تجاذبات القوى العظمى والنيجر: الآثار الجيوسياسية للانقلاب على العلاقات مع أميركا

هناك عدة اعتبارات ذات طابع إستراتيجي جعلت الولايات المتحدة الأميركية تهتم بالنيجر، وتحاول هذه الورقة رصد تلك الاعتبارات قبل الانقلاب في النيجر وبعده، وما تجلياتها والديناميات التي تحكم تلك الاعتبارات فضلًا عن الثوابت والمتغيرات التي تعتري علاقة نيامي بواشنطن.
الجنرال محمد تومبا، أحد القادة العسكريين الذين أطاحوا بالرئيس النيجيري محمد بازوم، يخاطب أنصار الحكومة العسكرية للنيجر في نيامي (AP)

مقدمة

خلال العقد الأخير، شهدت العلاقات النيجرية-الأميركية تطورًا ملحوظًا؛ مما عزز الالتزام المشترك بدعم الأمن الإقليمي والقيم الديمقراطية في منطقة الساحل الإفريقي. هذا التعاون، الذي وصل ذروته بإقامة قاعدة عسكرية أميركية في النيجر بتكلفة نحو مئة مليون دولار، في 2016، كان يهدف لإرساء موطئ قدم في دولة ذات قيمة إستراتيجية عالية على الخريطة الإفريقية، والتعاون في مكافحة التنظيمات الموسومة بالإرهاب بغية تعزيز استقرار المنطقة. النيجر، تحت قيادة الرئيس السابق، محمد إسوفو، ولاحقًا تحت إدارة خليفته، محمد بازوم، رحبت بالدعم الأميركي؛ مما أسهم في تقوية الصلات الثنائية.

إلا أن العلاقة واجهت تحديًا جسيمًا، في يوليو/تموز 2023، بعد الإطاحة بالرئيس بازوم عبر انقلاب عسكري، وهو ما نجم عنه تأزم السياق الديمقراطي في النيجر، مستقطبًا بذلك إدانات على الصعيد الدولي، تضمنت تلك الصادرة عن الولايات المتحدة. الولايات المتحدة، وهي تدين الانقلاب ودعواتها لإعادة الديمقراطية، كان رد فعلها متوازنًا بحذر، مدفوعًا بالحاجة إلى الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية في القاعدة الجوية والمخاوف من توسع نفوذ روسيا وقوات فاغنر في الدول المجاورة. بلغت الأزمة ذروتها في 16 مارس/آذار 2024، حينما ألغت حكومة النيجر، ردًّا على الضغوط الأميركية، الاتفاقية العسكرية مع الولايات المتحدة؛ ما مثَّل تحولًا بالغ الأهمية في العلاقات بين البلدين، وأثار تساؤلات حول مستقبل التعاون الأمني في منطقة الساحل.

الاعتبارات الإستراتيجية للولايات المتحدة في النيجر

هناك عدة اعتبارات ذات طابع إستراتيجي جعلت واشنطن تهتم بالنيجر، وقبل ذكرها ينبغي التذكير أن أميركا كان قد دمجت النيجر ضمن مبادرة "الإستراتيجية القُطْرية المتكاملة"، "Integrated Country Strategy" المشروع الذي يهدف إلى دعم الدول لإرساء الأسس الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحكم الرشيد. بهذا الصدد، ومنذ العام 2017، أسهمت الولايات المتحدة في تأسيس أول لجنة انتخابية دائمة في النيجر، اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات (CENI)، ووضعتْ أسس قانون الانتخابات لعام 2017. كما دعمت التسجيل البيومتري للناخبين، ومساعدة اللجنة على تنظيم الانتخابات البلدية والإقليمية بنجاح في ديسمبر/كانون الأول 2020، إلى جانب الانتخابات التشريعية والدور الأول والثاني للانتخابات الرئاسية في 2021(1).

والاعتبارات المذكورة هي:

أ- الموقع الجغرافي الفريد: تحتل النيجر موقعًا إستراتيجيًّا في قلب غرب إفريقيا، فهي محاطة بسبع دول تشمل مناطق شمال إفريقيا ووسط وغرب إفريقيا جنوب الصحراء. ويجذب هذا الموقع اهتمام القوى العالمية نظرًا لدورها نقطةَ التقاء رئيسية بين شمال وغرب ووسط القارة. عطفًا على أن قربها من مناطق النزاع مثل مالي، وبوركينا فاسو، وليبيا، جعلها مركزًا مهمًّا للعمليات الأمنية والعسكرية ورصد تحركات الجماعات المسلحة وتدفقات المهاجرين نحو الغرب. أيضًا، تأتي أهميتها إلى الواجهة عبر مواردها، والتي تشمل احتياطيات مهمة من اليورانيوم وصناعة نفط ناشئة، كما أن الظروف الجغرافية للنيجر توفر فرصًا كبيرة لتطوير الطاقة المتجددة، خاصةً الطاقة الشمسية، فغدتْ شريكًا مرغوبًا للدول والشركات الراغبة في تأمين إمدادات الطاقة(2).

ومن هنا، انقلاب 2023 وتداعياته لم يتردد صداه داخل حدودها فحسب، ولكن أيضًا عبر المنطقة والعالم، مؤثرةً بالموقع الجيوستراتيجي والأمن والهجرة والمصالح الاقتصادية. تجلت هذه الديناميكيات في تناقض المواقف حيال الانقلاب نتيجة المصالح متعددة الأبعاد للأطراف المعنية في البلاد.

من جهة أخرى، تشترك النيجر في حدود مع مالي وبوركينا فاسو اللتين تنشط جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، المرتبطة بالقاعدة، والدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى فيهما، وهما جماعتان مصنفتان أميركيًّا منظماتٍ إرهابية. كما تواجه تحديات من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في حدودها مع ليبيا، وعلى الحدود مع شمال نيجيريا، تكافح للتصدي لجماعة بوكو حرام والدولة الإسلامية في غرب إفريقيا (ISIS-WA)، المصنفتين أيضًا تنظيماتٍ إرهابية؛ ما وضع النيجر في قلب معركة ضد التنظيمات الموسومة بالإرهاب(3). هذه العوامل مجتمعة أسهمت في تحفيز الولايات المتحدة بتأكيد حضورها في النيجر، وإقامة نفوذ دائم داخل البلاد.

ب- اتفاقية بناء قاعدة أميركية في جمهورية النيجر

في يوليو/تموز 2012، عرضت وزارة الخارجية الأميركية، تحت عقد مع وزارة الدفاع الأميركية، مذكرة شفوية على جمهورية النيجر تفضي إلى بناء قاعدة عسكرية تهدف إلى تسهيل وجود القوات الأميركية في النيجر(4)، وتطالب بأمور، من أبرزها: حصانات وامتيازات تمنحها الاتفاقية الأفراد العسكريين والمدنيين الأميركيين، ومرونة في الدخول للنيجر والخروج منه للقوات والموظفين الأميركيين، فضلًا عن حرية التنقل والإعفاء من رسوم العبور البرية ورسوم الهبوط للطائرات. ومنح استثناءات ضريبية فضلًا عن منح الحق في ممارسة الولاية القضائية الجنائية لأميركا على أفرادها العسكريين. وأيضًا استخدام الطيف الراديوي والاتصالات(5).

وفي تاريخ 28 يناير/كانون الثاني 2013، وافقت نيامي على جميع شروط الاتفاقية، لذا، طلبت النيجر من السفارة الأميركية في نيامي اعتبار هذه المذكرة، بالإضافة إلى المذكرة رقم 174، اتفاقية بين أميركا والنيجر، مدتها عشر سنوات(6).

بناءً على الاتفاقية المبرمة، قامت وزارة الدفاع الأميركية والقيادة الأميركية للقارة الإفريقية (أفريكوم) بإنشاء قاعدة جوية متطورة في مدينة أغاديز، شمالي النيجر، تعرف بـ"قاعدة النيجر الجوية 201" أو قاعدة تامانهينت الجوية. وافتُتحتْ رسميًّا بتاريخ 19 أبريل/نيسان 2016، بغرض دعم العمليات القائمة على استخدام الطائرات المسيرة، وتحتضن مجموعة العمليات الجوية 409 وفرقة الشؤون المدنية 411 التابعتين للقوات الجوية الأميركية. وتمتاز بتجهيزات عديدة كمقاه ومطاعم خفيفة وصالات رياضية وترفيهية، بُنيت لتوفير الراحة لحوالي 650 جنديًّا مقيمين هناك بشكل دائم(7).

