الطريق إلى 2019: تحديات ما بعد الاستفتاء في تركيا

أفرز القبول بالتعديل الدستوري بتركيا تعقيدات، تشابكت مع تحديات داخلية وخارجية، سترسم جميعها الطريق إلى انتخابات 2019 البرلمانية والرئاسية.
eb8b84f238e24fcd88eff7c7d3aeed27_18.jpg
أردوغان: انتصار وتحديات (الأوروبية)

مثَّل استفتاء 16 أبريل/نيسان 2017، حول التعديلات الدستورية المتعلقة بالنظام الرئاسي، نجاحًا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم وصدمة في الآن نفسه. 

نجاح العدالة والتنمية في إقرار التحول إلى النظام الرئاسي، المسألة الأكثر أهمية على أجندته السياسية من سنوات، لا يعني أن الطريق إلى انتخابات 2019، الرئاسية والبرلمانية المتزامنة، ممهد. ففيما عدا الحقل الاقتصادي، الذي تدعو مؤشراته الراهنة، والراهنة فقط، إلى التفاؤل، تحيط الصعوبات بأغلب ملفات السياسة الداخلية والخارجية الملحَّة. 

يراهن العدالة والتنمية، مهما كانت ملفات الداخل والخارج صعبة، على قوة الدفع التي اكتسبها من نجاحاته السابقة، من جهة، وعجز المعارضة السياسية عن تقدم بديل فعَّال للحكم الحالي، ومنافس ذي مصداقية للرئيس أردوغان، من جهة أخرى.

مقدمة 

مثَّل استفتاء 16 أبريل/نيسان 2017، حول التعديلات الدستورية المتعلقة بالنظام الرئاسي، نجاحًا للرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم وصدمة في الآن نفسه. كان الاستفتاء نجاحًا؛ لأنه انتهى إلى إقرار تحول نظام الحكم في البلاد إلى الرئاسي، وهو التوجه الذي نادى به الطيب أردوغان منذ كان رئيسًا للحكومة في 2010، واعتبره النهج الوحيد للحفاظ على درجة عالية من الاستقرار السياسي. ولكن الاستفتاء كان صدمة، أيضًا؛ لأن نتائجه، التي تجلَّت في فوز أنصار نعم بفارق ضئيل (51.4% من الأصوات)، كشفت عن انقسام شعبي حاد حول التعديلات، وفشل معسكر مؤيدي النظام الرئاسي في إقناع قطاعات واسعة من المصوِّتين بجدواه. 

أطلقت نتائج الاستفتاء، كما كان متوقعًا، جدلًا قويًّا حول شرعية إقرار التعديلات الدستورية، وجدلًا آخر حول طريقة حساب اللجنة العليا للانتخابات لأصوات المقترعين. ولكن صلابة تقاليد الانتخابات في تركيا، من ناحية، والفارق الكبير بين العدد الفعلي لأنصار معسكري نعم ولا، نظرًا للنسبة العالية للمقترعين، مقارنة بمن يحق لهم التصويت (86 بالمئة)، أسهمت في تهدئة هذا الجدل وعودة المناخ السياسي إلى طبيعته. المسألة الأهم، على أية حال، أن كل الأطراف أدركت سريعًا أن الاستفتاء ليس نهاية الطريق، وأن العامين المقبلين، أي المرحلة الانتقالية للتحول بصورة كاملة للنظام الرئاسي، لن تقل أهمية عن الاستفتاء ذاته. 

طبقًا للتعديلات الدستورية، ثمة صلاحيات وحقوق ستنتقل فورًا، أو بصورة تدريجية، إلى رئيس الجمهورية. ولكن التحول الكامل إلى النظام الرئاسي لن يتحقق إلا بعد عقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المتزامنة في النصف الثاني من 2019. أصبح من حق الرئيس، مثلًا، الانتماء لحزب سياسي، إن أراد؛ وهو ما حدث فعلًا عندما وقَّع أردوغان طلب عضوية حزب العدالة والتنمية في مطلع مايو/أيار 2017. وهناك تغييرات ستقع تدريجيًّا، مثل عملية إعادة بناء مجلس القُضاة والمدَّعين، المسؤول عن تعيينات وترقيات وتنقلات القضاة والمدعين العموميين، التي يُتوقَّع أن تُنجز هذا الصيف. ولكن منصب رئيس الحكومة لن يُلغى، ولن تنتقل سلطاته إلى رئيس الجمهورية، ويبدأ الرئيس في تشكيل حكومته من خارج البرلمان، إلا بعد انتخابات 2019. 

