغة العدالة والتنمية السياسية هي الأخرى تراوح بين المحافظة الإسلامية والقومية التركية. ويمكن القول: إن المسألة الكردية، التي بذلت حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة جهدًا هائلًا للتوصل إلى حل سياسي لها، كانت أحد أهم مؤشرات العلاقة بين العدالة والتنمية والحركة القومية. ينظر القوميون إلى حزب العمال الكردستاني باعتباره التهديد الأكبر لوحدة تركيا واستقرارها؛ ولم يتردد حزب الحركة القومية مطلقًا في شجب الاتصالات بين حكومة العدالة والتنمية والقوميين الأكراد، بما في ذلك الاتصالات مع حزب العمال الكردستاني.
بعد مسيرة من التقدم الملموس في حل المسألة الكردية، وعدة سنوات من وقف إطلاق النار بين القوات التركية وحزب العمال الكردستاني، عاد الأخير إلى العمل المسلح في صيف 2015. راهن حزب العمال الكردستاني على أن حالة القلق السياسي الناجمة عن انتخابات يونيو/حزيران غير الحاسمة، ستجعل حكومة داود أغلو أكثر استعدادًا للتنازلات، فأعطى قادة العمال الكردستاني في جبال قنديل الأمر لمجموعات الحزب داخل تركيا ببدء حملة عصيان مسلح واسعة النطاق. ولكن أردوغان وداود أغلو أدركا حقيقة أهداف العمال الكردستاني، واتفقا على أن يتعهد الجيش التركي ردًّا شاملًا، وأن تبدأ الأجهزة الأمنية الاستعداد لمواجهة طويلة المدى مع العمال الكردستاني. هذه الانعطافة في سياسة حكومة العدالة والتنمية تجاه العمال الكردستاني، صنعت مناخًا مواتيًا للتقارب مع حزب الحركة القومية، الذي أيد الموقف الجديد للحكومة، بلا تحفظ.
تعزَّز التقارب بين الطرفين عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة في صيف 2016؛ فخلافًا للمتوقع، أعلن دولت بهشتلي، الذي تربط حزبه تقليديًّا علاقات وثيقة بالجيش وأجهزة الأمن، ومن الساعات الاولى للمحاولة الانقلابية، شجب حزب الحركة القومية للانقلابيين ووصف الضباط القائمين على المحاولة بالخيانة. والأرجح، أن موقف بهشتلي الحاسم وُلِد من قناعته المبكرة بأن المحاولة الانقلابية وثيقة الصلة بجماعة غولن، التي تُكِنُّ عداء خاصًّا لحزب الحركة القومية، وفي المقابل اعتبرها القوميون خطرًا على بقاء الدولة وتماسكها. من جهة أخرى، ربما أظهرت المحاولة الانقلابية لبهشتلي ضعف قواعد الاستقرار التي تستند إليها البلاد، وأن نظام الحكم التركي يحتاج بالفعل إلى التغيير.
ما قاله بهشتلي لتبرير موقفه الجديد في خريف 2016 من النظام الرئاسي لا يخلو من منطق. قال بهشتلي: إن واقع الحال أن تركيا تُحكَم من رئيس منتخب من الشعب، وأن هذا الرئيس قوي، ويمارس تأثيرًا غير مسبوق على الحكومة، وعلى حزبه السابق، الحزب الحاكم، الذي يُفتَرَض أن الرئيس لم يعد عضوًا فيه؛ وأن قوة لن تستطيع الحد من نفوذ الرئيس. وقال بهشتلي، إضافة إلى ذلك: إن المحاولة الانقلابية الفاشلة كشفت عن أن الدولة التركية تسير في طريق مسدود، وأن نظام الحكم على وشك الانهيار. للخروج من هذا المأزق، اقترح بهشتلي، لابد من التعامل بعقلانية أكبر مع فكرة نقل البلاد إلى النظام الرئاسي.
التُقِطت إشارات بهشتلي بسرعة فائقة من العدالة والتنمية، وسارع رئيس الحكومة يلدريم إلى تشكيل لجنة لوضع مسودة للتعديلات الدستورية. في بداية ديسمبر/كانون الأول، وبعد مباحثات طويلة بين الطرفين، أعلن العدالة والتنمية والحركة القومية التوافق على مسودة التعديلات. في 10 ديسمبر/كانون الأول 2016، تقدَّم الحزبان معًا بالمسودة إلى البرلمان، حيث انطلق النقاش حولها. وبالرغم من أن عددًا من نواب حزب الحركة القومية صوَّت ضد التعديلات، إلى جانب حزبي الشعب الجمهوري (حزب المعارضة الرئيس)، وحزب الشعوب الديمقراطي (كردي التوجه)، إلا أن حزمة التعديلات أُقرَّت في النهاية للاستفتاء، وسط مناخ توافق غير مسبوق بين العدالة والتنمية والحركة القومية.
توازنات متحولة
كما أثبت رئيس حزب الحركة القومية مصداقيته في دعم التعديلات الدستورية في البرلمان، أعلن في 6 فبراير/شباط 2017 أن حزبه سيشارك في حملة تأييد التعديلات في الاستفتاء الشعبي. في الجهة الأخرى، نُشِرت تسريبات من مكتب رئيس الجمهورية تفيد بأن الرئيس عازم، إن أَقَرَّ الشعب التعديلات الدستورية، وبدأت البلاد التحول إلى النظام الرئاسي، على تعيين وزراء من حزب الحركة القومية، بل وحتى اختيار مقربين من الحزب لمناصب إدارية عليا، مثل حكام الولايات. وبالنظر إلى أن النظام الرئاسي سيلغي رئاسة الحكومة، ولن يُجبَر الرئيس على تعيين أعضاء حكومته من كتلته البرلمانية، فإن مثل هذه التسريبات توحي بأن أردوغان سيعتبر حزب الحركة القومية شريكًا رسميًّا في حكومة النظام الرئاسي.