بلغت تكلفة القاعدة قرابة 100 مليون دولار أميركي، بينما تُقدر تكاليف صيانتها بحوالي 30 مليون دولار سنويًّا. ومن المتوقع أن تصل النفقات على القاعدة حوالي 280 مليون دولار بنهاية فترة الاتفاق الذي يمتد لغاية عام 2024.

لاحقًا ارتفع عدد الجنود إلى 1100، بما في ذلك القبعات الخُضر. وواجهوا تحديات عديدة، مما جعلهم أهدافًا لهجمات متكررة. تجلى ذلك، في أكتوبر/تشرين الأول 2017، حين تعرضت قوة خاصة أميركية لكمين في منطقة "تونجو تونجو" بولاية تيلابيري الواقعة غرب النيجر، أسفر عن مقتل 4 جنود أميركيين ومثلهم من الجيش النيجري. ومنذئذٍ، توقفت القوات الأميركية عن دعم الجيش النيجري في المهمات البرية. كما تدير أفريكوم أيضًا قاعدة جوية أخرى في العاصمة نيامي، تُعرف بـ "القاعدة الجوية 101" تقع على بعد 800 كيلومتر جنوب قاعدة ديركو وتستخدم كذلك طائرات مسيرة(8).

في العام 2018، بنت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) قاعدة سرية في شمال شرق النيجر، بالتحديد في منطقة ديركو، الواقعة في دائرة بلما بإقليم أغاديز، وذلك على مسافة تقريبية تصل إلى 250 كيلومترًا من الحدود الجنوبية لدولة ليبيا وتبعد حوالي 550 كيلومترًا عن قاعدة تامانهينت الجوية، كما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في أحد تقاريرها. تهدف طلعاتها الجوية إلى رصد الأوضاع في جنوب غرب ليبيا، حيث تنشط تنظيمات مثل القاعدة بالإضافة إلى جماعات أخرى تعمل في منطقة الساحل(9).

مقابل جميع ما سبق، تعمقت العلاقة بين البلدين، مما جعل النيجر تستفيد من مزايا تجارية تفضيلية بموجب قانون النمو والفرص في إفريقيا (أغوا). في الفترة ما بين عامي 2021 و2022، وافق مجلس إدارة مؤسسة تحدي الألفية (MCC) ومؤسسة التمويل الدولية للتنمية الأميركية (DFC) على مجموعة من الاستثمارات المهمة لدعم التنمية في النيجر. تضمنت أول اتفاقيات إقليمية متزامنة بين MCC وكل من النيجر وبنين بقيمة تصل إلى 504 مليون دولار، منها 302 مليون للنيجر و202 مليون لبنين، بهدف تحسين الممر التجاري بين نيامي وميناء كوتونو(10). في العام المالي 2022، قدمت الولايات المتحدة مساعدات بقيمة إجمالية قدرها 236.4 مليون دولار للنيجر، مؤكدة دورها كأكبر مانح للبلاد(11).

وتوج ذلك، في مارس/آذار 2023، بلحظة تاريخية عندما توجه أنتوني بلينكن إلى نيامي، ليكون بذلك أول وزير خارجية أميركي يزور النيجر ووعد بحزمة مساعدات تصل 150 مليون دولار(12).

4. الانقلاب وردود الفعل الدولية

أ- الانقلاب: في السادس والعشرين من يوليو/تموز لعام 2023، أصدر الجيش في النيجر بيانًا يعلن فيه تأسيس "المجلس الوطني لحماية الوطن (CNSP)"، معلنًا تعليق عمل الدستور وتنفيذ حظر التجول، بالإضافة إلى إغلاق الحدود(13). كشف العقيد أمادو عبد الرحمن، من خلال خطاب متلفز، عن هذه الإجراءات الطارئة وفي اليوم ذاته، ألقت القوات الخاصة القبض على الرئيس، محمد بازوم، ووزير الداخلية. بعد مرور 48 ساعة على هذه الأحداث، تم الإعلان رسميًّا عن تعيين الجنرال عبد الرحمن تياني، الذي كان يشغل منصب قائد الحرس الرئاسي منذ عام 2011، قائدًا جديدًا للنيجر ورئيسًا للمجلس. أما بالنسبة للأسباب الفورية للانقلاب، فقد أشار تياني إلى "التردي المستمر في الأوضاع الأمنية بالبلاد" و"سوء الإدارة الاقتصادية والاجتماعية" كدوافع للانقلاب(14). بينما يعتقد مراقبون أن محاولة بازوم لإقالته كانت الدافع الرئيس(15).

بِصرْفِ النظر عن الأسباب الجوهرية وراء الانقلاب، وما إذا كانت التحليلات والتفسيرات دقيقة، إلا أن الانقلاب في النيجر قوبل بإدانات قوية وغير معهودة، وصل أعلاها إلى تهديدات بتدخل عسكري لإعادة النظام الدستوري(16).

ب- رد فعل المجتمع الدولي والولايات المتحدة تجاه الانقلاب

نددت المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس)، التي تركت النيجر عضويتها، في ديسمبر/كانون الأول 2023، بالانقلاب، وبدأت مفاوضات لإعادة الحكم الدستوري، معلنة استعدادها لاستخدام جميع الوسائل، بما في ذلك القوة العسكرية إذا لزم الأمر(17). أما على الصعيد الدولي، فقد جاءت إدانات متتالية من الاتحاد الأوروبي، ولكن فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، أظهرت موقفًا أكثر تشددًا وأعلنت استعدادها لدعم تدخل عسكري لإعادة محمد بازوم إلى الحكم إنْ طلبت إيكواس ذلك(18).

أيضًا، أدانت الولايات المتحدة الانقلاب، ودعا الرئيس جو بايدن، في أغسطس/آب، إلى الإفراج الفوري عن بازوم وعائلته و"الحفاظ على الديمقراطية التي بذل النيجر جهدًا كبيرًا لتحقيقها". كما صرح أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، بأن "الولايات المتحدة تُقدر عزم إيكواس على استكشاف جميع الخيارات لحل الأزمة بطرق سلمية"(19). كما أظهرت أهمية خاصة بالأزمة من خلال زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركي بالإنابة، فيكتوريا نولاند، إلى نيامي بشكل مفاجئ، في 7 أغسطس/آب. ومع أنها لم يُتح لها اللقاء بكلٍّ من الرئيس بازوم أو تياني، إلا أنها التقت بالعميد موسى صالح بارمو(20)، رئيس أركان القوات المسلحة الجديد، الذي كان قبل الانقلاب يقود القوات الخاصة للجيش النيجري التي تلقت التدريب من البرامج الأميركية.

في مرحلة تالية، جمدت الولايات المتحدة بعض برامج المساعدة للنيجر، شملت المعونة المخصصة للتعليم العسكري الدولي وبرامج أخرى تعزز من قدرات النيجر في مجال مكافحة الإرهاب. غير أن إدارة الرئيس جو بايدن لم تطلق رسميًّا توصيف "انقلاب" على الاستيلاء العسكري للسلطة، التصنيف الذي من شأنه أن يوقف كافة المساعدات الأمنية الأميركية ويعلق امتيازات النيجر للتصدير إلى السوق الأميركية بدون رسوم جمركية(21).

رغم الإدانات والدعوات الأميركية لاستعادة النظام الديمقراطي، وجدت واشنطن نفسها في موقف، مضطرة فيه لموازنة دقيقة بين إدانتها للانقلاب والحاجة إلى الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية، سيما القاعدة الجوية الحيوية. وهو ما يُفسر -بطبيعة الحال- توازن موقفها لضرورة الحفاظ على شراكتها العسكرية الراسخة مع الإدارة الحاكمة الجديدة بالنيجر.

ث- التطورات التي أدت إلى إلغاء الاتفاقية العسكرية مع الولايات المتحدة

مع بواكير ديسمبر/كانون الأول 2023، استقبل وزير الخارجية النيجري، بكاري ياو سانغاريه، أوراق اعتماد كاثلين فيتزغيبون سفيرة جديدة للولايات المتحدة في النيجر، التي وصلت إلى نيامي في أواسط أغسطس/آب. وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته، بعد زيارة مولي في، المبعوثة الأميركية لشؤون إفريقيا، إلى نيامي، أعلنت الولايات المتحدة استعدادها لاستئناف التعاون مع النيجر شريطة تعهد القيادة الجديدة بالمضي قدمًا في فترة انتقالية قصيرة الأمد(22). لاحقًا، استأنفت القوات الأميركية تحليقاتها الاستكشافية في الأجواء النيجرية، لكن أعادت وزارة الدفاع الأميركية تموضع قواتها من القاعدة الجوية 101 في نيامي إلى القاعدة الجوية 201 في أغاديز، ووصفت هذا التحرك بأنه "إجراء وقائي"، مع بقاء جنودها داخل القواعد(23).