وهذا ما يطرح عددًا من الأسئلة بالغة الأهمية حول أجندة تركيا وحزبها الحاكم خلال الفترة الانتقالية، منها مثلًا: كيف سينجح أردوغان وحزب العدالة والتنمية في إقناع قطاع أوسع من الشعب بأن النظام الرئاسي هو الأفضل للجمهورية التركية في هذه الحقبة من تاريخها؟ وأي سياسات وإنجازات يحتاح الرئيس وحزبه تحقيقها لضمان تحقيق نجاح أكثر أمانًا في انتخابات 2019، سيما بعد أن رفعت نتائج الاستفتاء من معنويات المعارضة، وبدا واضحًا أن علاقات أنقرة بالاتحاد الأوروبي، من جهة، والولايات المتحدة وروسيا، من جهة أخرى، تمر بفترة امتحان بالغة التعقيد؟ 

خيارات إعادة بناء الحزب والحكومة 

يتعلق أحد أبرز التحديات التي تواجه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية بإعادة بناء صورة الحزب الحاكم وفعاليته وعلاقته بعموم الشعب. أظهر الحزب دينامية عالية خلال السنوات العشر الأولى من توليه شؤون البلاد في 2002، سواء على صعيد إدارته لشؤون الحكم والاقتصاد وحجم الإصلاحات التي أنجزها لتعزيز الديمقراطية ومصالحة الشعب مع الدولة الجمهورية، أو على صعيد علاقته بقطاعات الشعب التركي المختلفة، التي تجلَّت في زيادة مطَّردة في أعداد المصوِّتين له في الانتخابات البرلمانية الثلاث التي شهدتها البلاد بين 2002 و2011. خلال السنوات القليلة التالية، دخل العدالة والتنمية مرحلة من عدم اليقين، سيما بعد أن تزايدت المؤشرات على عزم أردوغان خوض الانتخابات الرئاسية واقتراب وقوع تغيير في قيادة الحزب، وبفعل الصراع المتصاعد بين الحزب وحكومته، من جهة، وجماعة فتح الله غولن، من جهة أخرى. 

وقع التغيير بالفعل في صيف 2014 واختار الحزب، بمباركة من أردوغان، وزير الخارجية والأكاديمي السابق، أحمد داود أوغلو، رئيسًا له ولحكومته. في 2015، خاض الحزب الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران، وأخفق في تحقيق أغلبية برلمانية، وهو ما اعتُبر رسالة من الشعب التركي، لا تتعلق فقط بالصعوبات الاقتصادية التي كانت تواجهها البلاد، ولكن أيضًا بما صارت إليه أحوال الحزب الحاكم، والطريقة التي تدخَّل بها الرئيس في الحملة الانتخابية وفرضه مسألة النظام الرئاسي على الجدل الانتخابي-السياسي. ولكن الشعب التركي عاد وأعطى العدالة والتنمية الأغلبية التي سعى إليها في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني العاجلة، طلبًا للاستقرار، وفي تعبير عن إخفاق أحزاب المعارضة في طرح بديل مقنع، وفي مواجهة عمليات حزب العمال الكردستاني المسلحة خلال الشهور الفاصلة بين انتخابات الصيف والخريف. 

في ربيع 2016، وبعد أن بدأ داود أوغلو والمجموعة الملتفة حوله وضع بصماتهم على خيارات الحكومة، التي لم يكن له الخيار الكامل في اختيار أعضائها، وطريقة عمل الحزب، وقع تحول في حزب العدالة والتنمية عكس فقدان الثقة في رئيسه الجديد. استقال داود أوغلو من رئاسة الحزب والحكومة، وعقد العدالة والتنمية مؤتمرًا طارئًا لاختيار ابن علي يلدريم، وزير المواصلات السابق والمقرب من الرئيس أردوغان، رئيسًا للحزب والحكومة. 

ليس من الواضح حتى الآن حجم الخلافات التي أدَّت إلى الإطاحة بداود أوغلو، ولكن الواضح أن الإطاحة به شملت ما يمكن وصفه بجيل كامل من القيادات والنشطين السياسيين، الذي كان يؤمَّل منه أن يعمل على تقديم تصور جديد لرؤية العدالة والتنمية لمستقبل البلاد وعلاقاته بالشعب، وضخ دماء جديدة في عروق الحزب. ولكن العطب في صورة الحزب، الذي نجم عن الإطاحة السريعة بداود أوغلو، سرعان ما تم احتواؤه بالمواجهة التي خاضتها قواعد الحزب وأنصاره، كما أردوغان ورئيس حكومته، مع الانقلابيين ليلة 15 يوليو/تموز 2016. لكن خلال الأسابيع القليلة السابقة على استفتاء النظام الرئاسي، والتالية على عقد الاستفتاء، عادت أجواء الانقسام في الحزب من جديد. 

ثمة من يعتقد أن هناك كتلة إسلامية التوجه في الحزب لم تقم بواجبها في دعوة الشعب للتصويت لصالح التعديلات الدستورية، وأن انتقاداتها الخافتة للتعديلات هي المسؤولة عن النتائج غير المُرضية تمامًا للاستفتاء. في 20 أبريل/نيسان، شنَّ جيم كوتشك، الصحفي المعروف بقربه من دوائر العدالة والتنمية، هجومًا صريحًا خلال مقابلة تلفازية على الإسلاميين في الحزب ودعا للتخلص منهم. وبالنظر إلى أن قاعدة الحزب هي في أغلبها من الإسلاميين، بينما كادره وقيادته تمثِّل تآلفًا بين أصحاب التوجهات الإسلامية وسياسيي يمين الوسط، فقد فُهم أن هجوم كوتشك موجه ضد داود أوغلو وعدد من الشبان الذين عملوا أثناء قيادته للحزب والحكومة. 