خلف تصريحات التوافق وتسريبات الشراكة، يبدو أن الساحة السياسية التركية تمر بمنعطف كبير، قد يترك أثره على مجمل توازن القوى السياسي في البلاد. في نسختها الإنجليزية، نشرت صحيفة حرييت المعارضة تعليقًا، في 31 يناير/كانون الثاني 2017، أشار إلى أن مضي حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية إلى علاقة تحالف غير رسمية، يعني أن هذه العلاقة قد تؤسِّس لحكم تركيا لأكثر من خمسين عام قادمة. المعروف، عمومًا، أن الوزن الانتخابي للمحافظين (بما في ذلك يمين الوسط وأصحاب التوجه الإسلامي) والقوميين، معًا، في تركيا السياسية، يتجاوز الستين بالمئة من الشعب التركي. وهذا الوزن الانتخابي ليس جديدًا، ولا يرتبط بالعدالة والتنمية والحركة القومية، على وجه الخصوص، بل يعود إلى بدايات التعددية الحزبية والحكم الديمقراطي في 1950؛ ويدل ثباته عبر العقود إلى أنه يعكس صورة راسخة للساحة السياسية التركية وقواها.
مثل هذه الحسابات ليست بعيدة عن تفكير الرئيس أردوغان، وعن تفكير دوائر حزب المعارضة الرئيس، حزب الشعب الجمهوري. ويبدو أن بعضًا من معارضة الشعب الجمهوري القاطعة للنظام الرئاسي، ونظرته السلبية للعلاقات التوافقية المتنامية بين العدالة والتنمية والحركة القومية، يعود إلى الخوف من أن تتطور العلاقات التوافقية هذه إلى توافق استراتيجي، وتنعكس بالتالي على مستقبل الحكم في البلاد.
بيد أن ثمة مخاطر لا يبدو أن مثل هذه التوقعات، والمخاوف، أخذتها في الاعتبار:
الاستفتاء لم يُعقَد بعد؛ وبالرغم من أن استطلاعات الرأي تُظهر تأييدًا شعبيًّا للتعديلات الدستورية، يتراوح بين 54 و60 بالمئة، إلا أن أحدًا لا يمكنه القول: إن إقرار التعديلات بات مضمونًا بالفعل. ثمة حملة انتخابية صعبة تنتظر الطرفين المتعارضين من التعديلات، وليس هناك ما يمكن التيقن منه قبل إعلان نتائج الاستفتاء. وضع البلاد الاقتصادي ليس جيدًا تمامًا؛ والكتلة المعارضة للتعديلات لا تعدم الحجَّة؛ إضافة إلى أن أحدًا لا يمكنه قياس حجم تأييد الناخب الكردي للتعديلات، سيما في ظل التصعيد المتفاقم بين الحكومة والقوميين الأكراد.
كما يجب عدم الاستهانة بحجم المعارضة للنظام الرئاسي داخل حزب الحركة القومية، سواء على مستوى كتلة الحزب البرلمانية، أو على مستوى القاعدة الشعبية؛ ففي 5 فبراير/شباط 2017، أعلن عدد من منظمات المجتمع المدني المرتبط بحزب الحركة القومية، مثل اتحاد الطلاب القوميين، عزمه دعوة الناخبين إلى رفض التعديلات الدستورية. وفي حال أُقرَّت التعديلات في الاستفتاء، فإن قطاعًا ملموسًا من القوميين يرى أن التوافق مع حزب العدالة والتنمية يضر بحزب الحركة القومية، وسيرفض تحول هذه العلاقة إلى توافق استراتيجي.
بيد أن المسألة الأكثر أهمية تتعلق بالعواقب بعيدة المدى على حزب العدالة والتنمية وقاعدته الكردية بوجه خاص؛ فمن الناحية الإثنية، يعتبر العدالة والتنمية حزب الأتراك والأكراد والعرب والشركس، وكافة الجماعات التركية الإثنية الأخرى. في حين يلتزم حزب الحركة القومية، تقليديًّا، الموقف الأكثر حدة في مواجهة الحركة القومية الكردية، بجناحيها المسلح وغير المسلح؛ لذا يصعب تصور حصول العدالة والتنمية على أغلبية برلمانية بدون الصوت الكردي. الحقيقة، أن عدد نواب العدالة والتنمية الأكراد أكثر من عدد نواب حزب الشعوب الديمقراطي، وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني.
خلال الشهور القليلة الماضية، سيما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، تصاعد الصراع بين حكومة العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطي، القومي الكردي؛ وقد اعتُقل بالفعل عدد من قياديي ونواب حزب الشعوب ووُجِّهت إليهم اتهامات تتعلق بمساندة الإرهاب. وفي حين ليس من الواضح حجم الأثر الذي تركه هذا التصعيد على قاعدة حزب العدالة والتنمية الانتخابية الكردية، فالواضح أن الأغلبية الكردية، التي ترفض التوجهات القتالية لحزب العمال الكردستاني، تتصور أن مرحلة التصعيد لن تستمر طويلًا، وأن العدالة والتنمية سيعود في النهاية إلى إحياء مسار التسوية السياسية. ولذا، إنْ دفع التوافق مع حزب الحركة القومية الأمور في اتجاه آخر، واستمر الصراع الدموي بين الحكومة والقوميين الأكراد، فالمتوقع أن يدفع العدالة والتنمية ثمنًا انتخابيًّا ملموسًا لهذا التوافق.