في السياق ذاته، أفادت مولي في، بعد زيارة ديسمبر/كانون الأول، بإجراء "محادثات بنَّاءة" مع الحكومة الجديدة ونقلت تحذيرات بلادها للنيجر من مغبة تعميق الروابط مع روسيا(24). لكن لم التوجس الأميركي تجاه روسيا في النيجر؟ إجابة هذا الاستفسار تستدعي نظرة على التفاعلات بين روسيا الاتحادية وجمهورية النيجر.

أ- روسيا الاتحادية في النيجر

النيجر، كغيرها من الدول الإفريقية، تتمتع بعلاقات تعاون ممتدة مع روسيا. في العام 2016 -بوصفه مثالًا- دخلت النيجر في اتفاٍ مع روسيا بهدف توسيع نطاق التعاون الأمني بين البلدين. وخلال لقاء في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 مع السفير الروسي القاطن بمالي والمعين لدى النيجر، أعاد وزير الدفاع النيجري التأكيد على أن أكثر من 100 من الضباط النيجريين قد تلقوا تدريبات في روسيا، وتعتمد القوات الجوية النيجرية في ترسانتها على عدد من الطائرات روسية الصُّنع(25). أخذًا في الاعتبار أن هذا التعاون كان في ظل الإدارات المدنية بقيادة محمد إسوفو (2011-2021)، وبالتزامن مع إنشاء القاعدة الأميركية في النيجر، ولم تعرب -حينها- عن أية معارضة للتقارب النيجري مع روسيا. فالسياق الدولي آنذاك يتسم بخصائص مغايرة؛ حيث تركز الأنظار الغربية بشكل ملحوظ أكثر نحو الصين، أكثر من روسيا، وكان قبل تفجر الأزمة الأوكرانية في العام 2022.

في سياقٍ متصل، زار مسؤولون عسكريون روس رفيعو المستوى، بمن فيهم نائب وزير الدفاع، يونس-بيك يفكوروف، النيجر، في بواكير فبراير/شباط 2024، والتقوا بقيادة الجيش في البلاد. عقب اللقاء، شهد المجلس العسكري انقسامات داخلية بخصوص فكرة استقدام قوات روسية. يُذكر أن عبد الرحمن تياني، قائد السلطة الحاكمة، وساليفو مودي، وزير الدفاع، يؤيدان فكرة استقدام (الفيلق الإفريقي)، القوة الروسية الجديدة التي ستحل محل مجموعة فاغنر، بينما يعارض الجنرال موسى صالح بارمو، رئيس الأركان، هذا الاقتراح. مع الإشارة إلى أن بارمو ممن تلقوا التدريب من الولايات المتحدة الأميركية. ومن المخطط أن يُنشر الفيلق الإفريقي في خمس دول بحلول صيف 2024، ومن ضمنها النيجر(26).

وبعد ثلاثة أشهر من التحذير الأميركي، وبُعَيْدَ اللقاء الروسي مع القيادة النيجرية، عادت مساعدة وزير الخارجية لشؤون إفريقيا، مولي في إلى النيجر، مصطحبةً هذه المرة نائبة وزير الدفاع لشؤون الأمن الدولي، سيليست والاندر، وقائد أفريكوم، الجنرال مايكل لانغلي، في الفترة 12-14 مارس/آذار 2024، لإلقاء التحذير من شركاء النيجر الجدد(27).

ب- خطاب إلغاء الاتفاقية

لكن، غداة رحيل الوفد الأميركي، توجه أمادو عبد الرحمن، الناطق باسم المجلس العسكري، إلى الأمة عبر خطاب(28) متلفز بُثَّ للشعب النيجري وللعالم أجمع في الـ16 من مارس/آذار لعام 2024، وهنا الركائز الأساسية للرسالة التي حملها الخطاب:

  • استياء نيجري من أسلوب الزيارة: استضافت النيجر، الوفد الأميركي بمعية السيدة كاثرين فيسبور، سفيرة الولايات المتحدة، لدى النيجر دون احترام الإجراءات الدبلوماسية، بل عبر إخطار كتابي صادر بشكل أحادي مصحوب بتهديداتٍ حول التوجهات السياسية للنيجر.
  • أعربت النيجر عن رفضها لمحاولات الوفد الأميركي التدخل في اختيار الشركاء، بوصفها محاولة لحرمان الشعب النيجري من حقه في تحديد شركائه بحرية، في الإشارة إلى إنذار الولايات النيجر عن علاقتها مع كلٍّ من روسيا وإيران.

وعن العلاقات مع روسيا وإيران: أوضحت النيجر أنها لم توقع أية اتفاقات سرية معهما، وأن كل الاتفاقيات تتماشى مع القانون الدولي.

  • تذمر نيجري من تعليق التعاون العسكري: بعد الانقلاب، قررت الولايات المتحدة تعليق التعاون العسكري مع النيجر بشكل أحادي استنادًا إلى المادة 70008 من قانون التخصيصات الموحد ""consolidate appropriation Act دون أن تسحب قواتها العسكرية من النيجر كما يقتضيه القانون، مما يعد انتهاكًا غير منطقي للاتفاقية.
  • توترات ناجمة عن الوجود الأميركي: كما أشارت النيجر إلى التحليق غير القانوني لطائرات أميركية فوق أراضيها بعد تعليق التعاون؛ مما يثير تساؤلات حول فائدة استمرار الشراكة العسكرية.
  • إلغاء الاتفاقية: لجميع ما سبق، تُعلن النيجر إلغاء الاتفاق الخاص بوضع العسكريين والموظفين المدنيين الأميركيين على أراضيها، باعتباره يتضمن شروطًا غير عادلة ولا يلبي مصالح الشعب النيجري لثلاثة أسباب:

1. وجود القوات الأميركية على أرض النيجر يُعَدُّ خرقًا للأعراف الدستورية التي تُطالب بضرورة موافقة الشعب عبر ممثليه المُنتخبين على استقدام قوات أجنبية إلى الأراضي الوطنية، بل فرضت الولايات المتحدة الاتفاقية من خلال إعلان شفوي، على النيجر بشكل أحادي. وعليه هذا الاتفاق يُعد ظالمًا في مضمونه، بحسب الخطاب.

2. لا تفرض الاتفاقية على الجيش الأميركي أية التزامات بدعم النيجر في حربها ضد الإرهاب، بل هو متروك للمزاج الأميركي؛ مما يترك النيجر تواجه التهديدات الإرهابية أحيانًا بمفردها دون الدعم الكافي، رغم وجود قاعدة أميركية على أراضيها.

3. انتقد الخطاب الأعباء المالية الثقيلة التي فرضتها الاتفاقية على النيجر، بما في ذلك دفع فواتير ضريبية للطائرات العسكرية الأميركية التي يجب أن تتحمل الولايات المتحدة مسؤوليتها، وهي كلفة تبلغ مليارات من الفرنك الإفريقي ما يُثقل كاهل المواطنين النيجريين.

ج- العلاقة مع إيران: تَطرَّق المتحدث باسم المجلس العسكري، إلى الاتهامات الأميركية حول بيع النيجر اليورانيوم لإيران ونفى الادعاءات بشأن توقيع اتفاق سري معها، مؤكدًا على شفافية الاتفاقيات والتزامها بالقانون الدولي.

كما ذكَّر الولايات المتحدة والرأي العالمي بالأدلة الزائفة التي استخدمتها الولايات المتحدة لتبرير العدوان على العراق، حينها أيضًا وجَّهت القيادة الأميركية "اتهامات كاذبة" ضد حكومة الرئيس النيجري الأسبق، محمدو تانجا (1999-2010)، بشأن توفير اليورانيوم لصدام حسين لإنتاج أسلحة دمار شامل؛ ما ثبت لاحقًا أنه ادعاء مختلق. حيث إنه أمر مسلَّم به في أوساط العالم، أن استغلال اليورانيوم في النيجر يقع تحت سلطة فرنسا بشكل مطلق، وهذه حقيقة معروفة على نطاق واسع، بحسبه(29).