سيتبع عودة أردوغان لعضوية الحزب في مطلع مايو/أيار عقد مؤتمر طاريء للحزب في 21 من الشهر نفسه. والمتوقع أن يكلَّل هذا المؤتمر بانتخاب أردوغان رئيسًا للحزب. وسيشهد الحزب بالتأكيد إعادة تشكيل للجنته التنفيذية، التي تضم خمسين عضوًا؛ كما سيكون هناك تعديل حكومي، على الأرجح. تمثِّل عودة أردوغان لقيادة الحزب، بعد انقطاع صلاته المباشرة بكوادره طوال السنوات الثلاث الماضية، منعطفًا بارزًا في مسيرة العدالة والتنمية ومناسبة لإعادة بناء صورة الحزب واستعادة ديناميته؛ فأي طريق سيختار الرئيس لتحقيق هذه الأهداف؟ هل سيختار طريق توحيد أجنحته المختلفة، أم الإطاحة بأحدها وتحويل العدالة والتنمية إلى حزب أكثر تجانسًا؟ وأية حقائب وزارية هي تلك التي ستتعرض للتغيير، وهل سيشمل التعديل الحكومي تولية عناصر عُرفت بقدراتها الإدارية وتمتعها بثقة الرأي العام، أم أن الولاء سيكون معيار الانسجام الحكومي؟ 

ليس ثمة شك في أن كلا الملفين وثيق الصلة بالآخر؛ لأن اتجاه التغيير في قيادة الحزب سينعكس بالضرورة على طبيعة التغيير في التركيبة الحكومية. 

النمو الاقتصادي: ضروري لكن غير كاف 

ثمة اعتقاد راسخ في أوساط العدالة والتنمية بأن الاقتصاد سيعود من جديد ليكون الورقة الأقوى في استعادة رصيد الحزب الجماهيري. نسبة النمو الاقتصادي في الربع الأخير من 2016 كانت أعلى من التوقعات؛ أرقام التصدير في شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان ارتفعت بأكثر من 10 بالمئة عن مثيلاتها في العام السابق، دافعة العجز التجاري إلى أدنى مستويات له منذ سنوات؛ كما أن الاتحاد الأوروبي أعلن في 12 مايو/أيار مراجعة توقعاته لنسبة النمو الاقتصادي في تركيا في العام الحالي إلى 3 بالمئة. 

ما يعزز التوقعات المتفاءلة لمستقبل الاقتصاد التركي قيام روسيا بإلغاء معظم العقوبات التي فرضتها على الصادرات التركية؛ مما رفع الضغوط عن القطاع الزراعي بصورة خاصة، وعن قطاع مقاولات البناء التركي في روسيا؛ كما أن قطاع البناء والإنشاءات الداخلي لم يفقد شيئًا من حيويته بعد محاولة يوليو/تموز 2016 الانقلابية، مؤشرًا إلى ارتفاع حثيث في معدلات الاستثمار الأجنبية. وبالرغم من أن مستوى وفود السياح إلى البلاد لم يصل إلى ذروة 2015، ولكن عودة السائحين الروس وارتفاع معدلات السياحة العربية سترفد القطاع السياحي بحيوية جديدة. 

أدى الانخفاض الملموس في قيمة الليرة التركية منذ بداية 2017، مصحوبًا بارتفاع الإنفاق الحكومي، إلى ارتفاع أصوات محذِّرة من مواجهة البلاد لأزمة اقتصادية. ولكن الحقيقة أن أسس الاقتصاد التركي صلبة، وليس ثمة مبرر للخوف من العودة إلى ما يشبه انهيار نهاية التسعينات من القرن الماضي. لم تعد الليرة إلى قيمتها السابقة قبل موجة الانحدار الأخيرة، ولكن تماسكها أمام الدولار خلال أبريل/نيسان ومايو/أيار أعاد الثقة من جديد بقدرة البلاد على احتواء تقلبات السوق، سيما الصعود الحثيث في قيمة الدولار أمام كافة العملات الأخرى بعد تولي الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مقاليد الحكم في يناير/كانون الثاني. كما أن أنقرة تبذل جهودًا هائلة وغير مسبوقة لإحداث تنوع واسع النطاق في علاقاتها الاقتصادية، من القارة الإفريقية، ودول أميركا اللاتينية، إلى الهند والصين؛ إضافة إلى محاولتها وضع العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج العربية في إطار مؤسسي. 

ليس ثمة شك في أن مؤشرات الاقتصاد التركي في منتصف 2017 تبدو أفضل بكثير مما كانت عليه في منتصف العام السابق؛ ولكن أحدًا لا يمكنه توقع المدى الذي يمكن أن يتحسن به الاقتصاد خلال العامين المقبلين. تعيش تركيا في محيط بالغ الاضطراب من الحروب والأزمات، لا تستطيع أن تعزل نفسها عنه. ويكفي تذكر أن التدهور الكبير في علاقات تركيا الاقتصادية مع روسيا نجم عن الصدام بين البلدين في الساحة السورية وإسقاط تركيا الطائرة الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2014. وبالنظر إلى أن ما يقارب نصف تجارة تركيا الخارجية يتم مع دول الاتحاد الأوروبي، فإن توتر العلاقات مع الاتحاد قد لا يصب في صالح تركيا. هناك دعوات، بالطبع، إلى أن تتقدم تركيا لعضوية مجموعة شنغهاي، قابلتها الصين بالإعلان، 12 مايو/أيار، عن الاستعداد لبحث هذا الطلب التركي بصورة إيجابية، ولكن المؤكد أن خيار مجموعة شنغهاي لا يمكن أن يعوِّض علاقات تركيا الأوروبية وعضوية الاتحاد الجمركي الأوروبي. 