وفي ضوء النقاش حول إيران، حريٌّ بالذكر أن الصلات بين الأخيرة والنيجر تعود إلى فترات بعيدة، ولكن التحذيرات الصادرة من الولايات المتحدة تركز بشكل أساسي على التفاعلات الدبلوماسية الحديثة بين الطرفين. حيث قام علي محمد لامين زين، رئيس وزراء النيجر، بزيارة رسمية إلى إيران، في يناير/كانون الثاني 2024، متبوعًا بزيارة سابقة قام بها بكاري ياو سانغاري، وزير خارجية النيجر، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وعبَّر عن إعجابه بالتقدم الذي أحرزته إيران في المجالات العلمية والتكنولوجية، مؤكدًا على أن الخبرات الإيرانية تنسجم بشكل مثالي مع احتياجات النيجر في قطاعات الطاقة والصناعة، لبناء أسس لشراكة إستراتيجية متينة ومتنامية بين الدولتين(30).

6. تقييم واستنتاجات الوضع الراهن والتداعيات المستقبلية

أ- تقييم واستنتاجات

أولًا: قلق حول سياسات الحكومة النيجرية

أ. مخاوف بشأن استغلال المجلس العسكري الأماني الشعبية النبيلة: صحيحٌ أن الاعتراضات التي قدمها الخطاب تحمل في طياتها مبررات واقعية وتجسد مطلبًا ينبع من إرادة الشعب(31)، سيما ما يخص ضرورة موافقة البرلمان وإجراء نقاشات عامة حول أي اتفاق يشمل تخصيص جزء من أراضي النيجر لدول أخرى، باعتباره يمس سيادة البلاد ويستند إلى أموال المواطنين الذين يدفعون الضرائب، وكذلك المطالبة بأن تكون القوات الأجنبية الموجودة في النيجر ملزمة بمشاركة المعلومات الاستخباراتية والمشاركة الفعالة في العمليات القتالية عند الحاجة كشرط أساسي. لكن؛ هناك توجسات معينة لدى المراقبين المحليين من أن النقاش المرتبط بتقليص المدة الانتقالية من قبل الوفد الأميركي ربما كان محور استياء المجلس العسكري، وبالتالي فإن موقفه قد يكون موجهًا أكثر نحو الحفاظ على السلطة بدلًا من الدفاع عن السيادة الوطنية والمطالب الشعبية. هذا التحليل، الذي يطرحه معارضو المجلس العسكري -رغم عدم الاتفاق معه- يُعتبر رأيًا يستحق الأخذ بعين الاعتبار. وبالتالي ثمة تحفظات حيال توظيف المجلس العسكري النوايا الشعبية الحسنة للتمسك بالسلطة لفترة طويلة. 

ب. القلق الأمني: يكمن السيناريو الأسوأ المحتمل -لدى الخبراء المحليين- في قدرة ما يُطلق عليها "الولايات" التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التي تقع على الحدود الجنوبية الغربية والجنوبية الشرقية للنيجر؛ على إقامة رابط متصل فيما بينها وإنشاء جبهة نفوذ جديدة للتنظيم، كما كانت تخطط لها. وكانت القاعدة الجوية 201 تشكل ركيزة إستراتيجية فريدة للحيلولة دون ذلك؛ فمن خلالها، نفذت الولايات المتحدة عمليات بارزة ضد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا، في سبتمبر/أيلول 2019، وضد عناصر تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي/جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بعدها بشهرين. صحيحٌ أن الانسحاب من هذه المنشأة سيحرم الولايات المتحدة من رؤية شاملة لمجموعة واسعة من التهديدات التي تشكلها هذه الجماعات في المنطقة، بما في ذلك خطط محتملة ضد مصالح الأميركيين، إلا أن ذلك قد يمهد الطريق للتنظيمات الجهادية لإستراتيجية تموضع سريع وربط ولاياتها، محققة بذلك طموحها المنشود منذ عقد من الزمان. وغياب خطة محددة من المجلس العسكري لسد الفجوة، سواء كان ذلك بواسطتهم أو عن طريق تحالف بديل، يُعزز من حالة القلق لدى الخبراء.

ثانيًا: تقييم السياسات الأميركية تجاه النيجر: المآخذ

أ. الخطأ التكتيكي: واجهت الولايات المتحدة تحديًا في التوفيق بين محاولاتها لمجاملة النيجر بمنهجية عملية، والحفاظ على رضا شركائها الأوروبيين عبر عرض مواقف صلبة تعكس القيم الليبرالية. هذه المعضلة أدت إلى تعليق مؤقت لبعض المساعدات للنيجر، وإيقاف التعاون العسكري مما أسهم في تعريض البلاد للخطر أمام هجمات إرهابية وأثار الشعور بالغبن لدى النيجريين. يعتبر هذا خطأ في الإستراتيجية الأميركية، وقد أدرك ذلك خصومها ولم يُسلطوا الضوء عليه، لإدراكهم أن الولايات المتحدة ستدفع ثمنه؛ ما يذكِّر بمقولة نابليون بونابرت: "لا تزعج عدوًّا يرتكب خطأ".

بعد توقف الدعم الأميركي، استفادت النيجر من تحذيرات ودعم روسي، وطائرات مسيرة تركية ساعدت في شن ضربات دقيقة ضد جماعات إرهابية. هذا الوضع طرح سؤالًا حول الحاجة الفعلية للوجود الأميركي. يُعد ذلك خطأ إستراتيجيًّا من الولايات المتحدة التي سمحت لحلفائها بالشك في أهمية دورها أو قدراتها. عندما تبدأ الدول الصغيرة في التشكك في فائدة التحالف مع القوى الكبرى، تتجه نحو الاعتماد على نفسها أو تغيير تحالفاتها، استجابةً للتطورات الإستراتيجية.

ج- خطأ التهديد والتعامل بازدراء: الخطأ الآخر الذي وقعت فيه الولايات المتحدة يكمن في فشل خبرائها -عن جهل أو لا مبالاة- في توقع مثل هذا القرار الذي يحظى بالدعم الشعبي الذي يستند إليه المجلس العسكري حتى في لحظات التهديد بالتدخل العسكري- وارتكاب الوفد الأميركي خطأ التلويح بالتهديدات المبطنة والعقاب في حال عدم تغير النهج في العلاقات مع إيران وروسيا بالخضوع للإملاءات الأميركية؛ ما نتج عنه إمكانية فقدان الولايات المتحدة لثاني أكبر قواعدها العسكرية في دولة تتمتع بأهمية جيوستراتيجية بالغة؛ حيث إن فقدان نفوذها سيؤول حتمًا لمصلحة منافستيْها، الصين وروسيا، وإلى حد ما إيران.

يُضاف إليه الأسلوب الاستعلائي الذي اتخذه الوفد الأميركي عند زيارته والذي يعيد للأذهان فترات الاستعمار. جاءت الإخطارات بخصوص زيارة الوفد الأميركي عبر بيانات أحادية الجانب تحدد تفاصيل الزيارة دون مراعاة للبروتوكولات الدبلوماسية أو التشاور حول أجندة اللقاءات.

جاء خطأ التقدير الأميركي لردة الفعل النيجري، في الغالب، نتيجة استخفاف مسؤوليها بتيار التغيير الجديد الذي يجتاح الأفكار الإفريقية، التي ترى في الظروف الدولية الراهنة فرصة سانحة للتعبير عن الذات، مدعومة برياح شعبية مواتية. وكمكمِّل لذلك، هناك إحساس عام في النيجر بأنها جزء من موجة إقليمية أوسع تعيش لحظتها الثانية في تاريخ تصفية الاستعمار وآثاره. كما أن هناك تحفيزًا إفريقيًّا لقادة الساحل من نشطاء حول العالم، وتحفيزًا ذاتيًّا ناتجًا عن صدى تصريحات الدول التي تقف في وجه الهيمنة الأميركية، خصوصًا بعد موقفها المتناقض تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة، كما في التصريحات الصادرة عن جنوب إفريقيا، والبرازيل، والصين، وبالطبع التأكيد الروسي المتكرر على مبدأ السيادة ورفض التدخلات في شؤون الدول.

وإلى جانب ما سبق، تبرز حركات شعبية منظمة في نيامي تقف خلف المجلس العسكري، معارضةً لوجود قاعدة عسكرية أميركية في النيجر. وللقيادة الجديدة آذان مصغية لها، بوصفها القوة الدافعة وراء تحشيد وتجنيد الشعوب في المظاهرات الداعمة للسلطة العسكرية فور توليها مقاليد الحكم. وكدليل على هذه الحقيقة، دراسة استقصائية أجراها معهد "أفروباروميتر" في العام 2022، من قبل السكان في النيجر، ظهر أن نسبة 64% من المواطنين يعارضون فكرة استعانة بلادهم بقوات أجنبية لضمان الأمن القومي.