أسئلة الملف الاقتصادي، باختصار، لا تقل تعقيدًا عن أسئلة أيٍّ من الملفات الأخرى للفترة الانتقالية، ولكن السؤال المهم، الذي يبدو أن على العدالة والتنمية الإجابة عليه، هو: هل تحقيق نجاح اقتصادي ما خلال العامين المقبلين سيكون كافيًا لاستعادة مواقع الحزب والالتفاف الشعبي حوله؟ ما توحي به نتائج انتخابات يونيو/حزيران 2015 البرلمانية غير الحاسمة، ونتائج استفتاء 16 أبريل/نيسان، التي خاضها العدالة والتنمية، في الحالتين، بتركيز كبير على إنجازاته الاقتصادية، أن الملف الاقتصادي لم يعد كافيًا لحشد الأصوات. بعد أكثر من عقد ونصف العقد من الرخاء الاقتصادي النسبي، ينظر الأتراك إلى بلادهم من منظار أوسع من الملف الاقتصادي، على أهميته. 

المُشكِل السياسي: التناقض الكردي القومي 

بُنيت حسابات الاستفتاء على أساس أن دعم حزب الحركة القومية وتبنِّيه للنظام الرئاسي يعني أن أغلبية تركية قاطعة ستؤيد التعديلات الدستورية. في القياس التقليدي للرأي العام، تمثِّل كتلة القوميين والمحافظين والإسلاميين ما يفوق 60 بالمئة من الناخبين الأتراك، وهي الكتلة التي تجد في حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية بيتها الطبيعي. وكان حزب الحركة القومية، الذي طالما رفض الانتقال إلى النظام الرئاسي، قد غيَّر موقفه بعد محاولة يوليو/تموز 2016 الانقلابية الفاشلة. جادلت قيادة الحزب بأن المحاولة الانقلابية أظهرت الخطر الكامن الذي يتهدد الدولة التركية، التي تحتل المركز الأيديولوجي للقوميين، واقتناعها بأن النظام الرئاسي سيوفر مزيدًا من الحماية للدولة والاستقرار. ولكن المسوغات التي تبنتها قيادة الحزب القومي لدعم النظام الرئاسي، لا يبدو أنها أقنعت قطاعًا واسعًا من قاعدة الحزب. 

كشفت نتائج الاستفتاء، سيما في المقاطعات التي يتمتع بها الحزب القومي بدعم شعبي ملموس، أن الصوت القومي لم يُضفْ كثيرًا إلى معسكر المؤيدين للتعديلات الدستورية، وأن هذه الإضافة لم تكن كافية لتعويض معارضة قطاع ملموس من مؤيدي العدالة والتنمية، سيما من أبناء الطبقة الوسطى، للنظام الرئاسي. ما ساعد على تمرير التعديلات الدستورية في الحقيقة كان الزيادة الملموسة في تأييد الصوت الكردي للتعديلات عن مستويات التأييد التي سُجِّلت للعدالة والتنمية في مناطق الأغلبية الكردية في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015 البرلمانية. بمعنى، أن الصوت الكردي كان العامل الحاسم، في النهاية، في تمرير التعديلات وإقرار التحول إلى النظام الرئاسي. أدرك الرئيس أردوغان هذه الحقيقة بصورة مبكرة، ولم يتردد في خطاب التعليق على نتائج الاستفتاء في توجيه الشكر لمواطنيه الأكراد. 

لم يكن خافيًا، منذ انهيار عملية السلام الكردية في صيف 2015 وعودة الحرب بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، أن المسألة الكردية تحتل رأس أولويات حكومة العدالة والتنمية الداخلية. لفترة ما، بدا وكأن مشروع الانتقال إلى النظام الرئاسي هو المنافس الوحيد للمسألة الكردية في جدول أعمال السياسة التركية. الآن، وبعد إقرار النظام الرئاسي، لم يعد ممكنًا تجاهل الملف الكردي طويلًا. لم يُفتح النقاش بعد حول مقاربة جديدة للمسألة الكردية، ولكن كافة دوائر حزب العدالة والتنمية تدرك أن هذا النقاش لابد أن يُفتح، آجلًا أو عاجلًا. الدعم الذي سجله الصوت الكردي للتعديلات الدستوري هو عامل تذكير آخر على أن استمرار هيمنة العدالة والتنمية على الساحة السياسة التركية مرهون باستعادة الـتأييد الذي طالما تمتع به الحزب في مناطق الأغلبية الكردية حتى 2015. 