على النقيض من ذلك، لم ير الدعم القادم من القوات الفرنسية أو شركائها من الاتحاد الأوروبي بعين الرضا سوى نسبة ضئيلة تُقدَّر بـ 6.1% من المشاركين في الاستطلاع، بينما وجدت نسبة 4.1% فقط من المستطلَعين الدعم القادم من القوات الأميركية مقبولًا أو مرغوبًا فيه(31).

ب. التداعيات والسيناريوهات المحتملة

يمكن تقديم استشرافات وسيناريوهات محتملة نتيجة إلغاء الاتفاقية انطلاقًا من التاريخ الأميركي الذي يُشير إلى أنه في مواجهتها تحديات نفوذ -كما في فترات الحرب الباردة- مع احتمالية فقدان السيطرة على حكومة في مناطق تُعتَبر ذات أهمية جيوستراتيجية مثل النيجر فالاحتمالات كالآتي:

1. الإطاحة بالحكومات التي تميل لمعسكر الخصوم وإعادة النظام المُوالي: كما في حالة غزو غرينادا في 25 أكتوبر/تشرين الأول 1983، الجزيرة الصغيرة التي لا تزيد مساحتها عن 348 كم². كان الرئيس رونالد ريغان يعتقد أن جدار برلين لم يُبْنَ بالطوب فحسب، بل كان أيضًا جدارًا للأفكار، جدارًا للأيديولوجيات وتجب الإطاحة به. وعليه، وفي منطقة البحر الكاريبي، صعدت إلى السلطة حكومة شيوعية بدعم من الشيوعيين الكوبيين عبر انقلاب عام 1979. ونظرًا لأن الولايات المتحدة لا تقبل بأن تتجه الدول ضمن مناطق نفوذها نحو الخصوم، غزتها وأقامت حكومة موالية لها وللنظام الرأسمالي الغربي.

2. خلق ثورة شعبية، حالة فرنسا: خلال الحرب الباردة، انضمت فرنسا للحلف الأطلسي وكانت مقرات عسكرية أميركية موجودة على أراضيها. بدءًا من 1958، سعى الرئيس شارل ديغول لاستعادة السيادة الفرنسية في القرارات الأمنية دون مغادرة الحلف. في مارس/آذار 1966، أعلن انسحاب فرنسا من القيادة المتكاملة للناتو وطلب إغلاق قواعده في فرنسا؛ مما أدى إلى رحيل آخر قوات الناتو من فرنسا، في 14 مارس/آذار 1967. في مايو/أيار 1968، وقعت أزمة وثورة ضد ديغول، بدعم من الولايات المتحدة كعقاب له على جرأته، انتهت باستقالته في 28 أبريل/نيسان 1969.

رغم اعتقاد البعض أن تسعى الولايات المتحدة إلى تحريض تغيير من الداخل في النيجر(32) ربما عبر دعم المعارضة أو فصيل من الجيش لانقلاب ضد الانقلاب مثلًا، إلا أنه موضوعيًّا، هو منخفض الاحتمال. قد تفكر الولايات المتحدة في مثل هذه المغامرات فقط عندما تشعر بأن فقدان النيجر لصالح روسيا يهدد مكانتها كالقوة العظمى في العالم.

لذا في حالة النيجر تبقي هذه السيناريوهات الثلاثة التالية أكثر ترجيحًا:

1. العزل الدبلوماسي والجغرافي: في مواجهة المجلس العسكري، قد تعتمد الولايات المتحدة إستراتيجية الضغط عبر عزل النيجر دبلوماسيًّا وجغرافيًّا بالتعاون مع حلفائها من دول الجوار كنيجيريا وبنين وتشاد لخنق النيجر، لإجبارها على تغيير سياساتها.

2. إعادة التفاوض مع المجلس العسكري أو الحكومة الجديدة: هذا السيناريو ينطوي على قبول الواقع الجديد والسعي لتجديد الاتفاقيات بشروط جديدة تحفظ مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية في المنطقة، مع تقديم بعض التنازلات للمجلس العسكري أو الحكومة المقبلة.

3. الانتظار والتحرك وفقًا للتطورات: في هذا السيناريو، قد تتخذ الولايات المتحدة موقفًا متحفظًا، تراقب عن كثب تطورات الوضع في النيجر والمنطقة مع الاستعداد للتدخل حسب الضرورة. هذه الإستراتيجية تسمح لها بالحفاظ على خياراتها مفتوحة والتعامل مع الأحداث بمرونة أكبر.

وهنا، يُستشف من تصريحات المسؤولين الأميركيين أن السيناريوهين المذكورين آخرًا هي الإستراتيجيات التي يتبنونها. وقد أكد ذلك أول الردود الأميركية التي جاءت في أعقاب إنهاء الاتفاقية في اليوم التالي مباشرة. أكدت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأميركية، سابرينا سينغ، عن استمرار التواصل مع المجلس العسكري في النيجر، مع تحفظات على سياسات النيجر والارتباطات المحتملة للنيجر مع روسيا وإيران. معربة عن أن "المحادثات كانت صريحة وهدفتْ إلى تبادل المخاوف وفهم المواقف المتبادلة، مع تأكيد على أمل الولايات المتحدة في الحفاظ على الشراكة مع النيجر، شريطة إمكانية مواصلة المسار المشترك"(33).

من جانب آخر، ماثيو آلان ميلر، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، أدلى بتصريح، في 17 مارس/آذار، عبر حسابه على (إكس/تويتر) أكد من خلاله حفاظ بلده على الاتصال بالقيادة في النيجر(34). تصريحات قد تُفسَّر بنيَّة الولايات المتحدة في الحفاظ على مستوى من الحوار والتفاعل وتشير إلى إمكانية التوصل إلى تفاهمات جديدة قد تحافظ على الوجود العسكري الأميركي في النيجر، بما يخدم الأهداف الإستراتيجية لكلا الطرفين.

7. الخيارات والتحالفات البديلة

أ- الولايات المتحدة: في حال فقدان الولايات المتحدة لقاعدتها في النيجر التي تمكِّنها من مراقبة ثلاث مناطق حيوية في القارة بالتزامن، فإن البديل المتاح وفقًا لتقرير صادر عن مركز ستراتفور، في يناير/كانون الثاني 2024، هو التوجه نحو الساحل الغربي لإفريقيا كخيار إستراتيجي بديل. وتجري حاليًّا مناقشات مبدئية للتفاهم حول استخدام الطائرات المسيرة من مدارج موجودة في غانا وساحل العاج وبنين؛ ما يمهد الطريق لنقل القاعدة والمعدات إليها، خاصة مع ازدياد نفوذ تنظيمات مثل القاعدة والدولة الإسلامية هناك(35).

لكن الادعاء بأن هذه الخطة تُعد بديلًا عن النيجر، يكتنفه قدر من التضليل. فالحقيقة هي أن الولايات المتحدة كانت قد استقرت فعليًّا بمنشآت عسكرية ضمن أراضي هذه الدولة منذ أعوام، وكانت تخطط لتوسيع مدى عمليات الطائرات المسيرة من النيجر نحو الساحل الغربي المطل على المحيط الأطلسي قبل وقوع الانقلاب العسكري بفترة، لتسدل بذلك جسرًا يمتد من بنين عبر الساحل حتى البحر المتوسط عبر ليبيا. إذن، فإن الإزاحة من النيجر لا تولد سوى الارتباك في رحاب إستراتيجية أميركا العسكرية الموسعة. وهكذا، يبرز نقل القاعدة إلى تلك المناطق خيارًا افتراضيًّا متاحًا، وليس استجابة بديلة تفرضها ظروف الانقلاب.

وكدليل على أن تلك الدول ليست بدائل تعوض النيجر، ما جاء في جلسة استماع بالكونغرس الأميركي هذا العام؛ حيث حذر قائد أفريكوم، الجنرال لانغلي، من أن إغلاق القاعدة الجوية الأميركية في النيجر قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على إستراتيجية الأميركية الواسعة لمكافحة الإرهاب "بدون القدرة على المراقبة، نفقد القدرة على الإحساس"، أضاف قائلًا: "وإن انعدم وجودنا فيها، ستتراجع إمكانياتنا في تنفيذ المراقبة المستمرة والتنبيه المسبق، ويشمل حماية الأراضي الأميركية"(36).

ب- النيجر والخيارات البديلة: إثر الانقلاب، أخذت النيجر منعطفًا نحو توثيق صلاتها بالكتلة الصينية-الروسية. استقبلت النيجر سفير جمهورية الصين لدى النيجر، جيانغ فنغ، في 9 سبتمبر/أيلول 2023، وبعد أسبوع استقبل المبعوث الخاص للرئيس الصيني للشؤون الإفريقية، ليو يوكسي(37).