بيد أن أي تحرك جديد في هذا المجال يواجه عقبتين رئيستين: تتعلق الأولى بالاعتقاد السائد في أوساط الحكومة التركية بأنها تعرضت لعملية خداع استراتيجي من حزب العمال الكردستاني خلال سنوات عملية السلام، عندما استغل الكردستاني سنوات وقف الحرب ليعزِّز مقدَّراته العسكرية داخل تركيا. هذه المرة، يقول المسؤولون الأتراك، لابد من إيقاع هزيمة عسكرية بالغة بالحزب، قبل إطلاق مبادرة جديدة للتعامل مع الملف الكردي. ويعتقد هؤلاء أن الجيش التركي وقوات الأمن تقوم بالفعل بعمل كبير لتدمير قواعد الحزب في الجانب العراقي من الحدود وخلاياه داخل تركيا. المشكلة هنا أن التقدم الذي تحرزه الدولة التركية ضد العمال الكردستاني يقابله تعزيز لمواقع الحزب وفروعه في جوار تركيا، سيما في شمال العراق؛ حيث سيطر الحزب للمرة الأولى في تاريخه على مدينة عراقية، وفي سوريا؛ حيث تسيطر قوات حماية الشعب، وثيقة الصلة بالحزب، على عدة مدن سورية وتتمتع بدعم علني وكبير من كل من روسيا والولايات المتحدة. 

أما العقبة الثانية، فتتعلق بالعلاقة مع الحزب القومي. فبالرغم من مساهمة الصوت القومي الضئيلة في استفتاء التعديلات الدستورية، ترى قيادة العدالة والتنمية أن من الضروري المحافظة على العلاقة التحالفية مع حزب الحركة القومية خلال العامين المقبلين، ليس فقط للمراهنة على دعم قطاع ملموس من القوميين في انتخابات 2019 الرئاسية، ولكن أيضًا لما يوفره هذا التحالف من تعزيز لشرعية السياسات والإجراءات الحكومية، بما في ذلك تعديل عشرات القوانين خلال العامين المقبلين لتتلاءم مع النظام الرئاسي. ولكن المعروف أن حزب الحركة القومية يعارض تقديم أية تنازلات من قبل الدولة التركية في الملف الكردي؛ وكان الحزب المعارض الرئيس لمقاربة العدالة والتنمية في هذا المجال طوال سنوات عملية السلام، من 2012 إلى 2015. 

وهذا ما يجعل عملية إعادة التموضع السياسي للعدالة والتنمية خلال العامين المقبلين محفوفة بالصعوبات؛ فمن ناحية، يحتاج الحزب استعادة دعم الأكراد المحافظين والإسلاميين من أصحاب التوجه القومي المعتدل، ومن ناحية أخرى، يريد المحافظة على تحالفه مع الحزب القومي. وبينما يدرك العدالة والتنمية أن من الضروي إحياء المقاربة السياسية للمسألة الكردية، فالواضح أنه لن يفعل ذلك حتى إيقاع هزيمة ملموسة بحزب العمال الكردستاني. والمشكلة، هنا أيضًا، أن العمال الكردستاني بات ظاهرة إقليمية أكثر منه تركية، في إقليم يصعب التحكم في تقلباته المتسارعة. 

علاقات خارجية شائكة 

نجحت الحكومة التركية، وبصورة حثيثة، في توسيع نطاق علاقاتها الخارجية، بما في ذلك الاقتصادية منها، إلى الدوائر البعيدة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. كما نجحت في وضع علاقاتها مع دول الخليج العربية على سكة التقدم، وإن كان بطيئًا. وبالرغم من أن تركيا باتت، بإرادتها أو غير إرادتها، طرفًا مباشرًا في الصراع بالغ التعقيد ومتعدد الأطراف على سوريا والعراق، فقد تجنَّبت تحمل خسائر كبيرة من تدخلها في هاتين الساحتين. في حالات قليلة، حققت تركيا مكاسب ملموسة، مثل تأسيس علاقة تحالفية وثيقة مع البرزاني وحكومة إقليم كردستان في شمال العراق، وفرض وجود عسكري تركي في منطقة الشريط الحدودي السوري كأمر واقع وبدون توفر غطاء قانوني دولي. 

بيد أن السياسة الخارجية التركية تواجه ثلاثة ملفات شائكة في علاقات البلاد الخارجية مع ثلاث من القوى الكبرى: الولايات المتحدة، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، تنعكس بصورة لا يمكن تلافيها على الوضعين الداخلي والإقليمي.

1. الولايات المتحدة: ساد العلاقات التركية-الأميركية خلال ولاية أوباما الأولى الكثير من التفاهم والود، ولكن الأمور تغيرت خلال ولاية أوباما الثانية؛ حيث أخذت الخلافات في التراكم حول سياسة واشنطن تجاه دول الربيع العربي، سيما مصر وسوريا، وحول طريقة واشنطن في إدارة الحرب على تنظيم الدولة في سوريا والعراق، والموقف من فتح الله غولن. وقد أوحت تصريحات المسؤولين الأتراك، والاتصالات الهاتفية بين أردوغان وترامب منذ يناير/ كانون الثاني 2017، بأن أنقرة تنظر بإيجابية إلى الإدارة الأميركية الجديدة. وبعد تأجيل تعلَّق بظروف الرئيسين، تم الاتفاق على قيام أردوغان بزيارة واشنطن ولقاء الرئيس الأميركي في 16 مايو/أيار 2017. 

لم تُظهر واشنطن خلال الشهور الثلاثة الأولى من حكم ترامب أي مؤشرات على تغيير جوهري في الموقف من فتح الله غولن، المقيم في بنسلفانيا الأميركية والمتهم بتدبير محاولة يوليو/تموز 2016 الانقلابية. وبالرغم من أن ترامب أطلق عددًا من التصريحات المناهضة للتوسع الإيراني في الإقليم، وقام بالفعل بتوجيه ضربة لقاعدة جوية سورية يُعتقد أنها كانت منصة انطلاق هجمات كيماوية ضد المدنيين، فإن تغييرًا ملموسًا في السياسة الأميركية تجاه نظام الأسد لم يتأكد بعد. من جهة أخرى، قام الرئيس الأميركي الجديد باستقبال الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في البيت الأبيض. وبالرغم من أن السيسي لم يحصل على أية مساعدات إضافية، فالواضح أن ترامب يؤيد نهج النظام المصري وسياسات القمع التي يتبناها ضد خصومه. 

أما المشكلة الرئيسة في علاقات أنقرة وواشنطن فتتمثل في موقف الأخيرة من الحزب الديمقراطي الكردستاني السوري وقوات حماية الشعب التابعة له، التي تعتبر في أنقرة مجرد تسميات أخرى لحزب العمال الكردستاني. 

في عدة لقاءات بين مسؤلي البلدين العسكريين والسياسيين منذ يناير/ كانون الثاني 2017، حاولت أنقرة صدَّ واشنطن عن التحالف مع قوات حماية الشعب واستخدامها في الحرب ضد تنظيم الدولة في سوريا؛ بل إن أنقرة أبدت استعدادها لقيام الجيش التركي بتوفير دعم مباشر لقوات المعارضة السورية للقيام بعملية تحرير الرقة، بدلًا من قوات حماية الشعب الكردية. ولكن الخطوات الأميركية في سوريا لا تصب في صالح أنقرة. في نهاية مارس/آذار 2017، تحركت قوات أميركية محمولة إلى مدينة منبج، غرب الفرات، لحماية القوات الكردية من هجوم تركي وشيك في المرحلة الأخيرة من عمليات درع الفرات التركية في شمالي سوريا. وفي 9 مايو/أيار، وقبل أيام من زيارة أردوغان لواشنطن، أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي منح وزارة الدفاع تفويضًا لتزويد قوات حماية الشعب بالأسلحة الضرورية لإتمام عملية تحرير الرقة. 

لا تكشف هذه الصورة عن كمِّ التعقيدات الذي يحيط مباحثات أردوغان مع ترامب وحسب، ولكنها توحي أيضًا بأن التوتر سيظل يحيط بالعلاقات التركية-الأميركية لسنوات مقبلة. 

2. روسيا: بدأت عملية تطبيع العلاقات التركية-الروسية منذ يونيو/حزيران 2016، بوساطة من الرئيس الكازاخستاني؛ وساعد الموقف الروسي الرافض للمحاولة الانقلابية في الشهر التالي على إعطاء عملية التطبيع دفعة كبيرة. منذ ذلك الوقت، التقى الرئيسان: بوتين وأردوغان، ثلاث مرات، آخرها في سوتشي الروسية في 4 مايو/أيار. ومن المتوقع أن يلتقي الرئيسان في بكين في اجتماع قصير، قبل ذهاب أردوغان للقاء ترامب. نجحت عملية التطبيع في رفع معظم العقوبات الروسية عن الصادرات التركية، وليس كلها، وفي إعادة حركة السياحة الروسية نحو تركيا إلى طبيعتها. كما ساعدت على توفير مناخ مُواتٍ لعملية درع الفرات في شمالي سوريا، وإطلاق ما بات يُعرف بمسار الآستانة لحل الأزمة السورية. ولكن الخلافات التركية-الروسية حول مستقبل نظام الأسد لم تزل على ما هي عليه. الأخطر على العلاقات بين البلدين، كانت التحركات الروسية لدعم قوات حماية الشعب الكردية، في موازاة الدعم الذي تقدمه القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط للمسلحين الأكراد. 

في نهاية مارس/آذار 2017، وبينما تقدمت وحدات أميركية إلى مدينة منبج، انتشرت قوات روسية في ريف المدينة، في تعبير عن وجود مظلة أميركية-روسية مشتركة لحماية وحدات قوات حماية الشعب في المدينة من هجوم تركي محتمل. وقبل ذلك بأيام قليلة، في 20 مارس/آذار، ظهرت قوات روسية في منطقة عفرين، في أقصى الشمال الغربي السوري؛ حيث تسيطر قوات حماية الشعب على منطقة تواجد سكاني كردي، على الحدود مع تركيا. في 12 مايو/أيار؛ وفي تحدٍّ لا يخفى لتركيا، رفعت قوات حماية الشعب في منطقة عفرين العلم الروسي. 

ثمة جدل يعلو ويخفت في تركيا حول بناء علاقات تحالفية استراتيجية مع روسيا، لموازنة التدهور الملموس في علاقات تركيا بأوروبا والولايات المتحدة. ولكن الواضح أن أنصار مثل هذه العلاقة أصبحوا في موقف أضعف بكثير منذ صيف 2016. للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، يحيط الوجود الروسي العسكري بتركيا من الشمال والجنوب معًا، بعد سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم وتوسيع نطاق التواجد العسكري الروسي الدائم في قاعدتي طرطوس وحميميم بسوريا. إضافة إلى ذلك، تبدو موسكو أكثر وضوحًا وصراحة من واشنطن في تأييدها لقيام منطقة حكم ذاتي كردي في شمالي سوريا، ليس في شرق الفرات وحسب، بل وفي غربه أيضًا. 