وفي العشرين من مارس/آذار لعام 2024، أي بعد مرور أربعة أيام فقط على إلغاء الاتفاقية النيجرية-الأميركية، تلاقت وزارة الخارجية النيجرية مجددًا مع ليو يوكسي؛ حيث أعرب وزير خارجية النيجر، ياو سنغاري، عن تطلع النيجر لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الصين(38). تقترح الكتلة الصينو-روسية خطة إستراتيجية لإنشاء ممر تجاري أمني يربط النيجر بليبيا، كبديل للتعاون مع الغرب، جزءًا من جهودها لتقديم دعم إستراتيجي واقتصادي للنيجر.   

تتميز الخطة الإستراتيجية المقترحة مع الكتلة الصينو-روسية بفائدة مزدوجة: أولًا: تعزيز الأمن في الساحل عبر نشر الفيلق الإفريقي-الروسي في خمس دول حليفة (جمهورية إفريقيا الوسطى، ليبيا، مالي، بوركينا فاسو، والنيجر) لمكافحة الإرهاب. ثانيًا: إنشاء ممر بحري يسهِّل التجارة بين روسيا والصين ودول الساحل عبر الموانئ الليبية، مما يقلص زمن الشحن بـ15 يومًا بتجنب الإبحار حول القارة عبر رأس الرجاء الصالح بجنوب إفريقيا. واقترحت ليبيا -حفتر حليف روسيا- استخدام ميناءي بنغازي وطبرق كموانئ رئيسية للنيجر. الصين قد تمول مشروع طريق سريع وخط سكة حديد يربط ليبيا بمالي عبر بوركينا فاسو والنيجر، ما يعزز الاستقلال الاقتصادي لهذه الدول ويقلل اعتمادها على موانئ دول مجموعة إيكواس التي تميل للغرب(39).  

وفقًا لتحليل بروفيسور جان بول بوغالا، رغم عدم صدور بيانات رسمية، هناك معلومات مسربة تشير إلى استعداد الصين لتمويل بناء طريق سريع في الصحراء وخط سكة حديد يمتد من ميناء طبرق بليبيا حتى باماكو في مالي، مرورًا بواغادوغو في بوركينا فاسو وعبر نيامي في النيجر(40).

الخطة البديلة التي تطرحها الكتلة الصينية-الروسية، مع أنها تحمل في طياتها فرصًا مغرية، إلا أنها تواجه تحديات واقعية، لا يمكن تجاهلها؛ مثل غياب الاستقرار في ليبيا وعدم وجود إجماع على قيادة حفتر، بالإضافة إلى مخاطر الحرب والإرهاب التي قد تؤثر سلبًا على أي استثمارات أو مشاريع. رغم التحديات، تظهر النيجر تفضيلًا للتعاون مع الصين وروسيا، خاصة مع الدعم العسكري الذي يمكن أن يقدمه الفيلق الروسي بالتعاون مع الجيوش المحلية؛ مما يعكس رغبة نحو اتخاذ موقف أكثر عملية في تشكيل تحالفاتها الدولية لتجاوز التبعية للقوى الغربية.

ج- الخطأ الإستراتيجي الذي يجب تجنبه: اللعب المزدوج

تُتوج الدراسة بمقولة مستوحاة من الرئيس الصيني، ماو تسي دونغ، كما ورد في الكتاب الأحمر: "لن تتمكن من تحقيق ثورة ناجحة إذا لم تكن قادرًا على تحديد من هو عدوك الحقيقي".  بهذه المقولة يسلط ماو الضوء على أهمية الوعي الإستراتيجي وبأن النجاح في أي تغيير جذري لا يتوقف فقط على العزيمة في القرارات، وإنما يتطلب أيضًا فهمًا واضحًا للتحديات وتحديد الخصوم بدقة. ما يُمكِّن القادة من تجنب الاستنزاف في معارك جانبية لا تخدم الهدف الأساسي.

وبحسب تحليلات(41)، ونتيجة الموقف الأميركي المتوازن تجاه إلغاء الاتفاقية، مع تأكيدها على الاستعداد لكل الاحتمالات، سواء البقاء أو الانسحاب، كما صرَّح به رئيس هيئة الأركان المشتركة، سي. ك. براون، هو موقف يختلف عن رد فعل فرنسا الأكثر حدة والتي رفضت الانسحاب بداية، فإن النيجر لم تلغ الاتفاقية إلا لتفتح المجال للتفاوض. فالسلطات النيجرية، قد تسعى لإعادة التفاوض على شروط جديدة: كتصديق اتفاقية جديدة بواسطة برلمان مدني يتم انتخابه لاحقًا، ودفع رسوم مقابل استخدام الأراضي التي تقع عليها القواعد الأميركية، والمشاركة الفعلية في العمليات ضد التنظيمات الجهادية. نهجٌ قد يدل عليه عبارات المتحدث باسم المجلس العسكري، حين قال في خطاب 16 مارس/آذار: "تؤكد النيجر على الانفتاح للتعاون الشفاف واحترام السيادة في إطار القانون الدولي، خاصة في مجال التعاون العسكري ومكافحة الإرهاب". وربما هو ما قصده الجنرال براون، حين صرح بأن الولايات المتحدة تتلقى "إشارات متضاربة من المجلس العسكري منذ ألغى الاتفاقية". إن كان هذا التحليل دقيقًا، فإنه يُظهر أن المجلس العسكري قد ارتكب خطأ يُعد شائعًا لدى المبتدئين.

غرض الإشارة إلى مقولة ماو كان لشد الانتباه إلى الخطر الإستراتيجي الأكبر الذي قد ترتكبه القيادة الجديدة في النيجر ويتمثل في اعتمادها إستراتيجية اللعب المزدوج والغموض في تحديد حلفائها. فالانخراط في لعبة الأطراف المتعددة زمن الاستقطاب الدولي الراهن -الذي يُعرف(42) بالنسخة الثانية للحرب الباردة- كمسعى للمناورة بين القوى العظمى بهدف تحصيل أكبر قدر من المكاسب رغم الإيمان بأن اللعب على التناقضات دهاء سياسي إلا أنه بالنسبة للحكومات التي تسعى لاتخاذ مواقف ثورية يُعتبر إستراتيجية خطيرة ومدمرة.

من الدروس التاريخية المهمة في هذا السياق، قصة باتريس لومومبا، التي تعلِّمنا عواقب اللعب المزدوج في ميدان السياسة الدولية. ففي الوثائق البلجيكية التي تم الكشف عنها وتجميعها من قِبل آن-صوفي جيج في مؤلفها بعنوان: "المسار السياسي المشوب بالدماء"، « UNE ASCENSION POLITIQUE TEINTÉE DE ROUGE »

يَرْتَسِمُ للمرء الطرائق التي لجأت إليها السلطات البلجيكية في بروكسل للإساءة إلى سمعة باتريس لومومبا، عقب استقلال الكونغو بوقت قصير. من خلال تقديمه على أنه "وكيل للمعسكر الشرقي" و"الوجه البارز للشيوعية الصينية والسوفيتية في القارة الإفريقية".

هذا ما يُستخلص من: "رسالة موجهة إلى رئيس وزراء بلجيكا، 14 يوليو/تموز 1960 (تضم مستندات خاصة بـ H. d'Aspremont-Lynden)؛ من الجلسة المنعقدة في 14 يوليو/تموز 1960، العدد 123، من الصفحات 4-5؛ مذكرة بعث بها إلى لندن، بون، باريس، وواشنطن، 15 يوليو/تموز 1960(43). يتضح فيها كيف بذلت بلجيكا جهودًا مضنية لإقناع الولايات المتحدة بموقفها، كون الأخيرة قائدة المعسكر الغربي. ادعت بلجيكا امتلاكها لأدلة وثائقية تثبت حصول لومومبا على دعم شيوعي للحملة الانتخابية المنتظرة في الكونغو.

في الأيام اللاحقة، ارتكب لومومبا خطأ حياته؛ حيث سارع إلى السفارة الأميركية، مصرًّا على نفي انتمائه للشيوعية أو المعسكر الشرقي.

آن-صوفي جي توثق ذلك قائلة:

"من خلال الوثائق السوفيتية، أصبح معلومًا اليوم أن لومومبا طلب الدعم من الاتحاد السوفيتي ثلاث مرات قبل الاستقلال، إلا أن هذه الطلبات لم تلق تجاوبًا. الطلب الأول، الذي تمت الإشارة إليه سابقًا، حدث خلال زيارة لومومبا إلى غينيا، في أبريل/نيسان 1959، حيث طلب من السفير السوفيتي، جيراسيموف، الإذن بزيارة الاتحاد السوفيتي. عقب تدخل ألبرت دي كونينك (شيوعي بلجيكي)، الذي أشاد بسافينوف، سفير الاتحاد السوفيتي لدى بلجيكا، لعلاقته الوثيقة وتأثيره على سيكو توري،  الحليف الرئيسي للاتحاد السوفيتي في إفريقيا جنوب الصحراء في ذاك الحين، قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، بتاريخ 30 أبريل/نيسان 1959، استجابة لطلب الزعيم الكونغولي. تم اقتراح دعوته لفترة أسبوعين لإطلاعه على حياة الطبقة العاملة السوفيتية والنشاط الاقتصادي للاتحاد، بغية مناقشة طلباته للدعم المالي لاحقًا. لكن هذا الاقتراح لم تتم الاستجابة له بالشكل المطلوب"(44). جدَّد السوفيت دعوتهم للومومبا مرتين، ولكنه اختار تجاهلها، بهدف تجنب استفزاز المعسكر الغربي.

على نحو ما جاء في التقرير المؤرخ 25 أبريل/نيسان 1960، ذُكر أن الحزب الشيوعي الكونغولي كتب إلى الاتحاد السوفيتي ملاحظة، استنادًا إلى تصريحات ألبرت دي كونينك، أن "لومومبا يتبع أسلوب المجازفة والمُغامرة". تتباين أقواله بشكل كبير حتى إنه يُوحي بأنه يضع رهاناته على خيارات متعددة في الوقت ذاته. يُعتبر نهجه غامضًا للغاية وموقفه مبهمًا وغير محدد، بل في مايو/أيار 1960، إثر انتخابات نجح فيها لومومبا، نأى بنفسه عن الشيوعيين؛ وامتنع عن الرد على المراسلات الواردة من الحزب الشيوعي البلجيكي (PCB). وأعرب الحزب أنه "لن يأسف لذلك؛ إذ يتساءل عما إذا كان لومومبا يحاول اللعب على جبهات عدة". بحلول 30 مايو/أيار، أبرز الحزب الشيوعي البلجيكي فقدانه الاهتمام بلومومبا، مؤكدًا أن الزعيم ينتهج إستراتيجية مزدوجة(45).

وبسبب فشله في تحديد من هم حلفاؤه وأعداؤه بوضوح، تخلى السوفيت عن دعم لومومبا. وفي النهاية، تورط المعسكر الغربي -الذي سعى لومومبا لإرضائه وفي الوقت ذاته مقاومة استعماره في الأراضي الكونغولية- في اغتياله، في يناير/كانون الثاني 1961، وتخلصوا من جثته بعد أربعة أيام عن طريق تقطيعها وإذابتها في حمض الكبريت بواسطة ضابط بلجيكي بالتعاون مع الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. ولم يتخذ الاتحاد السوفيتي أي إجراء، نظرًا لفشل لومومبا في التعرف على عدوه الحقيقي.

الخطأ الذي وقع فيه باتريس لومومبا، وقع فيه الزعيم الليبي، معمر القذافي، أيضًا، فتحوله المفاجئ من داعم للمعسكر الشرقي إلى محاولاته للتودد للغرب مثالًا على هذا الخطأ الإستراتيجي. على الرغم من تحالفه الطويل مع الاتحاد السوفيتي ثم روسيا، أقدم في عام 2006 على خطوة مفاجئة بوضع أجهزته الأمنية تحت إشراف المخابرات المركزية الأميركية الـCIA، متجاهلًا بذلك الآثار المحتملة على العلاقة مع روسيا. هذا الخطأ كان له دور كبير في الأحداث التي أدت إلى مقتله في عام 2011 على يد قوات مدعومة من الولايات المتحدة.

على النقيض مما سبق، أثبت حافظ الأسد صواب قراره بالتحالف مع الاتحاد السوفيتي، الذي أصبح فيما بعد روسيا، وهذا التحالف كان العامل الحاسم الذي ساعد ابنه خلال الثورة ضده عام 2011، خاصة عندما أعلن وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، في 17 أغسطس/آب 2012، أن "النظام السوري يجب أن يُطاح به بسرعة (...) وبشار الأسد لا يستحق البقاء على قيد الحياة"(47).

بحلول بواكير العام 2024، يستمر بشار الأسد في شغل منصبه رئيسًا للجمهورية السورية، بدعم قوي من روسيا، التي قدمت له السند اللازم حتى حين تدخلت القوى الغربية بدعم الثوار، لأنه بقي صادقًا في خياراته مع حلفائه. مع الإشارة هنا إلى أن ذكر المثال لا يعبِّر عن أي تأييد لسياساته الداخلية أو المصادقة على الجرائم التي ارتكبها في حق شعبه.

في الأخير، من الضروري التأكيد مجددًا على أن الخطأ في لعبة الولاءات المزدوجة عواقبه جسيمة. لا ينبغي أن تكون التحالفات متناقضة أو أن تستند إلى قرارات تلغي الاتفاقيات الاستعمارية بغية إعادة فتح باب المفاوضات مع الغرب، بينما يكون التقارب مع الشرق مجرد وسيلة لإثارة الغيرة السياسية في صفوف الغرب. في عالم تسوده الاستقطابات الحادة، يتعين على القادة الجدد الإدراك أن النجاة تأتي فقط عند الانتماء إلى جماعة أو كتلة قادرة على توفير الحماية ضد الأعداء.

خاتمة

ختامًا، مهما تكن العواقب، تبرز الاتفاقية الأميركية-النيجرية كأحد الأمثلة على التفاوضات التي تُجحف بحقوق الدول الأقل قوة، خصوصًا عندما لا تكون مصادَقة من قبل ممثلي الشعب وبالتالي تفتقر إلى الشرعية الدستورية. لا تقتصر الصعوبات على عدم إلزامها الولايات المتحدة بمساندة النيجر في العمليات البرية، وهو ما تحتاج إليه النيجر بالدرجة الأولى، بل تتعداها إلى كون النيجر نفسها تتحمل الأعباء الضريبية المرتبطة بوجود الطائرات الأميركية على أراضيها، وهو ما يعد اختلافًا جوهريًّا عن النموذج المطبق في قاعدة جيبوتي مثلًا.

إضافيًّا، تتجلى أمام المراقب عودة الظروف التي تشبه حقبة الحرب الباردة لتصبح محور الصراع في القارة الإفريقية، خاصة في منطقة الساحل التي باتت بمنزلة مختبر لهذه التجاذبات الجديدة. وحتى هذه اللحظة، تمثل هذه التطورات انتصارات للكتلة الصينية-الروسية، بينما تتكبد القوى الغربية، وخاصة فرنسا، خسائر في مجالات النفوذ في إفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو. أما النيجر، فإن خسارتها قد تُمثل ضربة للمصالح الأميركية لصالح كل من روسيا والصين، في سابقة تعد الأولى من نوعها.

تكمن الحكمة في أن يُظهر قادة الساحل الجُدد حنكة في بناء تحالفاتهم بناء على المصالح الوطنية أولًا وقبل كل شيء، دون الوقوع في فخ الفكرة الساذجة القائلة بـ"أن عليهم الاعتماد على قدراتهم الذاتية دون اللجوء إلى دعم خارجي جديد". فالدرس المستلهم من قصة لومومبا، أن الدول الصغيرة في زمن الاستقطاب الحاد لا تملك ترف الاعتماد الكامل على ذاتها.

نبذة عن الكاتب

مراجع

1)- US Department of State. "Integrated Country Strategy NIGER", Approved: Aprilis 21, 2022, pp. 1-10.

2)- Yabi, Gilles. "The Niger Coup’s Outsized Global Impact", CARNEGIE, Augusti 31, 2023, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://carnegieendowment.org/2023/08/31/niger-coup-s-outsized-global-i….

3) المرجع السابق.

4)- US Department of State. "TREATIES AND OTHER INTERNATIONAL ACTS SERIES 13-128, Agreement Between the UNITED STATES OF AMERICA and NIGER", DEFENSE Status of Forces, Effected by Exchange of Notes at Niamey, Iulii 6, 2012, et Ianuarii 28, 2013, pp. 2-13.

5) المرجع السابق.

6)- US Department of State. "Niger (13-128) – Agreement on Defense Status of Forces", Status of Forces Agreement, Ianuarii 28, 2013, (accessed Mars 28, 2024) available at: https://www.state.gov/subjects/status-of-forces-agreement/page/3/.

7)- Campbell, John. "The Presence of Lethal U.S. Drones in Niger is Expanding", Council on Foreign Relations, Septembris 11, 2018, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://www.cfr.org/blog/presence-lethal-us-drones-niger-expanding.