3. الاتحاد الأوروبي: بدأت علاقات تركيا بالاتحاد الأوروبي في التدهور، وبدون وعي كامل من الجانبين أحيانًا، مباشرة بعد توقيع اتفاقية اللاجئين في ربيع 2016، التي نصَّت على فرض قيود تركية صارمة على حركة اللاجئين السوريين إلى أوروبا، مقابل تقديم الاتحاد الأوروبي لعدة مليارات من اليورو للمساعدة في رعاية الملايين الثلاثة من اللاجئين السوريين في تركيا. وقد وصل التوتر في علاقات الجانبين ذروته خلال الحملة الانتخابية التي سبقت استفتاء التعديلات الدستورية في أبريل/نيسان 2017. 

هاجم مسؤولون أوروبيون التعديلات الدستورية التركية بصورة حادة، ومنعت دول أوروبية مسؤولين أتراكًا من اللقاء بمواطنيهم في هولندا وألمانيا لشرح مدلولات التعديلات المزمعة. سمحت دول أوروبية بمظاهرات مناهضة للحكومة التركية، نظَّم أغلبها ناشطون من حزب العمال الكردستاني، المصنَّف إرهابيًّا من الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، وفَّرت دول أوروبية، سيما ألمانيا، ملاذًا آمنًا للعشرات من أعضاء جماعة غولن، الذين فرُّوا من الملاحقة القضائية في بلادهم، أو هجروا مواقعهم في البعثات الدبلوماسية التركية في الدول الأوروبية. في المقابل، وصف الرئيس أردوغان موقف دول أوروبية من تركيا بالنازية، وهدَّد بوقف طلب تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي كلية. وبالرغم من سعي الطرفين إلى التهدئة عقب استفتاء أبريل/نيسان في تركيا، إلا أن المجلس الأوروبي، المعني بالتحول الديمقراطي في القارة، أدرج تركيا للمرة الأولى منذ التسعينات على لائحة المراقبة في 25 أبريل/نيسان 2017. 

ثمة جهود تُبذل لعقد لقاء بين قادة دول الاتحاد والرئيس أردوغان في الأسبوع الأخير من مايو/أيار، على هامش اجتماع قادة دول حلف الناتو. ولكن، وحتى إن أسهم هذا اللقاء في تخفيف حدَّة التوتر بين تركيا والاتحاد الأوروبي، فليس من المتوقع أن يصل إلى نتائج ملموسة فيما يتعلق بحل إشكاليات علاقة تركيا بالاتحاد. ففي اليوم نفسه الذي شهد صدور قرار ترامب بتقديم دعم تسليحي لقوات حماية الشعب الكردية في سوريا، كان الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته، فرانسوا هولاند، يستقبل صالح مسلم، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، المنظمة الأم لوحدات حماية الشعب. وليس ثمة مؤشر على أن أوروبا تعمل بجدية على كبح نشاطات حزب العمال الكردستاني في دول الاتحاد الأوروبي، لاسيما ألمانيا وفرنسا وهولندا، سواء في مجال جمع الأموال أو تجنيد العناصر. كما أن مسؤولين أوروبيين، بمن في ذلك رئيس الاستخبارات الألمانية، أبدوا شكوكهم حول مسؤولية جماعة غولن عن محاولة يوليو/تموز 2016 الانقلابية، في تعبير واضح عن رفض ملاحقة عناصر الجماعة التي نقلت نشاطها لدول أوروبا المختلفة. 

الأكثر من ذلك، أن ليس ثمة توجه جدي لعزم الاتحاد الأوروبي على دفع طلب عضوية تركيا في دول الاتحاد إلى الأمام، بالرغم من مرور أكثر من 15 عامًا على بدء التفاوض مع تركيا لعضوية الاتحاد. وفي حال أقدمت تركيا على إعادة فرض عقوبة الإعدام، التي هدَّد بها الرئيس أردوغان مرارًا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة، فسيقوم الاتحاد الأوروبي رسميًّا بإيقاف طلب العضوية التركي. 

الطريق إلى انتخابات 2019 

نجاح العدالة والتنمية في إقرار التحول إلى النظام الرئاسي، المسألة الأكثر أهمية على أجندته السياسية من سنوات، لا يعني أن الطريق إلى انتخابات 2019 الرئاسية والبرلمانية المتزامنة ممهد. ففيما عدا الحقل الاقتصادي، الذي تدعو مؤشراته الراهنة، والراهنة فقط، إلى التفاؤل، تحيط الصعوبات بأغلب ملفات السياسة الداخلية والخارجية الملحَّة. 

على مستوى إعادة بناء صورة ودور حزب العدالة والتنمية وحوكمته، يوجد هامش كبير أمام حركة الرئيس أردوغان بعد عودته إلى رئاسة الحزب في 21 مايو/أيار. ثمة من يقول: إن الرئيس قد يعيد علي باباجان، مهندس النهضة الاقتصادية التركية، ووزير الداخلية السابق، أفكان علاء، إلى دورين تنفيذيين. ولكن ليس هناك ما هو متيقن بعد حول نوايا الرئيس في هذا الصدد. ما هو متيقن، أن التدافع بين ما يُعرف أحيانًا بالكتلة الإسلامية وكتلة يمين الوسط في الحزب يزداد حدة، وأن مؤتمر الحزب الطارئ قد لا يكون محطة النهاية لهذا التدافع. 