8)- AFP. "Pourquoi les États-Unis ont fait du Niger leur tête de pont en Afrique", Le Monde, Octobris 25, 2017, (accessed Mars 25, 2024) available at: https://www.lemonde.fr/afrique/article/2017/10/25/pourquoi-les-etats-un….

9)- Penny, Joe; Schmitt, Eric; Rukmini, Callimachi; Koettl, Christoph. "C.I.A. Drone Mission, Curtailed by Obama, Is Expanded in Africa Under Trump", New York Times, Septembris 9, 2018, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://www.nytimes.com/2018/09/09/world/africa/cia-drones-africa-milit….

10)- US Department of State. "The United States and Niger: A Strategic Partnership", FACT SHEET, OFFICE OF THE SPOKESPERSON, Martii 16, 2023, (accessed Mars 30, 2024) available at: https://www.state.gov/the-united-states-and-niger-a-strategic-partnersh….

11) المرجع السابق.

12)- Stepansky, Joseph. "Blinken making ‘historic’ trip to Niger as forces shift in Sahel", AL JAZEERA, Martii 15, 2023, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://www.aljazeera.com/news/2023/3/15/blinken-becomes-highte.

13) مركز أفروبوليسي، "تقرير الندوة السياسية حول الأزمة السياسية في النيجر: الآفاق المحلية وتداعياتها الإقليمية والدولية"، 7 أغسطس/آب 2023، (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2024)، https://afropolicy.com/details/تقرير-الندوة-السياسية-حول-الأزمة-السياسي….

14)- JeuneAfrique Politique. "Niger : la garde rapprochée de Mahamadou Issoufou", 11 Juillet 2018, (accessed Mars 27, 2024) disponible sur: https://www.jeuneafrique.com/mag/589709/politique/niger-la-garde-rappro….

15)- Rich, David. "Coup de force au Niger: Bazoum tentait de 'gagner en autonomie' face à sa garde présidentielle." France 24, publié le 27 Juillet 2023. Consulté le 27 Juillet 2023. (accessed Mars 27, 2024) Disponible sur: https://tinyurl.com/bdhyju95.

16) الجزيرة نت، "خبراء: التدخل العسكري في النيجر عملية يصعب تنفيذها ومحفوفة بالمخاطر"، 14 أغسطس/آب 2023، (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2024)، https://www.aljazeera.net/news/2023/8/14/خبراء-التدخل-العسكري-في-النيجر….

17)- Africanews. "Niger: la CEDEAO et les USA affirment leur soutien au président Bazoum", 27 Juillet 2023. Consulté le 28/7/2023. Disponible sur: https://tinyurl.com/ybhf6p7p.

18)- Yabi, Gilles. "The Niger Coup’s Outsized Global Impact", CARNEGIE, Augusti 31, 2023, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://carnegieendowment.org/2023/08/31/niger-coup-s-outsized-global-i…

19)- Saenz, Arlette. "Biden calls for immediate release of Nigerien President Bazoum", CNN, August 3, 2023, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://edition.cnn.com/2023/08/03/politics/biden-niger-president/index….

20)- U.S. MISSION NIGERIA. "ACTING DEPUTY SECRETARY NULAND’S TRIP TO NIGER", Office of the Spokesperson, U.S. Department of State, August 8, 2023, (accessed Mars 31, 2024) available at: https://ng.usembassy.gov/acting-deputy-secretary-nulands-trip-to-niger-….

21) سكاي نيوز عربية، "الخارجية الأميركية تكشف سبب عدم توصيف أحداث النيجر بالانقلاب"، سكاي نيوز، 13 أغسطس/آب 2023، (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2024)،  https://www.skynewsarabia.com/world/1644755-الخارجية-الأميركية-تكشف-سبب….

22) فرانس برس، "الولايات المتحدة تبدي استعدادًا مشروطًا لاستئناف تعاونها مع النيجر"، قناة الحرة، 14 ديسمبر/كانون الأول 2023، (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2024)، https://www.alhurra.com/arabic-and-international/2023/12/14/الولايات-ال….

23) جريدة الشرق الأوسط، "القوات الأميركية تستأنف طلعاتها الجوية الاستطلاعية فوق النيجر"، الشرق الأوسط، 14 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2024)،  https://aawsat.com/العالم/4547271-القوات-الأميركية-تستأنف-طلعاتها-الجوي….

24)- JESSICA DONATI AND SAM MEDNICK " US military operations across the Sahel are at risk after Niger ends cooperation" apnews,  March 17, 2024 (accessed Mars 27, 2024) at: https://apnews.com/article/niger-sahel-us-air-base-a5545b937fbd56dff211…

25) مرجع سابق.

26)- Stratfor. "Niger-Russia: Possible Russian Military Deployment Prompts Divisions Within Niger's", worldview.stratfor, February 1, 2024, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://worldview.stratfor.com/situation-report/niger-russia-possible-r….

27)- Donati, Jessica and Mednick, Sam. "U.S. military operations across the Sahel region at risk after Niger ends cooperation", Los Angeles Times, March 17, 2024, (accessed Mars 28, 2024) available at: https://www.latimes.com/world-nation/story/2024-03-17/us-military-opera….

28)- Faso7 TV. "Le Niger dénonce les accords militaires avec les Etats-Unis d’Amérique", YouTube, 16 March 2024, (accessed Mars 29, 2024) available at: https://www.youtube.com/watch?v=ZXjlWRk8QqA&ab_channel=Faso7TV.

29) المصدر السابق.

30)- Press TV. "Niger broke military pact with US after being 'warned' about Iran, Russia ties", March 19, 2024, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://www.presstv.ir/Detail/2024/03/19/722164/Niger-suspended-militar….

31)- Yabi, Gilles المرجع نفسه

32)- Yabi, Gilles. "The Niger Coup’s Outsized Global Impact", CARNEGIE, Augusti 31, 2023, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://carnegieendowment.org/2023/08/31/niger-coup-s-outsized-global-i….

33)- Yamb, Nathalie. "Sahel: Chassés du Niger, les Américains entre colère et embarras...", YouTube, 19 March 2024, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://www.youtube.com/watch?v=_nDc8dGApTQ&ab_channel=NathalieYamb.

34)- Stewart, Phil. "US warned Niger about ties to Russia, Iran before junta revoked accord, Pentagon says", Reuters, March 18, 2024, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://www.reuters.com/world/us-warned-niger-about-ties-russia-iran-be….

35)- Miller, Matthew. Post on X (formerly Twitter), March 17, 2024, (accessed Mars 27, 2024) available at: https://x.com/StateDeptSpox/status/1769171262725640569?s=20.

36)- Stratfor. "West Africa: U.S. Pursues Drone Bases Along West African Coast to Counter Islamist Progression", worldview.stratfor, January 4, 2024, (accessed Mars 31, 2024) available at: https://worldview.stratfor.com/situation-report/west-africa-us-pursues-….

37) المرجع السابق.

38) أخبار النيجر، "الجنرال تشياني يستقبل المبعوث الخاص لرئيس الصين للشؤون الإفريقية"، منصة إكس، 17 سبتمبر/أيلول 2023، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2024)، https://twitter.com/Nigerenarabe/status/1703404958979088593

39) أخبار النيجر، "وزير الخارجية يلتقي المبعوث الخاص للرئيس الصيني"، منصة إكس، 20 مارس/آذار 2024، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2024)،  https://twitter.com/Nigerenarabe/status/1770245979695919478.

40)- Pougala, Jean-Paul. "1441- 2/4 La sortie des 3 pays de l'AES est une initiative fantastique qui rabat les cartes entre Moscou et Paris, impliquant la Libye et le Tchad." 02 février 2024. (accessed Mars 27, 2024) Disponible sur: https://pougala.net/ieg/index.php?p=articles&artid=1673.

41) المرجع نفسه.

42) المرجع السابق.

43) آيات، إدريس، "المعادن الإفريقية في التنافس الدولي.. الرهانات والمآلات"، مركز الجزيرة للدراسات، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021، (تاريخ الدخول: 30 مارس/آذار 2024)،  https://studies.aljazeera.net/ar/article/5170.

44)- Gijs, Anne-Sophie. "Une ascension politique teintée de rouge. Autorités, Sûreté de l’État et grandes Sociétés face au ‘danger Lumumba’ avant l’indépendance du Congo (1956-1960)." In: Revue Belge d'Histoire Contemporaine, Vol. XLII, no.1, pp. 11-58 (2012).

45) المرجع نفسه.

46) المرجع السابق.

47) المرجع السابق.