في مسعى العدالة والتنمية لإعادة التموضع السياسي، يمكن توقع محاولة براغماتية لموازنة التيارات المتعارضة. لن يضحي الرئيس أردوغان ولا حكومته بسهولة بالعلاقة التحالفية مع حزب الحركة القومية، العلاقة التي توفر مظلة شرعية سياسة ضرورية. ولأن من الصعب تجاهل المسألة الكردية طويلًا، لاسيما لضرورات استعادة مواقع العدالة والتنمية في مناطق الأغلبية الكردية، فقد تقوم حكومة العدالة والتنمية، بتأييد من الرئيس أردوغان، بطرح مبادرة سياسية محدودة، أكثر تواضعًا في طموحاتها من عملية 2012 للسلام، تشمل شخصيات وقوى كردية قومية معتدلة وليس حزب العمال الكردستاني. وإلى جانب جهود التنمية الكبيرة في جنوب شرقي البلاد، يمكن للعدالة والتنمية بذلك أن يؤكد جديته في السعي لإيجاد حل سياسي للمسالة الكردية، بدون أن يضحي بتحالفه مع الحزب القومي. 

الأصعب، سيكون التعامل مع ملفات السياسة الخارجية الشائكة؛ فمن الواضح أن المسائل محل الخلاف في العلاقات التركية مع أميركا وروسيا، سيما ما يتصل بالوضع السوري ومسألة قوات حماية الشعب، تهدد الأمن القومي التركي بصورة مباشرة. ليس ثمة ما يوحي بأن السياسة الروسية في سوريا وتجاه أكرادها يمكن أن تتغير في المستقبل القريب، أو بفعل ضغوط تركية. من وجهة نظر موسكو، يعتبر الملف السوري برمته محل مساومة مع الولايات المتحدة وليس أية دولة إقليمية في الشرق الأوسط، ولا حتى إيران. في المقابل، المتوقع أن تحاول واشنطن امتصاص غضب تركيا بتقديم وعود مثل تطوير نشاطات المركز الاستخباراتي المشترك في أنقرة، ومراقبة السلاح النوعي الذي سيقدم لوحدات حماية الشعب، وخروج الوحدات من الرقة بمجرد تحريرها من تنظيم الدولة. 

بيد أن مثل هذه الوعود لن تؤدي إلى كثير من الاطمئنان في أنقرة. كان أوباما، مثلًا، قد وعد بخروج وحدات حماية الشعب من منبج والعودة إلى شرق الفرات بعد طرد تنظيم الدولة من المدينة، ولكن هذه الوعود لم تتحقق مطلقًا. ما يمكن أن تقوم به تركيا لحماية مصالحها في الشمال السوري هو تعزيز وجودها العسكري في المناطق التي حررتها عملية درع الفرات، وتوفير مزيد من الدعم والرعاية لمجموعات الجيش الحر، وتقديم المساعدة لتنظيم وتسليح الجماعات العشائرية العربية المناهضة لوحدات حماية الشعب في شرق الفرات. إضافة إلى ذلك، وكلما سنحت الفرصة، يمكن للجيش وسلاح الجو التركي توجيه ضربات مباشرة لمراكز حشد حماية وحدات الشعب. ولكن هذه، على أية حال، ليست حلولًا استراتيجية، ولابد من انتظار حل الأزمة السورية ككل قبل أن تستطيع تركيا بلورة سياسات بعيد المدى للتعامل مع الصعود الكردي المسلح في شمالي سوريا. 

كما أن استمرار التدهور في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي قد يمثِّل تهديدًا لأمن تركيا ولوضعها الاقتصادي والمالي، ولملايين الأتراك والمسلمين المقيمين في دول الاتحاد، كما لأمن العديد من دول الاتحاد. في المدى القصير، قد يجد الجانبان وسيلة لتهدئة التوتر بينهما، سيما إن عادت أنغيلا ميركل للحكم بعد الانتخابات الألمانية في نهاية العام. في المدى الأبعد، ربما لابد من إعادة رسم مجمل علاقة تركيا مع الاتحاد على أسس واضحة، مثل حسم الاتحاد موقفه بصورة قاطعة من عضوية تركيا في الاتحاد، والبحث عن مجالات أخرى لتنظيم العلاقات بين الجانبين. ما قد يعزز موقف أنقرة في هذا المجال، ليس ورقتي الأمن واللاجئين وحسب، بل توجه بريطانيا ما بعد البريكست لتوطيد العلاقات مع تركيا. 

في النهاية، يراهن العدالة والتنمية، مهما كان تأثير ملفات الداخل والخارج الملحَّة، على قوة الاستمرارية، من جهة، وعجز المعارضة السياسية عن تقدم بديل فعَّال للحكم الحالي، ومنافس ذي مصداقية للرئيس أردوغان، من جهة أخرى. ولكن ثمة من يقول: إن الطريق إلى انتخابات 2019 لم يزل طويلًا، وإن أحدًا لا يمكنه التيقن من تقلبات السياسة في عامين كاملين.


للاطلاع على مزيد من التفاصيل يرجى الضغط هنا